ماتشراي
بعد أسبوع، وبعد الكثير من المشاورات مع ساندي، أرسلتُ خطابًا إلى مِدينا. نشَرَت الصحف أنه سافر إلى الخارج في عطلةٍ قصيرة، وأمكنني أن أتخيَّل العذاب الذهني الذي كان يُكابده في أحد خلجان البحر المتوسط. كنا قد قرَّرنا أن نسعد بنجاحنا. كان الانتصار يعني حملةً طويلة في المحاكم والصحافة، لم يكن ثمة شك في أننا سنفوز بها، ولكني لم أكن سأتحمَّلها بأي حالٍ من الأحوال. كان الأمر برمَّته كابوسًا كنتُ أتوق لأن أضع خاتمةً له؛ لقد كسرنا أنيابه، ولم يكن يُهمني أن يُواصل عمله في السياسة ويبهر العالم بمواهبه، شريطة أن يبتعد عن الجريمة. أرسلتُ له خطابًا أُخبره فيه بذلك؛ أخبرتُه أن ثلاثة أشخاص يعرفون كل ما اقترف سيلتزمون الصمت، ولكنهم يحتفظون بالحق في إفشاء السر إذا ما أظهر أيَّ أمارةٍ على أنه قد يعود إلى ارتكاب الجرائم. لم أتلقَّ منه ردًّا ولم أكن أتوقَّع أن يفعل. اختفت من نفسي كل الكراهية تجاه الرجل، والغريب أن كلَّ ما أصبحتُ أشعر به تجاهه هو التعاطف. نحن معشر البشر، حتى أفضلنا، مغرورون ومخادعون لأنفسنا، ومن دون ساترٍ مريح من خداع الذات، كنا سنتجمَّد وسط عواصف واقع الحياة القاسية وتحدِّياتها. ارتجف جسدي عندما تخيلتُ ذلك البائس وانهياره حينما تداعى عالَمُه الهش كاشفًا عن ضعف شخصيته الحقيقية. شعرت أن السعي لتحقيق المزيد من النصر سيكون خطأ أخلاقيًّا.
لا بدَّ أنه قد تلقَّى رسالتي، فقد عاد إلى عمله في شهر يوليو، وألقى خطبةً في مظاهرةٍ سياسيةٍ ضخمة استقبلتها الصحف بحفاوة بالغة. أما عن تعاملاته الاجتماعية، فلا أعرف عنها شيئًا، فقد كان ساندي في اسكتلندا وأنا في فوسي، ولم نكن ننوي مغادرة أيٍّ منهما. في الوقت نفسه، كان عمل ماكجيليفراي يجري على قدَمٍ وساق، وكانت الصحافة مليئةً بالقضايا الغريبة التي لم يفكر أحد في أن ثمة صلةً تربط بينها. فهمت من ماكجيليفراي أنه على الرغم من أن التحالف قد دُمِّر عن بَكرة أبيه، فإنه لم يتمكن من القبض على جميع المُجرمين الذين أراد القبض عليهم. في إنجلترا، ظهرت ثلاث فضائح مالية كبيرة تلتْها أحكام بالسجن مدى الحياة؛ وفي باريس ذاع خبر فضيحة سياسية ضخمة أعقبها العديد من الأحكام؛ وفي ولايات الغرب الأوسط الأمريكية حُكم على ناشطٍ عمالي وأحد أباطرة تجارة النحاس بالسجن مدى الحياة، وفي تورين كان خبر القبض على عصابة الاغتيالات الشهيرة. ولكن ماكجيليفراي ورفاقه كانوا قد حققوا النجاح وليس النصر، مثلي تمامًا؛ وصِدقًا لا أظن أنه يمكن للمرء تحقيق الغايتَين معًا في هذا العالم؛ وأن عليك أن تختار إحداهما.
التقَينا ميركوت في الحفل الراقص الذي أقامه «البرلمان» في أوكسفورد، ولم تؤثر عليه مُغامراته بالسلب، بل جعلته في حالٍ أفضل، فقد أصبح الآن رجلًا وليس صبيًّا مسلوبَ العقل. وفي أوائل شهر يوليو، ذهبتُ وماري إلى باريس لحضور حفل زفاف أديلا فيكتور، وكان أجمل حفلٍ حضرته في حياتي، وتشرفتُ بتقبيل العروس وتلقِّي قبلةٍ من العريس. أحضر السير آرثر واركليف ديفيد إلى فوسي لزيارتنا، حيث كان الصبي يذهب لصيد الأسماك من شروق الشمس حتى غروبها، وبدأ وزنه يزداد. وصل آرتشي رويلانس أيضًا، ووجد الاثنان اتفاقًا في هواياتهما، فانطلق ثلاثتهم إلى النرويج ليراقبوا طيور جزيرة فلاكسهولم.
كنت خلال تلك الأسابيع منشغلًا بتعويض بعض الأمور المتأخرة في فوسي، فقد تسبَّب غيابي الطويل في إفساد البرنامج الصيفي بالكامل. ذات يوم، بينما كنتُ في هوم ميدو أُخطط مَنفذًا جديدًا لإحدى البرك، ظهر ساندي أمامي مُعلنًا أنه يجب أن يتحدَّث إليَّ وأنه لا يملك إلا عشرين دقيقة فقط.
سألني: «متى ستبدأ فترةُ استئجارك لماتشراي؟»
«إنها سارية حاليًّا؛ بدَأَت منذ شهر أبريل. إن أسماك السلمون البحري تظهر مبكرًا هناك.»
«هل يُمكنك أن تذهب إلى هناك متى أردت؟»
«نعم. إننا نُفكر في أن ننطلِق في الخامس من أغسطس.»
فقال: «اسمع نصيحتي واذهب الآن.»
سألته عن السبب رغم أني كنتُ قد خمنتُه.
فقال: «لأني لا يُعجبني بقاؤك هنا. لقد أهنتَ أحد أكثر الرجال غرورًا وذكاءً في العالم. ولا تحسبنَّ أنه سيتقبَّل ذلك بصدرٍ رحب. كن على يقينٍ من أنه يسهر الليالي مُخططًا لكيفية أخذ ثأره منك. إنه بالأساس لا يفكر إلا بك. يعتبرني منافسًا في مجال العمل نفسه؛ يودُّ أن يُدمِّرني، ولكنه سيتحيَّن الفرصة المناسبة. كان لافاتر عبدًا له وفَرَّ منه، ولكنه مَهما يَكن من أمرٍ أقر بسيطرته. أما أنت فقد خدعتَه من البداية وحتى النهاية، وتركتَ في كبريائه جرحًا داميًا لا يندمل. لن تهنأ بحياتك إلا بعدما ينتقِم منكما؛ أنت وزوجتك.»
صِحت: «وبيتر جون!»
هز رأسه نفيًا. وقال: «لا، لا أظن ذلك. إنه لن يُحاول أن يسلك ذلك المسار مجددًا، ليس الآن على الأقل. ولكنه سيكون سعيدًا للغاية لو لقيتَ حتفك، يا ديك.»
كانت هذه الفكرة تدور في ذهني منذ أسابيع، وكانت تؤرقني كثيرًا. إنه لَشعورٌ كريه أن تعيش وحياتك في خطر، وأن تتحرك متوقعًا باستمرار أن تسقط صريعًا. فكرتُ في الأمر بتمعُّن شديد، واستنتجتُ أني لن أتمكن من فعل شيءٍ سوى محاولة نسيان الخطر. فإذا تركتُ نفسي أفكر فيه، فسيُسمم ذلك حياتي بأكملها. كان الأمر بغيضًا بلا شك، ولكن العالم مليء بالمخاطر على أية حال. قلت ذلك لساندي.
قلت: «أنا مُدرك جدًّا للخطر. ولطالما رأيتُ أن هذا جزء من الثمن الذي عليَّ دفعه مقابل النجاح. ولكني لن أسمح لهذا الرجل بأن ينال مني لدرجة أن يفسد عليَّ حياتي.»
قال ساندي: «إنك تملك الكثير من الجَلَد، يا صديقي، ولكنك لا تزال مدينًا لأسرتك وأصدقائك. يمكنك بالطبع أن تطلب من ماكجيليفراي حماية الشرطة، ولكن ذلك سيكون إزعاجًا كبيرًا لك، وعلاوةً على ذلك، ما نوعية الشرطة التي يُمكنها أن تحميك من عدوٍّ خبيث مثل مِدينا؟ لا، أريدك أن تسافر بعيدًا. أريدك أن تذهب إلى ماتشراي الآن، وأن تبقى هناك حتى نهاية أكتوبر.»
«ما الفائدة من ذلك؟ يُمكنه أن يتبعني إلى هناك إن أراد، كما أن الخطر برمته سيعود مجددًا مع عودتي.»
قال: «لا أعرف. ربما يُشفى كبرياؤه الجريح في خلال تلك الأشهر الثلاثة. إن الثأر الشخصي منك ليس جزءًا من لعبته الشاملة، ولن يدفعه لذلك إلا غضب نابع من كبرياء جريحة. بعد قليل سيختفي هذا الغضب، وسيدرك اهتماماته الحقيقية. أما فيما يخصُّ ماتشراي، فإن غابة غزلان اسكتلندية تُعدُّ أفضل مكانٍ في العالم للاختباء. لن يمكن لأحدٍ أن يصعد ذلك الوادي الطويل دون أن تَعرِف، ولا يمكن لأحد أن يتحرك على التلال دون أن تتبعه نصف دزينة من أعيُن الحراس والصيادين اليقظة. تلك هي الحماية الشرطية الصحيحة. أريدك من أجلنا جميعًا أن تذهب إلى ماتشراي على الفور.»
قلت معترضًا: «يبدو ذلك جُبنًا.»
«لا تكن غبيًّا. هل يُوجَد إنسان عاقل على وجه الأرض يمكن أن يُشكك في شجاعتك؟ أنت تعرف يقينًا أنه من واجب الشجعان في بعض الأحيان أن يهربوا.»
فكرتُ قليلًا فيما قال. ثم قلت: «لا أظن أنه سيستأجر مُجرِمين ليغتالوني.»
«لماذا؟»
«لأنه تحدَّاني إلى مبارزة. اقترح مكانًا في جبال البرانس، وعرض أن أختار أنا الحكَمَين.»
«ماذا كان ردك؟»
«أرسلتُ له برقيةً تقول: «لا تكن غبيًّا». بدا وكأنه يريد أن يحتفظ لنفسه بمهمة إنهاء حياتي.»
«هذا مُحتمَل جدًّا، ولكنه لا يحل المسألة. أُفضِّل أن أواجه نصف دزينة من القتَلة على مواجهة مِدينا. إن ما قلتَ يدعم حُجتي.»
كنت مُجبرًا على الإقرار بأن كلام ساندي كان عقلانيًّا، وبعدما انصرف، فكرتُ في الأمر مليًّا وقررتُ أن آخُذ بنصيحته. بطريقةٍ ما كان عرضه لشكوكي في صورة كلماتٍ قد زادها قوةً، وعدتُ أشعر مجددًا بشعور المُطارَد الكريه. لم يكن الشعور خوفًا، فأنا أظنُّ أنه لو تطلَّب منِّي الأمر أن أبقى لبقيتُ في فوسي وأديتُ عملي بإصرار. ولكن كان السلام الذي ينعم به بيتي سيتكدَّر. إذا ما انطلقَت رصاصة في أي وقتٍ من مَكمن ما — كانت تلك هي الطريقة الرئيسية التي تخيلتُ بها الخطر — فوداعًا لسحر مُرُوجي الصيفية.
نتج عن تفكيري أني أخطرت توم جرينسليد بأن يستعد لأخذ عطلته، وبحلول العشرين من يوليو، كنتُ وهو وماري وبيتر جون جالسين في منزلٍ صغير مكسو بالثلج مُختفٍ وسط تلٍّ مُغطًّى بأشجار البتولا، ناظِرين إلى النهر المنحسر والسماء الخالية من السحب، داعين أن تهطل الأمطار.
خلال الطقس الهادئ، تكون ماتشراي أكثر مكانٍ منعزل على سطح الأرض، أكثر عزلةً وهدوءًا من مزرعة بوير منسية في أحد أودية السهول الجنوب أفريقية. كانت الجبال ترتفع عموديةً وشاهقة لدرجة يبدو معها أن الطيور فقط هي التي يُمكنها الفرار منها، ولم تكن الطريق الآتية من البحيرة المالِحة الواقعة على بُعد عشرة أميال سوى شريطٍ رملي مُغطًّى بالعشب يبدو وكأنه سينتهي بعد ميلٍ واحدٍ تحت سفوح التلال الشديدة الانحدار. ولكن عندما تهبُّ العواصف، وتضرب الأمطار سقف المنزل، ويهدر النهر عند طرف الحديقة، وتتمايل أشجار البتولا والروان بفِعل الرياح، تشعر وكأنك تسمع ألف صوتٍ يتحدَّث، وأنك تعيش في عالَمٍ صاخب لدرجة تصمُّ الآذان ويكتسب صوتك حشرجةً حادة من كثرة الصياح في العاصفة.
مررنا بعددٍ قليل من العواصف، وكان الأسبوع الأخير من شهر يوليو محاكاةً قريبة الشبَهِ للغاية من المناطق الاستوائية. كانت التلال مُغطَّاة بالضباب الناتج عن حرارة الجو، وكان نهر آيسيل عبارة عن سلسلةٍ من البِرَك اللامعة التي لا تحتوي إلا على القليل من أسماك السلمون الحمراء المُختبئة تحت ضفافها، وكانت الجداول لا تزال هزيلة، واستخرجَتِ الشمس روائح ساخنة من العشب والميرقية الحلوة، وكانت الحركة مُرهِقة لكل من البشر والحيوانات. كانت هذه هي الحال خلال النهار، ولكن عند حوالي الساعة الخامسة من كل مساء، كانت تهبُّ ريح خفيفة من الغرب، تُبدِّد الضباب وتترك الأرض سابحةً في ضوء كهرماني بارد. ثم كنتُ أنطلِق وماري وتوم جرينسليد إلى التلال، ونعود قبل منتصف الليل لنتناول وجبة عشاء كبيرة مُستحَقة. في بعض الأحيان، خلال أوقات الظهيرة الحارة، كنت أخرج وحيدًا، مع أنجوس المُسن، كبير المتعقِّبين، وقبل أن يبدأ موسم الصيد بفترة طويلة، كنتُ قد أصبحت أعرف دروب الغابة جيدًا.
على القارئ أن يتحمَّلني بينما أصف تضاريس المنطقة. تمتدُّ غابة ماتشراي على مساحة عشرين ألف هكتار على جانبي وادي آيسيل، ولكن أغلب هذه المساحة يمتدُّ نحو الجنوب. ناحية الغرب توجَد بحيرة ماتشراي المالحة، حيث توجَد التلال المُنخفضة الخضراء التي هي في الغالب مراعٍ للأغنام. وناحية الشرق، عند منبع النهر، توجَد غابة جلينايسيل، التي يقع نُزُلها خلف مصب النهر عند شاطئ بحيرة مالحة أخرى، وعلى الأرض الواقعة في ناحيتنا من المرتفع الفاصل، لا يُوجَد إلا كوخ متعَقِّبٍ واحد. كانت غابة جلينايسيل مكانًا شاسعًا، وأكبر بكثير من أن تكون غابة واحدة. كان اللورد جلينفينان، أحد أعمام آرتشي رويلانس، قد ظل مستأجِرًا للغابة لسنوات، ولكنه كان رجلًا مسنًّا ضعيفًا تخطَّى السبعين من عمره، لم يتمكن إلا من اصطياد أيل واحد عندما هبطت الأيائل إلى السهول في شهر أكتوبر. نتج عن ذلك أن المكان كان يعج بالطرائد، وكان الطرف الغربي كله، الملاصق لماتشراي، يُعد مخبأً جيدًا. كانت تلك الغابة مصدرًا كبيرًا لإزعاجنا، فقد كان من المُستحيل تعقُّب الطرائد في منطقة الصيد الشمالية إلا عندما تهب الرياح الجنوبية الغربية، إلا إذا أردتَ أن تُغير وجهة الغزلان ناحية غابة جلينايسيل، وكانت منطقة الصيد تلك تحتوي على أفضل أماكن الرعي التي بدا أنها تجتذِب أفضل الطرائد.
لم تكن غابة هاريبول ناحية الغرب كبيرة للغاية، ولكني أظن أنها كانت أكثر الأراضي وعورةً في اسكتلندا. كانت ماتشراي تحتوي على مناطق صيد جيدة جنوبي وادي آيسيل وصولًا إلى مصبِّ النهر، وكذلك حلبتَين جليديتَين رائعتَين، حلبة نا سيد الجليدية، وحلبة إيسيان الجليدية. خلف مصبِّ النهر، كان يُوجَد وادي نهر ريسكويل الذي تقع على جانبيه أراضي غابة هاريبول. كانت جميع مرتفعات منطقة ماتشراي تتخطَّى الثلاثة آلاف قدَم ارتفاعًا، ولكنها كانت مُكورة ومِن السهل تسلُّقها، ولكن كانت مرتفعات هاريبول خلف النهر جبالًا صخريةً مُخيفة؛ جبل بان، وجبل كوير إيسان، وجبل سجور مور؛ مكونةً سلسلة من أصعب جبال الجزر البريطانية في تسلُّقها. كانت أكبر وأصعب قمة من حيث التسلُّق هي قمة جبل ريسكويل؛ سجور ديرج، بقمَّتَيه العاليتَين، وشُعَبه الثلاث، والهاوية العميقة التي تقع عند سفحه الشرقي. كانت ماتشراي تلتقي مع هاريبول عند قمة هذا الجبل، ولكن لم يكن أي من متعقِّبينا يذهب في هذا الاتجاه. فقد كان الجزء العلوي من جبل ريسكويل بالكامل عبارة عن سلسلة من الجروف والهوَّات، وكان من النادر أن تجد غزلانًا حمراء هناك، فهي لم تكن تستطيع تسلُّق الصخور. أما عن بقية أماكن الصيد الأربعة الجنوبية الخاصة بنا، فكانت ثمة منطقة صيد من أروع ما رأيتُ في حياتي، وكان يُمكن للسيدات أن يتابعن عملية التعقُّب باستخدام مناظير كبيرة من نافذة المكتبة في النُّزُل. كانت غابة ماتشراي مناسبة للشباب، فقد كانت التلال تنحدِر صعودًا من مستوى سطح البحر، وقد تضطر أن تصعد وتهبط ارتفاعًا يصل إلى ثلاثة آلاف قدم عدة مرات في اليوم الواحد. أما غابة هاريبول، أو الأجزاء الشمالية والشرقية منها على الأقل، فكانت مناسبة للرياضيين فقط، وبدا أنه مقدر لها أن يستأجرها أشخاص لا يستطيعون الاستفادة منها على النحو الأمثل. فخلال الأعوام القليلة الماضية، استأجرها تِباعًا مُسنٌّ سِكِّير، ومتسابق خيول سِكِّير لم يفز في أي سباق، ورجلٌ بدين من أباطرة السكك الحديدية الأمريكيين. وهي حاليًّا مؤجَّرة لصاحب مصنع كهل من ميدلاند، هو اللورد كلايبودي، الذي جنى ثروته بسهولةٍ ولقب نبالته بسهولةٍ أكبر خلال الحرب. قال أنجوس: «يا إلهي، سيموت. لن يُمكنه تسلُّق مائة قدمٍ من هاريبول إلا ويلقى حتفه.» وهكذا، وجدت نفسي مجددًا مُبتلًى بموقف لم أختره، في مكانٍ كان يفترض به أن يكون ملاذًا آمنًا.
كان أنجوس مُستاءً للغاية من ذلك. كان رجلًا نحيلًا دائم القلق تخطى الخمسين بقليل، ذا وجهٍ يُشبه الأيل، وكان سريعًا للغاية في تسلق التلال، ومُتسلق جبالٍ من طراز رفيع، ويتمتَّع بكل ما يتَّصف به سكان المرتفعات من دماثة. أما كينيدي، المُتعَقِّب الآخر، فكان من سكان الأراضي المنخفضة؛ وجاء والده إلى الشمال من جالواي خلال الفترة التي شهِد فيها مجال تربية الأغنام ازدهارًا سريعًا، وظلَّ يعمل حارسًا عندما انهارت أسعار الغنم. كان شابًّا قويًّا، غالبًا ما يُعاني على المُنحدرات في الأيام الحارة، ولكنه كان قويًّا كثَور، وكان أكثر ذكاءً من أنجوس فيما يتعلق بحلول مشكلات الطقس والرياح. رغم أنه كان يتحدَّث الغاليَّة، فقد كان من سكان الأراضي المُنخفضة المتأصِّلين، فكان يتحدَّث بلُغتهم ويملك رباطة جأشهم. كان الرجلان مثالًا على التناقُض بين الجيلَين الجديد والقديم، فقد خدم كينيدي في الجيش أثناء الحرب وتعلَّم أمورًا أكثر بكثيرٍ مما يعرفها أبناء جلدته. فقد كان يعرف، على سبيل المثال، كيف يُحوِّل انتباهك إلى حيث يريد، وكان قادرًا على إعطاء تعليماتٍ مدروسة، كما لو كان رقيبًا في سرية مدفعية، بينما كان كل ما يقوله أنجوس: «هل ترى تلك الصخرة هناك؟ نعم، ولكن هل ترى صخرة أخرى؟» وهكذا دون توقف. وعندما كنا نجلس لنرتاح، كان كينيدي يدخن سيجارة في مَبسم، بينما كان أنجوس يُشعل بقايا تبغ في غليون قديم كريه الرائحة.
خلال الأسبوعين الأوَّلَين من شهر أغسطس، كانت الأمطار تهطل يومًا ويومًا، وكانت سيولًا غزيرةً لا ترحم، وارتفع مستوى نهر أيسيل مما سمح بدخول الأسماك إليه من البحر. لم تكن أعداد السلمون البحري كبيرة تلك السنة، ولكن كانت ثمة أعداد كبيرة من أسماك السلمون النهري. اصطاد جرينسليد سمكته الأولى، وبحلول نهاية الأسبوع، كان قد أكمل الدزينة، بينما اصطادت ماري أربع سمكاتٍ في يومٍ واحد بصنارتها بعدما حاباها الحظ الذي يبدو أنه عادةً ما يُحابي النساء اللاتي لا يُمارسن الصيد. كانت أيامًا مُبهجة، رغم أننا كنا نمرُّ بفترات رَواحٍ كئيبة عندما كان الهاموش يُهاجمنا بضراوة تفوق الناموس الاستوائي. كنتُ أُحب الأوقات التي كان فيها النسيم العليل يهبُّ تحت أشعة الشمس الحارة، ونتناول طعامنا جميعًا على ضفة النهر. أخذنا معنا ذات مرةٍ قِدرًا حديديًّا، وأشعلنا نارًا، وسلَقْنا سمكةَ سلمون طازجة «في مرقها»، وهي طريقة طهي أنصحُ بها أي أحدٍ يرغب في تذوُّق طعم هذه السمكة العظيمة كاملًا.
وصل آرتشي رويلانس في السادس عشر من أغسطس تتملكه رغبة جامحة للصيد. أخبرنا أنهم لم يرَوا شيئًا ذا قيمةٍ بين طيور جزيرة فلاكسهولم، إلا أن ديفيد واركليف استمتع كثيرًا بصيد أسماك السلمون البحري. قال: «إنه فتًى رائع. صياد من طرازٍ رفيع، وجعلتني رؤيته ووالده معًا أرغب في الزواج على الفور. شعرتُ أنه كان كئيبًا إلى حدٍّ ما عندما كان في فوسي، ولكن بحر الشمال أصلح مزاجَه، وتركتُه وهو في غاية السعادة. بالمناسبة، ماذا ألمَّ به خلال الصيف؟ فهمتُ أنه كان مريضًا أو شيئًا من هذا القبيل، ووالده لا يستطيع أن يترُكه يغيب عن ناظرَيه. لنستدعِ أنجوس، ونتحدَّث عن صيد الغزلان.»
كان أنجوس على استعدادٍ للتحدث عن صيد الغزلان لساعات. كنت قد حددتُ اليوم الحادي والعشرين من أغسطس موعدًا لبدء موسم الصيد، رغم أن الطرائد وصلت إلى حالةٍ ممتازة حتى إننا كان يمكن أن نبدأ قبل ذلك الموعد بأربعة أيام. قال أنجوس إنه رأى بالفعل عدة أيائل اكتمل نمو قرونها. ولكنه كان حزينًا بسبب جيراننا.
قال آرتشي: «لم يعُد الدعاء لعمي ألكسندر يُفيد. لقد أصبحت غابته محور حياته، ولن يستقبلني هناك في بداية الموسم، فهو يقول إنني أفتقِر إلى الكفاءة في تقييم حالة الطرائد كما أنه يأبى أن يستمع إلى ما يقوله المُتعقِّبون. وكان يُراقبني عن كثبٍ في شهر أكتوبر. ورفض أن يُقتَل أي أيل إلا إذا كان بلا قرون أو كان هَرِمًا مريضًا. ونتج عن ذلك أن الغابة أصبحت تعجُّ بالأيائل الرائعة التي بدأت تعود إلى الغابة ولن تموت إلا بالشيخوخة. إن فكرة عمي ألكسندر عن قطعان الأيائل مَعيبة. ماذا عن هاريبول؟ من يستأجرها هذا العام؟»
عندما سمع بمن استأجرها، صاح جذلًا. «أعرف كلايبودي العزيز. صديق قديم طيب بطبيعته، وسخي للغاية. كما أنه عبقري غريب الأطوار! قَدَّمَني ذات مرة لابنه على أني «جونسون كلايبودي المُبجل». إنه يستمتع بنبالته كثيرًا. لعلك تعرف أنه أراد أن يأخذ لقب لورد أوكسفورد لأن لدَيه ابنًا سيلتحق بالكلية المجدلية، ولكن حتى كلية المُبشرين أعربت عن استيائها من ذلك. لن يتمكن من تسلُّق تلال هاريبول تلك أبدًا. فهو بدين مُسن. لم تعد ساقاي كما كانتا سابقًا، ولكني غزالٌ مقارنةً به.»
قال أنجوس: «ربما سيستقبل ضيوفًا.»
«بالطبع سيفعل. سيملأ النُّزُل بالشبَّان، فثمة الكثير من بنات كلايبودي المبجل. ولكن لا أظنُّ أنهم هم أيضًا سيكونون بارعين جدًّا في تسلُّق التلال.»
قال أنجوس بحزن: «لن يكونوا جيدين يا سير أرتشيبالد. يُحتَمَل أن يكون بعضهم قد أقدم على استكشاف التلال بالفعل. لن يكونوا أفضل حالًا من السياح.»
يجدُر بي أن أذكر أن «السياح» هم أكثر ما يكره أنجوس. يطلق هذا الاسم على الأشخاص الذين يعبرون غابات الغزلان أثناء موسم التعقب أو قبله بفترة قصيرة، ولا يتمتعون بأخلاق حسَنة تجعلهم يُبلِغونه بمرورهم أو يطلبون إذنه. كان يُفَرِّق بشدة بينهم وبين من يُطلَق عليهم اسم «متسلقو الجبال»، وهي فئة كان يحترمها، فقد كانوا أناسًا مُهذَّبين ومتحضرين، يأتون عادةً حامِلين الحبال وفئوس الثلوج في بداية فصل الربيع، وكانوا مُعتادين على أكل اللحم والبيض الذي يُعده أنجوس ويدفئون أطرافهم قرب النار التي يُشعلها أنجوس. وإذا ما أتوا في موسمٍ آخر، فإنهم يفعلون ذلك بعدما يُناقشون مساراتهم مع أنجوس. كانوا يذهبون إلى حيث لا تذهب الغزلان، ويقضون وقتَهم، على حدِّ تعبيره «في حشر أنفسهم في الأماكن الضيقة.» أما «السياح»، فكانوا متبجحين وأغبياء وغير مُهذبين على الإطلاق. كانوا يتسكعون عادةً في أراضي الغزلان، وإذا ما مُنِعوا، كانوا يتعاملون بعدوانية. وكان يمكن أن يتسبب فرد واحد منهم في تخريب عملية التعقب في مناطق الصيد لعدة أيام. قال أنجوس: «إذا رأيتُ أحدهم في ماتشراي، سأُدحرج حجرًا ضخمًا من فوق التل على رأسه.» اتضح أن بعض ضيوف هاريبول من هؤلاء المُزعجين، وكانوا يتجولون على غير هدًى في جميع أنحاء الغابة، ومن ثَم كانوا يخربون جولة صيدهم، وجولتنا.
قال أنجوس: «سيكسرون قلب آلان ماكنيكول. كان آلان يقول إنهم سيئون جدًّا في التصويب. فكانوا يطلقون النار على صخرة كبيرة ولا يصيبونها. كما سيركبون خيولًا صغيرة نحو القمة، فهم غير بارعين في المشي أيضًا. كم أتمنى أن يسقطوا من علٍ وتُكسَر أعناقُهم.»
قال آرتشي: «من غير المعقول أن يكونوا جميعًا غير بارعين في التصويب. بالمناسبة، نسيتُ أن أخبرك بشيءٍ يا ديك. هل تعرف مِدينا، دومينيك مِدينا؟ أخبرتني ذات مرة أنك تعرفه. لقد قابلتُه على متن السفينة، وقال إنه سيقضي أسبوعًا مع العجوز كلايبودي.»
نزل عليَّ هذا الخبر كالصاعقة. إذا كان مِدينا في هاريبول، فمن شِبه المؤكد أنه أتى لغرَض في نفسه. لم أكن قد أوليتُ اهتمامًا بالأمر منذ وصولي إلى ماتشراي، فقد كان المكان أشبهَ بمُعتكَف منيع، وكنت قد بدأت أرتضي بحياتي الحالية. كنت قد انخرطت في حالة من السعادة والانغماس التام في الطقوس المبهجة الحماسية للصيد في البراري. ولكن في تلك اللحظة اختفت راحتي بالكامل. رفعت بصري نحو ذلك الجدار الكئيب من التلال ناحية غابة هاريبول وتساءلتُ عن الشرور التي تُدَّبر خلفه.
حذرت أنجوس وكينيدي والصيادين إلى أن ينتبهوا إلى المُتسللين. وفي حال ما رأوا أيًّا منهم، كان عليهم أن يُوجهوا مناظيرهم نحوه ويراقبونه ويبلغوني بشكله وبما يفعله. ثم خرجتُ وحدي لأصطاد زوجًا من طيور الطيهوج لطعامنا، وفكرت في الأمر برمته مليًّا. أنبأتني غريزتي بأن مِدينا جاء إلى هذه الأنحاء من أجل تصفية حسابه معي، وكنت مصرًّا على عدم التهرب منه. لم أكن أستطيع العيش في ظل ذلك التهديد؛ وكان يجب أن أواجهه وأن أتوصل إلى تسوية. لم أتمكن من إخبار ماري بأي شيء بالطبع، ولم أرَ فائدة تُرجى من إخبار آرتشي أو جرينسليد. كانت تلك هي جنازتي أنا، مجازيًّا وربما حرفيًّا. ولكني لم أخرج لصيد السمك في صباح اليوم التالي. بقيتُ في المنزل بدلًا من ذلك، ودونتُ بالتفصيل ما حدث خلال تلك المهمة حتى وصول مِدينا إلى هاريبول، ودوَّنت صراحةً ما اعتقدتُ أنه هدفه. فعلتُ ذلك تحسبًا لأن أخرج ذات يومٍ ولا أعود. بعدما انتهيت من الكتابة، وضعتُ المستند في حقيبتي لحفظ الأوراق، وشعرت وكأن حملًا انزاح من على صدري، مثلما يشعر رجل انتهى من كتابة وصيتِه. كان أمَلي الوحيد ألا يطول وقت الانتظار.
كان يوم الحادي والعشرين يومًا صافيًا ورائعًا، ونمَّ الضباب الصباحي عن حرارةٍ متوقَّعة في الجو. كانت الرياح التي تهبُّ جنوبية شرقية، فأرسلتُ آرتشي إلى منطقة الصيد في حلبة إيسيان الجليدية، وذهبت أنا مع أحد الصيادين، إلى كلاتش جلاس، القمة الغربية على الضفة الشمالية لنهر آيسيل. تدربتُ على تعقُّب الطرائد بنفسي، وبحلول هذا الوقت، أصبحت أعرف المنطقة جيدًا بحيث أؤدي التعَقُّب بصورةٍ آمنة. رأيتُ أيلَين مناسبين للصيد، وتمكنتُ من الاقتراب بما يكفي من أحدهما، ولكني أبقيتُ على حياته من أجل منفعة الغابة، فقد كان لا يزال حديث السنِّ ولم يكن قد اكتمل بعد نموُّ قرونه. مر يومي سعيدًا وهادئًا، وارتحتُ عندما أدركتُ أني لستُ قلقًا حيال المستقبل. بدا وكأن الهواء النقي والمساحات الشاسعة قد أسبغا عليَّ ذلك الإيمان الهادئ بالقضاء والقدَر الذي يملكه العرب.
عندما عدت، استقبلتني ماري بخبر أن آرتشي قد اصطاد أيلًا، وأنها تابعت أغلب عملية التعقُّب التي قام بها عبر منظارٍ ضخم. وصل آرتشي نفسه قبل موعد العشاء، وكان سعيدًا وثرثارًا للغاية. قال إن ساقه العرجاء جعلته بطيئًا، ولكنه أعلن أنه لم يكن متعَبًا على الإطلاق. وبينما كنا نتناول العشاء، قصَّ علينا جميع تفاصيل يومِه، واختلفنا حول وزن الحيوان، وفازت ماري بالتحدِّي. قال لي المزيد بعد ذلك عندما جلسنا في غرفة التدخين.
«لقد كان أولئك المُتأنِّقون من هاريبول في الخارج اليوم. لا بد أنهم سيئون في التصويب للغاية. فعندما كنا نتناول الغداء، مرت طلقة طائشة تصفر فوق رءوسنا؛ ومن المؤكد أنها أُطلقت من مسافةٍ بعيدة، ولكني أطلق على ما حدث أداءً سيئًا للغاية. ليتك سمعتَ سباب أنجوس باللغة الغالية. اسمع يا ديك، أُفكر جديًّا في التحدُّث مع العجوز كلايبودي وأطلب منه أن يُنبه ضيوفه. لا شك في أن احتمالية أن يُسببوا أي ضررٍ ضئيلة للغاية، ولكنها لا تزال قائمة. شعرتُ اليوم وكأن الحرب قد اندلعت مجددًا.»
رددتُ عليه قائلًا إنه إذا تكرَّر ما حدث اليوم، فلا شك في أني سأعترض، ولكني تظاهرتُ بأني آخُذ الأمر ببساطة، على أنه شيء غير مُمكن الحدوث إلا في ظل نوعية الرياح تلك. ولكني أصبحتُ الآن أعرف ما كان يُخطط له مِدينا. لقد كان يتجول في أنحاء هاريبول ليتعرَّف على تضاريس المنطقة، وكنت أعلم أنه يملك عين صياد طرائد كبيرة يُمكنها التعرف على التضاريس بسهولة. لقد غرس فكرة إطلاق النار بحرية في عقول ضيوف هاريبول، وربما تَقدَّمهم جميعًا في إطلاق النار الجامح. وكانت الطلقة التي مرَّت مصفرةً فوق رأس آرتشي دليلًا على ذلك، ولكنه كان يتحيَّن فرصة إطلاق طلقةٍ لا تخطئ هدفها. إذا ما حدثت تلك المأساة، فسيعتقد الجميع أنه مجرد حادث عرضي، وستكون هناك الكثير من الاعتذارات الحزينة، وعلى الرغم من أن ساندي وشخصًا آخر أو شخصَين قد يُخمنون حقيقة ما حدث، فلن يُمكنهم إثبات أي شيء، ولن يساعدني ذلك بأية حال. بالطبع لم يكن يُمكنني إلا أن أُلاحِق الطرائد في مناطق الصيد شمال ماتشراي فحسب، ولكني نفضتُ الفكرة عن ذهني بمجرد أن خطرت لي. يجب أن أنهي هذا الترقُّب الفظيع. يجب أن أقبل تحدِّي مِدينا وأُسوي الأمور معه بشكلٍ أو بآخر.
عندما جاء أنجوس ليتلقى أوامره منِّي، أخبرتُه بأني سأذهب لتعقب الطرائد في منطقة الصيد في حلبة نا سيد الجليدية بعد غدٍ، وطلبت منه أن يبعث برسالةٍ سرية إلى آلان ماكنيكول في هاريبول يخبره بذلك.
صاح أنجوس: «لا فائدة من ذلك يا سيدي. لن يستمع الضيوف لما يقوله آلان.»
ولكني أخبرته بأن يُرسل الرسالة على أية حال. كنتُ أريد أن أمنح مِدينا الفرصة التي ينتظِرها. كنت أريد أن أجتذب طلقاته نحوي.
في اليوم التالي تسكعنا واصطدنا الأسماك. وبعد الظهر، صعدتُ تلًّا صغيرًا يُدعى كلاتش جلاس، والذي تمكنتُ من فوقه من أن أحصل على مشهدٍ عام للأراضي ناحية الجانب الجنوبي من آيسيل. كان يومًا صافيًا هادئًا، وكانت الرياح تهبُّ بسرعةٍ ثابتةٍ نحو الجنوب الشرقي، وكانت منبئةً بأن تستمر على هذا المنوال. كانت البقعة المُسطحة الخضراء الكبيرة لحلبة نا سيد الجليدية منبسطةً بكل ما تحمِله الكلمة من معنًى؛ فقد بدا الجزء الأكبر منها أشبه بملعب تنس، ولكني كنت أعلم أن ما يبدو سهلًا منبسطًا ظاهريًّا، كان في الحقيقة مساحة من شجيرات عنب الغاب المتشابكة والجلاميد الخفية، وأن الأماكن الأدكن عبارة عن أجم سراخس وأعشاب بارتفاع صدر الإنسان. لم أتمكن من رؤية حلبة إيسيان الجليدية، فقد كانت مختفيةً خلف نتوءٍ طويل من جبل بِين فهادا الذي تُطل عليه القمة المشقوقة لجبل سجور ديرج. استطلعتُ المنطقة بالكامل باستخدام نظارتي المقربة، وحددتُ أماكن قطعان عديدة من إناث الأيائل، وعدد قليل من الوعول الشابة، ولكن لم يكن هناك أي دلالة على أي نشاط بشري. ولكن بدا لي أن هناك إطلاق نار من بندقية في غابة جلينايسيل، فقد سمعت صوت طلقتَين من ناحية الشمال الشرقي. رقدتُ طويلًا بين شُجيرات السرخس، وكان النحل يطنُّ من حولي وطيور الجنشة يُنادي بعضها بعضًا، ومن وقتٍ لآخر كنت أرى طائر باز أو شاهين يحوم فوق رأسي في السماء الزرقاء، وكانت تدور في ذهني الأفكار نفسها التي كانت تشغل ذهني في فرنسا قبل يومٍ من معركة كبرى. لم أكن أشعر بالتوتر نفسه الذي كنت أشعر به حينئذ، ولكني كنت أشعر كما لو أن أساسات كل شيء قد تزعزعت، وأن العالم لم يعد آمنًا على الإطلاق، وأنه من الأفضل أن أسدل الستار على الأمل والتخطيط لأي شيء، وأن أتحول إلى لوحٍ خشبي. كنت واثقًا تمامًا من أن اليوم التالي سيأتي حاملًا المِحنة بين يدَيه.
لم أكن أريد، بالطبع، أن تشك ماري في أي شيء، ولكني نسيت أن أنبه آرتشي لذلك، وفي تلك الليلة، بينما كنا نتناول العشاء، لسوء الحظ، ذَكَر أن مِدينا موجود في هاريبول. رأيتُ القلق يطلُّ من عينَيها، فقد كنت أتوقَّع أنها تشعر بنفس القلق الذي كنتُ أشعر به على مدار الأسابيع الماضية، ولكنها كانت أكثر عنادًا من أن تعترِف بذلك. عندما ذهبنا لننام، سألتني مباشرةً عما يَعنيه ذلك. فقلت: «لا شيء على الإطلاق. إنه مُتَعَقِّب بارع وأحد أصدقاء عائلة كلايبودي. لا أظن أنه يعرف أني هنا من الأساس. لقد انتهى الأمر برمَّته على أية حال. إنه لن يعترِض طريقنا إذا كان بوسعه أن يفعل. إن أكثر ما يتمنَّاه هو أن يتجنَّبنا.»
بدت راضية بما قلت، ولكني لا أعلم إن كانت نامت تلك الليلة أم لا. لم أستيقظ حتى السادسة صباحًا، ولكن عندما فتحتُ عينَي، شعرت بحملٍ ثقيل على قلبي منعني من البقاء في فراشي، فنزلتُ إلى مسبح الحديقة وسبحت. أنعشتني السباحة، كما أنه كان من الصعب أن أظلَّ مكتئبًا في ذلك الصباح الرائع، فقد كان الضباب لا يزال مُتشبثًا بقمم الجبال العالية، وكان الوادي بأكمله يُصدِر لحنًا جميلًا من تغريد الطيور وخرير المياه. لاحظتُ أن اتجاه الرياح، أو ما تبقى منها، قد تغير ليهُب أكثر نحو الشرق، الناحية التي تُوجَد بها منطقة الصيد في حلبة نا سيد الجليدية.
كان أنجوس وكينيدي ينتظران خارج غرفة التدخين، وألان الطقس الرائع تشاؤم كبير المُتَعَقِّبين. قال أنجوس ببطء: «أظنُّ أننا سنصطاد وعلًا. كان هناك وعل ضخم على جبل بِين فهادا بالأمس، لقد رآه كينيدي، كان عملاقًا، ربما يزِن تسعة عشر ستونًا، ولكن لم يرَ كينيدي رأسه. يجدُر بنا أن نتحرك يا سيدي.»
همست ماري في أذني. «ألا تُوجَد مخاطرة يا ديك؟ هل أنت متأكد؟» لم أسمع صوتها يحمل مثل هذا القدر من القلق من قبل.
ضحكتُ قائلًا: «إطلاقًا. سيكون يوم صيد سهل، وسوف أعود لأتناول الشاي معكِ في موعده. كما أنكِ ستُراقِبينني طوال الوقت عبر المنظار الكبير.»
انطلقنا في التاسعة. بينما كنت أغادر، لمحتُ جرينسليد جالسًا على أحد مقاعد الحديقة مشغولًا بطُعم ذباب، وكان آرتشي يدخن غليونه ويقرأ عددًا من جريدة التايمز صدر منذ ثلاثة أيام، وبيتر جون يلعب مع مُربيته، وماري تُراقبني بعينَين ملؤهما الجزع. ومن خلفهم، كان الدخان يتصاعد من المداخن عموديًّا ليشق الهواء الساكن، وكانت العصافير تُغرد بين أزهار الأمير تشارلي. أرعبني هذا المشهد. فقد لا أعود إلى مملكتي الصغيرة تلك مجددًا. لم يكن يمكن لزوجتي أو أصدقائي أن يساعدوني: كانت مشكلتي ويجب أن أحلَّها بمفردي.
عبرنا الجسر، وبدأنا نسير صعودًا عبر غابة من أشجار البندق. وهكذا بدأتُ أغربَ يومٍ مرَّ عليَّ في حياتي.