الفصل الثالث

بحث في العقل الباطن

ذهبت إلى فراشي رغم ثقتي التامَّة في أني لن أتمكَّن من النوم. كنت أصاب بهذه الحالة مرةً كلَّ عامٍ تقريبًا عندما يكون ذهني مضطربًا أو غاضبًا، ولم أتوصَّل إلى طريقةٍ تُمكنني من تجنبها. كانت ليلة مُقمرة، وكان ضوء القمر يُنير النوافذ بضوء أزرق هادئ تتخلَّله ظلال خضراء داكنة لفروع الأشجار، وكانت ريح خفيفة تُحرك أفرع النباتات المُتسلقة، والبومات تصيح وكأنها حراس يتبادلون كلمات السر فيما بينهم، ومن وقتٍ لآخر كان غراب يتحدث وهو يحلم، وتسللت من الغابة أصوات غريبة خافتة لصرصرة ودمدمة الحياة البرية، بينما أنا راقد في فراشي أُحدق في السقف تتسابق أفكاري في رأسي في دوائر لا تنتهي. أغاظتني أنفاس ماري الرتيبة، فلم أرَ أحدًا في حياتي موهوبًا في النوم مثلها. كنتُ أقول دائمًا إنه إذا ما تتبعنا أصولها، فسنجد دون شك أنها تنحدِر مباشرة من أحد أصحاب الكهف الذي تزوج من إحدى العذارى الحمقاوات.

كان السبب الرئيسي في عدم قُدرتي على النوم هو التفكير في ذلك الصبي الصغير المسكين، ديفيد واركليف. كنتُ أشعر بالأسف على الآنسة فيكتور واللورد ميركوت، وبأسفٍ أكبر على ذوي المخطوفين الثلاثة، ولكن ما لم أستطِع احتمالَه هو فكرة أن يُسجن هذا الصبي الصغير البريء الذي يهوى الطيور وصيد الأسماك والهواء الطلق في جُحرٍ خانق على يد أسوأ المُجرمين. ظلَّت هذه الفكرة تشغل فكري حتى تحولَت إلى التفكير فيما إذا كان ذلك قد حدث لنا وأن بيتر جون أصبح مفقودًا. فنهضتُ من فراشي وتوجَّهت إلى النافذة مُتطلعًا إلى الليل الهادئ في الخارج، مُتعجبًا من قدرة هذا العالم نفسه على احتواء قدرٍ كبير من المتاعب وقدْر مُماثل من السلام.

غسلت وجهي بماءٍ بارد، وعدتُ لأرقد مُجددًا. لم يكن ترك الحبل على الغارب لأفكاري أمرًا جيدًا، فحاولت أن أحصرها في نقطة واحدة على أمل أن أتمكن من النوم. حاولتُ أن أُلخص الدليل الذي جعلني ماكجيليفراي أقرأه، ولكني لم أرَ منه سوى حماقته، فلم أكن قادرًا على التركيز. ظللت أتخيَّل وجه صبيٍّ صغير يعضُّ على شفتَيه ليمنع نفسه عن البكاء، ووجهًا آخر مُرعبًا ظل يتحول إلى أحد التماثيل الرئيسية في حديقة الزهور. وظلت قصيدة سخيفة تتكرَّر في ذهني — قصيدة تذكر «شمس تبزغ في منتصف الليل» و«حقول جنة عدن». وتدريجيًّا، بدأَت تستقيم في ذهني على أنها تلك القصيدة الركيكة التي ذكرها ماكجيليفراي. لديَّ ذاكرة قوية فيما يتعلق بالشعر رغم عدم وجود أي سبب يدعوني لتذكُّره، ووجدت أني قادر على تذكر أبيات الشعر الركيك الستة جميعها.

ثم بدأت الأبيات تختلط، وتُبرز الكثير من الصور الغريبة في مخيلتي. بدأت أعيد صياغة الأبيات، «تحت شمس منتصف الليل، حيث يكون الحصاد قليلًا»؛ هذه اسكندنافيا على أية حال، أو ربما آيسلندا أو جرينلاند أو شبه جزيرة لابرادور. مَن ذلك الزارع الذي ينثر بذوره في حقول جنة عدن؟ آدم، ربما، أم هابيل، الذي كان أول الزارعين؟ أم مَلاك في الجنة؟ ارتأيتُ أن المعنى أقرب إلى المَلاك، فالبيت يبدو كأنشودة. إنه هراء لَعِين على أية حال.

بدأت أنسى البيتَين الأخيرَين ما جعلني أجبر ذهني على الخروج من حالة الارتباك المُزعجة التي علقت فيها. آه! تذكرتهما مجددًا:

«هناك بجوار الشجرة المقدسة
تغزل العَرَّافة التي لا تَرى.»

ربما كانت الشجرة المُقدسة هي إجدراسيل، والعرافة واحدة من الآلهة النوردية القديمة. كنتُ مهتمًّا فيما مضى بالأساطير النوردية، ولكني لا أذكر إذا ما كان أيٌّ من الآلهة النوردية القديمة كفيفًا. امرأة كفيفة تغزل. أين سمعتُ من قبل شيئًا من هذا القبيل؟ هل سمعته مؤخرًا أيضًا؟

تكمن مشكلة الأرق في أنك لا تكون يقظًا بشكلٍ كامل. ولكني استعدت فجأةً حواسِّي كاملة، وبدأتُ أهتم بهذا الشِّعر الركيك بشدة كما يهتم الكلب بعظْمته. كنت مُقتنعًا بأنه يتضمن دليلًا في داخله، ولكن من المستحيل التوصل إليه. ومع ذلك بزغت أمامي الآن بارقةُ أمل؛ فقد راودني شعور خافت وغامض بأن الدليل له علاقة بذكرياتٍ ماضية.

المحاصيل الاسكندنافية، حقول جنة عدن، المرأة الكفيفة التي تغزل؛ كان الأمر مثيرًا للجنون، فكلما كررتُ الأبيات، زادت قوة شعوري بأني صادفت شيئًا شبيهًا بذلك مؤخرًا. في الشمال — النرويج تحديدًا — لا شك في أني صادفته هناك! النرويج، ماذا يميز النرويج؟ أسماك السلمون، الأيائل، غزلان الرنة، شمس منتصف الليل، المراعي الخضراء؛ ملأت هذه الأخيرة تفكيري بالكامل. ثم هناك تلك المرأة الكفيفة التي تغزل!

وجدتُها. إنهما مُعطيان من المُعطيات الثلاثة التي ذكرها الطبيب جرينسليد الليلة الماضية كمثال على «لغزه» الخيالي. ماذا كان المُعطى الثالث؟ متجر صغير للتحف في شمال لندن يُديره يهودي ذو لحية مصبوغة. ولكن، لا توجد صلة واضحة بينه وبين الزارع في حدائق الفردوس. ولكن على أية حال، ذكر الطبيب مُعطيَين يتطابقان مع القصيدة الركيكة. إنه دليل. لا بدَّ من أنه دليل. لا بدَّ أن جرينسليد قد سمع هذه القصيدة أو جزءًا منها بطريقةٍ ما أو في مكانٍ ما، وتوارت في أعماق ذاكرته الباطنة ثم قالها من دون أن يعي ذلك. حسنًا، يجدُر بي أن أجعله يتذكر أين سمعها. فإذا ما اكتشفت أين وكيف سمع هذه القصيدة، سأكون قد أمسكت بطرف خيط.

عندما توصلتُ إلى هذا الاستنتاج، شعرت بذهني يهدأ بشكلٍ غريب، ونِمتُ على الفور تقريبًا. استيقظتُ على صباح ربيعي رائع، وهُرعت إلى البحيرة لكي أستحم. شعرتُ أني بحاجة إلى كامل طاقتي ورباطة جأشي، وعندما ارتديتُ ملابسي بعدما غطست في الماء المُثلج، كنتُ جاهزًا لأي شيء.

نزلَت ماري من غرفتها في موعد الإفطار، وكانت منشغلةً بخطاباتها. لم تقُل الكثير، وكانت تبدو وكأنها تنتظر منِّي أن أبدأ الحديث، ولكني لم أكن راغبًا في أن أُثير الموضوع الذي كان يشغل تفكيرنا حتى يتَّضح لي جليًّا ما سأفعل، فقلت إني أحتاج إلى يومَين لدراسة الأمر. كان اليوم الأربعاء، فأرسلت برقيةً إلى ماكجيليفراي لكي ينتظرني في لندن صباح يوم الجمعة، ودونتُ رسالة إلى السيد جوليوس فيكتور. بحلول التاسعة والنصف، كنت في طريقي نحو منزل جرينسليد.

لحقتُ به وهو على وشك أن يخرج في جولاته اليومِية، وأجبرته على الجلوس والاستماع لي. لخصتُ له القصة التي رواها لي ماكجيليفراي، مع مُقتطفاتٍ من قصتَي فيكتور والسير آرثر. وقبل أن أصل إلى نصف القصة، كان قد خلع معطفه، وقبل أن أنتهيَ منها كان قد أشعل غليونه، الأمر الذي يُعد خرقًا سافرًا لعادته بألا يدخن قبل المساء. عندما انتهيت أخيرًا من قصتي، كانت تبدو في عينيه الفاتحتين تلك النظرة الوحشية التي تراها في عينَي كلب كيرن ترير وهو يحاول حفر الأرض لإخراج حيوان الغرير.

سألني بفظاظة: «هل قبلتَ المهمة؟»

فأومأتُ برأسي أن نعم.

«حسنًا، كان احترامي لك سيقل كثيرًا لو أنك رفضتها. كيف يمكنني أن أُساعدك؟ يمكنك أن تعتمد عليَّ في أي شيء قد أُفيدك به. يا إلهي! لم أسمع في حياتي قصة لَعِينة أكثر من تلك.»

«هل تذكر هذه القصيدة؟» ألقيتُ عليه القصيدة وكرَّرها من خلفي.

«والآن، لعلك تذكر الحديث الذي دار بيننا بعد العشاء الليلة قبل السابقة. لقد شرحت لي كيفية كتابة «لغز»، وذكرت ثلاث حقائق عشوائية كمثال. وكانت كالآتي، لعلك تذكر، امرأة عجوز تغزل في المراعي الخضراء في المُرتفعات الغربية، ومرعى أخضر في النرويج، ومتجر صغير للتُّحَف في شمال لندن يُديره يهودي ذو لحية مصبوغة. حسنًا، ثمة حقيقتان مذكورتان في هذه القصيدة المكونة من ستة أبياتٍ التي ألقيتُها عليك منذ قليل.»

«مصادفة عجيبة. ولكن هل الأمر أكثر من مجرد مصادفة؟»

«أعتقد ذلك. فأنا لا أومن بالمصادفات. فعادة ما تكون ثمة تفسيرات لم نتمكَّن من التوصُّل إليها بعد. كانت حقائقك المُبتكرة غريبة للغاية لدرجة أني لا أظن أنها من ابتكارك. لا بد أنك سمعتها بطريقةٍ ما في مكان ما. لعلك تذكر ما قلته عن ذاكرتك الباطنة. هذه الأبيات موجودة في ذاكرتك الباطنة، وإذا تمكنتَ من تذكر كيفية وصولها إلى هناك، فستمنحني طرف الخيط الذي أريد. أُرسِلت تلك القصيدة المكونة من ستة أبيات من أشخاص واثقين للغاية من أنه لا بأس أن يُعطوا أعداءهم دلائل على مكان تواجُدهم؛ فهم يعتقدون أنها دلائل من المُستحيل اكتشافها. لا يمكن لماكجيليفراي ورفاقه أن يخرجوا بشيءٍ منها، مُحال أن يفعلوا. ولكن إذا ما بدأت أنا من الطرف الآخر، فسيُمكنني التوصل إلى طرف الخيط بطريقةٍ أخرى. هل تفهم ما أعنيه؟ سأجعلك تتذكَّرها بطريقةٍ أو بأخرى.»

هز جرينسليد رأسه. وقال: «لا يمكن فعل ذلك يا ديك. إذا ما سلَّمنا بصدق فرضيتك بأني سمعتُ هذا الهراء ولم أبتكِره، فلا يمكن التعامل مع العقل الباطن وكأنه مشروع عمل. أنا أتذكر القصيدة بعقلي الباطن، ولكني لستُ قادرًا على استحضارها بعقلي الواعي. ولكني لا أقبل فرضيتك. أظن أن الأمر برمَّته محض مصادفة.»

قلت بعناد: «أنا لا أظن ذلك، وحتى لو فعلت، فأنا ملزم بافتراض النقيض، فهذه هي البطاقة الوحيدة التي أملكها. عليك أن تجلس يا صديقي وتبذل أقصى ما في وسعك لكي تتذكَّر. لطالما حضرت أغرب العروض، وأعتقد أنك سمعت هذا الهراء في أحدِها. نقِّب في ذاكرتك وستلوح لنا فرصة الفوز. فيما عدا ذلك، لا أرى إلا مأساة.»

نهض جرينسليد وارتدى معطف المطر. وقال: «يتعين عليَّ أن أخرج في جولة طويلة من الزيارات المنزلية ستستغرق مني اليوم بأكمله. بالطبع سأحاول، ولكن يجب أن أنبهك إلى أني لا أرى أي بارقة أمل. هذه الأمور لا تتحقق عبر الاهتمام والبحث. ربما كان من الأفضل أن أبيت في ضيعتك الليلة. ما المهلة التي يمكنك أن تمنحني إياها؟»

«يومان، فأنا ذاهب إلى المدينة صباح الجمعة. نعم، يجب أن تأتي لتقيم معنا. ماري مصرة على ذلك.»

كان ثمة صوت صياح حملان صغيرة آتٍ من ناحية المرج، وسمعنا عبر النافذة المفتوحة صوت عربات المزرعة وهي تسرع من الجرن إلى الطريق. لوى جرينسليد وجهه وضحك.

وقال: «انتهاك سافر لهدوء الريف الذي تريده يا ديك. أنت تعرف أنني سأكون إلى جوارك إذا ما حدثت أي متاعب. دعنا نوضح الأمر لأن أمامي الكثير من البحث. المعطيات الثلاثة التي عرضتها أنا كانت امرأة عجوزًا كفيفة تغزل في منطقة المرتفعات الغربية — المرتفعات الغربية، أليس كذلك؟ — وحظيرة في المروج النرويجية، ومتجرَ تحفٍ يديرُه يهودي. وكانت المُعطيات الثلاثة الأخرى هي امرأة تغزل تحت شجرة مقدسة، والمروج نفسها، وزارع في حقول جنة عدن؛ يا إلهي، يا للغباء! ثمة زوجان متطابقان، أما الزوج المُتبقي فلا رابط بينه. حسنًا، فلنأمُل في أن يحالفنا الحظ! سأكسر القاعدة التي وضعتها لنفسي وآخذ غليوني معي، فهذه المسألة تتطلب التبغ.»

كان اليوم مزدحمًا قضيتُه في كتابة خطابات وتنظيم أمور الضيعة؛ فقد بدا أني لن أتواجَد كثيرًا في المنزل خلال الشهر التالي. الغريب في الأمر أني لم أشعر بأي انزعاجٍ أو قلق. قد أشعر بذلك فيما بعد، أما في الوقت الحالي، فكنت أنتظر العناية الإلهية المُتمثلة في شخص توم جرينسليد. كنتُ أثق في حدسي الذي أخبرَني بأن تلك الكلمات العشوائية التي قالها كانت أكثر من مجرد مصادفة، ومع بعض الحظ، قد أستخرج منها طرف خيط قد يؤدي لحل مشكلتنا.

ظهر جرينسليد في حوالي السابعة مساءً، ولكنه كان مُتجهمًا وشاردًا. لم يأكل شيئًا على العشاء، وعندما جلسنا بعد العشاء في غرفة المكتبة، بدا مُهتمًّا بشكلٍ خاص بقراءة إعلانات جريدة التايمز. وعندما سألته «هل حالفنا الحظ؟» نظر لي بوجهٍ تعلوه الكآبة.

وصاح: «إنها أكثر مهمةٍ فاشلة كُلِّفتُ بها. لم أتذكر أي شيءٍ على الإطلاق، ولكني كنت أتَّبِع طريقة خاطئة على أية حال. كنت أحاول أن أجبر نفسي على التذكر، وكما قلت سابقًا، لا يتحقَّق هذا بالبحث، ولا بالصلاة والصوم. وخطر لي أني ربما أتذكر شيئًا ما إذا ما تتبعت الاختلافات بين أزواج المُعطيات الثلاثة. إنها طريقة معروفة في المنطق الاستقرائي، فالاختلافات عادةً ما تكون مُوحية أكثر من التشابهات. فبدأت أفكر في «الشجرة المقدسة» على أنها نقيض «المرتفعات الغربية»، وفي «حقول جنة عدن» على أنها نقيض «متجر التحف». إنه أمر مُحبِط للغاية. فقد أُصبت بصداع وأعتقِد أني سمَّمتُ نصف مرضاي. لا فائدة يا ديك، ولكني سأواصل المحاولة لبقيةِ اليومَين اللذَين اتفقنا عليهما. سأترك عقلي يرتاح الآن، ولنأمُل في أن أتلقَّى أي إلهام. ولديَّ تصوُّران غيرُ أكيدَين. أولهما أني لا أعتقد أني قلت «المرتفعات الغربية».»

«أنا واثق من أنها كانت كلماتك. ماذا قلت، إذن؟»

«ليس لدَي أدنى فكرة، ولكني واثق من أني لم أقل هذه الكلمات. لا يُمكنني تفسير الأمر كما ينبغي، ولكنك تُكَوِّن تصورًا معينًا للأمور في مخيلتك، وتلك العبارة تتَّفِق بشكلٍ ما مع هذا التصور. مفتاح مختلف. نغمة خاطئة. الأمر الثاني هو أن لديَّ شعور غامض بأن هذه القصيدة، إن كانت موجودة في ذاكرتي بالفعل، ممزوجة بطريقةٍ ما بلحن أنشودةٍ ما. لا أعلم ما هو اللحن، والانطباع برمَّته غير واضح المَعالم وكأنه دخان، ولكني أُخبرك بأنه ذو قيمة كبيرة. فإذا تمكنت من تذكر اللحن المنشود، فربما أتذكر شيئًا ما.»

«هل توقفت عن التفكير؟»

«توقفت تمامًا. أنا مثل قيثارة يوليسيس، يُمكن لأي ريحٍ مارة أن تجعلها تُصدر نغمات. لذا، إذا ظللتُ أسمع هذه المُعطيات الثلاثة، فلن أتمكن من التوصل إلى طرف خيط معقول وواعٍ. من المؤكد أنها ليست جزءًا من عقلي الذي أعمل به خلال النهار. تكمُن فرصتنا الوحيدة في أن تتدخَّل ظاهرة مادية ما وتربط نفسها مع المُعطيات الثلاثة ومن ثَم تُعيد بناء المشهد الذي سمعتها فيه. قد تكون أفضل ظاهرة هي الرائحة، ولكنَّ لحنًا قد يؤدي الغرض. ثمة أمل وحيد — رغم أنه أمل واهٍ كخيط عنكبوت بين العُشب — وهو أن اللحن قد يوقِظ شيئًا في ذاكرتي. هل تفهم ما أعنِيه يا ديك؟ لن يُفيدنا التفكير، فالمشكلة لا تتعلَّق بالعقل، بل تتعلَّق بإحساس عضوي طفيف لأنف أو أذن أو عين من شأنه أن يضغط على الزرِّ الصحيح. قد يكون الأمر برمَّته مجرد هلوسة، ولكني أشعر أن المُعطيات الثلاثة التي حسبتها من ابتكاري ترتبط بشكلٍ غامض للغاية بلحن أنشودة.»

خلد جرينسليد إلى الفراش مبكرًا، بينما ظللتُ أنا مُستيقظًا أكتب خطابات حتى قرب منتصف الليل. في طريقي إلى الطابق العلوي، انتابني شعور قوي بالعجز والإحباط. بدا لي أن تخبُّطي بين هذه الأوهام لن يُوصلني إلى شيء، بينما المأساة، الواضحة وضوح الشمس، مُحْدِقة بنا. كان عليَّ أن أُذكِّر نفسي بأن الأمور البديهية كانت ضروريةً قبل أن أنفض الشكَّ عن وعيي. كنتُ مرهقًا وناعسًا، وبينما كنتُ أجبر نفسي على التفكير في المشكلة التي أحاول حلها، أصبحت أبيات القصيدة الستة مُشوشة في ذهني. بينما كنتُ أخلع عنِّي ملابسي، حاولتُ أن أُكررها، ولكني لم أتمكن من تذكُّرها. كل ما تذكرتُه منها «حقول النرجس»، ثم بعد ذلك «حقول النرجس الخضراء.» ثم أصبحت «حقول جنة عدن الخضراء.»

ثم وجدت نفسي أُدندن لحنًا.

كان لحن نشيدٍ قديم كان جيش الخلاص يَعزفه في شوارع كيب تاون عندما كنت صبيًّا صغيرًا. لم أسمع هذا النشيد أو أُفكر به طوال ثلاثين عامًا. ولكني كنتُ أتذكر اللحن بوضوح تام؛ فقد كان لحنًا جذابًا وجميلًا يُشبه الموسيقى التي كانت تُعزَف في حفلات قاعات الاستقبال الراقصة في بدايات العصر الفيكتوري، وتذكرت الكلمات التي كانت تقولها الجوقة:

«على الضفة الأخرى من نهر الأردن،
حيث الحقول الخضراء لِجنَّة عدن،
حيث تُزهر شجرة الحياة وتسكن،
هناك ستجد لنفسك المَلاذ والمأمَن.»

اتجهت إلى غرفة جرينسليد ووجدته راقدًا مُستيقظًا يُحدِّق في سقف الغرفة والمصباح بجواره مُضاء. لا بدَّ أني قطعت عليه تسلسل أفكاره؛ فقد نظر لي مُتجهمًا.

قلت له: «لقد توصلت إلى اللحن الذي تبحث عنه»، ثم عزفت اللحن بالصفير، ثم ألقيتُ عليه الكلمات التي تذكرتها.

قال: «فليذهب اللحنُ إلى الجحيم. لم أسمعه من قبلُ في حياتي.» ولكنه بدأ يدندن اللحن نفسَه من بعدي، وجعلني أُكرر الكلمات عدة مرات.

«يؤسِفني أنه لا فائدة. لا يبدو أنه يتَّصِل بأي شيءٍ في ذاكرتي. يا إلهي، هذه حماقة. سأنام.»

ولكن، بعد ثلاث دقائق، سمعتُ طرقًا على باب غرفة ملابسي، ودخل جرينسليد. ورأيتُ حماسةً في عينَيه.

«إنه اللحن المنشود. لا يُمكنني تفسير الأمر، ولكن تلك المُعطيات الثلاثة اللعينة التي ذكرتُها تنسجِم معه تمامًا مثل الليمون في الحساء. اعتقد أني بدأتُ أتذكَّر الآن. فكرتُ أن أُخبرك بذلك؛ فقد تحظى بنوم أفضل إذا ما سمعت هذا الخبر.»

نمتُ بالفعل نومًا هانئًا، وهبطتُ إلى الطابق الأرضي لتناوُل الإفطار مبتهجًا كما لم أشعر منذ أيامٍ عدة. ولكن بدا أن الطبيب قضى ليلةً عصيبة. فبدت عيناه متورمتَين ومرهقتَين، وكان شعره أشعث منفوشًا في كل اتجاه طالبًا التصفيف. كنتُ أعرف عاداته، عندما كان شعر مؤخرة رأسه يقف فهذا دليل على أنه ليس على ما يُرام ذهنيًّا أو جسمانيًّا. لاحظت أنه ارتدى سروالًا قصيرًا وحذاءً سميكًا.

ولم يُبد أية رغبة في التدخين بعد تناول الإفطار. ولكنه صاح قائلًا: «أشعر أنك قد انتصرتَ عليَّ. لقد غيرت رأيي بالكامل ليُصبح مثل رأيك يا ديك. لقد سمعت تلك المُعطيات الثلاثة ولم أبتكرها. علاوةً على ذلك، لا شك في أن هذه المُعطيات الثلاثة على صلةٍ وثيقة بالمُعطيات الثلاثة المذكورة في قصيدة المجرمين. ذلك النشيد يؤكد الأمر، فهو يتحدَّث عن «حقول جنة عدن»، ولكنه ارتبط في ذاكرتي بالمعطيات الثلاثة التي لم أذكر من بينها جنة عدن. إنها نقطة مُذهلة وتثبت أننا على المسار الصحيح. ولكني لن أتمكن من التقدُّم خطوة أخرى على الإطلاق. عندما سمعت المُعطيات، سمعت اللحن، ولكني لا أستطيع تذكر أين سمعته. لدي علاقة واحدة، وأحتاج إلى علاقةٍ ثانية لكي أحدد نقطة التقاطع التي أريد، ولا أعلم كيف سأصل إلى هذه العلاقة.»

أصبح جرينسليد الآن أكثر منِّي اهتمامًا بالمشكلة، وأصبح وجهه النحيل القلق يُشبه بشكلٍ غريب وجه كلبٍ عجوز. سألته عما سيفعل.

فقال: «في تمام العاشرة، سأبدأ جولتي، من عند طرف ويندرَش، ثم سأتَّجِه نحو البيت عبر الغابة. سأسير لمسافة ثلاثين ميلًا بسرعةٍ ثابتة تبلغ أربعة أميالٍ ونصفًا في الساعة، فبإضافة نصف ساعة للغداء، هذا يعني أنني سأعود إلى هنا قبل السادسة. سأُخدر جسمي وذهني إلى اللامبالاة عبر إرهاقهما بالمجهود البدَني الشاق. ثم سأحصل على حمام دافئ وعشاء جيد، وبعد ذلك، عندما أحصل على قدرٍ كافٍ من الراحة، سأحصل على الإلهام الذي أحتاج. الخطأ الذي ارتكبتُه بالأمس هو أني كنتُ أحاول التذكر.»

كان صباح ذلك اليوم صباحًا مُشرقًا من أيام شهر مارس، الطقس المثالي للذهاب في جولة سير، وكنتُ سأُحب الخروج برفقته. لكني وقفتُ أُراقب ساقَيه الطويلتَين بينما تعبران الحقل الذي نُطلق عليه اسم المرعى الكبير، ثم قضيت اليوم في وضع صغار أسماك حصلت عليها من بحيرة ليفين في إحدى البرك، وهي مهمةٌ تُسبب البلل والتلطخ بالطين، ولم تترك لي أي وقتِ فراغ للتفكير في أمور أخرى. وبعد الظهر، قُدتُ عربتي إلى سوق المدينة لألتقي البنَّاء، ولم أعد إلا قبل موعد العشاء بقليلٍ لأعرف أن جرينسليد قد عاد. كان يحصل حينئذٍ على حمَّامٍ دافئ، طبقًا للخطة التي وضعها.

أثناء العشاء بدا أنه يتمتَّع بروحٍ معنوية أفضل. كانت الرياح قد ردَّت النضرة إلى بشرته، ومنحَتْه شهيةً جامحة، ومنحه مشروب كليكوت من إنتاج عام ١٩٠٦، الذي اعتبره أفضل مشروبٍ بعد يومٍ مرهق، التنشيطَ الذي كان يحتاجه. ظل يتحدَّث مثلما كان يتحدَّث منذ ثلاث ليالٍ، قبل أن نقع بين براثن هذه المشكلة. اختفت ماري بعد العشاء، وجلستُ برفقتِه في مقعدَين وثيرَين أمام مدفأة المكتبة، مثل رجلَين ناعسَين قضيا يومًا مرهقًا في العراء. فكرت أنه من الأفضل ألا أقول شيئًا حتى يُقرر هو أن يتحدَّث.

ظلَّ صامتًا لفترة طويلة، ثم ضحك ضحكةً تخلو من سعادة.

وقال: «لقد أصبحتُ مشتتًا أكثر من ذي قبل. طوال اليوم تركت ذهني يفكر في أمورٍ أخرى ويركز على المسافة التي تقطعها قدماي وكأنهما فرجار. ولكني لم أتذكَّر شيئًا. لم أتذكر نقطة التقاطُع التي أحتاجها. ربما سمعت هذا اللحن في واحدٍ من آلاف الأماكن على كوكب الأرض. إن حياتي الصاخبة ليست ميزة؛ فقد مررتُ بالكثير جدًّا من التجارب. لو كنتُ كاهنًا قضى حياته برمَّتها في قريةٍ واحدة، لكان ذلك أسهل لي.»

لم أردَّ عليه، فواصل حديثه وهو يوَلِّي بصرَه نحو النار، وليس نحوي: «لديَّ انطباع قوي يصِل إلى درجة اليقين بأني لم أسمع عبارة «المرتفعات الغربية» من قبل. ربما سمعت عبارة تُشبهها، ولكني لم أسمعها هي تحديدًا.»

قلت مقترحًا: «الجزر الغربية.»

«ما الجزر الغربية؟»

«أظن أنني سمعتُ هذه العبارة تُستخدَم للإشارة إلى الجُزر المتاخمة للساحل الغربي لأيرلندا. هل يُساعدك هذا؟»

هز رأسَه نفيًا. وقال: «لا فائدة. لم أذهب إلى أيرلندا من قبل.»

عاد بعد ذلك إلى صمتِه يُحدق في النار، وجلست أنا في مقابلِه أُدخن شاعرًا بخواءٍ وإحباط. أدركتُ أني قد وضعت آمالًا عريضةً للغاية على مسار التحقيق هذا الذي يبدو أنه لن يؤدِّي إلى شيء …

ثم حدث فجأةً أحد تلك الأمور النادرة التي تبدو مصادفةً ولكني أعلم يقينًا أنها جزءٌ من تدابير القدَر.

انحنيتُ للأمام لأنفض الرماد من غليوني عبر ضربِه على حافة المدفأة الحجرية. ضربتُ الغليون بقوة أكبر من المُعتاد، فانكسر الغليون، الذي كان قديمًا، من عند وعائه. صِحتُ غاضبًا، فكم أكرَه خسارة غليونٍ قديم، ثم صَمتُّ فجأةً عندما رأيت جرينسليد.

كان يُحدِّق في أجزاء الغليون المكسور في يدي بعينَين شاردتَين فاغرًا فاه. رفع إحدى يدَيه، والتزمتُ أنا الصمت. ثم هدأ توتره، وأسند ظهره إلى ظهر مقعده مُجددًا متنهدًا.

وقال: «نقطة التقاطع. لقد وجدتُها. مِدينا.»

ثم ضحك عندما رأى الحيرة على وجهي.

وقال: «لستُ مجنونًا يا ديك. كنتُ أتحدث ذات مرة إلى رجل، وبينما كنا نتحدث، انكسر وعاء غليونه مثلما حدث معك للتو. كان هو الرجل الذي كان يدندن لحن هذا النشيد، وعلى الرغم من أني لا أذكر على الإطلاق ما قاله، فأنا واثق تمامًا، مثلما أنا واثق من أنني على قيد الحياة، من أنه مَن وضع تلك المُعطيات الثلاثة في غياهب ذاكرة عقلي الباطن. انتظر لحظة. نعم. يُمكنني تذكُّر ما حدث وكأنه يحدث الآن. لقد كسر غليونه مثلما فعلت أنت، وكان يدندن هذا اللحن من وقتٍ لآخر.»

سألته: «مَن هذا الرجل؟» ولكن جرينسليد تجاهل سؤالي. كان يقصُّ قِصَّته بطريقته، وكانت عيناه شاردتَين كما لو كان ينظر إلى ممرٍّ طويل في ذاكرته.

«كنتُ مُقيمًا في نُزُلِ بُل في هانام؛ حيث كنتُ أذهب لصيد الطيور البرية في المُستنقعات البحرية. كنت أجلس وحيدًا حينئذ، فلم يكن الطقس ملائمًا لأن يتجمَّع المحليُّون في الحانة، ولكن ذات ليلة، تَعطَّلت سيارة خارج النزل، واضطر صاحب السيارة وسائقها إلى المبيت في نزل بُل. الغريب في الأمر أني كنتُ أعرف الرجل. كان قد شارك في إحدى جولات الصيد الكبرى في روزام ثروب، وكان في طريق عودته إلى لندن. كان لدى كلٍّ منَّا الكثير ليُخبر به الآخر، فظلِلنا نتحدَّث حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي. تحدثنا عن الرياضة، ووِديان نهر ياركاند الشمالية، حيث التقيتُه للمرة الأولى. أذكر جانبًا كبيرًا من حديثنا، ولكن ليس المُعطيات الثلاثة أو اللحن، الأمور التي لم تُوقِظ أي شيءٍ في ذاكرة عقلي الباطن. ولكن هذا لا يمنع وجودها هناك.»

«متى حدث ذلك؟»

«في بداية شهر ديسمبر الماضي، عندما استأجرنا الغابة السوداء. لعلك تذكر يا ديك أني أخذتُ أسبوعًا عُطلةً وذهبتُ إلى نورفوك لصيد البط.»

«لم تُخبرني باسم الرجل.»

«بل فعلت. مِدينا.»

«ومَن يكون مِدينا؟»

«يا إلهي! ديك. إنك تُبالغ في لعب دور الساذج. لا شك في أنك سمعتَ اسم دومينيك مِدينا.»

تذكرت بالطبع أنني سمعته من قبل عندما ذكر الاسم الأول. لم تكن جريدةً تخلو من خبر عن دومينيك مِدينا، ولكني لم أكن أعرف إذا ما كان شاعرًا أم سياسيًّا أم مُمثلًا صاحب فرقة تمثيلية. كانت ثمة كومة من المجلات المصورة مكدسة على طاولة صغيرة، فأحضرتها وبدأت أُقلِّب في صفحاتها. وسرعان ما عثرت على ضالَّتي. كانت صورة لمجموعة في حفلٍ في منزل ريفي خلال أحد سباقات الحواجز، وكانت أسماء الأشخاص الظاهرة في الصورة مُرتبة كالمعتاد «من اليسار إلى اليمين»، وهناك بين إحدى الدوقات وأميرة أجنبية، كان السيد دومينيك مِدينا واقفًا. لم تُخفِ رَداءة جودة الصورة وسامة الرجل الاستثنائية. فرأسه شبيهٌ برأس بايرون، وطبقًا لما تمكنت من تمييزه، كان قوامُه ممشوقًا ومهندمًا ورياضيًّا.

«لو تصادف ورأيت هذه الصورة الرديئة، ربما لم يكن تحقيقك ليستغرق هذه الفترة الطويلة.»

هز رأسه نفيًا. وقال: «لا، لا تسير الأمور على هذه الشاكلة. كان الأمر يتطلَّب غليونك المكسور واللحن وإلا كنتُ سأظل عالقًا.»

«أظنُّ إذن أنه يجدُر بي التواصل مع هذا الرجل واكتشاف المكان الذي سمع فيه هذه المُعطيات واللحن. ولكن، ماذا لو تبيَّن أنه مثلك، ثرثار آخر يهتم بالعقل الباطن؟»

«هذا وارد بالطبع. ربما تمكن من مُساعدتك، أو مِن المرجَّح أنه قد يكون جدارًا مُصمتًا آخر.»

شعرت فجأة بمدى صعوبة المهمَّة التي تحملتُها على عاتقي، وتملكني شعور أقرب إلى اليأس.

«أخبِرني عن هذا الرجل المدعو مِدينا. هل هو رجل محترم؟»

«أظن ذلك. نعم، يجدُر بي أن أظن ذلك. ولكنه على صلةٍ بالأوساط الراقية أكثر منِّي، فلا يُمكنني الحكم عليه. ولكني سأُخبرك بأمرٍ أثِق به تمامًا عن هذا الرجل؛ إنه رجل عظيم. ويحك يا ديك، لا بد أنك سمعتَ به. إنه أحد أفضل الرُّماة بالأسلحة النارية الموجودين على قيد الحياة، وحقق إنجازاتٍ عظيمة في مجال الاستكشاف، كما أنه كان أحد أقوى زعماء الأحزاب في جنوب روسيا. كما أنه شاعر جيد ومُميز، رغم أني أعلم أن هذا لن يهمك.»

«أظن أنه أقرب لأن يكون من أصل لاتيني.»

«هذا عارٍ تمامًا من الصحة. لقد استقرَّت عائلته ذات الأصول الإسبانية هنا منذ ثلاثة قرون. وخرج أحد أسلافه إلى الحرب مع الأمير روبرت. مهلًا! أعتقد أني سمعت أن أهله يعيشون في أيرلندا، أو عاشوا فيها سابقًا، حتى أصبحت الحياة هناك لا تُطاق.»

«كم عمره؟»

«إنه شاب. لم يتخطَّ الخامسة والثلاثين من عمره. كما أنه أوسم أهل الأرض منذ عصر الإغريق.»

قلتُ وقد نفد صبري: «لستُ إحدى النساء المُتحررات لأهتمَّ بذلك. إن الرجل الجميل الشكل لا ينال استحساني. بل ربما تُنفِّرني منه ملامح وجهه.»

«لن يحدُث ذلك. من منطلق معرفتي به وبك، ستُعجب به منذ الوهلة الأولى. لم أسمع من قبل عن رجلٍ لم يُعجب به. صوته جميل مُحبب إلى النفس، وعيناه تغمرانِك بالدفء، فهما تشعَّان مثل أشعة الشمس. لا يعني ذلك أني أعرفه حق المعرفة، ولكني أجده جذابًا للغاية. وها أنت قرأتَ في المجلة بنفسك رأي العالم فيه.»

«لا يُهم، فلم أقترب من مرادي بعد. يجب أن أعرف أين سمع تلك المُعطيات اللعينة الثلاثة وذلك اللحن الغبي. قد يقول لي أنْ أغربَ عن وجهه، وحتى إن كان مهذبًا معي، فمن المُرجَّح أن يكون عديم النفع.»

«تكمن فرصتك الوحيدة في أن يكون رجلًا حصيفًا بالفعل، وليس أحمقَ مُسنًّا مثلي. ستحصل على المساعدة من عقلٍ مُمتاز، وهذا يعني الكثير. هل أكتب لك خطابًا تعريفيًّا؟»

جلس إلى مكتبي وبدأ يكتب. «لا يعني ذلك أني أُقلل من قُدرتك على التعامُل معه، كل ما في الأمر أني أريد أن تتعارفا؛ فلدَيكما بعض الاهتمامات المُشتركة مثل الرياضة والسفر، أمور من هذا القبيل. أنت ذاهب إلى لندن، لذا من الأفضل أن أُدوِّن عنوان ناديك كعنوانٍ للمراسلة.»

في صباح اليوم التالي، عاد جرينسليد لمُزاولة واجباته المُعتادة، وركبت أنا أول قطار إلى المدينة. لم أكن سعيدًا للغاية بأمر السيد دومينيك مِدينا؛ إذ بدا لي أنني لن أتمكَّن من العثور عليه. أخبرَني أحدُهم بعمره ومكان سكنه، شارع هيل، وبعنوان نادِيه، وحقيقة أنه عضو في مجلس العموم عن دائرة جنوب لندن. لم تلتقِ به ماري من قبل؛ فقد ظهر في لندن بعدما توقفَت هي عن الذهاب إليها، ولكنها تذكرَتْ أن عمَّاتها اللاتي يسكنَّ في ويموندام كُنَّ يُفْرِطنَ في مدحه، وأنها قرأت في إحدى الجرائد مقالًا عن شِعره. أثناء جلوسي في القطار، حاولتُ أن أُكَوِّن في ذهني تصورًا عن نوعيته كرجل، مزيج من بايرون والسير ريتشارد برتون والسياسي الشاب المُثقف. لم تتكوَّن الصورة بشكلٍ جيد، فكل ما رأيتُه في مخيلتي هيئة تُشبه تمثالًا شمعيًّا ذات صوتٍ هادئ كهديل الحمام ودماثة بائعٍ في متجرٍ راقٍ. كما أن اسمه ظلَّ يُربِكني؛ فقد ظللتُ أخلط بينه وبين وغدٍ برتغالي مُسنِّ تعرفتُ عليه ذات مرة في بييرا.

كنتُ أسير في شارع سان جيمس في طريقي إلى وايتهول، وكنت غارقًا حتى أُذنَي في أفكاري عندما استفقت على يدٍ وضعها أحدُهم مفرودةً على صدري، يا إلهي! إنه ساندي أربوثنوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤