الفصل الحادي والعشرون

كيف لاحقتُ طريدةً أكثر بريةً من الغزلان

(١) من التاسعة صباحًا إلى الثانية والربع عصرًا

كان جليًّا أنني لم أستطع وضع خطة، ولم تكن تدور في ذهني أي أفكار عن نوعية التسوية التي أريد أن أتوصل لها مع مِدينا. كنت واثقًا من أنه يجدر بي أن أعثر عليه في مكانٍ ما من التل، وأنه إذا ما سنحت له الفرصة لقتْلي، فسيفعل. لم تكن احتمالات النجاح تصبُّ في صالحه بالطبع، ولكني لم أكن أفكر في الهرب، بل يجب أن أتخلَّص من هذا التهديد إلى الأبد. لا أظن أني أردتُ قتلَه، ولكني لم أحاول أبدًا أن أُحلل مشاعري. كنت أتبع حدسي بلا تفكير، وأترك نفسي أسبح مع تيار القدر.

كانت حلبة نا سيد الجليدية تقع ناحية الشمال ويفصل بينها وبين وادي آيسيل حاجزٌ من الصخور والركام كان فيما مضى الركام المتبقي من جبل جليدي، وكانت مياه نهر ألت نا سيد تنهمر من عليه مكونةً سلسلةً رائعةً من الشلالات. كان المنحدر شديدًا لدرجة أن الأسماك لم تكن تستطيع تسلق النهر، ومن ثم كان هناك عدد كبير من أسماك السلمون الكبيرة عند قاعدته، وفي داخل الحلبة الجليدية نفسها، لم تكن هناك أي أسماك سوى بعض الأسماك الصغيرة الداكنة اللون. كان الجو دافئًا للغاية بينما نتسلَّق تلك الكومة من الصخور والجلاميد حيث كانت هناك طريق هزيلة ومُتعرجة شُقَّت من أجل تسهيل إنزال جُثث الغزلان من حلبة نا سيد إلى موقع يسهل الوصول إليه. لم يكن يُمكن لأي خيولٍ الصعود إلى ذلك المكان إلا أقوى أنواع الخيول فقط. على الرغم من أننا كنا لا نزال في ساعة مبكرة من الصباح، فإن الحرَّ كان شديدًا، وكان الوادي من خلفنا يسبح في بريقٍ زجاجي. مسح كينيدي، كعادته، جبهته وزفر، إلا أن أنجوس الرشيق كان يسير أمامنا كما لو كنا نسير على أرضٍ منبسطة.

عند حافة الحلبة الجليدية، توقفنا لنستطلِع. كانت المنخفضات العميقة تجتذِب الرياح، وبدا أن تيارات الهواء الخفيفة التي شعرت بها تأتي من خلفنا يسارًا من ناحية الشمال الشرقي. ولكن كان أنجوس واثقًا من أنه على الرغم من أن الرياح الجنوبية قد توقفت، فإن الرياح التي تهبُّ شرقية، ولا علاقة لها بالشمال، وأصر على أننا، عندما نصعد إلى ارتفاعٍ أكبر من الحلبة الجليدية، ستضرب الرياح وجوهنا من ناحية اليسار. لم يطل انتظارنا للعثور على طرائد. كان ثمة قطيع كبير من الوعول على الضفة اليُمنى من الجدول، ومجموعة أخرى، تضم عددًا قليلًا من الوعول الصغيرة، على الضفة اليسرى، على ارتفاعٍ معقول من سفح جبل بِين فهادا. ولكن لم يكن أي منها يصلح للصيد.

قال أنجوس: «الوعول الكبيرة ستكون فوق القمم العالية. علينا أن نصعد إلى القمم المُحيطة بالجدول.»

كان الكلام أسهل كثيرًا من التنفيذ؛ إذ كانت هناك وعول علينا الالتفاف من حولها، لذا كان علينا أن ندور في دائرة كبيرة مرورًا من فوق تلٍّ يُدعى كلونليت، يقع عند الطرف الغربي البعيد من ماتشراي جنوبي نهر آيسيل. كان المسار وعرًا، فقد صعدنا إلى ارتفاع ثلاثة آلاف قدم، ثم عبرنا جانب التل من تحت الشريط العلوي من التل مباشرةً. بعد قليل أصبحنا نطلُّ على التكوين الصخري الذي يُشبه الكوب الذي يشكل رأس الحلبة الجليدية، ومن فوق الهوة، رأينا قمة جبل ستوب كوير إيسيان وحافة جبل ستوب بان، وكلاهما كان ضمن نطاق هاريبول وخلف جبل ريسكويل. أجرينا استطلاعًا آخر، ورأينا مجموعتَين أُخرَيَين من الوعول الصغيرة على الجانب الآخر من ألت نا سيد. كانت الوعول على مسافةٍ بعيدة للغاية ولم نتمكَّن من رؤيتها بوضوح، ولكن بدا وعل أو اثنان منها مناسبَين، وقررتُ أن نقترب منها.

كان علينا أن نهبط جانب التل بحذَر تحسبًا لوجود غزلان مختبئة بين الصخور، فقد كان المكان مليئًا بالأخاديد. قبل أن نصل إلى منتصف المسافة نحو الأسفل صوبت منظاري نحو إحدى المجموعتَين، ورأيت وعلًا ضخمًا ذا قرون رديئة، وكان من الجلي أنه غير مناسب للصيد. وافقني أنجوس، بدأنا نهبط جدار الوادي مُتخفِّين لنصل إلى ضفة الجدول. جعلتني رؤية الطرائد أنسى كل شيءٍ آخر، وطوال الساعة والنصف التالية، لم أفكر في أي شيءٍ في العالم سوى كيفية الاقتراب من الطريدة بما يكفي لصيدها. جميع عمليات التعقُّب متشابهة جدًّا، لذا لن أصفها. جاءت العقبة الوحيدة في صورة وعلٍ صغير من خلفنا جاء من فوق تل كلونليت والتقط رائحتنا على جانب التل. جعله ذلك يتوتر وينطلِق بأقصى سرعة نحو شمال الجدول. ظننتُ في البداية أن الحيوان سيعدو صعودًا جبل بِين فهادا ويصطحب القطيع معه، ولكنه توقف فجأة وغيَّر رأيه وبدأ يعدو نحو حدود غابة هاريبول والهوة.

بعد ذلك كانت الأمور سهلة، ودون عوائق تُذكَر. تسلقنا صاعدين الضفة اليمنى من نهر ألت نا سيد، التي كانت مكانًا ممتازًا للاختباء، ثم انحرفنا بموازاة أخدود فرعي آتٍ من جبل بِين فهادا. لا شك في أن الأمر كله كان بسيطًا للغاية لدرجة لا تُثير اهتمام أحد، فيما عدا الرجل الذي يحمل البندقية. عندما قدرتُ أنني تقريبًا على نفس ارتفاع الوعل الذي أريد صيده، زحفتُ خارج الجدول ووصلت إلى ربوةٍ جعلتني أحصل على رؤية واضحة له. كما توقعت، لم تكن قرونه جيدة؛ تسع نقاط فحسب، ولكنها كانت صلبةً وسميكة ومن نوعية قرون وعول الأراضي المرتفعة القديمة، ولكن كان الجسم ثقيلًا، وكان من الواضح أنه مُسن. بعدما انتظرتُ عشرين دقيقة أو نحوها، نهض ومنحَني فرصةً لإطلاق النار عليه من مسافة مائتي ياردة تقريبًا، فأسقطتُه بطلقة واحدة في العنق، فقد كانت الجزء الوحيد الظاهر منه.

كان هذا أول وعل أصطاده في الموسم، ولطالما كانت تلك اللحظة مبهجة عندما تسترخي أعصابك وتشعل غليونك وتجلس تنظر حولك. بمجرد انتهاء ملاحقة الطريدة، اقترحتُ أن نتناول غداءنا، وعثرنا لهذا الغرض على زاوية مُنعزلة صغيرة بجوار نبع صغير. كنا نبعد بضع مئات من الياردات عن حدود هاريبول، المنطقة التي لا توازي مصبَّ النهر، بل تعبر الحلبة الجليدية جنوبي الهوة بمسافة نصف ميل تقريبًا. في الأيام الخوالي، حينما كانت الأغنام ترعى هنا، كان يُوجَد سور، واستدللنا على ذلك من تلك الدعامات المُهترئة التي يمكن رؤيتها بالقُرب من الممرِّ الجبلي. بين السور والممر الجبلي، كانت هناك منطقة شديدة الوعورة ينبع منها نهر ألت نا سيد، أرض وعرة وغير مستوية ويصعب اجتيازها لدرجة أنه كان مُستحيلًا، دون الصعود مسافة كبيرة على التل، أن نرى بوضوح حَيْدَ مُستجمعات المياه.

التهمتُ الكعك المحشوَّ الذي أعطته لي ماري، وكذلك بسكويت الزنجبيل، وشربتُ بعضًا من الويسكي وماء النبع، بينما تناول أنجوس وكينيدي غداءهما على بُعد ياردات قليلة من نار التدفئة. كنتُ على وشك إشعال غليوني عندما سمعتُ صوتًا جمَّدني في مكاني وعود الثقاب في يدي. صوت طلقة بندقية تمرُّ بصفيرٍ من فوق رأسي. لم تكن الطلقة قريبة من رأسي، بل كانت على ارتفاع حوالي خمسين قدمًا، ونحو اليسار قليلًا.

سمعت أنجوس يصيح: «السياح اللعينون.»

كنتُ واثقًا من أن مطلِق النار هو مِدينا كما لو كنتُ قد رأيته بعيني. كان متواريًا في مكانٍ ما في الأرض الوعرة بين تخوم هاريبول والفج، وربما كان أقرب إلى الفج، لأن صوت الدويِّ بدا آتيًا من مسافةٍ بعيدة. من المؤكد أنه لم يكن يُصوِّب نحوي، فقد كنتُ متواريًا عن مجال رؤيته تمامًا، ولكن لا بد أنه كان قد رآني عندما كنتُ ألاحِق الوعل. وقرَّر أن فرصته لم تحِن بعد، وكانت تلك الطلقة تمويهًا، من أجل تأكيد إشاعة إطلاق النار العشوائي في هاريبول.

صاح أنجوس: «لا بد أنهم كانوا يُطلقون النار على الوعل الذي عبر التخوم. يا لهم من سيَّاح لعِينين، يُطلقون النار على ذلك الحيوان الصغير السن!»

اتخذت قراري فجأة. سأمنح مِدينا الفرصة التي كان يتحيَّنها. سأذهب للبحث عنه.

فنهضت ومددتُ ساقَي. وقلت لأنجوس: «سأُجرب ملاحقة وعل بمفردي. سأذهب إلى حلبة إيسيان الجليدية. من الأفضل أن تستدرجا هذا الحيوان إلى ضفة الجدول، ثم تُحضِرا الحصان. يجدُر بكما أن ترسِلا هوجي والحصان الآخر إلى غابة جلينايسيل نحو ماد بيرن. إذا ما عثرتُ على وعلٍ، فسأُلاحقه وأجعله يتَّجه ناحية الجدول بطريقةٍ ما، لذا، أخبرا هوجي بأن ينتظر إشارتي. سألوح بمنديل أبيض. الرياح تعود لتهبَّ شمالًا يا أنجوس. ستكون حلبة إيسيان الجليدية مناسِبة إذا دخلتها من الجنوب.»

قال أنجوس: «من الأفضل أن تدخلها من ناحية جبل سجور ديرج، ولكنها مسافة بعيدة للغاية. هل معك خراطيش يا سيدي؟»

قلت رابتًا على جيبي: «معي الكثير. أعطني هذا الحبل الإضافي يا كينيدي. سأحتاجُه لجرِّ الوعل، إذا ما تمكنتَ من صيده.»

وضعتُ بندقيتي الصغيرة من عيار ٠٫٢٤٠ في غطائها، وأومأت لهما، وسرت بمحاذاة الأخدود حتى وصلتُ إلى مجرى النهر الرئيسي. لم أكن أنوي الظهور على جانب التلِّ العاري لفترةٍ طويلة، فقد كان من المُحتمل أن أكون في مجال مِدينا فيطلق عليَّ النار. ولكني سرعان ما وصلتُ إلى حافةٍ حَجَبَت الرؤية من اتجاه أراضي هاريبول، ثم صعدتُ منحدرًا على سفح جبل بِين فهادا.

كانت ماري قد أمضت القسم الأكبر من ذلك الصباح أمام المنظار الكبير ناظرةً عبر نافذة المكتبة. رأتنا نصِل إلى حافة الحلبة الجليدية ولكننا غِبنا عن نظرها عندما صعدنا جانب تل كلونليت. عادت لترانا مجددًا عندما أصبحنا فوق الحلبة الجليدية، وشاهدتِ الملاحقة وموتَ الوعل. ثم ذهبت لتناول الغداء، ولكنها عادت مسرعةً دون أن تُنهيه لتراني أتحرك وحدي بين ركام جبل بِين فهادا. كانت مطمئنةً في البداية لأنها حسبت أنني في طريق عودتي إلى المنزل. ولكن عندما أدركت أنني أصعد الجبل لارتفاع أعلى وأني مُتجه نحو حلبة إيسيان الجليدية، أصابها الذعر، وعندما غبت عن ناظرَيها، لم تكن قادرة على فعل شيءٍ سوى التجول في أرجاء الحديقة في تعاسة.

(٢) من الثانية والربع عصرًا إلى حوالي الخامسة مساءً

كان الجو شديد الحرارة عند جبل بِين فهادا، فلم تكن ثمة رياح، ولكن عندما وصلتُ إلى الحافة وأصبحت أُطل على حلبة إيسيان الجليدية، وجدتُ نسيمًا عليلًا، كان اتجاه هبوبه بلا شك أقرب إلى الشمال منه إلى الشرق. لم تكن هناك سحابة واحدة في السماء، وكانت جميع القمم على مرمى البصر ظاهرة بوضوح، فيما عدا قمم هاريبول التي كانت متوارية خلف الجزء الأعلى من الحافة التي كنت أقف عليها. كانت حلبة إيسيان الجليدية تقع في الأسفل، ولم تكن واسعة على شكل كوب مثل حلبة نا سيد، بل كانت شقًّا عميقًا وسط التلال، وكانت مائلة بزاوية بدت معها مياه الينبوع داخلها بيضاء. كان هذا الينبوع يُسمى ماد بيرن؛ أظن أن اسمه باللغة الغالية هو ألت-آ-مويلين، وفي منتصف المسافة نحو الأعلى وفي الجهة المقابلة لي مباشرةً، كان يوجَد رافد، هو ريد بيرن، يهبط نزولًا عن جروف جبل سجور ديرج. تمكنتُ من رؤية القمة الشمالية لهذا الجبل، وكانت قمةً صخرية مخروطية جميلةً تبرز من الركام الجليدي المُحيط بها مثل قمة جبل ماترهورن.

فكرت في أنَّ مِن المحتمل أن يكون مدينا قد رآني أصعد جبل بِين فهادا وسيفترِض أني مُتجه إلى حلبة إيسيان الجليدية. ربما يُعاود عبور الفج ويتَّجه نحو جانب هاريبول من الممر الجبلي الذي يؤدي من هذه الحلبة الجليدية إلى ريسكويل. كنتُ أريد أن أُحافظ على وجودي فوق أرضٍ مرتفعة، حيث يُمكنني متابعة تحركاته، لذا كان هدفي الرئيسي هو الوصول إلى حَيْد مُستجمعات المياه الذي يطل على هاريبول قبله. كانت الرياح مزعجة، فقد كانت تهبُّ من نفس اتجاهي، وربما تتسبَّب في تحرُّك أي غزال نحوه، مما سيدله على مكاني. لذا، فكرتُ أنه بمجرد أن أُحدد مكانه، يجب أن أذهب إلى الجانب الخفي عنه. في تلك اللحظة، خطرت على ذهني فكرة مشوشة عن توجيهه نحو ماتشراي.

تحركتُ بأقصى سرعة مُمكنة بمحاذاة الجانب الشرقي من جبل بِين فهادا نحو الممر الجبلي؛ الذي كان عبارة عن صدع عميق في الحاجز الصخري الرمادي يمكن للغزلان المرور عبره. كان الشعور الوحيد الذي يعتريني هو الحماسة، على نحوٍ لم أشعر به من قبل خلال أي عملية تعقب. تسللت عبر الصدع ورقدت بين الصخور وزحفت بين الركام، ومررت مرةً أو اثنتين حول الحافة الخلفية للجروف، ولكن في خلال حوالي عشرين دقيقة، وصلت إلى الموضع الذي تلتقي فيه هضبة جبل بِين فهادا مع حَيْد مستجمعات المياه. كان الطريق السهل الآن هو الصعود على الحافة، ولكني لم أجرؤ على الظهور وخلفي السماء، فتحركت في رحلة مرهقة بمحاذاة الجانب القريب من جدار الحافة، وكنت في بعض الأحيان أسير بمحاذاة منحدرات شديدة، ولكني كنت أعلق في الكثير من الأحيان وسط الكثير من الصخور السائبة التي كانت عبارة عن ركام متساقط من الصخور في الأعلى. اضطررت إلى النزول إلى ارتفاع منخفض للغاية، ووصلتُ أخيرًا إلى الممر الجبلي الذي يمرُّ من تحت القمة بحوالي خمسمائة متر.

عندما وصلتُ إلى القمة، وجدت أنه لا يمكنني رؤية وادي ريسكويل؛ لم أرَ إلا حلبةً جليدية رفيعة محجوبة بطرف التل والقمة العارية لجبل ستوب كوير إيسيان من خلفه. كان يجب أن أجد بقعةً أحصل منها على رؤية للمنطقة، فانعطفتُ نحو الشرق بمحاذاة حَيْد مستجمعات المياه في اتجاه جبل سجور ديرج. كنتُ في ذلك الوقت أشعر بالدفء، فقد كنت مضطرًا للتحرك بسرعة؛ كنت أحمل بندقية، وألفُّ حبل أنجوس حول كتفَي مثل مرشد سياحي سويسري؛ وكنت أرتدي بذلةً رمادية قديمة جعلتني، مع الجورب الأصفر، خفيًّا تمامًا على جانب التل. بعد قليل بينما كنتُ أتسلق الحافة، بالطبع مع مراعاة عدم ظهور السماء من خلفي، وصلت إلى مكانٍ تمكنت فيه، بعد إزالة بعض الصخور، من تفادي النتوءات الصخرية والإطلال على مساحة ميل أو نحوه من وادي ريسكويل.

كان المكان وسط خط الأفق، عاريًا من دون أي مكانٍ للاختباء، وزحفت حتى وصلتُ إلى الحافة لأحصل على رؤيةٍ أفضل. تحتي، بعد بضع مئاتٍ من الياردات من الصخور والركام، رأيتُ أثرًا طويلًا بين أجم السراخس والعشب يصل حتى النهر. تأكدت من أن مِدينا كان هناك في مكانٍ ما يراقب الحافة. قدَّرت أنه بعدما عبر الفج عند حلبة نا سيد الجليدية وتحرُّكه حول الطرف الجنوبي لجبل بين فهادا، لم يكن يملك ما يكفي من وقتٍ ليصل إلى الممر الجبلي، أو حتى قريبًا من الممرِّ الجبلي، قبلي، ولا بد أنه لا يزال هناك في الأسفل. كنتُ آمُل أن ألمحه، فعلى الرغم من أني كنتُ واثقًا من أنه يبحث عني، لم يكن من المُمكن أن يعرف أني كنتُ أبحث عنه، وربما أتمكن من مباغتته.

ولكني لم أرَ أثرًا لأي كائنٍ حي في تلك المساحة الخضراء والأرجوانية، التي تتخلَّلها بعض الصخور الرمادية، التي تغمرها أشعة الشمس. فحَصتُ المنطقة بنظارتي المُقرِّبة ولم أرَ أي حركةٍ سوى طيور الجنشة وطائر كروان بجوار مُستنقع. ثم خطر لي أن أُظهِر نفسي. كان يجِب أن يعرف أني قبلتُ تحدِّيَه.

وقفتُ فوق حافة المنحدَر، وقررتُ أن أظل واقفًا حتى أنتهى من العدِّ إلى خمسين. يجدُر بي القول إنه كان تصرفًا جنونيًّا، ولكني كنتُ مصرًّا على تسريع وتيرة الأمور. عددتُ حتى واحد وأربعين دون أن يحدث شيء. ثم جعلني شعور غريزي فُجائي أنحني وأخطو جانبًا. وكان في تلك الحركة نجاتي. سمعتُ صوتًا أشبَهَ برنينِ وترِ كمان، ومرَّت طلقةٌ فوق كتفي الأيسر. شعرت بالهواء الصادر عنها على خدي.

بعد ثانيةٍ كنت راقدًا على ظهري متواريًا تحت خط الأفق. وبمجرد أن نهضتُ واقفًا، بدأتُ أعدو وتسلقتُ الحافة عن يساري لأحصل على رؤيةٍ من أرضٍ أكثر ارتفاعًا. قدَّرتُ أن الطلقة أُطلِقَت من ارتفاعٍ أكثر انخفاضًا بكثيرٍ وناحية الشرق قليلًا من المكان الذي كنتُ أقف فيه قبلئذ. عثرتُ على نتوءٍ صخري آخر وزحفت حتى حافته لأتمكن من النظر من بين صخرتَين على الوادي في الأسفل.

كان المكان لا يزال هادئًا تمامًا. كان عدُوِّي مُختبئًا هناك، ربما على مسافةٍ لا تتخطَّى نصف ميل، ولكن لم يكن هناك أي دليل يكشف مكانه. نثرت الريح الخفيفة نبات قطن المُستنقع، وطار صقر صغير عابرًا جبل ستوب كوير إيسيان، ونعق غراب من بين الصخور، ولكن لم تكن هناك أصوات أخرى. لم يكن هناك حتى أثر لغزلان.

رأيت عبر نظارتي المُقرِّبة عند منتصف المسافة نحو الأسفل نعجة تأكل، واحدة من تلك الحيوانات الحزينة التي ضلَّت طريقَها إلى داخل الغابة من مرعى الأغنام المجاور وتعيش منذ ذلك الحين حياةً محفوفةً بالمخاطر بين الصخور، نحيلة ومُتلبدة الشعر وبرِّية، حتى يذبحها أحد الصيادين. إنها أحدُّ بصرًا وأقوى سمعًا من الوعول، وتُمثل مصدر إزعاج بالغ للمُتعقِّبين. كانت النعجة تأكل العشب بالقُرب من مساحة شاسعة مُغطاة بأجم السرخس، ورأيتها ترفع رأسها فجأة وتُحدق في شيءٍ ما. كانت المرة الأولى على الإطلاق التي أشعر فيها بالحُب تجاه واحدةٍ من الأغنام.

كانت تُحدق بفضولٍ في شيءٍ ما في الأخدود الضحل الذي يُتاخم أجم السرخس، وكذلك فعلتُ أنا. ثبَّتُّ نظارتي المقرِّبة عليها، ورأيتها تهز رأسها القذر، وتضرب الأرض بقدمها، ثم سمعتُها تطلق صفيرًا عبر أنفها. كانت هذه النعجة عقبةً لم يحسب لها مِدينا حسابًا. كان جليًّا أنه كان في ذلك الفج، وكان يشقُّ طريقَه صعودًا إلى مخبأ تلك النعجة الصغيرة، غير عالِمٍ بأنها ستكشف أمره. قلتُ لنفسي إنه يريد ولا شك أن يصل إلى الأرض المرتفعة في أسرع وقتٍ مُمكن. كان قد رآني واقفًا على الحافة، ولا بد أن يستنتج بطبيعة الحال أني قد تراجعتُ بسرعة. لذلك كان أول ما يجدُر بي فعله هو أن أجعله يطمئن.

أخرجتُ بندقيتي من غطائها، الذي حشرته في جيبي. كانت هناك مساحة صغيرة مكسوة بالحصى عند حافة الأخدود، وقدَّرتُ أنه سيظهر بجوارها متواريًا خلف الصخرة المُغطَّاة بشُجيرات عنب الغاب. كان تخميني صائبًا … فقد رأيت أولًا ذراعًا، ثم كتفًا تخرج من بين الشجيرات، ثم وجهًا يطل من أعلى التل. رأيتُ عبر نظارتي المقربة أن هذا الوجه وجه مِدينا، وكان شديد التَّوَرُّد، ومتسخًا بسبب احتكاكه بالتربة المكسوة ببقايا النباتات. مد يدَه ببطءٍ إلى نظارته المقربة، وبدأ يمسح المرتفعات بنظره.

لم أعلم هدفي في تلك اللحظة، إن كان لدي أي هدف من الأساس. أظن أني لم أكن أنوي قتله، رغم شعوري بأن الأمور قد تئول إلى ذلك. انتابني شعورٌ غامضٌ بأنه يجدُر بي أن أُخرجه من المشهد، أن أغرس خشية الربِّ في قلبه، وأن أجعله يتقبَّل الهزيمة. ولم أُفكر في أي عواقب أخرى. لكن في تلك اللحظة كان لدَي مقصد واحد؛ أن أجعله يُدرك أني قبلتُ تحدِّيه.

أطلقت طلقةً تقريبًا نحو منتصف تلك المساحة المكسوة بالحصى، ثم وجهت نظارتي المُقرِّبة نحوها. كان يعرف جيدًا كيف تؤدَّى هذه اللعبة. ففي ثانية، كان قد عاد إلى داخل الأخدود مثل النمس.

فكرتُ أن فرصتي قد حانت. فمشيتُ على الحافة، وأنا أتسلق سريعًا، مراعيًا ألا أظهر أمام خط الأفق. كنتُ أريد أن أصل إلى الجانب الخفي عنه ومن ثم أتمكن من مُراقبته من أعلى، وفكرت أنه أصبحت لدي فرصة لأن ألتفَّ من حول قمة جبل ريسكويل عبر واحدةٍ من الحلبات الجليدية الشديدة الانحدار التي تهبط من جبل سجور ديرج. عندما أستعيد الآن تلك الذكرى، أجِد أن كل ما فعلتُه كان مشوشًا وغير مُتقَن، فماذا كنتُ أريد أن أفعل، حتى إن وصلتُ إلى الجانب الخفي، غير قتله أو جرحه؟ كما أن فرصتي لفعل ذلك كانت ستظل قائمة ما دمتُ مسيطرًا على الأرض المرتفعة. ولكن في خِضمِّ إثارة المطاردة، لا يتناول العقل الأفكار من منظورٍ أبعد، وكنتُ مفتونًا بالمتعة الجنونية لهذه المطاردة. لم أكن أشعر بالخوف لأني لم أكن أفكر في العواقب.

سرعان ما وصلتُ إلى الجزء الأعلى من الحافة ورأيتُ الجانب الصخري الهائل لجبل سجور ديرج يجثم علَيَّ من أعلى. كما رأيت شيئًا كنتُ نسيت أمره. لم يكن هناك سبيل لصعود هذا الجبل من على الحافة مباشرة، فقد كان جانبه يرتفع بزاوية قائمة مثل جدار المنزل. وحتى يتمكن المرء من الوصول إلى القمة، عليه أن يتحرك في أيٍّ من الجانبَين؛ إما جانب ماتشراي عبر منحدر مكسو بالركام، وإما جانب هاريبول عبر الأخدود العميق الذي يشكل قمة الحلبة الجليدية التي كنتُ أُطل عليها الآن. على الجانب الآخر من تلك الحلبة الجليدية، كانت هناك الدعامة الأولى من الدعائم العملاقة التي تمتدُّ بطول جبل سجور ديرج نزولًا حتى وادي ريسكويل. كان هذا جبل بيناكل الشهير (كما أطلق عليه متسلِّقو الجبال)؛ كنت قد تسلقتُه قبل ثلاثة أسابيع وكان تسلُّقه شاقًّا للغاية؛ ولكني حفظتُ الطريق إلى الحافة بدايةً من قاع الوادي، ولم أجد أيَّ طريق صالحة على جانب الحلبة الجليدية الذي كان عبارة عن جلاميد وصخور هشة، في حين كانت الشقوق القليلة تحتوي على نتوءات سيئة.

رقدتُ على بطني لأستطلِع. ما الذي يمكن أن يفعله مِدينا؟ بعد الطلقة التي أطلقتها، لم يكن يستطيع أن يتابع ما يحدث فوق الحافة؛ لم تكن هناك أماكن اختباء كثيرة على المنحدرات العليا. فكرت في أنه سيواصل المُضي على الأرض الوعرة والوادي حتى يصل إلى هذه الحلبة الجليدية، وسيحاول العثور على طريق إلى أرضٍ أكثر ارتفاعًا إما عبر الحلبة الجليدية نفسها وإما عبر أحد جوانب الجبل. في تلك الحالة، سيكون علَيَّ أن أنتظره. ولكني فكرت أولًا أنه من الأفضل أن أضع مشط طلقاتٍ جديدًا في خزانة البندقية، فقد كانت الطلقة التي أطلقتُها هي الطلقة الأخيرة في مشط الطلقات القديم.

عندئذٍ اكتشفتُ أمرًا صاعقًا. كنتُ قد رَبَّتُّ على جيوبي وأخبرتُ أنجوس بأني لدي الكثير من الخراطيش. وكان هذا صحيحًا، ولكنها لم تكن تناسِب عيار البندقية التي كنتُ أحملها. تذكرتُ أنني قبل يومَين، كنت قد أعرت آرتشي بندقيتي من عيار ٠٫٢٤٠، ومنذ ذلك الحين كنتُ أستخدم البندقية من نوع مانليتشر. وكانت أمشاط الذخيرة في جيبي تخصُّ بندقية مانليتشر منذ ذلك اليوم. يُمكنني أن أتخلص من بندقيتي، فلم تعُد فائدتها تتخطى فائدة سيخ حديدي.

صُعقت في البداية من فداحة الأمر. فها أنا ذا، مُنخرط في صراع على جبل وسط البراري مع أحد أبرع الرماة في العالم، وقد فقدتُ سلاحي! كان المسار العقلاني هو أن أعود أدراجي. وكنتُ أملك الكثير من الوقت لأفعل، وقبل وقتٍ طويل من وصول مِدينا إلى الحافة، سيُمكنني أن أتوارى داخل وادي ماد بيرن الضيق. ولكني لم أفكر في طريق الهرب هذا على الإطلاق. لقد حددتُ هدفي، وقررتُ أنَّ اللعبة يجب أن تنتهي هنا والآن. ولكن أعترف بأني كنتُ يائسًا تمامًا ولم أتمكن من وضع خطة. أظن أنني شعرتُ بأن ثمة بصيص أملٍ في أني سأتمكن من إرجاء المواجهة حتى يُخيم الظلام، ثم أستعين بمهاراتي في تسلُّق الجبال لأحرمه من أفضليته، ولكني كنت أشعر بشعور مقبض بأنه من المستبعد أن يتكرم بمنحي تلك المهلة الطويلة.

أجبرتُ نفسي على التفكير، وقررتُ أن مِدينا إما سيصعد الحلبة الجليدية وإما جانب الجبل الشديد الانحدار الذي يُكوِّن الجانب الأيمن منه ويمتدُّ نزولًا حتى وادي ريسكويل. من شأن الطريق الثاني أن يمنحه ساترًا، ولكنه قد يؤدِّي به إلى قتالٍ مباشر مفاجئ إذا ما تمكنتُ من تشتيت انتباهه، فقد أُباغته من على مسافةِ أربع ياردات من فوق أيٍّ من هذه الأراضي المرتفعة. لهذا السبب، ربما يُفضل الحلبة الجليدية التي كانت تقطعها الكثير من الصخور، وتتخلَّلها وِهاد، وفي الوقت نفسه، تعطي رؤية جيدة لجميع الأراضي الأعلى ارتفاعًا.

كنتُ مختبئًا خلف جُمة من عشبة القمل واضعًا نظارتي المقربة على عينَي؛ وسُرِرت عندما رأيت غزلانًا ترعى في منتصف المسافة تقريبًا نحو الوادي في الأسفل في الجهة اليُمنى. لم يكن مِدينا سيتمكَّن من صعود الحلبة الجليدية من دون أن يزعِج هذه الغزلان؛ وكانت مجموعة مكونة من حوالي ثلاثين وعلًا، خمسة منها صغار، واثنان كبيران بعض الشيء. لذلك كنتُ محميًّا من تلك الجهة، ولم يتبقَّ لي إلا الحافة لأُراقبها.

ولكني فكرتُ في خطةٍ أخرى بينما كنت راقدًا في مكاني. كنت واثقًا من أن مِدينا سيحاول تسلق الحلبة الجليدية أولًا، ولن يرى الغزلان إلا بعدما يدخلها، فقد كانت تقف على أرضٍ أشبه بالمنصة تخفيها عن الناظر من أسفل. وفي الجهة المُقابلة منِّي عبر الحلبة الجليدية الضيقة، كان الجدار الأسود المهيب لجبل بيناكل ريدج ينتصِب شاهقًا، وكانت الرياح تهب من ناحيتي في اتجاهه. تذكرت حيلة كان قد علَّمها لي أنجوس؛ كيف يمكن للمُتَعَقِّب أن يستخدم الرياح التي تهب من ناحيته في اتجاه جبل مقابل، ثم ترتدُّ منه وتعود نحو المُتَعَقِّب مجددًا، وبهذا يشم الغزال الذي أسفله رائحته ويبتعِد عنها ولكن صعودًا في اتجاه المُتَعَقِّب. إذا تركتُ الرياح تحمل رائحتي إلى جبل بيناكل ريدج وترتد عنه، فقد تُحَرِّك الغزلان نحوي على المنصة فوق الحلبة الجليدية. قد تكون ريحًا خفيفة، ومن ثم قد تتحرك الغزلان ببطءٍ مبتعدةً عنها؛ وبالطبع نحو الفجوة تحت جانب جبل سجور ديرج العمودي الذي يؤدي إلى حلبة جليدية صغيرة عند رأس ريد بيرن. لم نتعقب الغزلان في هذه الحلبة الجليدية من قبل، فقد كان من المُستحيل إخراج وعلٍ منها من دون تقطيعِه إربًا إربًا، ومن ثم كان المكان ملاذًا تلجأ إليه الغزلان المضطربة.

وقفتُ وخلفي خط الأفق واثقًا من أن مِدينا لا يمكن أن يكون في مجال الرؤية بعد، وتركت الرياح، التي كانت حينئذٍ أقوى وتهب نحو الشمال تقريبًا، تمر عبر شعري. ظللتُ على هذه الحال خمس دقائق تقريبًا، ثم رقدتُ على الأرض لأشاهد نتيجة ما فعلتُ مُثبتًا نظارتي المقربة على الغزلان. رأيت الغزلان تقلق؛ إذ رفعت الوعول الكبيرة رءوسها أولًا ثم تبعِتها الوعول الصغيرة لتنظُر نحو جبل بيناكل ريدج. سرعان ما تحرك وعل صغير بضع ياردات نحو أعلى التل؛ ثم تبِعه زوج من الوعول؛ ثم حرَّك دافع مفاجئ ومُتزامنٌ القطيعَ بأكملِه نحو أعلى الحلبة الجليدية. كانت مسيرة هادئة وثابتة السرعة؛ فلم تكن الغزلان خائفة، بل مُتشككة قليلًا. رأيت برضًا أن هدفهم كان الفجوة المؤدِّية إلى ريد بيرن.

لا بد أن يرى مِدينا الغزلان ويفترِض أنه من المستحيل أن أكون أمام الغزلان. قد يبحث عني عند الجانب الآخر، لكن الأرجح أن يتبع الغزلان ليصل إلى الأرض المُرتفعة. بمجرد أن يصِل إلى هناك، سيتمكن من رؤية تحرُّكاتي، سواء كنتُ على منحدرات جبل بيناكل ريدج، أو في الأسفل عند الوادي على جانب ماتشراي. لا شكَّ في أنه سيفكر في أن مهارته في الرماية أفضل بكثيرٍ من مهارتي مما سيجعله يظنُّ أن مجرد تحديد مكاني وسط التضاريس سيكون كافيًا للقضاء عليَّ.

لم أكن أعرف ما أنوي فعله تحديدًا. راودَتني فكرة أن أختبئ وأُباغته، ولكن كانت احتمالات نجاح ذلك واحدًا إلى مِليون، وحتى لو واجهتُه من مسافةٍ قريبة، فهو مُسلح وأنا أعزل. تحركتُ نحو اليمين قليلًا حتى أُبعِد رائحتي عن الغزلان، وجلستُ أنتظر وقشعريرة تتسلَّل إلى روحي. أخبرتني ساعتي أن الساعة الخامسة تمامًا. ربما كانت ماري وبيتر جون يتناولان الشاي الآن بين أزهار الأمير تشارلي، وجرينسليد وآرتشي قادمان من النهر. لا بد أن ماتشراي تُشبه الفردوس الآن بين الخُضرة ونسيم المساء العليل. كان المكان من حولي رائعًا أيضًا، من نبات صائد الحشرات الذي يشبه النجوم وعشب بارناسوس بجوار رءوس الآبار، إلى قِمم جبل سجور ديرج المَهيبة التي تحمِل لون العاصفة في مقابل السماء التي بلونٍ فيروزي فاتح. ولكني كنتُ أعلم الآن أن جمال الأرض يعتمد على عين الناظر، فقد صار العالَم المُحيط بي فجأةً كئيبًا وخانقًا.

(٣) من الخامسة مساءً إلى حوالي السابعة والنصف مساءً

مرت ساعة كاملة قبل أن يصل. كان تخميني صائبًا، وكان قد توصَّل بالفعل إلى الاستنتاج الذي أملتُ أن يستنتِجه. كان يتبع الغزلان نحو الفجوة، مفترضًا أني موجود ناحية ماتشراي. كنتُ مختبئًا في حفرة مكسوة بالعشب عند مكان التقاء الحافة الرئيسية وجانب الجبل الذي ذكرتُه سابقًا، وتمكنتُ من رؤيته بوضوح وهو يشقُّ طريقه بحذرٍ شديد إلى أعلى الحلبة الجليدية مُستخدمًا كل مكانٍ يصلح للاختباء يمرُّ به. وبمجرد أن يصل إلى قمة مُستجمع المياه، سأمتلك أفضليةً عليه من الأرض الأعلى وستكون الرياح في صالحي. أصبح لديَّ أمل الآن، فقد كان عليَّ أن أُبقِيَه فوق التل حتى مغيب الشمس، فحينئذٍ ستكون معرفتي الأفضل بالمنطقة نقطة تفوُّقي. فكرتُ أنه لا بد من أنه أصبح مرهقًا، فقد سار مسافةً أكبر بكثيرٍ مما فعلتُ أنا. أما أنا فكنت أشعر بأني قادر على مواصلة السير إلى الأبد.

كانت الأمور ستسير كما أردتُ تمامًا لولا تدخُّل غنمة ثانية. لطالما اشتُهر جبل سجور ديرج باحتوائه على بعض الأغنام حتى على أعلى أجزائه؛ أغنام لعينة مارقة في حالة يُرثى لها، شاردة في الأساس عن قطيع جيد، ولكنها أصبحت حاليًّا نوعًا جديدًا تمامًا لم يُصَنِّفه العلم بعد. لم أكن أعرف كيف كانت تعيش وتتكاثر، ولكن ثمة حكايات عن الكثير من عمليات الملاحقة الجيدة التي أفسدَتها بمكرها الشيطاني. سمعت صوتًا وسطًا بين الزمجرة والصفير آتيًا من خلفي، وعندما أدرتُ رأسي لأنظر إلى مصدره، رأيت إحدى هذه الحيوانات المُزعجة تقف على صخرةٍ وتنظر نحوي. كانت قادرة على رؤيتي بوضوح، فمن هذه الناحية لم يكن ثمة مكان للاختباء.

كنتُ راقدًا مثل الفأر أُراقب مِدينا. كان على بُعد نصف ميل تقريبًا مني، وكاد يصل إلى قمة الحلبة الجليدية، وكان قد توقَّف ليستريح ويستطلِع ما حوله. دعوت بكلِّ جوارحي ألا يرى الغنمة.

ولكنه سمِعها. فقد بدأت تصفر وتسعل، ولم يكن الأمر يحتاج إلى خبير ليُدرك أنها كانت تشكُّ في وجود شيءٍ ما وتعرف أين يكون. رأيتُه يُوجه نظارته المُقربة نحو مَكمني، ولكن من حيث يقف، لن يرى شيئًا سوى شُجيرات. ثم بدا وكأنه يُراجِع نفسه واختفى فجأةً عن مجال رؤيتي.

عرفتُ ما كان ينوي فعله. كان قد قفز داخل جرف، سيُوصله إلى أرض مرتفعة في مستوى الأفق ويمكنه من القفز عليَّ مِن أعلى، بينما سيكون بعيدًا تمامًا عن مجال رؤيتي.

لم يكن ثمة ما يُمكنني فعله سوى الابتعاد عن هذا المكان. بدا أن جانب الجبل الذي يهبط حتى وادي ريسكويل هو أفضل فرصة أمتلِكها، فانطلقتُ رابضًا وزاحفًا لألتفَّ حول طرفه وأسلك جانب الجبل الشديد الانحدار المؤدي إلى الوادي. تطلَّب مني الأمر عملًا شاقًّا حتى التففتُّ حول ناصية جانب الجبل، فقد كنتُ أتوقَّع أن أُصاب بطلقةٍ في ظهري طوال الوقت. ولكن لم يحدُث شيء، وسرعان ما انزلقتُ على بعض الجلاميد لأصل إلى حواف مُتقلقلة مُغطاة بالعشب. أنا مُتسلق جبال متمرِّس، ومُحب للصخور، ولكني لا أُحب النباتات المُختلطة بمسارات التسلُّق، وكنتُ أواجه الكثير منها حاليًّا. كنتُ لا أزال على ارتفاع ألف قدَمٍ على جانب الجبل، وأظن أنه لا بد وأن يُسَجَّل باسمي الرقم القياسي في سرعة التسلُّق نزولًا. توقفتُ لاهثًا تُغطيني الكدمات والخدوش على مساحةٍ مكسوة بالركام، ومن تحتي جبل ريسكويل القصير، ومن خلفه على بُعد رُبع ميل، الجروف السوداء لجبل بيناكل ريدج.

ولكن، ماذا ستكون خطوتي التالية؟ لقد انقلبت الأدوار. أصبح مِدينا على أرضٍ مرتفعةٍ ومعه بندقية، وكان سلاحي عديم الفائدة. بمجرد أن يكتشف الطريق الذي سلكته، سيأتي في إثري بسرعة البرق. لم تكن ثمة فائدة من النزول عن جدار الوادي؛ ففي الأرض المفتوحة، ستُتاح له الفرصة لأن يُطلق عليَّ عشرين طلقة. ولم تكن ثمة فائدة من البقاء على جانب الجبل أو الحافة المجاورة؛ فلم تكن ثمة الكثير من أماكن الاختباء. لم أتمكن من الاختباء لفترة طويلة في الحلبة الجليدية. ثم نظرت نحو جبل بيناكل ريدج، وفكرت أنه بمجرد أن أصل إلى تلك الممرَّات الضيقة السوداء، سأكون في أمان. تقول المزامير: «أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ، مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي»؛ ولكني أفضل أن أرفعها إلى الصخور.

كانت أمامي مسافة ربع ميل من الأرض المفتوحة لعبورها، ومسافة أكبر من بعدها إذا ما أردتُ أن أصل إلى الجبل عند نقطة من السهل تسلقها. كانت هناك شقوق أمامي، حفر عميقة سوداء، ولكني تذكرتُ أنها بدت شديدة الصعوبة في تسلُّقها، وكانت مُمتلئة بالنتوءات. ماذا لو دخلتُ أحدَها وعلقت فيه. سيتمكن مِدينا منِّي بأمانٍ تام. ولكن لم يكن بمقدوري الانتظار والتفكير. دخلتُ جدار الوادي وشربتُ من إحدى البرك وشعور بغيض كئيب يتملك روحي. ثم سرتُ مع اتجاه سريان مجرى النهر، مُراعيًا أن أظلَّ على الضفة اليُمنى التي كانت، لحُسن الحظ، عاليةً وتحتوي على تجمُّعاتٍ لشجيرات الروان. بينما كنت أمضي قُدُمًا، كنتُ أُدير رأسي من وقتٍ لآخر لأنظر خلفي ولأعلى لأرى الخطر المُحدِق بي.

أظنُّ أن مِدينا، الذي لم يكن يعلم بأمر بندقيتي، قد شَكَّ في وجود فخ، فقد كان يتحرك ببطء، وعندما لمحتُه، لم يكن على جانب الجبل الذي هبطت عبره، بل كان لا يزال فوق الحلبة الجليدية. أدركتُ أمرَين في تلك اللحظة. الأول أني لم أكن لأصل إلى الطرف السهل التسلق من جبل بيناكل ريدج من دون أن أكشف نفسي أثناء عبور مساحة أرض مكشوفة. والثاني أنه كان يوجَد عن يساري في الجبل أخدودٌ عميقٌ يبدو أنه من المُمكن تسلُّقه. علاوةً على ذلك، كان سفح هذا الأخدود يبعُد عن الوادي مسافة تقلُّ عن مائة ياردة، وكان عميقًا للغاية لدرجة أن المرء يمكن أن يجد فيه ملاذًا بمجرد دخوله.

في ذلك الوقت لم أستطع رؤية مِدينا، ولا أظن أنه كان قد رآني بعد. كان هناك ماء قليل يَقْطُر من الأخدود إلى الوادي، ومنحني هذا مكانًا جيدًا للاختباء. غَرَسْتُ أنفي في الطحالب، وتركتُ الماء يقطر على عنقي بينما شققتُ طريقي صعودًا داعيًا بجميع جوارحي أن تَعمى عينا عدوِّي عني.

أظن أني كنتُ قد وصلت إلى منتصف المسافة عندما أدرتُ رأسي واستطلعتُ الحلبة الجليدية، ورأيتُ مِدينا واقفًا ينظر في اتجاهي. لحُسن الحظ، لم يكن حذائي الطويل الرقبة مرئيًّا، وكان رأسي أكثر انحناءً بقليلٍ من كتفَي، لذلك أظن أنه كان من الصعب أن يراني وسط الرمال والحصى والشجيرات. إن كان قد استخدم منظاره، فلا بد أنه قد رآني، ولكني لست واثقًا من ذلك. رأيته يُمعن النظر. رأيته يرفع بندقيته إلى كتفه، وسمعت قلبي يدق بعُنف. ثم خفض سلاحه مجددًا، واختفى عن ناظرَي.

بعد دقيقتَين، أصبحتُ داخل الأخدود.

كان المكان عبارة عن كهف ذي أرضية رملية، ثم كان هناك منحدر صخري حاد، بينما ضاقت الجوانب مكونةً شقًّا عموديًّا. لم يكن تسلُّقه شديد الصعوبة. أرجحتُ نفسي نحو الأعلى، ووجدتُ أن الشقَّ كان عميقًا لدرجة أن جِداره الخلفي يبعُد ثلاثة ياردات عن الفتحة، فتسلقتُ داخله في عتمة تامَّة وأمانٍ تام من أن يَراني أحد. استمرَّ تسلُّقي لمسافة حوالي أربعين قدمًا، وبعد أن تسلقتُ صخرة عالقة بين جانبَي الشق، وصلتُ إلى تشعُّب. بدا التفرع نحو اليسار ميئوسًا منه، بينما بدا أن التفرُّع نحو اليمين يُنبئ بفُرص جيدة. ولكني توقفتُ لأفكر، فقد تذكرتُ أمرًا ما.

تذكرتُ أن هذا هو الشقُّ الذي رأيتُه منذ ثلاثة أسابيع عندما تسلقتُ جبل بيناكل ريدج. كنتُ قد رأيتُه من أعلى، واستنتجتُ حينئذٍ أنه على الرغم من أن التفرُّع الأيسر يمكن تسلُّقه، فإن تسلق التفرع الأيمن مُستحيل أو شِبه مستحيل، فعلى الرغم من أنه يبدأ بطريقةٍ واعدة، فإنه ينتهي عند صدع مخيف على جانب الجرف، ولا يعود شقًّا سهل التسلق مجددًا إلا بعد مائة قدمٍ من أحجار الجرانيت الهشَّة التي لا يمكن تسلُّقها.

فجربتُ التفرع الأيسر الذي لم يَبدُ واعدًا على الإطلاق. كانت العقبة الأولى التي واجهتني هي صخرة عالقة بين جانبي الشق، وتمكنت من التسلق من حولها، ثم اتسعت المسافة بين جانبي الشق اللعين وأصبح يصعد عموديًّا. تذكرتُ أني كنت قد اعتقدتُ أنه يمكن العثور على طريق عبر تسلق الجانب الأيمن من الشق، وفي خِضَم إثارة تسلق الصخور، نسيتُ جميع إجراءاتي الاحترازية. لم أفكر أن هذا الجانب قد يجعلني عرضةً لأن تراني العينان التي يجب أن أتجنَّبهما مهما كلفني الأمر.

لم يكن الأمر سهلًا، فلم تكن هناك الكثير من الفتحات التي يُمكنني استخدامها في التسلُّق. ولكني كنتُ قد تسلقتُ جبالًا أسوأ في الماضي، ولو لم أكن أحمل بندقيتي (لم تكن معي حمالة)، ربما لم أكن سأعتبر الأمر على هذا القدْر من الصعوبة. سرعان ما عبرت الجزء الأسوأ، ورأيتُ طريقي يلتف عائدًا إلى الشق الذي عاد مجددًا ليكون من السهل تسلقه. توقفت للحظات لأستطلِع الطريق، مثبتًا قدمي على حافة ثابتة ومحيطًا بذراعي اليُمنى نتوءًا صخريًّا ومادًّا يدي اليسرى، التي تحمل البندقية، بحيث تتحسس أصابعي مدى ثبات الفتحات التي سأتعلق بها.

فجأة شعرت بقوة هذه الأصابع تخور. بدا أن الصخرة تهشمت وتطايرت شظاياها داخل عيني. سمعتُ أصداءً مدويةً، غطت على الجلبة التي أحدثها سقوط بندقيتي إلى عُمق الهاوية. أتذكر تحديقي في يدي التي أسندتُها مفتوحة الأصابع على الصخور متسائلًا لِمَ كانت تبدو غريبة الشكل.

كانت الشمس قد بدأت للتوِّ في المغيب، وكان هذا يعني أن الساعة اقتربت من السابعة والنصف.

(٤) من السابعة والنصف مساءً فصاعدًا

لو أنَّ شيئًا من هذا القبيل كان قد حدث لي خلال رحلة تسلُّق جبال عادية، فلا شك في أني كنتُ سأفقد توازُني من فرط الصدمة وسأسقط. ولكن بما أني كنتُ مُلاحَقًا، فأظن أن أعصابي كانت مُستنفَرةً للغاية، لذا لم تزلَّ قدمي. لقد أنقذني خوفي من أن تُطلَق عليَّ طلقةٌ ثانية. في لمح البصر، كنت قد عدت لتسلُّق الشق، واصطَدَمَت الطلقة الثانية بصخور الجرانيت دون أي ضررٍ يُذكر.

لحُسن الحظ، كان التسلق الآن أسهل؛ مجرد تحميل على الركبتَين والظهر؛ الأمر الذي كنتُ قادرًا على فعله على الرغم من أصابع يدي المحطمة. تسلقتُ بكد والعرقُ الباردُ يتجمع على حاجبَي، ولكن كانت كل عضلة من عضلاتي تؤدي المطلوب منها، وكنت واثقًا من أني لن أرتكب أي أخطاء. كان الشق عميقًا، وأَخفَتْني حافة من الصخور عن أعين عدوي القابع في الأسفل. بعد قليلٍ كنت أحشر نفسي عبر إحدى الفجوات، وأؤرجِح جسدي مستخدمًا يدي اليمنى وركبتَي لأصعد إلى رَفٍّ صخري، ورأيتُ أن الجزء الصعب قد وَلَّى. كان أمامي أخدود ضحل مليء بالركام يؤدي إلى قمة الحافة. كان هذا هو المكان الذي نظرتُ إليه من علٍ قبل ثلاثة أسابيع.

فحصْتُ يدي اليسرى التي كانت في حالة سيئة للغاية. كانت العقلة العلوية من إبهامي مخلوعة، وكان المِفصلان العلويان لأصبعَي الوسطى والبنصر مُحطَّمَين تمامًا. لم أكن أشعر بأي ألَم في أصابعي، على الرغم من الدم الذي يقطر منها، ولكني كنتُ أشعر بخدَر غريب في كتفي اليسرى. تمكنتُ من ربط يدي بمنديل، فكوَّن ربطةً دامية. ثم حاولتُ أن أستعيد هدوئي.

كان مِدينا قادمًا يتسلق الشق خلفي. وكان يعرف أني لا أملك بندقية. كنتُ قد سمعت أنه خبير في تسلُّق الجبال، كما كان يصغرني بعشر سنوات على الأقل. فكرتُ في أول الأمر أن أصعد على الفور إلى الجزء العلوي من جبل بيناكل ريدج، وأن أحاول أن أختبئ أو أراوغه بطريقةٍ ما حتى يُخيم الظلام. ولكنه كان سيتمكن من تتبعي في ذلك الليل الشمالي الصافي، وسرعان ما ستخور قواي بسبب الدم الذي فقدتُه. لم يكن لديَّ أدنى أمل في أن أسبقه بمسافةٍ آمنة، وكان يحمل بندقيته القاتلة. ويُمكنه أن يُصيبني في أي وقتٍ خلال الليل أو عند شروق الشمس. لا، يجب أن أبقى حيث أنا وأقاتل.

هل ألزم الشق؟ لم أكن أملك أي سلاح سوى الصخور، ولكن ربما أتمكن من منعه من الصعود باستخدام تلك الصخور الوفيرة. مَهْما يَكُن مِن أمرٍ داخل الشق كان يوجَد ساتر، ولن يتمكن من استخدام بندقيته. ولكن هل سيسلك طريق الشق؟ لِمَ لا يلتف حول المنحدرات الأقصر لجبل بيناكل ريدج ويُباغتني من أعلى؟

كان خوفي من طلقاته هو ما حملني على اتخاذ قراري. كان هدفي الوحيد هو الاختباء. ربما تمكنتُ من جعله يدخل في مكانٍ لا تكون فيه بندقيته مُجدية وتتوفر لي فرصة استخدام قوتي العضلية الأكبر. لم أكن أهتمُّ لما قد يحدث لي ما دامت ستطوله يداي. فخلف كل خوفي وارتباكي وألمي، كانت هناك فورة غضب تستعر في أعماقي.

لذا انزلقتُ داخل الشق مجددًا، ونزلته حتى وصلت إلى مكانٍ انحرفتُ عنده نحو اليسار قليلًا مرورًا بنتوء صخري. تواريتُ في هذا المكان عن الأنظار، وتمكنتُ من النظر إلى أعماق ذلك الممر الضخم التي كانت تزداد إظلامًا.

ملأ ضباب أرجواني الحلبة الجليدية، وأصبحت قمم تلال ماتشراي أشبه بأحجار جمشت كئيبة. كانت السماء زرقاء ملبدة بالغيوم وترصعها النجوم، واختلط آخر ما تبقى من احمرار الغروب مع الموجة الأولى من أضواء الشفق. لأول وهلة كان كل شيء هادئًا في الأخدود. وسمعتُ الجلبة الخافتة التي تحدثها الصخور الدائمة السقوط في مكان كهذا، وكذلك نعيق غراب جائع. هل كان عدوي هناك؟ هل كان يعرف طريقًا أسهل لتسلُّق جبل بيناكل ريدج؟ ألم يفترض أن الشق الذي تمكنتُ من تسلقه سيكون من السهل عليه أن يتسلقه، وهل يخشى من رجل لا يملك سلاحًا وبيد مكسورة؟

ثم أتى من مسافة بعيدة في الأسفل صوتٌ أعرفه جيدًا؛ مسامير نعل تصطدم بالصخور. بدأت أجمع الصخور السائبة وصنعتُ كومةً صغيرةً من هذه الذخيرة بجواري. أدركتُ أن مِدينا بدأ تَسلُّق الأجزاء السفلية من الشق. كان كل صوت يشقُّ الصمت واضحًا تمامًا؛ أصوات الاحتكاك الثابتة داخل الشق، وسقوط شظايا الصخور أثناء تسلُّقه الصخرة السفلية العالقة بين جانبي الشق، ثم أصوات الاحتكاك مرة أخرى أثناء دفع نفسه للخروج إلى الجدار الخارجي. لا بد أن الظلام كان دامسًا، ولكن الطريق كانت سهلة. لم أكن أراه بالطبع، إذ كان ثمة انبعاج في الصخور يَحجُبه عني، ولكن أطلعتني أذناي على كل ما يحدث. ثم عَمَّ صمتٌ تام. أدركتُ أنه وصل إلى المكان الذي يتفرع عنده الشق.

كانت صخوري جاهزة، فقد كنتُ آمُل أن أنال منه عندما يُصبح على الجانب المليء بالنتوءات، البقعة التي كنتُ عندها عندما أطلق عليَّ النار.

بدأت الأصوات تصلني مجددًا، وانتظرتُ في صمتٍ يائسٍ خانق. ستحل الكارثة في خلال دقيقة أو دقيقتَين. أذكر أن أضواء الشفق كانت تعلو قمم ماتشراي وتلقي بضوءٍ خافتٍ على الحلبة الجليدية في الأسفل. وفي داخل الشق، كان لا يزال هناك ضوء يُشبه الغسق الخافت. توقعتُ أني سأرى في أي لحظة شيئًا مُعتمًا يتحرك أسفل منِّي بمسافة خمسين قدمًا، والذي سيكون رأس مِدينا.

ولكن لم يحدث ذلك. كانت أصوات شظايا الصخور مستمرة، ولكن لم يبدُ أنها تقترب. ثم أدركتُ أني قد أسأتُ تقدير الموقف. كان مِدينا قد سلك التفرع الأيمن. كان من البديهي أن يفعل، فلم يكن قد أجرى استطلاعًا مسبقًا مثلما فعلتُ أنا. لا بد أن الطريق التي سلكتها بدت له في الضوء الخافت مستحيلةً تمامًا.

كانت الاحتمالات الآن تصبُّ في صالحي. لم يكن ثمة أمل لأي أحد، في ذلك الظلام الذي كان يُخيم سريعًا، في أن يتسلق جانب الجرف ويعود إلى الشق مجددًا بعد انقطاعه. سيمضي قُدمًا حتى يَعلَق؛ ثم لن يكون التراجُع أمرًا يسيرًا. عدتُ أتسلق صاعدًا الشق الذي كنتُ فيه، فقد خطر لي أنه يجدُر بي أن أقطع المسافة بين الفرعَين، وأعثر على موقعٍ متميز أرى منه ما يحدث.

وببطء وألَم شديدَين، لأني كنتُ قد بدأتُ أشعر بألمٍ حارقٍ في ذراعي اليسرى وبخدرٍ غريبٍ في كتفي اليسرى وعنقي، سرتُ مترنحًا عبر الجانب المنحدر حتى عثرت على نتوءٍ يُشبه برجًا صخريًّا ينحدر الجرف من بعده دون توقُّف حتى شفا التفرع الآخر. كان الأخدود الكبير في تلك اللحظة حفرةً معتمةً، ولكن الشفق كان لا يزال يُلقي بضوئه على هذا الجزء العلوي واستطعتُ أن أرى بوضوح مكان الشق الذي يتسلَّقه مِدينا، وأين يضيق وأين ينتهي. ثَبَّتُّ نفسي جيدًا حتى لا أسقط، فقد كنت أخشى أن أصاب بدوار. ثم تذكرتُ حبل أنجوس، ففردته، وربطت جزءًا منه حول خصري، ولففت عقدة حول البرج الصخري.

سمعتُ صرخةً مكتومةً آتيةً من الأسفل، ثم تبعها فجأة رنين اصطدام معدنٍ بالحجارة، ثم جلبة شيء يسقط. عرفت ما كان يعنيه ذلك. لقد لاقت بندقية مِدينا نفس مصير بندقيتي، وأصبحَت ترقد الآن بين الصخور عند قاع الشق. أخيرًا صارت فُرَصنا متساوية، ورغم ذهني المشوَّش، رأيتُ أنه لم يعد ثمة ما يحول بيننا وبين التوصُّل إلى تسوية للأمر.

بدا لي أنني رأيتُ شيئًا يتحرك في الضوء الخافت. إذا كان هذا الشيء هو مِدينا، فقد غادر الشق وبدأ يُحاول تسلُّق جانب الجبل. كنتُ أعلم أنه من المحال المضي في هذه الطريق. سيكون مجبرًا على التراجُع، ومن المؤكد أنه لن يمضي وقتٌ طويل قبل أن يُدرك الخطأ الذي ارتكبه وسيتسلَّق نحو الأسفل. بعدما فقدَ بندقيته، انحسرت كراهيتي له. أصبحتُ أشعر وكأني أُراقب مُتسلِّق جبالٍ زميلًا في ورطة.

لا بد أنه لم يكن يبعُد عني بمسافةٍ تزيد عن أربعين قدمًا، فقد كنت أسمع صوت لهاثه. كان يحاول باستماتة أن يعثر على أي ثقوبٍ يتشبث بها، ولا شك في أن الصخور كانت مهترئة، فقد كنتُ أسمع صوتًا مستمرًّا لسقوط أجزاء منها، وسمعتُ مرةً واحدةً صوت صخرةٍ كبيرةٍ تسقط إلى قاع الممر.

صِحتُ غريزيًّا: «عُد يا رجل. عُد إلى الشق. لن يُمكنك التقدُّم أكثر في هذه الطريق.»

أظن أنه سمعني، فقد بذل المزيد من الجهد المحموم، وخُيل لي أني رأيتُه يتمدَّد عند موطئ قدم فَوَّتَه، ثم يُؤرجِح جسده مُعتمِدًا على يدَيه. بدا جليًّا أن قواه كانت تخور، فقد سمعت شهقةً تدل على الإرهاق. إن لم يتمكن من العودة إلى الشق، فسيسقط من ارتفاع ثلاثمائة قدمٍ وسط الصخور في القعر.

صحتُ قائلًا: «مِدينا، معي حَبل. سأُدَلِّيه لك. ضَع ذِراعك داخل الأنشوطة.»

صنعتُ أنشوطةً عند طرف الحبل بأسناني ويدي اليُمنى بانفعالٍ محموم.

صِحت: «سأُلقِيه نحوك مباشرةً. أمسِك به عندما يسقط إليك.»

كان إلقائي للحبل جيدًا، ولكنه تركه يمرُّ بجواره، وتدلَّى الحبل في الهاوية السحيقة.

فصرخت: «اللعنة، يا رجل، يُمكنك أن تثِق بي. سنسوِّي الأمور بيننا بعدما أُخرجك إلى برِّ الأمان. ستسقط وتنكسِر رقبتُك إن ظللتَ معلقًا في مكانك.»

ألقيتُ الحبل مجددًا، وانشدَّ فجأة. لقد صَدَّق تعهُّدي، وأظن أن تلك كانت أفضل مجاملةٍ تلقيتُها طوال حياتي.

صِحت قائلًا: «لقد أمسكتُ بك. لقد ثبتُّ الحبل من ناحيتي. حاول أن تتسلَّق عائدًا إلى الشق.»

فهِم ما أعنِيه وبدأ يتحرك. ولكن لا بد أن ذراعَيه وساقَيه أصابهما الخدر بسبب الإرهاق، فقد حدث فجأة ما كنتُ أخشاه. كان هناك انزلاق واندفاع جامِحَين، ثم رأيتُه يتأرجح عند الطرف الآخر من الحبل بلا حراك مُفوتًا تمامًا الشقَّ عند الجدار السهل التسلُّق من الجرف.

لم يكن أمامي خيار سوى أن أرفعه. كنتُ أعرف حبال أنجوس جيدًا، وهو ما جعلني لا أثق فيها على الإطلاق، كما أنني لم أكن أملك سوى يدٍ واحدةٍ سليمة. مَرَّرتُ الحبل عبر تجويفٍ صخري كنت قد غَطَّيتُه بمعطفي، وأمِلتُ أن أتمكن من رَفعِه بذراعٍ واحدةٍ عبر رفعه ببطء.

صِحت قائلًا: «سأرفعك، ولكن بحقِّ الرب ساعِدني. لا تتعلق بالحبل أكثر مما تحتاج.»

كانت الأنشوطة التي صنعتُها كبيرة، وأظن أنه مرَّر ذراعَيه الاثنتَين عبرها. كان ثقيل الوزن للغاية ومنهكًا وهامدًا مثل جوال، فعلى الرغم من أني كنتُ أشعر به يخمش جانب الجرف ويركُله، كانت الصخور ملساء للغاية من دون أي شقوق. أمسكتُ بالحبل مُثبتًا قدمَي في الصخور، وطفقتُ أرفع حتى تأوَّهَت عضلاتي. كنتُ أسحبه بوصةً تلوَ الأخرى حتى أدركتُ أن ثمة خطرًا.

كان الحبل يحتكُّ بحافة حادة خلف الشق وقد ينقطع في أي لحظة بسبب تلك الحافة الحادة كنصل السكين.

لا بد أن صوتي كان أشبَهَ بعواء حيوان بري وأنا أصرخ قائلًا: «مِدينا، هذا خَطِر للغاية. سأُدلِّيك نحو الأسفل قليلًا حتى يُمكنك الرجوع. ثمة حافة هناك. أرجوك، تعامل بحذَر مع هذا الحبل.»

فككتُ طرف الحبل المُثبت في البرج الصخري، وكم كان هذا صعبًا. ثم هبطت قليلًا نحو الأسفل حتى وصلتُ إلى منصةٍ صغيرةٍ بالقرب من الشق. منحنى ذلك حوالي ست ياردات إضافية.

صحتُ قائلًا، بعدما تركته ينزلق نحو الأسفل: «الآن، على مسافة قريبة على يسارك. هل تلمستَ الحافة؟»

لا بد أنه عثر على موطئ لقدمه، فللحظة، ارتخى الحبل المشدود. تأرجح الحبل إلى اليمين في اتجاه الشق. وبدأتُ أرى بصيص أمل.

صحتُ قائلًا: «طِب نفسًا. بمجرد أن تصل إلى الشق، ستكون في أمان. ابعث لي بإشارةٍ عندما تصل إليه.»

كانت الإجابة الوحيدة التي تلقيتُها من وسط الظلام هي شهقة. أظن أنه أصيب بالدوار، أو ربما بضمور العضلات الذي يُعَد أحد مخاطر تسلق الجبال. فجأةً، ألهب الحبل أصابعي وجُرِرْتُ فجأةً من خصري الذي ربطت الحبل حوله إلى شفا الهاوية.

ما زلتُ أعتقد أنني كنتُ سأتمكن من إنقاذه لو كنتُ قادرًا على استخدام كلتا يدَي، لأنني كنتُ سأتمكن من توجيه الحبل بعيدًا عن تلك الحافة الحادة. كنتُ أعلم أن الأمر كان ميئوسًا منه، ولكني استنفرت كل ما أملك من قوة وإرادة لأؤرجح الحبل وما يحمل نحو الشق. لم يُساعدني على الإطلاق، لأنه، حسبما أظن وآمُل، كان فاقدًا للوعي. بعد ثانيةٍ واحدةٍ، انقطعت جدائل الحبل، وسقطتُ على ظهري وسمعتُ صوتًا أُصلي للرب ألا أسمعه ثانيةً أبدًا؛ صوتًا مُدويًا لجسدٍ يرتطم بصخرةٍ تلو الأخرى، ثم هديرًا طويلًا خافتًا للركام يُشبِهُ صوتَ انهيارٍ جليدي.

***

تمكنتُ من الزحف بضع ياردات حتى وصلتُ إلى البرج الصخري وثبَّتُّ نفسي عنده قبل أن أفقد الوعي. وهناك، في الصباح، عثر عليَّ ماري وأنجوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤