الفصل الرابع

تعارُفي مع رجلٍ شهير

يُمكنك أن تتخيَّل مدى سعادتي برؤية صديقي القديم ساندي مُجددًا، فلم أكن رأيته منذ عام ١٩١٦. كان يعمل ضابط استخباراتٍ مع الجنرال مودي، ثم انتقل للعمل في مدينة شيملا، وبعدها وضعتِ الحرب أوزارها، تولى وظيفة إدارية في بلاد ما بين النهرَين، أو العراق، كما يُطلق عليها حاليًّا. راسلني ساندي من الكثير من الأماكن الغريبة في العالَم، ولكنه لم يقل أبدًا إنه سيعود إلى الوطن، وبعدما تزوجت واستقررت في الريف، يبدو أننا اتخذنا طريقَين لم يكن من المُرجَّح أن يتقاطعا. قرأتُ خبر وفاة أخيه الأكبر في الصحف، وهو ما كان يعني أنه أصبح كبير عائلة كلانرويدن ووريث أملاكها، ولكني لم أتخيَّل أن هذا سيحوله إلى إقطاعي اسكتلندي. لم يتغير ساندي بعد خمس سنوات من المشقَّة والأسفار إلا قليلًا. كان نحيلًا ولوحت الشمس بشرتَه، ولطالما كان كذلك، ولكن، ظلَّت قسمات وجهه على حالها، ناعمة مثل الفتيات، وكانت عيناه البُنيَّتان مرحتَين كعادتهما.

وقفنا نُحدق أحدنا في الآخر.

ثم صاح ساندي قائلًا: «ديك، لقد عدت إلى الوطن إلى الأبد. نعم، أقسم لك بشرفي. سأظل هنا لشهور طوال، إن لم يكن لسنوات طوال. ثمة الكثير مما أريد أن أُخبرك به لدرجة أني لا أعرف من أين أبدأ. ولكني لا أستطيع البقاء حاليًّا. أنا في طريقي إلى اسكتلندا لرؤية والدي. إنه شُغلي الشاغل حاليًّا؛ فقد أصبح ضعيفًا للغاية. ولكني سأعود بعد ثلاثة أيام. لنتناول العشاء معًا يوم الثلاثاء.»

كنا نقِف على عتبة باب أحد الأندية — نادِيه ونادِيَّ — وكان البواب يضع أمتعته في سيارة أجرة. وقبل أن أستوعِب أنه كان ساندي حقيقةً، كان يلوح لي من نافذة السيارة الأجرة التي اختفت به في نهاية الشارع.

أسعدتني رؤيته للغاية، وتوجهتُ إلى بول مول في مزاج جيد. إن وجود ساندي في إنجلترا على بُعد مكالمة هاتف منِّي جعلني أشعر بثباتٍ أكثر، مثل القائد الذي يُدرك أن قواته الاحتياطية قريبة. عندما دخلت غرفة ماكجيليفراي، كنت أبتسم، وأثارت رؤياي ابتسامةً متسائلة على شفتَيه. وقال: «صديقي العزيز! تبدو مُستعدًّا للعمل. عليك أن تضع نفسك تحت إمرتي بمجرد أن أُخبرك بما يحدث.»

أخرج أوراقه وبدأ يشرح الأمر برمَّته. كانت قصة غريبة للغاية، ولكن كانت شكوكي تتزايد كلما تعمقتُ أكثر في تفاصيلها. لن أكتب القصة بأكملها، فلم يحِن وقت ذلك بعد؛ فمن المُحتمَل أن تَكشِف بعضَ الطرق التي لم تفقد نفعها بعد، ولكن قبل أن أتمادى أكثر، أبديتُ إعجابي بهذه الطرق؛ فقد أظهَرَت الكثير من الصبر والإبداع. كانت مجموعة غريبة من الحلقات التي كوَّنت السلسلة. كانت تضم مستوردًا للمكسرات البرشلونية لدَيه مكتب مُتواضع بالقرب من تاور هيل. وشركة تعدين نحاس تزعم أنها تعمل في إسبانيا، ولم تُطرَح أسهمها في سوق الأوراق المالية، ولكنها تمتلك مكتبًا أنيقًا في شارع جدار لندن، حيث يُمكنك أن تتناول أفضل غداءٍ في المدينة. وكانت تضمُّ أيضًا مُحاسبًا محترمًا في جلاسجو، وكونتًا فرنسيًّا، كان أيضًا أحد الإقطاعِيِّين في مُرتفعات اسكتلندا وأحد أكبر المناصِرين لجماعة الزهرة البيضاء. ونبيلًا ريفيًّا يعيش في شروبشاير، اشترى ضيعتَه بعد انتهاء الحرب وكان فارسًا متمرسًا في الصيد بالكلاب وأحد أشهر الشخصيات في المُقاطعة. ومكتبًا صغيرًا لا يبعد كثيرًا عن شارع فليت، تبيَّن أنه الوكالة الإنجليزية لأحد المجلات الدينية الأمريكية، وصحفيًّا مُعينًا لطالما دعا في الصحف إلى مساعدة سكان وسط أوروبا المنكوبين. أتذكر دعواته جيدًا؛ فقد أرسلت له مبلغًا صغيرًا مرتَين. ملأتني الطريقة التي استخدمها ماكجيليفراي في الربط بين هؤلاء السادة، بالانبهار.

ثم عرض عليَّ عيناتٍ من أعمالهم. كانت جريمةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، شيئًا يُشبه بيع دبٍّ لأعلى سعرٍ في عالمٍ مُنهار. كان هدف العصابة هو المال، رغم أنها تمكنت من جمع أرباحٍ طائلة. كان جزءٌ من أعمالها عبارة عن تربُّح غير نزيهٍ ولكن بصورة قانونية، مثل توقع الانخفاضات في الأسهم واستخدام جميع الوسائل السافرة والدنيئة لجعل التوقعات أكيدة. كان جزءٌ من أعمالها أسلوب احتيال شائعًا على أوسع نطاق. ولكن كان ثمة جانب أكثر ظلامًا، كانت أعضاء تلك العصابة يقتلون ضحاياهم إذا ما اكتشفوا مُخططاتهم مصادفةً، وكانوا يُدبرون إضراباتٍ عندما يُبدي أي مجال خرِب في أي مكانٍ من العالَم انتعاشًا، وكانوا يُشعلون ثورات رديئة صغيرة في بلدان فقيرة صغيرة من أجل زيادة الطين بلة. كان هؤلاء الأشخاص مُخربين من طراز رفيع، يتاجرون بتعاسة الناس، ويزيدون المجتمع انحطاطًا عندما يبدأ في العثور على توازُنه، ثم يكدِّسون أرباحهم.

قلتُ سابقًا إن دافعهم هو الربح، ولكنه ليس دافع الأشخاص الذين يستغلونهم. تكمُن براعتهم في استغلالهم للمُتعصبين، الشواذ أخلاقيًّا كما يطلِق عليهم ماكجيليفراي، الذين تحركهم كراهيتهم الجامحة لشيءٍ ما، أو إيمانهم المُطلق بالفوضى. وخلف الاستغلاليين المُتأنقين، تكمن البقايا الكئيبة للجنون النابع من الجهل. أعطاني ماكجيليفراي أمثلة على كيفية استخدامهم لهذه الأدوات، الأشخاص الذين لا يهتمون بالأرباح، والذين على استعدادٍ تام للتضحية بكل شيء، حتى أرواحهم، من أجل مُثُل جنونية. كانوا خير مثال على العبقرية الشريرة الوحشية. حقيقة قبيحة، ولكنها هزلية في الوقت نفسه، فمشهد أولئك المهووسين المسعورين وهم يسعون جاهدِين لخلق جنةٍ جديدة وأرض جديدة مُعتقِدِين أنهم قادة الجنس البشري — بينما هم في الحقيقة دُمى تحركها، كما يحلو لها، قلةٌ من المُحتالِين المشاركين في أقدم مسعًى للبشر — كان مشهدًا هزليًّا يجعل الآلهة نفسها تضحك.

سألته عمَّن يكون قائدهم.

قال ماكجيليفراي إنه لا يعلم يقينًا. فلا أحد من العصابة يملك سلطةً أكبر من الآخرين، ووُزِّعَت أنشطة كلٍّ منهم بما يُناسب تخصُّصه تمامًا. ولكنه اتفق معي على أنه من المُحتمل وجود عقل مدبر واحد، وقال عابسًا إنه قد يعرف المزيد عن ذلك عندما يقبضون على العصابة. «ستجيب التحقيقات عن هذا السؤال.»

سألته. «هل يشكُّون في أنهم مُراقبون؟»

«ليس كثيرًا. قليلًا، وإلا ما كانوا سيختطفون رهائن. ليس كثيرًا لأننا راعَينا جيدًا عدم إظهار أي شيءٍ ينمُّ عن مُراقبتنا لهم. منذ أن عرفنا نشاطهم، تمكنَّا من عرقلة بعضٍ من أسوأ خططهم، ولكني متأكِّد من أنهم لم يشكُّوا في أن لنا يدًا في ذلك. كما أنَّا وضعنا العراقيل في طريق نشاطهم الدعائي. إنهم أساتذة في مجال الدعاية. ديك، هل تساءلت من قبل عن ماهية السلاح الشيطاني؛ استخدام جميع وسائل الدعاية الحديثة لتسميم وتشويه عقول البشر؟ هذا أخطر ما يمكن أن يحدُث للعالم. يمكن استخدام الدعاية من أجل الصالح العام — لا يُمكنني التفكير في مثالٍ أفضل من الحرب — ولكن يُمكن أيضًا استخدامه في نشر أفظع الأكاذيب. الرائع في الأمر أن الدعاية تهزم نفسها بنفسها في نهاية المطاف، ولكن ليس قبل أن تعمَّ الفوضى العالم. انظر إلى حال الأيرلنديين! إنهم أمهر خبراء الدعاية على وجه الأرض، وتمكنوا من إقناع أغلب البشر بأنهم شجعان وكرماء وظرفاء وموهوبون وإيثاريون، وأنهم مُجبَرون بكل قسوة على التبعية التجارية لإنجلترا، بينما الله وحدَه يعلم أنهم على النقيض من ذلك تمامًا.»

يجدُر بي أن أذكر أن أصول ماكجيليفراي تعود إلى أولستر، ومن ثَم فهو متحيز.

قلت: «فيما يخصُّ العصابة، أظن أنهم جميعًا أناس محترمون في نظر الناس، أليس كذلك؟»

قال: «محترمون للغاية. التقيتُ أحدَهم في حفل عشاء ذات ليلة في منزل …»، وذكر اسم أحد المسئولين الحكوميين. «قبل الكريسماس، كنتُ في سوفولك للصيد بالبندقية من خلف ساتر، وكان بجواري واحدٌ من أسوئِهم، رجل لطيف بشكلٍ غريب.»

ثم جلسنا لنتحدَّث عن العمل. كان ماكجيليفراي يرى أنه يجدُر بي أن أدرس تفاصيل المهمة ثم أتعرف إلى بعض الأشخاص. وقال إنه يجدُر بي أن أبدأ بالنبيل الريفي من شروبشاير. كان يعتقد أني قد أتعثَّر مصادفةً في شيء يمكن اعتباره طرف خيطٍ يُوصلنا إلى الرهائن؛ فقد كان لا يزال مُصرًّا على فكرته الغريبة التي مفادها أني أمتلك تلك الفطنة الخاصة التي يمتلكها المبتدئون في بعض الأحيان ويفتقر إليها المحترفون. وافقته على أن هذه هي أفضل خطة، ورتَّبنا الأمر بحيث أقضي يوم الأحد في غرفته لأطَّلع على الملفَّات السرية. كنتُ قد بدأت أهتمُّ بالموضوع، فكان ماكجيليفراي موهوبًا في جعل أي شيءٍ يعمل عليه مُثيرًا وكأنه لعبة.

كنت أنوي إخباره بالتجارب التي أجريتُها مع جرينسليد، ولكن بعد ما أراني إياه، شعرت أن هذه القصة ستكون واهية وغير واعدة. ولكن، بينما كنتُ أهم بالمغادرة، سألته عَرَضًا عما إذا كان يعرف السيد دومينيك مِدينا.

فابتسم. وسألني: «لمَ تسأل؟ إنه خارج نطاق اهتماماتك.»

«لا أعلم. لقد سمعت الكثير عنه، وأظن أني أودُّ مقابلتَه.»

«لا أعرفه حق المعرفة، ولكني أعترف بأني انجذبتُ إليه بشدة رغم قلة عدد مرات لقائنا. إنه أوسم رجل في العالم.»

«سمعت هذا من قبل، وهذا هو الأمر الوحيد الذي يُنفرني منه.»

«لن تفعل إذا رأيته. إنه ليس على شاكلة مُمثل وسيم معبود للجماهير على الإطلاق. إنه الرجل الوحيد في العالَم الذي تعشقُه النساء ويُعجب به الرجال. فهو رياضي من طراز رفيع، ويُقال إنه أفضل رامٍ بالأسلحة النارية في إنجلترا بعد جلالة الملك. كما أنه رجل واعد في السياسة، وهو خطيب مُفوَّه. سمعت أحد خطاباته ذات مرة، وعلى الرغم من أني لا أهتم بالخطابة كثيرًا؛ فقد انبهرتُ كثيرًا ببراعته. هاجم العالم في خطابه قليلًا، كما أنه شاعرٌ بارع، رغم أني أعلم أن هذا لن يُهمك.»

اعترضت قائلًا: «لا أعلم لِمَ تقول ذلك. إن اهتمامي بالشعر يزداد.»

«أعلم ذلك. سكوت وماكولاي وتينيسن. ولكن مِدينا مختلف عنهم. إنه معبود الشباب ومجدد جريء. كما أنه شخص مرح أيضًا. كما أنه باحث من الطراز القديم.»

«حسنًا، آمُل أن أقابِلَه قريبًا، وسأُخبرك بانطباعي عنه.»

كنت قد أرسلت خطابي إلى مِدينا بالبريد، مرفقًا معه خطاب جرينسليد التعريفي، بعدما خرجت من محطة القطار، وفي صباح اليوم التالي، وصلني رد مهذب للغاية منه على عنوان ناديَّ. كان جرينسليد قد تكلَّم عن اهتمامنا المُشترك برحلات صيد الطرائد الكبيرة، وأقرَّ بأنه يعرف كل شيءٍ عني، وأنه مُتشوق إلى أن نتعارف. قال إنه لن يكون في المدينة، للأسف، خلال عطلة نهاية الأسبوع، ولكنه اقترح أن أتناول الغداء معه يوم الاثنين. وذكر اسم نادٍ، نادٍ صغير وعتيق الطراز لا يضمُّ إلا الصفوة، وكان أغلب أعضائه من النُّبلاء المُهتمِّين بالصيد.

كنتُ أتطلَّع لمُقابلته بفضول لا يُمكنني تفسيره، وتذكرته يوم الأحد بينما كنتُ أتصفح الأوراق في غرفة ماكجيليفراي. صنعت في مخيلتي صورةً مزجتُ فيها بين الحارس الذي ذكرَته أويدا في إحدى رواياتها وتمثال أبولو بيلفيدير وألبستُها ملابس أنيقة للغاية. ولكن عندما أخبرت بواب النادي باسمي، تقدم لاستقبالي شابٌّ كان يُدفئ يدَيه عند مدفأة البهو، ومحَوْت تلك الصورة من ذاكرتي تمامًا.

كان في مثل طولي تقريبًا، أقل من ستة أقدام بقليل، وكان للوهلة الأولى يبدو هزيلًا، ولكن لم يكن يُمكن ملاحظة بِنيته القوية إلا لِعَينٍ تعرف أين تبحث عن مظاهر قوة بنيان الرجل. ولكن هذا لم يمنع أن يبدو للعيان نحيلًا، ومن ثَم كان يبدو حديث السن، ويُمكنك أن تستنبط من طريقة وقوفه وسَيره أنه خفيف الحركة وكأنه بهلوان راقص على الحبل. ثمة كلمة فظيعة تُذكر في الصحف عادةً، وهي «مُسيَّس جيدًا»، والتي تقولها الصحافيات عن الرجال، والتي لطالما جعلتني أتخيَّل حصانًا لامعًا يهتم سائس الخيل بتنظيفه وتصفيفه. فكرتُ أنه «مُسيَّس جيدًا»، ولكن لم يكن ثمة أي شيءٍ لامع في مظهره. كان يرتدي حلةً صوفية بُنية أنيقة عتيقة الطراز، وقميصًا حريريًّا وياقة، وربطة عنقٍ بُنية مائلة إلى الاحمرار تُلائم لون بشرته تمامًا. كانت ملابسه تُشبه تمامًا ملابس إقطاعي ريفي حضر إلى المدينة لقضاء يومٍ في مزرعة خيول تاترسالز.

من الصعب أن أصف انطباعي الأول عن ملامحه؛ فقد غُشِيَت ذاكرتي بانطباعاتٍ أخرى عنه اكتسبتُها عندما نظرت إليه في ظروفٍ مغايرة. ولكن كان شعوري الرئيسي، على ما أتذكر، هو أنه جذاب بطريقةٍ فريدة من نوعها. كانت ملامحه تبدو إنجليزية، ولكنها لم تكن إنجليزية خالصة؛ فقد كان لون بشرته أدكنَ قليلًا مما قد تتسبَّب فيه شمسُنا أو طقسنا، وكانت تحمل لمحة من رقةٍ ناعمة لا تجِدُها عادة في أبناء جلدتنا. كانت ملامحه جميلة، كل منها على حدة، ولكنها كانت تحمل لمحة من صلابةٍ جعلتها غير تقليدية. حيَّرني ذلك حتى أدركتُ أن انطباعي هذا أتى من ملمحَين، الشَّعر والعينَين. كان الشعر بُنيًّا داكنًا، متموجًا عند الجبهة، ما جعل الوجه يصنع مربعًا كاملًا مع ذقنه القوي العريض. ولكن كانت العينان هما الشيء الأكثر بروزًا. كانت عيناه زرقاوين مدهشتين، فلم تكونا بذلك اللون الأزرق الباهت الشائع الذي يعود إلى أسلافنا من النورديين، بل كان أزرق داكنًا مثل لون الياقوت. إذا ما تخيلتَ ياقوتة تلمع مثل الماس، فستكون قد كونتَ تصورًا قريبًا من هاتَين العينَين. كانت هاتان العينان تسلُبان لُب أي امرأة، أما في أعين الرجال، الذين لا يحملون أي صفات أنثوية، فستبدوان مُدهِشتَين. مُدهشتَين — أتمسَّك بهذه الكلمة — وكذلك خلابتَين.

حياني كما لو كان ينتظر هذه اللحظة طوال عمره، ولكن من دون أن يتخلى عن التعامُل بالطريقة الرسمية التي تُميز اللقاءات الأولى.

«تسعدني مقابلتك يا سير ريتشارد. كرمٌ منك أن حضرت. لقد حجزتُ طاولةً لنا وحدَنا بجوار المدفأة. آمُل أن تكون جائعًا. فقد سافرتُ صباح اليوم في طقسٍ شديد البرودة، وأنا في حاجة لتناول غدائي.»

كنتُ جائعًا بالفعل، ولم أتناول في حياتي وجبةً أفضل من تلك. صبَّ لي بعض الخمر لتدفئتي، ثم تناولتُ كوبًا من شراب بريستول كريم الذي يشتهر النادي بتقديمِه، ولكنه لم يشرب سوى الماء. كان في المكان أربعة أشخاص آخرين، كان يدعوهم جميعهم بأسمائهم الأولى، وبدا أن أولئك الرجال ذوي الوجوه النحيلة الذين يَهوون الصيد مُبتهجين بوجوده. ولكنهم لم يأتوا ليقفوا بجواره والتحدُّث إليه، الأمر الذي من المُرجَّح حدوثه مع الرجل الأكثر شعبيةً في المكان. كان مِدينا ودودًا ومُتحفظًا في الوقت نفسه، ما منحه مظهرًا بسيطًا رغم اختلافه التام عن غيره.

أتذكَّر أننا بدأنا حديثنا عن البنادق. مارست الصيد كثيرًا في شبابي، وأدركتُ أن هذا الرجل يمتلك خبرةً واسعة وكان حُب الصيد متوغلًا في روحه. لم يتفاخر بنفسه صراحةً، ولكنه قال بعض الملاحظات التي جعلتني أُدرك مدى فخره بنفسه. تحدث عن البندقية الجديدة عيار ٠٫٢٤٠ التي تمتلك قوة إيقاف ارتداد كبيرة، وأخبرته أني لم أستخدمها في اصطياد أي طرائد أضخم من الأيل الاسكتلندي. «كانت ستُمثل هديةً من السماء لي في الأيام الخوالي في نهر الكونغو عندما كنتُ أستخدم أعيرة ٠٫٥٠٠ إكسبريس التي آذت ظهري.»

ابتسم في أسف. وقال: «الأيام الخوالي! لقد مررْنا بها جميعنا، ونتمنى أن تعود. أرغب أحيانًا في التمرُّد على حياتي والخروج إلى البراري من جديد. فالاستقرار لا يُناسِب حداثة سنِّي. لا بد أنك تشعر بالمِثل يا سير ريتشارد. ألم تندم على انتهاء تلك الحرب الضروس؟»

«لا يَسعُني أن أقول ذلك. أنا رجل كهل الآن، ولن يمُرَّ وقت طويل قبل أن تتيبَّس أوصالي. لقد استقررتُ في كوتسوولد، ورغم أني آمُل في ممارسة الصيد كثيرًا قبل أن أموت، فإني لا أتطلَّع إلى المزيد من الحروب. أنا واثِق من أن الله قدَّر لي أن أكون مزارعًا.»

ضحك. وقال: «أتمنَّى لو أعلم ما قدَّره الله لي. يبدو أن قدري أن أكون سياسيًّا.»

قلت: «أوه، أنت! أنت رجل يمتلك عشرين موهبة. أما أنا فأملك موهبة واحدة فقط، ولا أمانع لو دفنتُها تحت الثرى.»

ظللت أتساءل عن المساعدة التي يمكن أن يُقدمها لي. لقد أُعجِبتُ به كثيرًا، ولكني لم أرَ بعد تلك الألمعية التي يتحاكون عنها. إنه رجل لطيف عادي مِثل كثيرين ممَّن أعرفهم، توم جرينسليد آخر. كانت السماء مكفهرة في ذلك اليوم، وأخفى الضوء الصادر عن النار هيئته في الظل، وبينما كنتُ أسترق النظر إليه، اندهشت من شكل رأسه. كانت طريقة تصفيف شعره من الأمام والخلف تجعل رأسه يبدو مُربعًا، ولكني رأيتُ أنه في الحقيقة مُستدير، أكثر رأس رأيتُه في حياتي استدارة فيما عدا رءوس الأفارقة الزنوج. ويبدو أنه كان يُدرك شكل رأسه ولم يكن يُعجبه، فحاول جاهدًا أن يُخفيه.

ظلِلتُ أراقِبه خفيةً أثناء الغداء، ولاحظت أنه يُراقبني خفية أيضًا. كانت عيناه الزرقاوان ودودتَين للغاية، ولكنهما ماكرتان للغاية أيضًا. فجأةً نظر إلى وجهي مباشرةً.

وقال: «لن تستقر. لا تخدع نفسك. لن تستسيغ حياة الريف. ماذا ستختار؟ السياسة؟ التجارة؟ السفر؟ هل أنت ميسور الحال؟»

«نعم. طبقًا لاحتياجاتي البسيطة، أنا ثري جدًّا. ولكني لستُ منعدمَ الطموح.»

«لا. لستَ كذلك.» ثم نظر في عينيَّ مباشرةً. وقال: «إذا لم يكن لدَيك مانع لما سأقوله، أنت لست مغرورًا. يُمكنني اكتشاف المغرورين بسرعة، والغرور صفة لا يمكن إخفاؤها. ولكني أظن — بل أعلم يقينًا — أنه يمكنك أن تعمل بكد، وأن ولاءَك راسخٌ لا يتزعزع. لكنك لن تستطيع مساعدة نفسك يا سير ريتشارد. بل ستعلق في دائرة مفرغة. انظر إليَّ. أقسمتُ منذ عامَين ألا أعلق في مسار مرة أخرى أبدًا، ولكني عالِق في واحد حاليًّا. ما إنجلترا إلا مجموعة من المسارات، والخيار الوحيد أمامك أن تنتقي مسارًا جيدًا.»

قلت: «أظن أن المسار الذي اخترتَه هو السياسة.»

«أظن ذلك. إنه مجال حقير في الوقت الحالي، ولكنه مليء بالاحتمالات. ثمة إعادة إحياء كبرى لحزب المحافظين على وشك الحدوث، وستحتاج إلى مَن يقودها. ستزيد الفئات الجديدة المُنضمَّة للحزب، وخاصةً النساء، من قوَّته بشكلٍ كبير. لم يكن المُنادون بمنح النساء حق التصويت يُدركون القوة المحافظة الهائلة التي يُطلقونها عندما فازوا بالتصويت لصالحهم. أودُّ أن أتحدَّث إليك عن هذه الأمور ذات يوم.»

عدنا في غرفة التدخين للحديث عن الصيد، أخبرَني بقصة لقائه بجرينسليد في آسيا الوسطى. بدأتُ أُدرك أن الرجل يستحق سمعته؛ إذ كانت ثمة براعة غريبة في حديثه، ولم يكن يبذل أي جهدٍ وكأن الأفكار تأتيه بسهولةٍ وكل ما عليه هو التعبير عنها. كنت قد انتويت فتح الموضوع الذي جعلني أسعى للتعرُّف عليه من الأساس، ولكني لم أشعر بأن الوضع مُلائم لذلك. فلم أكن قد تعرفت عليه بما يكفي بعد، وشعرت أني لو بدأت الحديث عن تلك المُعطيات الثلاثة السخيفة، التي لم أكن أملك غيرها، فسيجب عليَّ أن أقصَّ عليه ما حدث وأُفشي له الأمر برمته. رأيتُ أن الوقت لا يزال مبكرًا للغاية على ذلك، خاصةً وأن هذا لن يكون لقاءنا الأخير.

سألني ونحن نفترق: «هل أنت مُتفرغ يوم الخميس؟ أودُّ أن أدعوك لتناول العشاء في نادي الخميس. أنا واثق من أنك تعرف بعضًا من أعضائه، كما أنه مكان رائع للسهر. مُمتاز! يوم الخميس في الثامنة تمامًا. معطف قصير وربطة عنق سوداء.»

بينما كنت أبتعد، أدركت أني عثرت على الرجل الذي سيتمكن من مساعدتي. أعجبني الرجل، وكلما زاد تفكيري فيه، زاد عمق انطباعي عنه بأنه يمتلك قدراتٍ دفينة أكبر بكثيرٍ مما يبدو على مظهره البسيط. كنتُ منبهرًا به للغاية، وكان الدليل على ذلك أنني اتجهتُ من فوري لأقرب مكتبة واشتريت قصيدتَيه المنشورتَين في كتابَين ضئيلَين. كنت أهتمُّ بالشعر بقدْر أكبر بكثير مما تخيل ماكجيليفراي — ويعود الفضل الأكبر في تثقيفي إلى ماري — ولكن لم تنجح تجاربي مع الشعراء الجدد. ولكني فهمت أبيات مِدينا الشعرية بسهولةٍ تامة. فقد كانت بسيطةً للغاية، وتتضمَّن في طياتها نغمة عذبة خفية، كما أنها كانت حزينة للغاية. ومرة تلوَ الأخرى تكررت نغمة الندم والخسران والجَلَد الواهم. أثناء قراءتي لهاتَين القصيدتَين في ذلك المساء، تساءلت، كيف لرجل يملك تلك الشهية الجامحة للحياة، وحباه الله بكل تلك النِّعَم الدنيوية، أن يكون خاويًا لهذه الدرجة في داخله. ربما كان يتظاهر بذلك، ولكن لم يكن أسلوبه يتضمَّن ذلك اليأس المُعتاد للشعراء عديمي الخبرة. كان عملُه يدل على حكمة وخبرة بالحياة تضاهي يوليسيس. لم أرَ أنه قادر على كتابة أي شيءٍ سوى الحقيقة. إن التظاهر نتاج الغرور، وكنتُ على يقينٍ تامٍّ من أن مِدينا ليس مغرورًا.

في صباح اليوم التالي، وجدتُ أن إيقاعات شعره لا تزال تدور في ذهني، ولم أتمكَّن من إبعاد تفكيري عنه. كنتُ مفتونًا به كافتتان رجلٍ بامرأة جميلة. كانت فكرة أنه يُبادلني الإعجاب تُسعدني، فكان ما فعله يتخطى التعارُف العرضي الذي طلبَه جرينسليد. لقد خطط لكي نلتقي مُجددًا، ولم يكن يتحدَّث معي كأحد المعارف، بل كصديق. سرعان ما قررتُ أن أستأذن ماكجيليفراي وأُخبره بالأمر كاملًا. لم يكن من المُفيد لنا أن نترك مثل هذا الرجل على مبعدةٍ منَّا وأن نطلُب منه أن يحل ألغازًا مُبهمة مثل تلك القصيدة العمودية المنشورة في الجريدة. لا بد أن يعرف كل شيء، أو لا شيء على الإطلاق، وكنتُ واثقًا من أنه إذا ما عرف الأمر برمَّته، سيكون خير مُعين لي. وكلما تحدثت إليه أكثر، زادت قناعتي بذكائه الاستثنائي.

تناولت الغداء مع السيد جوليوس فيكتور في كارلتون هاوس تيراس. كان يعيش حياته بصورةٍ طبيعية، وعند لقائنا، لم يتطرَّق إلى الموضوع الذي يربط بيننا. أو بالأحرى قال شيئًا واحدًا. قال: «أنا واثق من أنه يمكنني الاعتماد عليك. أظن أني أخبرتُك بأن ابنتي مخطوبة وسوف تتزوَّج في الربيع القادم. حضر خطيبها من فرنسا وسيُقيم معي لفترة لم يُحددها. على الأرجح لن يستطيع مساعدتك بشيء، ولكنه سيكون تحت إِمرتك متى احتجتَ له. إنه ماركيز لا تور دو بين.»

لم أتبيَّن الاسم جيدًا، وبما أن الجمع كان كبيرًا نسبيًّا؛ فقد جلسنا لتناول الغداء قبل أن أعرف من يكون ذلك المُحب الآتي من مكانٍ بعيد. كان صديقي القديم توربين الذي كان ضابط اتصالات في فرقتي القديمة في الجيش. كنتُ أعرف أنه سليل أسرةٍ نبيلة، ولكن مثلما هو الحال مع جميع من يستخدِمون الأسماء المُستعارة، كنت أعرفه باسم توربين، وأعتقد أن آرتشي رويلانس ابتكر جزءًا من هذا اللقب. كان هناك، جالسًا أمامي، شابٌّ وسيم للغاية شاحب اللون، يرتدي تلك الملابس شديدة الأناقة التي لا تجِدها إلا لدى الفرنسيين الذي يُحضرون ملابسهم معهم إلى إنجلترا. كان متعجرفًا للغاية عندما كنَّا في الجيش، ولم يكن يستطيع التحكم في لسانه، وكان سريع الغضب، ولكن ذلك كان مُمتزجًا دائمًا بتلك الدماثة الحزينة في أسلوبه. رفع عينَيه نصف المُغمضتَين ونظر نحوي، ثم اعتذر لمُضيفه، ودار حول الطاولة وعانقني.

كنت أشعر بأني أحمق، ولكني كنت سعيدًا للغاية برؤية توربين. كان صديقًا عزيزًا عليَّ، وبدت حقيقة أنه بصدد الزواج من الآنسة فيكتور وكأنها تَوافُق بين مهمتي الجديدة وجوانب أخرى من حياتي. ولكني لم أتحدَّث إليه أكثر من ذلك؛ فقد كنتُ مُحاطًا بامرأتَين ثرثارتَين على كلا جانبَيَّ، وخلال الدقائق القليلة التي تركَتا فيها الرجال بمفردهم حول الطاولة، دخلتُ في نقاش مع رجلٍ مُسن إلى يميني، تبين أنه أحد الوزراء. واكتشفتُ ذلك بمحض الصدفة، فلم أكُن مهتمًّا، للأسف، بحكومة بلدي.

سألته عن مِدينا، فتهلَّل وجهه على الفور.

سألني: «هل تُعطيني رأيك فيه؟ لا يُمكنني ذلك. أُحب أن أُصنِّف من أتعرَّف إليهم، ولكنه نوعية جديدة. إنه أنيق وكأنه ديزرائيلي في شبابه، وإنجليزي وكأنه دوق ديفونشاير الراحل. النقطة الأهم هي، هل لدَيه تخطيط، شيء يُريد تحقيقه، وهل يملك القُدرة على ربط حزبٍ باسمه؟ إذا كان يمتلك هاتَين السمتَين، فمستقبله سيكون مبهرًا بلا أدنى شك. أصدُقك القول، أنا لستُ واثقًا من ذلك. إنه يمتلك مواهب عظيمة للغاية، وأعتقد أنه سيكون أحد أهم الخطباء إذا أراد ذلك. إن له تأثيرًا كبيرًا على أعضاء البرلمان أيضًا، ولكنه لا يستغلُّ هذا التأثير عادةً. ولكني لستُ واثقًا من اهتمامه بالسياسة، وإنجلترا، كما تعرف، تتطلَّب الإخلاص التام من رجال حكومتها. ستتبع إنجلترا رجلًا أقل كفاءة دون سؤالٍ لمجرد أنه مُخلص، وترفض الرجل الأعلى كفاءة لأنه ليس كذلك.»

قلتُ شيئًا عن وجهة نظر مِدينا فيما يتعلَّق بأمر إعادة إحياءٍ كبرى لحزب المحافظين، تلعب فيها النساء دورًا حاسمًا. فابتسم الرجل الجالس بجواري.

وقال: «أكاد أجزم أنه مُحق، وأكاد أجزم أنه قادر على توجيه النساء بأي طريقة يريد. فجاذبيته لهن استثنائية. إن ذلك الوجه الوسيم وذلك الصوت الرخيم لقادِران على سلب لبِّ أي أُنثى سواء كانت خادمة أو إحدى مفكرات كامبريدج. وتكمن نصف قوَّتِه في حقيقة أنه لا يُفتَتن بهن. إنه متحفظ مثل السير جالاهاد فيما يتعلق بالجنس. هل سمعتَ من قبلُ اسمَه مقترنًا بأي شابة؟ إنه يلفت نظر النساء أينما ذهب، ولكنه لا يشعر بهنَّ وكأنه طالب مُجتهد في كلية إيتون هدفه الوحيد هو الانضمام إلى فريق الكريكت بها. هل تعرفه؟»

قلت له إن معرفتي به سطحية جدًّا.

«هكذا حالي معه أنا أيضًا. فمعرفتي به سطحية، ولكن لا يمكن للمرء أن يُقاوم سحر هذا الرجل في كل مكان أو أن يهتم به. من حُسن الحظ أنه رجل نزيه. لو كان وغدًا، لتلاعب بمُجتمعنا السهل المنال كما يحلو له.»

تعشيت وساندي تلك الليلة معًا. كان قد عاد من اسكتلندا بمعنويات مرتفعة، لأن صحة والده كانت في تحسُّن، وعندما تكون روح ساندي المعنوية مرتفعة يتصرَّف وكأنه وسط السهول بينما تهب الرياح الجنوبية الغربية. كان لدى كلٍّ منَّا الكثير الذي يود أن يُخبر به الآخر لدرجة أننا نَسينا طعامنا حتى صار باردًا. كان يرغب في سماع آخِر أخبار ماري وبيتر جون، وما أعرفه عن بلنكيرون وعن دزينةٍ من الرفاق القدامى الآخرين، وكنتُ أرغب في سماع مُلخَّص، قصير للغاية، عما فعلَه منذ الهدنة في الشرق. كان ساندي في ذلك الوقت لا يميل إلى التحدُّث عن ماضيه لسببٍ لا أعرفه، ولكنه كان مُتحمسًا للغاية، وكأنه طالِب جامعي، للتحدُّث عن مستقبله. كان ينوي البقاء في الوطن حاليًّا، لفترة طويلة على أية حال، ولم يكن يدري كيف سيشغل وقته. قال: «حياة الريف لا تُناسبني. يجب أن أجد مهنةً وإلا سأتورط في مشاكل.»

اقترحت عليه مجال السياسة، وأعجبَتْه الفكرة.

فقال متأمِّلًا: «قد يُصيبني الملل لو صرتُ عضوًا في البرلمان، ولكني سأحبُّ شد الانتخابات وجذبها. لقد شاركتُ في الانتخابات مرةً واحدة سابقًا، واكتشفتُ موهبتي في تحريك الجماهير، وألقيتُ خطابًا في مدينتنا الصغيرة لا يزالون يتحاكون عنه حتى وقتنا هذا. كان موضوع الخطبة الرئيسي هو الحكم الذاتي في أيرلندا، وفكرتُ أن الخطبة ستكون أفضل لو هاجمتُ بابا الفاتيكان. هل لاحظتَ من قبلُ يا ديك أنَّ وَقْعَ أصوات ألفاظ اللغة الكنسية بغيض للغاية؟ أعرف بعضًا من كلماتها، ولكني لا أعرف معناها، ولكني كنتُ أعرف أن جمهوري لن يعرف معناها أيضًا. ومن ثَم اختتمت الخطبة بشكلٍ رائع. طرحت سؤالًا: «هل ترتضون يا أهل كيلكلافرز أن تُباع ملابس الكهنة في أسواقكم؟ هل ستبيعون بناتكم رشاوى سيمونية؟ هل ستسمحون بمُمارسة التبتُّل في الشوارع العامة؟» يا إلهي، جعلتهم يقفون جميعًا على أطراف أصابع أقدامِهم ويصيحون في صوتٍ واحد «محال».»

فكر أيضًا في العمل التجاري. كان يفكر في شراء شركة طيران مدني، وتسيير رحلات طيران خاصة لنقل الحجاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي إلى مكة. قدَّر متوسط ما يتكلَّفه الحاج الواحد حاليًّا بما لا يقل عن ٣٠ جنيهًا إسترلينيًّا، وكان يعتقد أنه قادر على تقليل هذا المبلغ إلى ١٥ جنيهًا إسترلينيًّا مع تحقيق أرباحٍ جيدة. وفكر أن بلنكيرون قد يهتم بهذه الخطة وقد يشارك في رأس المال.

ولكن في وقتٍ لاحق، بينما كنا جالسَين في أحد أركان غرفة التدخين في الطابق العلوي، ارتسمت الجدِّية على وجه ساندي عندما بدأتُ أقصُّ عليه المهمة التي أوشك على الاضطلاع بها، فلم أكن بحاجةٍ إلى إذنٍ من ماكجيليفراي لكي أُخبره بالأمر. ظل يستمع في صمتٍ بينما كنتُ أسرد عليه الخطوط الرئيسية للمهمة والتي جمعتها من أوراق ماكجيليفراي، ولم يُبدِ أي تعليقٍ عندما بدأت أقصُّ عليه ما حدث مع الرهائن الثلاث. ولكن عندما شرحتُ له سبب عزوفي عن الخروج من حياتي الريفية الهادئة، بدأ يضحك.

وقال: «غريبٌ أن ينتاب أناس مثلَنا شغف مفاجئ بالدعة والراحة. أشعر أنا أيضًا بمثل هذا الشغف يُسيطر عليَّ شيئًا فشيئًا. ما الذي حفزك على الموافقة في نهاية المطاف؟ الصبي الصغير؟»

بدأت أقصُّ عليه ببطءٍ وخجل قصة الأبيات وذاكرة جرينسليد. أثار ذلك اهتمامه بشدة. فقال: «ديك، هذه تحديدًا نوعية الأفكار المحسوسة غير المعقولة التي تراوِدك. استمر. أنا متشوق لسماع القصة.»

ولكن عندما أتيتُ على ذكر مِدينا، صاح بحدة.

«هل التقيتَه؟»

«تناولنا الغداء معًا بالأمس.»

«لم تُخبره بأي شيء، أليس كذلك؟»

«بلى، لم أُخبره. ولكني سأفعل.»

كان ساندي يجلس مُضجعًا في مقعدٍ وثير مُدليًا ساقَيه على أحد جانبيه، ولكنه نهض الآن من جلسته ووقف مسندًا ذراعَيه على رفِّ المدفأة مُحدقًا في النار.

فقلت: «سأقص عليه الأمر بالكامل بعدما أتحدث إلى ماكجيليفراي.»

«هل أنت واثق من موافقة ماكجيليفراي؟»

«ماذا عنك؟ هل التقيتَه من قبل؟»

«لم ألتقِ به من قبل. ولكني سمعت عنه دون شك. لن أُخفي عليك أن أحد الأسباب الرئيسية لعودتي إلى الوطن هي رغبتي في لقاء مِدينا.»

«ستُعجَب به كثيرًا. لم ألتقِ رجلًا مثله من قبل.»

«هذا ما يقوله الجميع.» التفت نحوي ورأيتُ ملامحه مكسوة بتلك الجدية المُخيفة التي تُميز إحدى حالات ساندي المزاجية والتي تكمل حالته اللامبالية المُعتادة. «متى ستلتقِيه مجددًا؟»

«سأتناول الغداء معه بعد غدٍ في مكانٍ يُدعى نادي الخميس.»

«إنه أحد أعضاء ذلك النادي، أليس كذلك؟ وأنا أيضًا. أظنُّ أني أيضًا سأتناول الغداء هناك.»

سألته عن النادي، وأجابني أنه تأسس بعد الحرب على يد أناس يعملون في وظائف غريبة ويرغبون في التجمع معًا. إنه نادٍ صغير مُكون من عشرين عضوًا فحسب. كان من بينهم كولات، وهو أحد مستثمري شركة كيو بوت، وكذلك بيو من المُخابرات الهندية، ودوق برمينستر، والسير آرثر واركليف، والعديد من الجنود المشهورين وغير المشهورين. قال ساندي: «لقد انتخبوني في عام ١٩١٩، ولكن لم أحضُر أي حفل عشاء معهم. أقول لك يا ديك إنه لا بد من أن مِدينا يمتلك جاذبيةً قوية للغاية ليكون عضوًا في نادي الخميس. قد يبدو ما سأقوله تفاخرًا، لكن البعض على استعدادٍ للتضحية بأيديهم اليُمنى في سبيل الانضمام إلى هذا النادي.»

ثم عاد يجلس في مقعدِه وبدا عليه الشرود، واضعًا ذقنه على راحة يده.

وقال: «أظن أن سحره أصابك.»

«صدقت. سأخبرك كيف أراه. يميل الرجل الذكي للغاية إلى الخمول والتَّزمُّت، بينما يميل الرجل الاجتماعي اللطيف إلى أن يكون ضيِّق الأفق. أما مِدينا، فيبدو لي أنه يملك جميع مزايا الصنفَين ولا شيء من عيوبهما. يمكن لأي أحدٍ أن يُلاحظ أنه رجل اجتماعي لطيف، ويُمكنك أن تسأل المُتعجرِفين لتعرف أنهم يضعون ذكاءه في مكانة عالية.»

قال: «يبدو الرجل مثاليًّا بدرجةٍ لا تُصدق.» تبينتُ في نبرة صوته لمحة غيرة. أضاف، والجدية مُرتسِمة على ملامحه: «ديك، أريدك أن تعِدني بأن تتمهل في هذا الأمر؛ أعني إخبار مِدينا بما يحدث.»

سألته. «لماذا؟ هل ثمة ما تعترِض عليه بشأنه؟»

قال: «لا. لا يُوجَد ما أعترض عليه بشأنه. كل ما في الأمر أنه كامل بدرجة لا تُصدَّق، وأود أن أعرف المزيد عنه. لدي صديق يعرفه. لا يحقُّ لي أن أقول ذلك، ولا أملك أي دليلٍ على ما سأقول، ولكني أشعر أن مِدينا قد أساء له.»

«ما اسمه؟» طرحتُ عليه هذا السؤال فأجابني: «لافاتر»، وعندما استفسرت عما حدث له، قال ساندي إنه لا يعرف. فلم يره منذ عامَين.

ضحكت من كل قلبي عندما سمعت ذلك؛ فقد تبينت الأمر برمَّته. كان ساندي يشعر بالغيرة من ذلك الرجل الذي يُفتَتن به الجميع. إنه يريد الاستئثار بأصدقائه القدامى لنفسه. وعندما واجهته بهذه الحقيقة، ابتسم ولم ينكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤