الفصل الثاني

معرفتي بأمر الرهائن الثلاث

ثمة رائحة تعبق المنازل الريفية أُحبها أكثر من أي رائحة أخرى في العالَم. اعتادت ماري أن تصِف هذه الرائحة بأنها مزيج من روائح زيت المصباح والكلب ودخان الحطَب، ولكن في فوسي، حيث الإضاءة الكهربية وعدم وجود كلاب داخل المنزل، أعتقِد أن مزيج الروائح مُكون من دخان الحطب والتبغ والجدران العتيقة ونسائم الريف التي تهب عبر النوافذ. الصباح هو أكثر وقتٍ تُعجبني فيه هذه الرائحة، عندما تختلِط برائحة طهي طعام الإفطار، وكم من مرةٍ وقفتُ عند قمَّة الدرج أتنشَّقها أثناء ذهابي إلى الحمَّام. ولكن في صباح اليوم الذي أكتبُ عنه، لم أستطِع الاستمتاع بهذه الرائحة، بل بدا وكأنها تُعذبني بصورةٍ عن هدوء الريف الذي عُكِّر صفوه. لم أتمكَّن من إخراج هذا الخطاب البغيض من ذهني. بعدما قرأته، مزَّقته مُشمئزًّا، ولكني وجدتُ نفسي أهبط الدرج مُرتديًا منامتي، الأمر الذي فاجأ الخادمة، وأجمع قصاصات الورق المُمزقة من سلة الورق التالِف، وأقرؤه مُجددًا. وألقيتُ القصاصات هذه المرة في نارٍ حديثة الإشعال.

كنتُ قد قررتُ أن لا شأن لي ببوليفانت أو أيٍّ من خُططه، ولكني لم أستطع العودة إلى السكينة التي غلَّفتني بالأمس كثيابي. هبطتُ إلى الطابق السفلي لتناول الإفطار قبل ماري، وانتهيتُ منه قبل أن تظهر. ثم أشعلتُ غليوني وبدأتُ جولتي المُعتادة حول أملاكي، ولكن لم يبدُ أيُّ شيءٍ على حاله في نظري. كان صباحًا مُنعشًا دون صقيع، وكانت أزهار الخُزيمة الزرقاء النامية على طول حواف البحيرة وكأنها أجزاء من سماء الصيف الزرقاء. كانت دجاجات الماء تبني أعشاشها، وبدأتْ أُولى براعم النرجس تتفتَّح في العشب الخشن الذي تفترِشه أجمات أشجار السرو الاسكتلندي، وكان جورج وادون العجوز يُثبِّت بالمسامير أسلاك صيد الأرانب وهو يصفر من بين سِنَّيه المُتبقيتَين في فمه، كان العالم بوجهٍ عامٍّ أصفى وأبهج ما يمكن للربيع تقديمه. ولكني لم أشعر بأن هذا العالم حقًّا عالَمي، بل شعرتُ وكأني أنظر إلى لوحةٍ جميلة. كان شيءٌ ما قد حدث وأفسد التناغُم بين هذا العالم وعقلي، ولعنتُ بوليفانت وتدخُّلاته.

عدتُ إلى المنزل عبر مدخلِه الرئيسي، وأصابتني الدهشة عندما رأيتُ سيارة رولز رويس كبيرةً مكشوفةً تقف أمام الباب. استقبلني بادوك في ردهة المنزل وسلَّمَني بطاقةً كُتِب عليها اسم السيد جوليوس فيكتور.

كنت أعرف الاسم بالطبع، فهو اسم أحد أثرى أثرياء العالم، المصرفي الأمريكي الذي تولَّى الكثيرَ من أعمال بريطانيا المالية خلال الحرب، وكان متواجدًا في أوروبا حاليًّا لحضور مؤتمر دولي. أتذكَّر أن بلنكيرون، الذي لم يكن يُحب أبناءَ جِلدته، قد وصفه ذات مرة بأنه «أكثر اليهود بياضًا منذ القديس بولس.»

دخلتُ إلى غرفة المكتبة ووجدتُ رجلًا طويل القامة واقفًا بجوار النافذة ويُطِل عبرها على المشهد في الخارج. ما إن دخلتُ حتى التفت نحوي، ورأيتُ وجهًا نحيلًا ذا لحيةٍ رمادية مُهذبة بعناية، وعينَين يشوبهما قلقٌ لم أرَ مِثله في عينَي إنسانٍ من قبل. كانت كل قطعة من ملابسه أنيقة ومهندمة؛ حلته الرمادية ذات الصناعة المُتقنة، وربطة عنقِه السوداء ودبوسها المصنوع من لؤلؤة وردية، ومعطفه الكتاني باللونَين الأزرق والأبيض، وحذائه اللامع الأنيق. ولكن كانت تطل من عينَيه نظرة وحشية قلقة جعلته يبدو أشعث.

قال وهو يخطو نحوي: «سيدي الجنرال.»

تصافحنا ودعوته للجلوس.

قلت: «لم أعد «جنرالًا»، إذا سمحتَ. بادئ ذي بدء، هل تناولت إفطارك؟»

هز رأسه نفيًا. وقال: «شربت قدحًا من القهوة وأنا في طريقي إلى هنا. أنا لا آكل في الصباح.»

سألته. «من أين أتيت يا سيدي؟»

«من لندن.»

تبعُد لندن عنا مسافة ٧٦ ميلًا، فلا بد أنه بدأ رحلته مبكرًا. نظرت إليه في فضول، فنهض من مقعدِه وبدأ يتجول في الغرفة.

قال بصوتٍ خفيض رخيم رأيتُ أنه قادرٌ على إقناع أي شخصٍ يسمعه: «سير ريتشارد، أنت جندي، وخبير في أمور الحياة، وسوف تعذرني على أسلوبي غير التقليدي. ولكن الأمر الذي جئت إليك من أجله عاجل للغاية ولا يحتمِل إضاعة الوقت على الأعذار. أخبرَني أصدقاء مُشتركون بيننا أنك رجل واسع الحيلة وبالِغ الشجاعة. ورُوي لي خلف الأبواب المُغلقة شيء عن ماضيك. أتيتُ إليك لأستجديك مساعدتك في أمر طارئ للغاية.»

قدمت له صندوق السيجار، فأخذ واحدًا وأشعله بحرص. رأيت أصابعه الطويلة النحيلة ترتجف وهو يُمسك بعود الثقاب.

ثم استطرد حديثه قائلًا: «لعلك سمعتَ عني. أنا رجل فاحش الثراء، ومنحتني ثروتي سلطةً واسعة؛ لذا تأتمِنني الحكومات على أسرارها. أنا مشارك في الكثير من الشئون المهمة، وسيكون تواضُعًا زائفًا منِّي لو أنكرت أن كلمتي لها ثِقَل أكبر من الكثير من رؤساء الوزراء. هدفي يا سير ريتشارد هو ضمان السِّلم العالمي، لهذا السبب لديَّ أعداء، جميع من يرغبون في استمرار الفوضى والحروب إلى الأبد. وتعرضَتْ حياتي للخطر أكثر من مرة، ولكن هذا لا يُهم. أنا مَحميٌّ جيدًا. وأظن أنني لستُ أكثر جبنًا من بقية الناس، وأنا على استعدادٍ لمواجهة المخاطر. ولكني تعرضتُ للهجوم حاليًّا بسلاح أكثر خطورة، وأُقر بأني لا أملك دفاعًا ضدَّه. رزقني الله بابنٍ تُوفي منذ عشر سنوات في الجامعة. ولم يَرزقني الله بأطفالٍ آخرين سوى ابنتي أديلا التي تبلُغ التاسعة عشرة من عمرها. جاءت ابنتي إلى أوروبا قبل الكريسماس مباشرة، فهي ستتزوَّج في باريس في شهر أبريل المُقبل. ومنذ أسبوعَين، كانت تصطاد مع أصدقائها في نورثهامبتونشاير، في مكانٍ يُدعى رشفورد كورت. في صباح الثامن من مارس، ذهبَت في جولة سيرًا على الأقدام إلى قرية رشفورد لتُرسِل برقية، وآخِر مرة شوهدَت فيها كانت تعبر بوابات المنزل في الحادية عشرة وعشرين دقيقة. ولم يرَها أحد منذ ذلك الحين.»

هببتُ من مقعدي واقفًا، وصِحت: «يا إلهي!» كان السيد فيكتور يتطلع إلى المشهد خارج النافذة، فسِرتُ إلى الطرف الآخر من الغرفة وألهيتُ نفسي بالكتب المرصوصة على الرف. خيم الصمت لبضع لحظاتٍ حتى كسرته أنا.

سألته: «هل تظن أنها فقدت ذاكرتها؟»

قال: «لا. ليس الأمر مُتعلقًا بفقدان الذاكرة. أعلم يقينًا أنها اختُطِفَت على يد من قلتُ عنهم إنهم أعدائي، ولدينا دليل على ذلك. وهي الآن محتجزة رهينةً.»

«هل تعلم أنها على قيد الحياة؟»

أومأ برأسه أن نعم؛ فقد اختنق صوته في صدره مجددًا. «ثمة دليل يشير إلى مؤامرة شديدة الخطورة والشر. قد يبدو الأمر انتقامًا، ولكني أظن أن الأرجح أنهم اختطفوها كبوليصة تأمين. يحتفظ بها مختطفوها لتأمين أنفسهم.»

«ألم تفعل شرطة سكوتلاند يارد أي شيء؟»

«فعلت كلَّ ما في إمكانها، ولكن ذلك لم يمنع الظلام من الانتشار.»

«لا شك في أن هذا الخبر لم يُنشر. أنا لا أقرأ الصحف بتمعُّن شديد، ولكني أعلم أني لن أُفوِّت خبرًا مثل هذا.»

«حافظْنا على سرية الخبر بعيدًا عن أعيُن الصحف لسببٍ سأخبرك به لاحقًا.»

قلت: «سيد فيكتور، أشعر بأسفٍ شديد تجاهك. فأنا مثلك، لديَّ طفل وحيد، وإذا مسَّه خطر مثل هذا، فسيُجَن جنوني. ولكني لن أنظر إلى الأمر من منظورٍ سوداوي. ستعود الآنسة أديلا إليك سالمة، ولن يُصيبها سوء، ولكنك قد تُضطر لدفع أموالٍ طائلة. أظن أن الأمر عملية ابتزاز وفِدية عادية.»

قال بهدوء شديد: «لا. لا يتعلَّق الأمر بالابتزاز، وحتى إن كان كذلك، لن أدفع الفدية التي سيطلبونها. صدِّقني يا سير ريتشارد، الأمر ميئوس منه تمامًا. ينطوي الأمر على أشياء أكبر بكثيرٍ من مصير فتاةٍ صغيرة. لن أخوض في هذا الآن، فسوف يحكي لك شخصٌ، أقدر منِّي على فعل ذلك، القصةَ كاملةً فيما بعد. ولكن الرهينة ابنتي، طفلتي الوحيدة. أتيت لأتوسل إليك أن تساعدني في البحث عنها.»

تلعثمتُ قائلًا: «ولكني لستُ بارعًا في البحث عن الأشياء. أعتذِر لك بشدة، ولكني لا أعرف كيف يُمكنني مساعدتك. إن لم تتمكن سكوتلاند يارد من فِعل شيء، فمن غير المُرجَّح أن ينجح غِر مثلي في فعل شيء.»

«ولكنك تمتلك مخيلةً مختلفة، وشجاعة نادرة. أعلم ما فعلتَه في الماضي يا سير ريتشارد. أنت أملي الأخير.»

ألقيت نفسي على مقعدي صائحًا. «لا يسعني أن أُوضح لك مدى عدم جدوى فكرتك. صحيح أني توليتُ بعض المهام العصيبة خلال الحرب، وكنتُ محظوظًا بما يكفي لأن أُنجز بعضها. لكني، كما تعلم، كنتُ جنديًّا حينئذ، وكنت أُنفذ الأوامر، ولم يكن موتي جرَّاء قصفٍ على الخنادق أو جرَّاء طلقة رصاص في مهمةٍ سِرية يشكل فارقًا كبيرًا. كنتُ حينئذٍ على استعداد لمواجهة أي مخاطر، وكانت حواسِّي جميعها مُستنفرَة ويقِظة بصورةٍ غير طبيعية. ولكن كل هذا انتهى الآن. لم أعُد على نفس الدرجة من الاستعداد، وأصبح ذهني هزيلًا وأفكاري مُشوشة. لقد تغلغل الريف في نفسي لدرجة أني أصبحتُ ريفيًّا بسيطًا. وإذا ما شاركتُ الأمر، سأُفسِده، وهذا ما لا أنوي فعله بالتأكيد.»

وقف السيد فيكتور يُحدق في وجهي بثبات. وظننتُ للحظة أنه سيعرض عليَّ مالًا، وتمنيتُ أن يفعل؛ إذ كان هذا سيمنحني مُبررًا لأن أتمسَّك برأيي وألا أتنازل أبدًا، على الرغم من أن هذا الفعل كان سيُفسد الفكرة الجيدة التي كونتُها عنه. ربما مرَّت الفكرة بخاطره، ولكنه كان ذكيًّا بما يكفي لينفضها عن رأسه.

قال: «لا أتفق معك فيما قُلتَه عن نفسِك، وأنا مُعتاد على تقييم الرجال بنفسي. أتوسَّل لك بصفتك رجلًا مَسيحيًّا نبيلًا أن تُساعدني في استعادة ابنتي. ولن أُكرِّر هذا التوسُّل مجددًا؛ فقد أضعتُ الكثير من وقتك بالفعل. عنواني في لندن مكتوبٌ على بطاقتي. إلى اللقاء يا سير ريتشارد، وصدِّقني، أنا مُمتن للغاية على احتفائك بي.»

في غضون خمس دقائق كان قد ركِب سيارته الرولز رويس وانصرف تاركًا إياي في حالة من التعاسة والخِزي. أدركتُ كيف اكتسب السيد جوليوس فيكتور شُهرته. كان يُجيد العزف على الأوتار الصحيحة لدى الناس، فلو واصلَ التوسُّل لي، لكنتُ نفرتُ من الأمر برمَّته، ولكنه نجح بشكلٍ ما في ترك الأمر برمَّته لحُكم شرفي، الأمر الذي شتَّت أفكاري بشدة.

خرجتُ في نزهةٍ قصيرةٍ ساخطًا على العالَم بأكملِه، فكنتُ تارةً أشعر بالأسف الشديد على هذا الأب المِسكين، وتارةً أخرى كنتُ أشعر بالغضب لأنه حاولَ توريطي في شئونه. لن أشارك في هذا الأمر بلا أدنى شك، لا يُمكنني أن أفعل، بل مُستحيل أن أفعل، فأنا لا أملك القدرة أو الدافع لذلك. لستُ منقذًا مُحترفًا للنساء المَنكوبات اللاتي لا أعرفهن.

قلتُ لنفسي إنه على المرء أن يقصر واجباته على دائرة أصدقائه المُقربين فقط، إلا إذا كان بلدُه في حاجة إليه. كنت قد تخطيتُ الأربعين من عمري، ورُزقت بزوجة وطفل صغير، وعلاوةً على ذلك، كنتُ قد اخترتُ حياة التقاعُد، ولديَّ كل الحق في أن يُحترَم اختياري. ولكني لن أتظاهر بأني مرتاح. لقد أتت موجة موحِلة قذرة من العالَم الخارجي لتعكر صفو بِركَتي الصغيرة التي أخفيتُها عن الأنظار. وجدت ماري وبيتر جون يُطعمان البجع، ولم أستطع التوقُّف واللعب معهما. كان البستانيون يحفرون خندقًا حول أشجار التين عند الجدار الجنوبي ليضعوا فيه سماد الكبريتات، وكانوا ينتظرون تعليماتي فيما يتعلق بأشجار الكستناء الصغيرة في المشتل، وكان الحارس يجلس في ساحة الإسطبل مُنتظرًا تعليماتي فيما يتعلق بالدفعة الجديدة من بيض طيور الدرَّاج البرية، وكان مُروِّض الخيل يُريدني أن أُلقي نظرةً على عرقوب مُهرِ ماري. ولكني لم أستطع التحدُّث إلى أيٍّ منهم. كنتُ أُحب كل هذه الأشياء، ولكنها فقدت قيمتها في نظري للحظات، وكنت سأدعها تنتظر حتى أشعر أنني في حالٍ أفضل. عدتُ إلى المكتبة يتملَّكني مزاج سيِّئ جدًّا.

ولم يَمر عليَّ في الغرفة سوى دقيقتَين حتى سمعتُ صوتَ عجلات سيارة تسير على الحصى. صِحت قائلًا: «فليأتوا جميعهم»، ولم يُفاجئني دخول بادوك عليَّ يتبعه ماكجيليفراي بجسده النحيل ووجهه الحليق الحادِّ القسمات.

لا أذكر أني مددتُ يدي نحوَه لأُصافحه. كنا صديقَين مقربَين، ولكنه كان حينئذٍ أكثر شخصٍ في العالَم لا أتمنَّى رؤيته.

صحتُ قائلًا: «أنت أيها المُزعج، أنت ثاني زائر يأتي من المدينة هذا الصباح. سينفد وقود السيارات من البلاد قريبًا.»

سألني ماكجيليفراي: «هل وصلك خطاب من اللورد أرتينسويل؟»

قلت: «نعم، مع الأسف.»

«إنك تعرِف إذن سبب حضوري. ولكن يُمكن للأمر أن ينتظر لما بعد الغداء. هيا أسرع يا ديك، كن كريمًا، فأنا جائع كصقر في مجاعة.»

كان يبدو كذلك بالفعل بأنفه المعقوف ورأسه الصغير. كان من المُستحيل معارضة ماكجيليفراي لفترةٍ طويلة، فذهبنا نبحث عن ماري. قلتُ له: «يتعين عليَّ أن أُخبرك بأنك قطعتَ كل هذه المسافة بلا طائل. فأنا لن أُتبعك أو أتبع أي أحدٍ آخر لأجعل من نفسي أضحوكة. لا تذكر الأمر أمام ماري على أية حال. لا أُريدها أن تقلق بسبب هرائك.»

تحدثنا أثناء الغداء عن فوسي وسكان كوتسوولد، وعن غابة الغزلان التي استأجرتها — يُطلقون عليها اسم ماتشراي — وعن السير أرتشيبالد رويلانس، شريكي في استئجار الغابة، الذي كاد أن يُدَق عنقُه مرة أخرى خلال سباق للحواجز. كان ماكجيليفراي ملاحقًا عظيمًا للطرائد وأخبرني بالكثير عن غابة ماتشراي. بدا أن الجانب السيِّئ للموقع هو مُحيطها، فغابة هاريبول التي تحدُّها من الجنوب ذات مُنحدرات شديدة تُعيق المستأجر الحالي، الذي كان رجلَ صناعةٍ في منتصف العمر، وكانت غابة جلينايسل الضخمة التي تحدُّها من الشرق كبيرةً للغاية ولا يمكن لمستأجر وحيد أن يصطاد فيها بمُفرده، وكان طرف غابة ماتشراي المُجاور لها يبعُد حوالي ثلاثِين ميلًا من المنزل. قال ماكجيليفراي إن المحصلةَ النهائية هي أن غابة ماتشراي مُحاطة بملاجئ غير مُصرَّح بها جعلت انتقال الغزلان سهلًا. وقال إن أفضل وقتٍ للصيد هو في بداية الموسم عندما تكون الأيائل في الأراضي المُرتفعة، فغابة ماتشراي تحتوي على مراعٍ مُرتفعة رائعة للغاية. كانت ماري سعيدة للغاية أن أحدًا أطرى على بيتر جون، وكانت راضيةً في الوقت الحالي أنه لن يموت صغيرًا بسبب الدرن. كان لدى ماري الكثير من التساؤلات المُتعلقة بالأعمال المنزلية عن ماتشراي، وكشفت النقاب عن الكثير من الخطط لدرجة أن ماكجيليفراي قال إنه سيفكر في زيارتنا؛ فقد اطمأنَّ إلى أنه لن يُسمَّم مثلما يحدُث عادةً في منازل الصيد الاسكتلندية المُستأجرة. كان الحوار الدائر من الحوارات التي أستَمتِعُ بها عادةً لو لم أكن مررتُ بهذا الصباح المُقلِق وتلك المُقابلة التي لم أستطع تخطِّيها.

انهمر مطر غزير بعد الغداء، فجلستُ وماكجيليفراي في غرفة المكتبة. قال: «يجدُر بي أن أنصرف في الثالثة والنصف، وهذا يعني أن أمامي أكثر قليلًا من ساعةٍ واحدة أُخبرك فيها بكل ما أريد.»

سألته. «هل يستحق الأمر ذلك؟ أريد أن أوضح لك أني لستُ منفتحًا بأية حالٍ من الأحوال على قبول أي عرضٍ بتولي مهمةٍ من أي نوع. أنا في فترة راحة وعطلة. سأقضي الصيف هنا ثُم سأذهب إلى ماتشراي.»

قال ماكجيليفراي وقد اتسعتْ عيناه: «لن يمنعك شيءٌ عن الذهاب إلى ماتشراي في أغسطس. المهمة التي سأقترحها عليك يجب أن تنتهي قبل هذا الموعد بفترةٍ طويلة.»

أظنُّ أني فوجئتُ بهذا الرد، فلم أنجح في إيقافه بالطريقة التي كنت أعنِيها. تركته يستمر في حديثه، ولم يمرَّ وقت طويل حتى وجدتُ نفسي أهتم بالأمر. كنتُ ضعيفًا أمام القصص كغلامٍ صغير، وكان ماكجيليفراي يعلم ذلك وأحسَنَ استغلاله.

بدأ حديثه بتكرار أغلب ما أخبرني به الطبيب جرينسليد الليلة الماضية. لقد جُنَّ جانبٌ كبير من العالَم، الأمر الذي أدَّى إلى نموٍّ غير مفسَّر وغير مُتوقَّع للجريمة. انتُهكت جميع المُحرَّمات القديمة، وأصبح البشر مُعتادين على الموت والألم. كان هذا يعني أن الموارد المتوفرة للمُجرم أصبحت أكثر بكثيرٍ من ذي قبل، وإذا كان المُجرم قديرًا، فسيكون بإمكانه أن يتحرك بقدْر كبير من الجرأة والبراعة. وقال إن البلادة الأخلاقية كانت أمرًا شاذًّا قبل الحرب، ولكنها الآن أصبحت مُنتشرةً كالنار في الهشيم، وازدهرت بين جماعات البشر وفِرَقِهم. نتجت عن ذلك سلالة بشِعة غير قابلة للترويض تتَّسِم بالقسوة وثقل الظل والشراسة والافتقار إلى التعقل، ولكنهم عادةً ما يَملكون حسًّا شعريًّا مُنحرفًا ويثملون بكل ما هو بليغ. يُمكنك أن ترى ذلك بوضوح بين اليهود البلشفيين الشبان، وبين شبان الطبقات الراقية من الطوائف الشيوعية الأكثر تطرفًا، وتظهر بوضوح أكبر لدى المُراهِقين الغاضبِين الدمويين في أيرلندا.

عاد ماكجيليفراي يقول: «يا للمساكين. فلندَع الخلق للخالق، ولكن يجدُر بنا نحن من نُحاول إصلاح الحضارة أن نعمل على اجتثاثهم من العالم. لا تتصوَّر أنهم يكرسون أنفسهم لأية حركة إنسانية، جيدةً كانت أو سيئة. إنهم كما أطلقتُ عليهم، شواذٌّ أخلاقيًّا، يُمكن اجتذابهم لاتباع أي حركة بواسطة أولئك الذين يفهمون طبائعهم. إنهم مُبتدئو عالَم الجريمة وخبراؤه، وهم مِثل المجرمِين الذين يجب عليَّ التعامُل معهم. حسنًا، كل هؤلاء الفاسدين اليائسين يتعرضون للاستغلال بواسطة قلَّةٍ من الرجال الماهرين غير الفاسدِين أو أي شيء من هذا القبيل، ولكنهم أشرار فحسب. لم تتوفر فرصة للشر أفضل من تلك منذ بدءِ الخليقة.»

ثم أخبرني بحقائق مُعينة لا يجب الإفصاح عنها للعامة خلال حياتنا على أية حال. مُلخص هذه الحقائق هو أن ثمة عقولًا شريرة تعمل على تنظيم تلك الحشود الخطرة غير المُنظمة من أجل مصالحها الخاصة. قال إن ثمة صلة تربط جميع الفوضويين المُعاصرين، ويتربح بعض روَّاد الأعمال المُتعجرفين من تعاسة الأناس الخلوقِين ومن عذاب العبيد البائسين. وقال إنه يتتبع ورجاله، وجميع قوات الشرطة المُتحضرة بلا شك، وذكر الأمريكيين بوجهٍ خاص، خيوطَ واحدة من أسوأ هذه الجماعات، وعبر سلسلةٍ من الصُّدَف الحسنة، تمكنوا من وضع أيديهم عليها. وأصبح بإمكانهم الآن أن يَمدُّوا أيديهم ويجمعوا كل هذه الخيوط في أي لحظة.

ولكن لا تزال تُجابِهُهم عقبة واحدة. عرفت منه أن هذه الجماعة لا تُدرك مدى خطورة موقفها، ولكنها تُدرك أن ثمة خطورة مُحدقة بها، فاتخذت بعض الإجراءات الاحترازية. فاختطفت بعض الرهائن منذ الكريسماس.

قاطعتُه عند هذه النقطة؛ فقد شعرتُ أني لا أفهم الأمر برمَّته. قلت: «أظن أننا أصبحنا منذ اندلاع الحرب نقفز إلى تفسيراتٍ مُبالَغ فيها لأمور بسيطة. سأحتاج إلى الكثير من الإقناع قبل أن أُصدِّق ذلك المركز الدولي لمعلومات عالم الجريمة.»

قال ماكجيليفراي بجدية: «أضمن لك أنك ستقتنع. سأعرض عليك جميع أدلتنا، وبما أنك قد تغيرتَ عما كنتَ عليه في بداية معرفتنا، فلن يختلف استنتاجك عن استنتاجي. ولكن دعنا نتحدَّث أولًا عن الرهائن.»

قاطعته قائلًا: «أعرف أحدهم؛ فقد استقبلتُ السيد جوليوس فيكتور هنا بعد الإفطار.»

صاح ماكجيليفراي. «يا للمسكين! ماذا قلت له؟»

«عبرتُ له عن أسفي الشديد، وقلتُ له أن لا شيء بيدي لأفعله من أجله.»

«هل تقبَّل هذا الرد؟»

«لا يُمكنني أن أقول إنه تقبَّله. ولكنه انصرف. ماذا عن الآخرين؟»

«ثمة اثنان آخران. أحدُهما شاب، وريث عائلة ثرية، آخِر مرة رآه فيها أصدقاؤه كانت في السابع عشر من فبراير في أوكسفورد، قبل العشاء مباشرةً. وهو طالِب في كلية كنيسة المسيح، ويقطن خارج الكلية في منزل في شارع هاي. تناول الشاي في نادي جريديرون وذهب إلى منزله ليُغير ملابسه؛ فقد كان من المُقرر أن يتناول العشاء تلك الليلة في نادي هالسيون. رآه أحد خدمِه بينما كان يصعد سُلَّم منزله مُتجهًا إلى غرفة نومه. ويبدو أنه لم يخرج منها، ولم يرَه أحد منذ ذلك الحين. ربما سمعت اسمه من قبل؛ اللورد ميركوت.»

جفلت عندما سمعت الاسم. كنتُ بالفعل قد سمعتُ هذا الاسم من قبل، وأعرف هذا الصبيَّ معرفة سطحية؛ فقد التقيتُه عدة مرات خلال سباقات الحواجز التي نُنظمها في المنطقة. إنه حفيد الرجل الأكثر توقيرًا بين رجال الدولة الإنجليزية القُدامى ووريثه، دوق ألسيستر المسن.

قلت: «لقد انتقَوا هدفهم بعناية. من الحالة الثالثة؟»

«إنها الأكثر قسوةً على الإطلاق. هل تعرف السير آرثر واركليف؟ رجل أرمل فقدَ زوجته قبل اندلاع الحرب مباشرةً، ولدَيه طفل وحيد، غلام صغير في العاشرة من عمره تقريبًا. كان ذلك الغلام، ديفيد، قرة عينه، وكان يدرس في مدرسةٍ إعدادية بالقُرب من مدينة رِي. استأجر الأب منزلًا في الحي المُجاور للمدرسة، وكان يُسمَح للغلام بالذهاب إلى المنزل كلَّ أحد لتناول الغداء مع والده. في أحد أيام الأحد، حضر لتناول الغداء كالعادة، وركِب حنطورًا للعودة إلى المدرسة. كان الغلام مُهتمًّا جدًّا بالطيور، وكان مُعتادًا على النزول من الحنطور والسير مسافة النصف ميل الأخيرة في طريق مُختصر عبر المستنقعات. ترك الغلام سائق الحنطور عند البوابة المعتادة، ثم سار نحو المجهول مثلما حدث مع الآنسة فيكتور واللورد ميركوت.»

أفزعتني هذه القصة كثيرًا. تخيلتُ السير آرثر واركليف، الرجل العطوف الذي تنمُّ تجاعيد وجهِه عن أنه جندي وإداري عظيم، وكان بوسعي تخيُّل مدى حُزنه وقلقه. كنتُ أعرف ما سأشعر به لو كان بيتر جون هو من اختُطف. إنَّ امرأةً شابَّة كثيرة الترحال ورياضيًّا شابًّا لَقادِران على المقاومة مقارنةً بِصبيٍّ غضٍّ في العاشرة من عمره. ولكني كنتُ لا أزال أشعر بأن الأمر برمَّتِه خيالي بدرجة لا يرقى معها لأن يكون مأساة حقيقية.

سألته. «ولكن ما الذي يجعلك تربط بين حالات الاختطاف الثلاث؟ ثلاثة أشخاص يختفون في خلال بضعة أسابيع ومن مناطق مُتفرقة في إنجلترا. ربما اختُطفت الآنسة فيكتور لتُطلَب من والدها فِدية، وربما فقد اللورد ميركوت ذاكرته، وربما اختطف بعض الصعاليك ديفيد واركليف. ما الذي يجعلهم جميعًا جزءًا من مؤامرةٍ واحدة؟ لماذا افترضت أن أية حالة منهم كانت من أفعال الجماعة الإجرامية التي تحدثتَ عنها؟ هل لدَيك أي دليل يدعم نظرية الرهائن؟»

«نعم.» استغرقت الإجابة من ماكجيليفراي بضع لحظات. «بادئ ذي بدء، ثمة الاحتمالية العامة. إذا أرادت مجموعة من المُجرمين احتجاز ثلاث رهائن، فلا يُوجَد ثلاثة أفضل من هؤلاء؛ ابنة أثرى أثرياء العالم، ووريث أعظم دوقية لدَينا، والابن الوحيد لبطل قومي. كما أن ثمة دليلًا مباشرًا.» ثم تلعثم مرة أخرى.

«هل تعني أن شرطة سكوتلاند يارد لا تملك خيطًا واحدًا يؤدي إلى أي من هؤلاء الخاطفين؟»

«لقد تتبعنا مائة خيط، ولكنها انتهت جميعها عند حائطٍ مسدود. أؤكد لك أن جميع التفاصيل فُحِصَت بدقة متناهية. لا يا عزيزي ديك، لا تكمن المشكلة في أن ثمَّة غباءً من جانبنا، بل تكمُن في أن ثمة مكرًا مفرطًا من الجانب الآخر. لهذا السبب أنا بحاجةٍ لك. لديك موهبة التوصُّل إلى الحقائق التي لا يمكن لأي قدْرٍ من التفكير العادي التوصل إليها. لدي خمسون رجلًا يعملون ليلًا ونهارًا، وتمكنَّا، لحُسن الحظ، من إبعاد أخبار جميع حالات الاختطاف عن الصحافة حتى لا يعوقنا المُبتدئون. ولكننا لم نتوصَّل لأي شيءٍ حتى هذه اللحظة. هل ستُساعدنا؟»

«لا، لن أفعل. ولكن، بفرض أني كنتُ سأساعدك، لا أرى أي دليلٍ على أن ثمة صلة بين حالات الاختطاف الثلاث، أو أن أيًّا منها ارتكبتها العصابة الإجرامية التي تقول إنكم قد وضعتم أيديكم عليها. لم تمنحني إلا فرضيات، بل وفرضيات واهية. أين دليلك المباشر؟»

بدا قليل من الإحراج على وجه ماكجيليفراي. وقال: «لقد بدأت الحديث معك بطريقة خطأ. كان يجدُر بي أن أوضح لك مدى خطورة ويأس الشيء الذي نُواجهه، ومن ثَم ستكون في مزاج أكثر تقبلًا لبقية الحكاية. أنت تعلم مثلما أعلم تمامًا أن هدوء الأعصاب لا يكون دائمًا رفيقًا مفيدًا عند تقييم الأدلة. قلتُ إنني أملك دليلًا مباشرًا على وجود صلة بين حالات الاختطاف، وأنا أمتلكه بالفعل، ومتأكد تمامًا من صحته.»

«حسنًا، دعنا نراه.»

«إنها قصيدة. في يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، بعد يومَين من اختفاء ديفيد واركليف، وصلت إلى كل من السيد جوليوس فيكتور ودوق ألسيستر والسير آرثر واركليف نسخة منها في البريد الصباحي. كانت النسختان مطبوعتَين على ورقٍ من نوع رديء، وكان العنوانان مطبوعين على الظرفَين، وكانا قد أُرسِلا من حي الغرب الأوسط في لندن عصر اليوم السابق.»

أعطاني نسخةً من القصيدة، وكان نصها:

«ابحث حيث تبزغ الشمس في منتصف الليل،
حيث تندر النباتات والمحاصيل؛
حيث ينثر الزارع بذوره في الهواء،
فتسقط في أخاديد حقول جنة عدن الخواء؛
هناك بجوار الشجرة المقدسة،
تغزل العَرَّافة التي لا تَرى.»

انفجرت ضاحكًا، ولم يسعني تمالك نفسي؛ فقد كانت القصيدة كلها منافية للمنطق. بدت لي تلك السطور الستة من الشعر الركيك وكأنها غطاء من العبث اكتنف الأمر برمته. ولكنني كبحتُ جماح نفسي عندما رأيتُ التعبير الظاهر على وجه ماكجيليفراي. فقد احمرت وجنتاه ضيقًا، ولكن بقية قسمات وجهه كانت تنمُّ عن الاهتمام والهدوء والجدية الشديدة. لم يكن ماكجيليفراي غبيًّا، وكان يتعيَّن عليَّ أن أحترِم آراءه. فتماسكتُ وحاولت أن آخُذ الأمر على محمل الجد.

قلت: «هذا دليل على وجود صلةٍ بين حالات الاختطاف الثلاث. معك حق في هذا. ولكن أين الدليل على أنها من صُنع تلك الجماعة الإجرامية الخطرة التي تقول إنكم وضعتُم أيديكم عليها؟»

نهض ماكجيليفراي وبدأ يذرع الغرفة بعصبية. «ما الدليل إلا فرضية في الأساس، ولكنني أراها فرضية مؤكدة. إنك تعلم مثلما أعلَم يا ديك، أن حل القضية قد يكون باديًا أمامك كالشمس، ولكن من الصعب للغاية أن تعرضه في صورة سلسلةٍ من المُعطيات. تقوم رؤيتي للأمر على عددٍ كبير من المؤشرات والمحاور الصغيرة، وأنا على استعداد لأن أُراهن على أنك إذا ما فكرت في الأمر دون تحيُّز، فسوف تصل إلى الرؤية نفسها. ولكني سأزيدك من الشعر بيتًا فيما يتعلَّق بالدليل المباشر؛ خلال تتبُّعنا للجماعة الإجرامية، صادفنا مراسلات عديدة ذات طبيعة مُماثلة لذلك الشعر الركيك، وأؤكد لك أنها لا تُشبه أي شيءٍ قرأتُ عنه في علم الجريمة. أحد هؤلاء المجرمين يستمتع بإرسال خيوط لا فائدة منها إلى خصومه. وهذا يدلُّ على أن العصابة تظن أنها في مأمنٍ تمامًا.»

«على كلٍّ، لقد توصلتَ إلى العصابة. ولا أعلم لِمَ يزعجك أمر الرهائن. ستصلون إليهم عندما تقبضون على العصابة.»

«يا للعجب. تذكر أننا نتعامل مع أشخاص يتَّسمون بشذوذ أخلاقي. عندما يشعرون بأنهم عرضة للخطر، فلن يتورَّعوا عن فعل أي شيء. سيستغلون رهائنهم، وعندما نرفض التفاوُض معهم، سينالون انتقامهم منهم.»

أظن أنني حدقت في وجهه ذاهلًا؛ إذ واصل حديثه قائلًا: «نعم. سيقتلونهم بدم بارد — ثلاثة أبرياء — ثم سينامون قريري الأعين. أعرف هذا النوع جيدًا. لقد فعلوها من قبل.» وذكر بعض الحوادث الحديثة العهد.

صحت قائلًا: «يا إلهي! يا لبشاعة الفكرة! كل ما يُمكنكم فعله هو التعامُل مع الأمر بمكر، وألا تضربوا ضربتكم إلا بعدما تُخرِجوا الضحايا من بين براثنهم.»

قال في كآبة: «لا يمكننا فعل ذلك. هذه هي المأساة التي نواجهها. يجب أن نضرب ضربتنا في شهر يونيو. لن أُزعجك بذكر الأسباب، ولكن صدقني، جميعها أسباب وجيهة. ثمة فرصة للتوصُّل إلى تسوية في أيرلندا، وثمة أحداث مُعينة على جانب كبير من الأهمية على وشك الحدوث في إيطاليا وأمريكا، وكل شيء يعتمد على القضاء على أنشطة العصابة بحلول منتصف الصيف. هل تفهم؟ يجب أن نصِل إليهم بحلول منتصف الصيف. فبحلول منتصف الصيف، سيكون وضع الرهائن الثلاث ميئوسًا منه، إلا إذا تمكنَّا من تحريرهم قبل ذلك الموعد. إنها معضلة مُخيفة، ولكن من حيث المصلحة العامة، لا يوجد إلا مخرج واحد. يجدُر بي القول إن كلًّا من فيكتور والدوق وواركليف يدركون هذه الحقيقة، ويتقبلَّون الوضع كما هو. إنهم رجال مسئولون، وسيؤدون واجباتهم حتى وإن كانت ستفطر قلوبهم.»

خيم الصمت لبضع دقائق، فلم أعلم ما يجدُر بي قوله. بدت لي القصة برمتها غير معقولة، ولكني لم أستطع التشكيك في حرفٍ منها عندما نظرت إلى وجه ماكجيليفراي الجاد. شعرت بالرعب الذي تنطوي عليه هذه المهمة، ليس لأنها بدت غير حقيقية فحسب، بل لأنها تتَّسم أيضًا بكآبة الكوابيس. الأمر الأهم هو أنني أدركتُ أني لستُ أهلًا للمساعدة، وبعدما أدركت أنني قادر صدقًا على تبرير رفضي بانعدام الكفاءة وليس بانعدام الرغبة، بدأت أشعر بالمزيد من الراحة.

قال ماكجيليفراي قاطعًا الصمت: «هل ستساعدنا إذن؟»

«لا يوجد ما يمكن فعله بذلك الشِّعر الركيك الذي أطلعتني عليه، والذي يُشبه الأشعار التي تُنشر في صحف أيام الأحد. إنه لغز ليس المراد منه أن يُحل. افترض أنك ستحاول العمل بدءًا بالمعلومات التي جمعتها عن المجموعة حتى تصل إلى خيط يوصلك إلى الرهائن.»

فأومأ برأسه أن نعم.

قلت: «اسمع، يعمل معك في هذه المهمة خمسون من أذكى العقول في بريطانيا. واكتشفوا كمًّا من المعلومات يكفي للفِّ حبلٍ متين حول العدو الذي يُمكنك أن تُحكم وثاقه متى أردت. إنهم مدربون على هذا النوع من العمل، أما أنا فلا. ما النفع الذي سيعود عليك من مشاركة مبتدئ مثلي؟ لن تصل كفاءتي إلى نصف كفاءة أي واحدٍ من الخمسين. أنا لست خبيرًا، ولست سريع البديهة، أنا رجل بطيء متأنٍّ، ويجب أن تؤدَّى هذه المهمة في أسرع وقت ممكن، كما أقررتَ أنت. إذا ما أمعنت التفكير في الأمر، فسترى أن طلبك محض هراء يا صديقي العزيز.»

«لقد حققت نجاحات من قبل بنصف هذه الإمكانات.»

«كنت محظوظًا، وكانت ثمة حرب دائرة حينئذ، وكان ذهني مُتقدًا بالنشاط كما أخبرتك سابقًا. كما أن كل ما فعلته كان في ميدان المعركة، وما تريد منِّي أن أفعله الآن عمل مكتبي. وأنت تعلم أني لستُ بارعًا في الأعمال المكتبية، لطالما قال بلنكيرون ذلك، ولم يستعن بوليفانت بخدماتي في هذا المجال مُطلقًا. أنا لا أرفض لأنني لا أريد المساعدة؛ بل لأنني لا أستطيع المساعدة.»

«أعتقد أنك تستطيع المساعدة. كما أن الأمر خطر للغاية لدرجة أني لا أجرؤ على ترك أي شيءٍ للظروف. هل ستأتي؟»

«لا، لأني لن أتمكَّن من فعل شيء.»

«بل لأنك لا تريد المشاركة.»

«لأني لا أملك العقلية المناسبة لهذا الأمر.»

نظر إلى ساعته ونهض وعلى شفتَيه ابتسامة حزينة.

وقال: «لقد قلت لك ما أريد، وأصبحت تعرف ما أريده منك. لن أعتبر ردك هذا نهائيًّا. فكِّر فيما أخبرتك به، وأرجو أن أسمع منك ردًّا خلال الأيام القليلة المقبلة.»

ولكن لم تعُد ثمة أي شكوك تراوِدني؛ فقد أصبح جليًّا لي أنني اتخذت القرار الصحيح، أيًّا كانت الملابسات.

قلت بينما أُوصله إلى سيارته: «لا توهِم نفسك بأنني سأتراجَع عن قراري. أَصدُقك القول يا صديقي العزيز، إني كنتُ سأنضم إليكم لو شعرت بأني سأضيف لكم ولو مقدار حبةِ خردلٍ من النفع، ولكن من الأفضل لك ألا تضعني في حسبانك هذه المرة.»

ثم خرجتُ لأتنزَّه شاعرًا بالكثير من البهجة. سويتُ مسألة بيض طيور الدرَّاج البرية مع الحارس، وهبطت المنحدَر وصولًا إلى الجدول لأرى إن كانت بيوض الحشرات قد فقست لنبدأ صيد الأسماك التي تتغذَّى عليها. أصبح الجو صافيًا هذا المساء، وحمدت الله على نجاتي من هذه المهمة العصيبة دون أن يُؤنِّبني ضميري كثيرًا، وأني سأتمكَّن من عيش حياتي الهادئة مجددًا. قلت «يؤنِّبني ضميري كثيرًا»، لأنه على الرغم من وجود القليل من الأفكار المُقلِقة لا تزال تدور في ذهني، كل ما كان عليَّ فعلُه هو استعراض المُعطيات من جميع جوانبها لكي أرتضي بصحَّة قراري. نفضت الأمر برمَّته عن ذهني وعدتُ إلى المنزل مُشتهيًا شُرب الشاي.

وجدت رجلًا غريبًا يجلس في غرفة الاستقبال مع ماري، رجل نحيل مُسن، ذو قوام مستوٍ ومُستقيم للغاية، له وجه كَتبت عليه الحياة الكثير من فصولها، يُشبه النظر إليه قراءة كتاب جيد. لم أتعرف عليه في البداية عندما نهض ليُصافحني، إلا أن التجاعيد التي ظهرت عند طرفَي عينَيه أثناء الابتسام، وذلك الصوت العميق المُتأني ذكَّراني بالمُناسبتَين الماضيتَين اللتَين التقيت خلالهما السير آرثر واركليف. اعتراني الأسى وأنا أصافحه، وازداد شعوري هذا عندما رأيتُ الكآبة الشديدة المُرتسمة على مُحيَّا ماري. كانت قد عرفت القصة التي كنتُ آمُل ألا تعرف أي شيءٍ عنها.

رأيت أنه من الأفضل أن أتحدث إليه بصراحة. فقلت: «يمكنني أن أخمن المهمة التي أتيتَ من أجلها يا سير آرثر، وكم يؤسِفني أن تقطع كل هذه المسافة بلا طائل.» ثم أخبرته بزيارة السيد جوليوس فيكتور وماكجيليفراي، وما قالاه، وبِردِّي عليهما. أظن أني وضَّحت عدم قُدرتي على فعل شيءٍ كوضوح الشمس، وبدا أنه يتفق معي. وأتذكر أن ماري ظلت مُطرِقةً طوال الوقت.

كان السير آرثر مُطَأطِئ الرَّأسِ أيضًا بينما أتحدَّث، ولكنه رفع وجهه العجوز الحكيم نحوي الآن، ورأيتُ الآثار التي خلَّفها قلقُه الجديد على ملامحه. لم يكن قد تخطَّى الستِّين إلا بقليل، ولكنه بدا وكأنه بلغ المائة من عمره.

قال: «لا أحاول أن أثنيك عن قرارك يا سير ريتشارد. أعلم يقينًا أنك كنت ستساعدني لو كان هذا مُمكنًا. ولكني أقرُّ بأن ظنِّي قد خاب؛ فقد كنت أنت أملي الأخير. إنك تعلم، إنك تعلم، أن شيئًا لم يتبقَّ لي في هذا العالم سوى دايفي. وأظن أنني ربما كنت سأتحمل الأمر لو أنه كان قد مات، ولكني لا أستطيع تحمُّل ألا أعرِف أي شيءٍ عنه وأن أتخيَّل حدوث أشياء مروعة له.»

لم أمرَّ في حياتي بتجربةٍ مُؤلِمة أكثر من تلك. إن سماع تهدج صوتٍ اعتاد على توجيه الأوامر، ورؤية الدموع تتراكم في أكثر عينَين ثاقبتَين رأيتهما في حياتي، جعَلَاني أرغب في العواء مثل الكلاب. كنت على استعدادٍ لدفع ألف جنيه في مقابل أن يُسمح لي بالدخول إلى غرفة المكتبة وإحكام إغلاق بابها من خلفي.

بدا لي تصرُّف ماري غريبًا للغاية. بدا لي وكأنها مصرَّةٌ على فتق جراح الرجل؛ إذ كانت تحث السير آرثر على التحدُّث عن الصبي. عرض علينا مُجسمًا كان يحمِله معه؛ مُجسم لغلام وسيم للغاية ذي عينَين رماديتَين واسعتَين ونمَّت وضعية رأسه بالنسبة لجسده عن النُّبل. صبي صغير جاد الملامح، بدت عليه الثقة التي يتميَّز بها الأطفال الذين لم يتعرَّضوا لمُعاملة مُجحفة في حياتهم. قالت ماري شيئًا عن رقة الوجه.

فقال والده: «نعم، كان دايفي رقيقًا للغاية. أظنُّ أنه أرقُّ إنسان عرفتُه في حياتي. هذا الغلام الصغير كان مثالًا حيًّا على التهذيب. كما أنه كان صبورًا للغاية. فعندما كان يشعر بالحزن، كان يصمت، ولا يبكي مطلقًا. كنت أشعر وكأنه يؤنِّبني بهذه الطريقة.»

ثم بدأ يُخبرنا بأداء دايفي في المدرسة، حيث لم يكن مميزًا عن أقرانه في شيء، فيما عدا موهبته في رياضة الكريكت. قال السير آرثر وقد ارتسم شبح ابتسامة على شفتَيه: «كنت أخشى عليه من النضوج المبكر. ولكنه كان دائمًا ما يُعلِّم نفسه الأشياء المُفيدة؛ إذ كان يتعلم كيفية الملاحظة والتفكير.» كان يبدو أن الصبي كان مُهتمًّا بالطبيعة للغاية، وكان يقضي ساعاتٍ خارج المنزل مراقبًا الحياة البرية. كان صياد سمك بارعًا أيضًا؛ فقد اصطاد الكثير من أسماك السلمون باستخدام الشراشيب كطعم من جداول التل في جالواي. بينما كان الوالد يتحدث، بدأت فجأةً أحترم هذا الصبي الصغير، وأفكر في أني أتمنَّى لو أُصبح بيتر جون مثله. أعجبتني قصص حُبه للطبيعة وجداول أسماك السلمون. وهبطَت عليَّ كالصاعقة فكرة أنني لو كنتُ في مكانِ والده، كنت سأُجَن دون شك، وأذهلني جَلَد هذا الرجل المُسن.

قال السير آرثر: «أظن أنه امتلك موهبةً فيما يتعلق بالحيوانات. فقد كان يعرف عادات الطيور غريزيًّا، وكان دائم التحدُّث إليها كما يتحدث الناس إلى أصدقائهم. كنا أنا وهو صديقَين حميمَين، وكان يحكي لي قصصًا طويلةً بصوته الطفولي الهادئ عن الطيور والحيوانات التي رآها خلال جولاته. كما أنه كان يُطلق عليها أسماءً غريبة أيضًا.»

كان حاله مُثيرًا للشفقة بدرجةٍ لا تُحتمل. وشعرت وكأني أعرف الصبي طوال عمري. وتخيلته وهو يلعب، وتخيلتُ سماع صوته، أما ماري، فكانت تبكي بحرقة.

كانت دموع السير آرثر قد جفت الآن، ولم يكن ثمة تهدُّج في صوته وهو يتحدَّث. ولكن اجتاحته فجأةً مشاعر أكثر حدةً وتحولت كلماته إلى صيحة جزعة: «أين هو الآن؟ ماذا يفعلون به؟ يا إلهي! ابني الحبيب، ابني اللطيف دايفي!»

أثَّرت هذه الصيحة في نفسي بشدة. وأحاطت ماري عنق الرجل المُسن بذراعَيها، ورأيتُ أنه كان يحاول تمالك نفسه، ولكني لم أكن أرى أي شيء بوضوح. كل ما أتذكَّره أني كنتُ أذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، ولم ألحظ أن ضيفنا كان يهم بالمُغادرة. أتذكر تصافُحنا، وسماعه يقول إن حديثه إلينا قد أفاده كثيرًا. كانت ماري هي من صَحِبه إلى سيارته، وعندما عادت وجدتني عند النافذة أسبُّ كالمجنون. كنت قد فتحت النافذة؛ فقد كنتُ أشعر بأني أختنق على الرغم من برودة الجو في المساء. ولكن خنقَني ذلك المزيج من الغضب والاشمئزاز والشعور بالشفقة.

صحت: «لِمَ لا يتركني الناس وشأني؟ أنا لا أطلب الكثير، بعض السكينة فحسب. لِمَ أنجرُّ دائمًا إلى مشكلات الآخرين؟ لِمَ بحق السماء؟»

كانت ماري تقف بجواري وقد شحب وجهها وسالت عليه الدموع.

وقالت: «لا شك في أنك ستُساعد الرجل.»

أوضحت لي كلماتها القرار الذي كان لا بد لي من اتخاذه منذ ربع الساعة، فخرج كامل الغضب من داخلي كما يخرج الهواء الساخن من بالون.

أجبتُها قائلًا: «بالطبع. بالمناسبة، مِن الأفضل أن أرسل برقية إلى ماكجيليفراي، وإلى واركليف أيضًا. ما عنوانه؟»

قالت ماري: «لا حاجة لأن تقلق بشأن السير آرثر. فقبل أن تدخل المنزل، عندما أخبرني بالقصة، أخبرتُه بأنك لن تتخلَّى عنه. ديك، تخيل لو كان المخطوف هو بيتر جون!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤