نادي الخميس
التقَينا في غرفة في الطابق الثاني من مطعم صغير في شارع ميرفين، وكانت غرفة أنيقة ألواح سقفها باللون الأبيض، وبها مدفأتان كبيرتان عند طرفَيها. كان في النادي طاهٍ ورئيس خدم، وأكاد أجزم أن هذا العشاء كان أفضل عشاءٍ طُهي في لندن على الإطلاق، بدايةً بطبق بيض طيور الزقزاق المُذهل ونهايةً بالفواكه من مزارع برمينستر. كانت تُوجَد دزينة من الحضور، بمن فيهم أنا، ولم أكن أعرف مَن بين الحضور، بالإضافة إلى مُضيفي بالطبع، إلا برمينستر وساندي. كان كولات حاضرًا، وكذلك بيو، ورجلٌ هَرِم ضئيل الحجم عاد للتوِّ من رحلة لصيد الطيور عند مصب نهر ماكينزي. كما كان من بين الحضور باليسار ييتس، المصرفي، الذي لم يبدُ أنه في الثلاثين من عمره، وكذلك فوليلاف، الرحالة العربي الذي كان بالفعل في الثلاثين من عمره ولكنه يبدو وكأنه في الخمسين. أوليتُ اهتمامًا خاصًّا بالمدعو نايتنجايل، وهو رجل نحيل جاحظ العينين يرتدي نظارة سميكة، كان قد عاد إلى دراسة المخطوطات الإغريقية وزمالته في جامعة كامبريدج بعدما ترأس قبيلة بدوية. كان متواجدًا أيضًا ليثين، المدعي العام، الذي كان جنديًّا في الحرس الملكي عند بداية الحرب، وترقَّى إلى رتبة ضابط أركان الحرب العامة من الدرجة الأولى، وهو رجل متين البنيان ذو وجه شاحب وعينين فضوليتين ثاقبتين للغاية. فكرتُ أن تلك الدزينة من الأشخاص تضم أناسًا متنوعين ذوي عقول ذكية أكثر مما يتضمَّن مجلس النوَّاب في المعتاد.
كان ساندي آخر من وصل، واستقبلَه الجميع بصيحات الفرح. وبدا أن الجميع يرغبون في مُصافحته والربت على كتفِه في حفاوة. كان يعرف الجميع ما عدا مِدينا، وكنتُ متشوقًا لرؤية لقائهما. أجرى برمينستر التعارُف بينهما، وبدا الخجل على وجه ساندي للحظات. قال مِدينا: «كنتُ أتطلَّع إلى هذا اللقاء طوال سنوات»، وبعدما ألقى ساندي نظرةً واحدةً على مِدينا، ابتسم خجلًا وغمغم ببضع كلماتٍ مهذبة.
كان برمينستر هو رئيس التجمُّع في تلك الأمسية، وكان رجلًا سمينًا ضئيلًا ظريفًا، وكان زميلًا لآرتشي رويلانس في القوات الجوية. لم يتطرَّق الحوار الذي بدأنا به حديثنا إلى موضوعاتٍ غير معتادة. فقد بدأ بالحديث عن الخيول وسباقات الحواجز الربيعية، ثم تحوَّلَت دفتُه إلى صيد أسماك السلمون في الربيع؛ فقد عاد أحد الرجال للتوِّ من مدينة هيلمزدايل، وعاد آخر من نهر نافر، وعاد اثنان آخران من نهر تاي. كان من عادات النادي أن يشمل الحوار جميع الحضور، وكان نادرًا أن تتحدَّث مجموعة من الرجال فيما بينها دون الآخرين. كنتُ جالسًا بجوار مِدينا، بينه وبين الدوق، وكان ساندي جالسًا على الجهة المُقابلة من المائدة البيضاوية. لم يتحدَّث كثيرًا، ورأيته أكثر من مرةٍ يُراقب مِدينا.
وأخيرًا، حدث الأمر الحتمي، بدأ سرد الذكريات. أضحكتني القصة التي رواها كولات عن قيادة سلاح البحرية التي لدَيها قناعة بأنَّ سِباع البحر قد تُفيد في اكتشاف الغواصات. فجُمع عددٌ من سِباع البحر ودُرِّبت على السباحة خلف الغواصات التي كانت تُربط الأسماك بها كطُعم، وكانت فكرتهم تتمحور حول أنَّ سِباع البحر ستربط بين رائحة الغواصات والطعام، ومن ثَم تبدأ بمُلاحقة الجسم الغريب. انهارت التجربة برمَّتها بسبب المزاج المتقلِّب لهذه الكائنات. كانت جميع هذه الحيوانات مُدلَّلة وتحمل أسماءً على غرار فلوسي وسيسي، لذا لم تتمكن من إدراك أن ثمة حربًا دائرة، وكانت ترقد على الشاطئ طوال الوقت ولا تُغادره.
كانت تلك القصة هي مجرد البداية، وبحلول وقتِ تناولِ الشراب، أصبح الحوار الدائر يُشبه ما اعتدنا عليه في غُرَف تدخين سُفن حرس الحدود البخارية في شرق أفريقيا، ولكنه كان أفضل بمليون مرة. كان جميع الحضور إما فعلوا أو رأوا أمورًا مُذهلة، وعلاوةً على ذلك، كانوا يملكون الذكاء والمعرفة اللذَين يُمكِّنانهم من تهيئة تجاربهم طبقًا للظروف. لم يكن الحوار الدائر مجرد رواية قصص، بل كان تبادلًا مُمتازًا للأفكار، ذلك الذي يدعم المرء فيه حُجته بذكرى ذاتِ صلة. كنت مُعجبًا بمِدينا بوجهٍ خاص. لم يكن يتحدَّث كثيرًا، ولكنه كان يُدير الحوار، وبدا أن اهتمامه الصادق يوقِظ أفضل ما في الآخرين. لاحظتُ أنه لم يشرب سوى الماء عندما تناولنا الغداء معًا منذ ثلاثة أيام.
أذكر أننا تحدَّثنا عن الأشخاص المفقودين، وعما إذا كانت لا تزال ثمة احتمالية لظهور أيٍّ منهم. حكى لنا ساندي قصةً عن ثلاثة ضباط بريطانيين ظلوا في سجون تركستان منذ صيف عام ١٩١٨، وعادوا إلى أرض الوطن منذ فترة قريبة. التقى ساندي أحدهم في مارسيليا، وكان يظن أنه ربما كان ثمة آخرون لا يزالون عالِقين في تلك الأنحاء. ثم تحدَّث آخَر عن إمكانية أن يتجاهل المرء العالَم لفترة من الزمن ويُفوِّت كل ما يحدث فيه. قلتُ إني التقيت في باربرتون عام ١٩٢٠ مُنقِّبًا أتى من البرتغال، وعندما سألته عن أحواله في ظل الحرب، قال: «أي حرب؟» قال بيو إن رجلًا ظهر في هونج كونج بعدما ظل أسيرًا لدى قراصنة صينيين طوال ثماني سنوات، ولم يعرف شيئًا عن «صراعنا» الذي استمر لأربع سنوات، حتى قال شيئًا عن القيصر الألماني لقائد القارب الذي التقطَه.
ثم سأل ساندي، بصفته الوافد الجديد، عن أخبار أوروبا. أذكر أن ليثين تحدث عن رأيه في الضائقة التي تمرُّ بها فرنسا، وكان باليسار ييتس، الذي كان يُشبه ظهيرًا ربعيًّا في رياضة الرجبي، هو من أطلع ساندي، وأطلعني أنا أيضًا، على موضوع إعادة الإعمار في ألمانيا. كان ساندي غاضبًا للغاية من الاضطرابات التي تحدُث في الشرق الأدنى وسوء إدارة العلاقات مع تركيا. وكانت وجهة نظره هي أننا نبذل قصارى جهدنا لكي نُحول شرقًا مُنقسمًا على نفسه إلى اتحادٍ معادٍ لنا.
فصاح قائلًا: «يا إلهي! كم أبغض أسلوبنا الجديد في السياسة الخارجية. كان الأسلوب الإنجليزي القديم هو اعتبار جميع الدول مجرد أطفال سُذَّج وأننا الناضجون الوحيدون في عالَمٍ من أطفال الروضة. كان يعني ذلك أننا كنا نمتلِك وجهة نظر مُحايدة، وكنا نُطبق العدالة على الجميع بيدٍ من حديد. ولكننا حاليًّا أصبحنا طفلًا من أطفال الروضة نحن أيضًا ودخلنا في مُشاجراتٍ مع الأطفال الآخرين. بدأنا نتحيَّز للعُنف، ونُحابي بعض الدول، وأصبحنا نتعامَل بمبدأ أنك إذا أحببتَ شيئًا فعليك أن تكره شيئًا آخر. هذه السياسة برمَّتها خطأ. أصبحنا أقربَ شبهًا بدول البلقان.»
كنا سنُستدرَج للحديث عن السياسة لولا أن سأله بيو عن رأيه في غاندي. قاده هذا السؤال إلى شرح معنى أن يكون المرء مُتعصبًا، وهو موضوع كان مؤهلًا تمامًا للحديث عنه؛ فقد تعامَل مع أنواع كثيرة من المتعصبين.
«إنه مجنون من الناحية التقنية؛ أي إن عقله منحرف عن اتزانه، وبما أن حياتنا تستقيم بفضل الاتزان، فهو يُعدُّ هدامًا، عتلةً تُعطل تروس الآلة. تنبع قوَّتُه من الجاذبية التي يمتلكها على مَن لا يتمتعون بالاتزان الكامل، وبما أن هؤلاء لا يُشكلون الأغلبية أبدًا، فجاذبيته تظلُّ محدودة. ولكنَّ ثمة نوعًا واحدًا من المُتعصِّبين الذين تنبُع قوتهم من الاتزان، من الاتزان الجنوني. لا يُمكنك أن تقول إن ثمة أمرًا غير طبيعي بشأنه، فهو بأكمله غير طبيعي. إنه متزن مِثلي ومثلك، ولكن، إن جاز التعبير، في عالمٍ رباعي الأبعاد. لا تُوجَد في عقيدة رجلٍ من هذا النوع أي فجوات منطقية. ففي إطار فرضياته الجنونية، يكون عاقلًا تمامًا. مثال ذلك لينين. هذه هي نوعية المُتعصبين الذين أخشاهم.»
سأل ليثين عن الكيفية التي حصل بها مثل هذا الرجل على تأثيره. «يمكنك القول إن جميع مُعتقداته الجنونية تُلاقي صدًى لدى المُعتقدات الجنونية لآخرين.»
قال ساندي في كآبة: «إنه يرُوق للأشخاص الطبيعيِّين، العاقِلين تمامًا. إنه يتحدَّث بالمنطق، وليس بالرؤى؛ إن رؤاه منطقية على أية حال. في الظروف العادية، لن يسمعه أحد، لأن عالَمه، كما أقول دائمًا، مختلفٌ عن عالَمِنا. ولكن إذا ما حلَّت ظروف من المعاناة أو التعاسة الشديدة، حينما يُصاب عقل الإنسان العادي بالقنوط، يُصبح تأثير المتعصِّب العقلاني كبيرًا. وعندما يُلاقي صدًى لدى العاقِلين، ويستجيب العاقِلون له، تندلع الثورات.»
أومأ بيو برأسه وكأنه يوافق على حجَّته. وقال: «لا بد أن يكون ذلك المُتعصب الذي تصفه عبقريًّا.»
«بلا أدنى شك. لحُسن الحظ، العبقرية من هذا النوع نادرة الوجود. ولكن إذا وُجِدت، سيصبح من يمتلكها ساحر العصر الحديث. كان السحرة في الماضي يتلاعبون بعقول الناس باستخدام الرموز الغامضة والكيمياء الأولية، ولم يتمكنوا من تحقيق شيء؛ فالساحر الحقيقي هو من يُؤثِّر بروحِه على أرواح الآخرين. إننا ما زلنا في طور البدء في اكتشاف الزوايا المُظلمة للنفس البشرية. إذا ما ظهر الساحر الحقيقي في العصر الحالي، فلن يهتم بالمخدرات والعقاقير. سيستخدم أساليب أكثر فتكًا بكثير؛ إذ سيفرض الطبيعة العنيفة على ذلك الشيء المُترنِّح الذي يدعوه الناس العقل.»
ثم التفت نحو بيو. وقال: «هل تذكر الرجل الذي اعتدنا على تسميته رام داس خلال الحرب؛ لم أعرف اسمه الحقيقي قَط؟»
قال بيو: «أذكره قليلًا. الرجل الذي كان يعمل لصالحنا في سان فرانسيسكو. كان معتادًا على الحصول على مبالغ كبيرة من المُحرضين ثم يدفعها إلى وزارة المالية البريطانية، ويحصل على عمولة تقلُّ عن عشرة بالمائة.»
صاح برمينستر في إعجاب: «رجل جسور! اعتاد رام داس على التحدُّث معي عن هذا الموضوع. كان حكيمًا كحَيَّةٍ ووفيًّا ككلب، واستشرف الكثير من الأمور التي بدأنا نشهد تحقُّقها مؤخرًا. كان يقول إن الهجوم الأعظم في المُستقبل سيكون نفسيًّا، واعتَقَد أنه يجدُر بالحكومة أن تنشغل بهذا الأمر وأن تُجهز دفاعاتها. يا له من مشهدٍ مبهج؛ كبار المسئولين جميعهم عاكفون على دراسة كتب دراسية صغيرة! ولكن كان ثمة منطقٌ فيما قال. اعتَبَر أنَّ أمضى سلاح في العالَم هو القدرة على الإقناع الجمعي، وكان يرغب في مُجابهته من منبعه عبر الوصول إلى الشخص القادر على الإقناع الجمعي. كان يرى أن كل خطيبٍ مُفوَّه يملك شيئًا مثل شعر شمشون الذي كان مكمَن قوَّته، وإذا ما تمكنَّا من التلاعُب به، يُصبح غير ضار. كان يريدنا أن نستقطب أولئك المبشرين وندعوهم إلى مبنى الحكومة. لعلك تذكر شتاء عام ١٩١٧ عندما كان البلشفيون يُثيرون المشكلات في أفغانستان وكان تأثيرهم يتسرب منها إلى الهند. يعود فضل إيقاف هذه اللعبة إلى رام داس وحِيَله النفسية.»
ثم نظر فجأة عبر الطاولة إلى مِدينا. وقال: «لعلك تعرف تلك الجبهة. هل التقيتَ من قبل بالمرشد الروحي الذي كان يعيش عند قاعدة ممرِّ شانسي وأنت في طريقك إلى كيكاند؟»
هز مِدينا رأسه نفيًا. «لم أسافر إلى تلك الأصقاع من قبل. لِمَ تسأل؟»
بدت خيبة الأمل على ملامح ساندي. وقال: «كان رام داس يتحدث عنه. كنت آمُل أن تكون قد التقيتَه.»
كان نبيذ ماديرا يُوزَّع علينا، وجلسنا صامتين بينما نرتشفه. لا شك في أنه كان نبيذًا رائعًا، ولاحظت متألمًا امتناع مِدينا عن تناوله.
قال برمينستر بصوته المرح: «إنك تفوت نبيذًا رائعًا»، ونظرت المجموعة برمتها ناحية مِدينا للحظات.
فابتسم ورفع كوب الماء الذي أمامه.
ترجم نايتنجايل ما قال. «تعني هذه العبارة أنه يجب أن تمتنع عن الخمر إذا ما رغبتَ في أن تُصبح رجلًا مُهَيمِنًا.»
صاح الجميع اعتراضًا على ما قيل، فرفع مِدينا كوب الماء مرةً أخرى.
وقال: «أنا أمزح فحسب. ليس لدي أي مبدأ أو سياسة خاصة تتعلق بهذا الأمر. كل ما في الأمر أني لا أحب الخمر.»
أظن أن اثنين منا فقط كانا مثقفين، وهما نايتنجايل وساندي. نظرت إلى الأخير وأدهشني التغير في ملامح وجهه. تغيرت ملامح وجهه لتنمَّ عن الاهتمام الشديد. التقت عيناه، اللتان كانتا تحدقان في مِدينا، بعينيَّ فجأة، ولم أرَ فيهما نظرة اهتمام فحسب، بل نظرة قلق أيضًا.
كان برمينستر يدافع باستماته عن باخوس (إله الخمر عند الإغريق)، وشارك الباقون في هذا الدفاع، بينما اتخذ ساندي الموقف العكسي.
وقال: «ثمة الكثير من المعاني في هذه العبارة اللاتينية. ثمة أماكن من العالم يُعد فيها الامتناع التام عن شُرب الخمر فضلًا.» وأردف، مخاطبًا مِدينا: «هل صادفتَ من قبل قبيلة أولاي التي تقع على طريق كاراكورام؟ لا؟ عندما تلتقي في المرة القادمة أحدًا يعمل في الإرشاد السياحي اسأله عنهم، فهم أُناس عجيبون. إنهم مُسلمون، ومن ثَم يجب عليهم الامتناع عن شُرب الخمر تمامًا، ولكنهم لا يتوقَّفون عن شُرب الخمر رغم أنهم أكثر مُجتمع على وجه الأرض يتبع تعاليم رجال الدين. لا يُعدُّ شرب الخمر عادةً منتشرةً بينهم، بل التزام، ولو حضر فالستاف طقوس التاماشا الأسبوعية، كان سيتبع ديانتهم. أما رجال الدين — فالقبيلة يحكمها رجال الدين — فيمتنعون عن شرب الخمر تمامًا. هذه هي ميزتهم وسر قُوَّتهم. وعندما يُعزل أحدُهم يُجبر على شُرب الكثير من الخمر. هذا ما تعنيه عبارتك؛ ماذا كانت؟ «رجلًا مُهيمِنًا».»
من تلك اللحظة، بدأت أشعر أن الأمسية أصبحت أقلَّ بهجةً. كان مِدينا ودودًا كعادته، ولكن بدا وكأن أمرًا قد عكر مزاج ساندي، ومن ثَم أصبح عصبيًّا للغاية. كان من وقتٍ لآخر يعترض على ما يقوله أحد الرجال بحدَّة غير مقبولة، ولكنه كان أغلب الوقت صامتًا، يُدخن غليونه ويرد على أسئلة الرجال المُجاورين له في اقتضاب. حوالي الساعة الحادية عشرة، بدأت أشعر أنه حان وقت الانصراف، وكان مِدينا يرى ذلك أيضًا. طلب منِّي أن أسير معه، فقَبِلتُ طلبه مسرورًا، فلم أكن أشعر أني أريد الخلود إلى الفراش.
بينما كنت أرتدي معطفي، ظهر ساندي. وقال: «ادخل إلى النادي يا ديك. أريد أن أتحدَّث إليك.» كان أسلوبه حازمًا، فنظرتُ له متعجبًا.
وقلت: «معذرةً. لقد وعدت مِدينا بأن أسير معه حتى منزله.»
فقال: «اللعنة على مِدينا! فلتُنفذ طلبي وإلا ستندم.»
لم أكن راضيًا عن أسلوب ساندي، خاصةً أن مِدينا كان يقف على مقربةٍ منَّا ويمكنه سماع ما قاله. فأخبرته ببرودٍ أني لا أنوي تغيير خططي. فاستدار وسار مُبتعدًا، واصطدم ببرمينستر عند عتبة الباب، ولكنه لم يعتذر له. دلك الرجل المُهذب كتفَه آسفًا. وقال ضاحكًا: «لم يعتد عزيزنا ساندي على وضعه الجديد بعد. يبدو أن الخمر قد أذهبت عقله.»
كانت ليلةً صافية مُقمرة من ليالي شهر مارس، وكنت أشعر بالبهجة أثناء سيرنا معًا في شارع بيكاديلي. لعب العَشاء الجيد الذي أكلته والخمر الجيدة التي شربتُها دورًا في هذا المزاج المبتهج، إلى جانب الشعور بالرضا عن تناول العشاء مع صُحبة جيدة، وانضمامي إلى تلك المجموعة من صفوة الرجال. شعرت أن إعجابي بمِدينا يقوى بشدة، وانتابني ذلك الشعور البغيض بالأفضلية الذي ينتاب المرء عندما يرى صديقًا قديمًا يُحبه حبًّا جمًّا يتصرف بطريقةٍ سيئة. كنت أفكر فيما أثار استياء ساندي عندما أثار مِدينا الموضوع.
وقال: «أربوثنوت رجل رائع. كنت أتمنى لقاءَه طوال سنوات، ولقد ارتقى لتوقُّعاتي عنه دون شك. ولكن يبدو أنه قضى فترةً طويلة للغاية في الخارج. إن رجلًا ألمعِيًّا مثلَه سيكون عرضةً لخطر الإصابة بالتخيُّلات إذا لم يكن أصحابُه مِن المُكافِئين له في القدْر. ما قاله الليلة مُثير للاهتمام للغاية، ولكنِّي ظننتُ أنه خيالي إلى حدٍّ ما.»
وافقتُه الرأي، إلا أن انتقاد ساندي، حتى تلميحًا، أيقظ ولائي له. فقلت: «هذا لا يمنع أنهُ حتى أكثر نظرياته مُبالغةً تتضمَّن دائمًا وجهة نظر شديدة. لقد رأيتُه من قبل يُصيب بينما أخطأ جميع الرجال الواعين المثقفين.»
قال: «أنا واثق من ذلك تمامًا. هل تعرفه جيدًا؟»
«تمام المعرفة. لقد ذهبنا إلى أماكن غريبة معًا.»
أثناء عبورنا ميدان بيركلي عادت إليَّ ذكرياتُ هذه الأماكن الغريبة. لطالما كان حي وست إند في لندن يُورثني ذلك الإحساس بمدى صلابة حضارتنا. بدت تلك المباني العظيمة الآمنة المُضاءة المُوصدة النوافذ، على النقيض تمامًا من العالَم الناقص الإضاءة المَحفوف بالمخاطر الذي ارتحلتُ إليه في بعض الأحيان. رأيتُ أن هذه المباني تُشبه ضيعة فوسي، ملاذات للسَّكينة. ولكني شعرت نحوها بشعورٍ مختلف تلك الليلة. كنت أتساءل عما يحدث خلف هذه الأبواب الضخمة. ألا يمكن أن يكون الرعب والغموض مُختفيين خلف هذه الحواجز مِثلما يختفيان داخل الخيام والأحياء الفقيرة؟ قفزَت إلى ذهني فجأةً صورة وجهٍ بدينٍ الْتَوَت ملامحه من فرْط الرُّعب مُختفيًا تحت أغطية فراش.
كنتُ قد تخيلتُ أن مِدينا يسكن بيتًا صغيرًا أو شقة، ولكننا توقَّفنا أمام منزلٍ كبير في شارع هيل.
وقال: «أتودُّ أن تدخل؟ لا يزال الليل في أوله، ولا يزال ثمة وقت لتدخين الغليون.»
لم أكن أشعر برغبة في النوم، فتبعته وهو يفتح مزلاج المدخل الأمامي للمنزل. ثم أضاء الأنوار التي أضاءت بسطة السُّلَّم الأولى دون أن تُنير بقية الردهة. بدا المنزل أنيقًا ومليئًا بالخزانات التي كانت قشرتُها المذهبة تلمع في الضوء الخافت. نزلنا على سُلَّم مفروش بالسجاد، وعندما وصلنا إلى البسطة أطفأ الأنوار السابقة وأضاء أنوارًا أخرى أنارت مجموعةً أخرى من السلالم. شعرت وكأني أصعد إلى ارتفاعٍ شاهق في عالم غريب من الظلال.
علقت قائلًا: «هذا منزل كبير للغاية على رجل أعزب.»
فقال: «أملك الكثير جدًّا من الأشياء، كتبًا ولوحاتٍ وأشياء من هذا القبيل، وأُحبُّ عدم التفريط في أيٍّ منها.»
ثم فتح بابًا وأشار لي أن أدخل غرفةً شاسعة لا بد أنها تحتل كامل مساحة الطابق. كانت الغرفة مُستطيلة الشكل بها كوة عميقة عند كلٍّ من طرفَيها، وكانت جدرانها مُغطاة من أدناها إلى أعلاها بالكتب. كانت الكتب أيضًا مكدَّسة على الطاولات ومُلقاةً على أريكة كبيرة مسطحة سُحبت لتكون أمام المدفأة. لم تكن مكتبة عادية كتلك المكتبات التي تراها في منازل النبلاء التي يشترون كتبها بالجملة من ساحة لبيع الكتب. كانت مجموعة اختارها رجل مُثقف بعناية، وكانت الكتب تحمل مظهر الاستخدام الذي يجعلها الزينة الأكثر ملائمةً للغرفة. كانت الغرفة مضاءة بمصابيح موضوعة على طاولات صغيرة، ووُضِع على مكتبٍ كبيرٍ مصباحُ قراءةٍ يُطلُّ على أكوام من الأوراق والعديد من المجلدات التي لُصقت على أغلفتها قصاصاتٌ من الورق. كانت ورشة إلى جانب كونها مكتبة.
دخل خادم دون أن يستدعِيَه أحد، ووضع صينية مشروبات على طاولة جانبية. كان يرتدي ملابس رؤساء الخدَم المُعتادة، ولكني خمنتُ أنه لا يمتلك خبرة كبيرة في هذا المجال. كان عريض الفكِّ صغير العينَين، وكان شعره مقصوصًا على شكل نصف دائرة حول مؤخرة عنقه، وأخبرتني عضلات كتفَيه وذراعَيه المنتفِخة بالمهنة التي كان يزاولها قبل أن يكون خادمًا. كان هذا الرجل ملاكمًا، ولم يمرَّ وقتٌ طويل على ذلك. تعجبتُ من اختيار مِدينا لخادمه، فلم أكن لأختار هذا المُلاكِم ليكون خادمًا لي.
قال مِدينا: «لن أحتاج إلى أي شيءٍ آخر يا أوديل. يُمكنك أن تذهب لتنام. سأوصل أنا السير ريتشارد إلى الخارج.»
أجلسني مِدينا على مقعدٍ وَثيرٍ طويلٍ وأمسك بمضخَّة الصودا بينما خلطتُ لنفسي شرابًا خفيفًا من الويسكي والصودا. ثم جلس في مُقابلي على الجهة الأخرى من سجادة المدفأة على مقعدٍ طويل عتيق الطراز كان قد سحبَه من خلف طاولة الكتابة. أطفأ الخادم، في طريقه للخارج، جميع الأنوار فيما عدا مصباحًا واحدًا عن يمين مِدينا، وأضاء هذا المصباح وجهه، وصنع البُقعة الوحيدة المُضيئة في الغرفة لأن نار المدفأة كانت قد خفتت. مددتُ ساقَي في راحة، ونفختُ دخان الغليون متسائلًا عما إذا كنتُ سأمتلك الطاقة اللازمة للنهوض والعودة إلى المنزل. كان للرفوف الطويلة القاتمة تأثير غريب عليَّ، حيث تمتدُّ أغلفة الكتب الناعمة المصنوعة من الورق المقوى وجلد الماعز من الخفوت حتى تختفي وسط العتمة. عادت إلى مخيلتي نفس الذكريات التي اجتاحت ذهني في ميدان بيركلي. كنتُ داخل أحد تلك الملاجئ الضخمة، ويا للعجب! كان غامضًا مثل مسارات الغابة. كتب … كتب … كتب قديمة مليئة بمعارف منسية! كنتُ على يقينٍ من أني إذا حصلت على منحةٍ للتنقيب في هذه الصفوف الرائعة، كنتُ سأعثر على أشياء مذهلة.
كنتُ عطشانًا، فتجرعتُ الويسكي والصودا، وكنتُ على وشك إضافة المزيد من الصودا من سيفون الصودا عندما نظرت نحو مِدينا. كان ثمة تعبير مرتسم على وجهه جعلني أُحرك كوبي فبلَّل الخيط الرفيع من السائل كمَّي. ظلت البقعة المُبلَّلة على حالها حتى الصباح التالي.
بدا وجهه منيرًا، بفضل معنوياته العالية مثلما كان بفضل المصباح الذي يُسقِط الضوء عليه. لم تكن عيناه أو أيٌّ من ملامحه هي التي أورثتني هذا الانطباع، فلم أنتبه إلى أي تفاصيل. كان النور الغريب المُنبعِث من وجهه يجعل رأسه يبدو وكأنه مُنفصلٌ عن البيئة المُحيطة، كأنه يطفو في الهواء مثل كوكب في السماء، مُفعمًا بذكاءٍ شديد وقوة.
ليس من السهل كتابة ما حدث على الورق. فلا أتذكر شيئًا مما جرى في الاثنتي عشرة ساعة التالية؛ كل ما أتذكره هو أني كنت أشعر بنعاسٍ شديد، ولا بد من أنه رآني صحبةً مملَّة، وسرعان ما نهضتُ لكي أنصرف. ولكن لم تكن هذه هي القصة الحقيقية؛ كان يجب أن أتذكَّر نية الرجل، ولأن إرادتي كانت مسلوبة، تذكرتُ أمورًا أخرى عنه، تذكرتها بصورةٍ ضبابية كما لو كانت حلم رجل مخمور.
كان رأسه يبدو وكأنه يسبح وسط خطوط باهتة متداخلة. لا بد أنها كانت رفوف الكتب، التي كانت تحتوي في هذا الجزء من الغرفة على إصدارات كتب قديمة. كانت عيناي عالقتَين في بقعتَين بنفسجيتَين من الضوء كانتا مُبهرتَين لدرجة أنهما آلمتا عينَي. حاولتُ أن أُحوِّل بصري بعيدًا عنهما، ولكني لم أنجح في ذلك إلا بإدارة رأسي بالكامل نحو النار الخابية. تطلبت هذه الحركة منِّي جهدًا كبيرًا، فكنتُ أشعر وكأن كل عضلةٍ في جسمي مخدرة بفعل النعاس.
بمجرد أن أبعدت نظري عن الضوء شعرتُ وكأني أستعيد بعضًا من وعيي. شعرت وكأني أُصبتُ بإعياءٍ ما، وانتابني الهلع. بدا أن شغلي الشاغل كان تركيز بصري على الظلال المُتراقِصة في المدفأة، لأني وجدتُ بعض الراحة في الظلمة التي كانت هناك. كنتُ أخشى الضوء البازغ أمامي وكأني طفل يخشى غولًا. فكرتُ أني إن قلتُ شيئًا سأشعر بتحسُّن، ولكن لم يبدُ أنني كنتُ أملك الطاقة الكافية لأنطق ولو بكلمةٍ واحدة. الغريب في الأمر أني لم أكن أشعر بالخوف من مِدينا؛ فلم يكن يبدو أن له يدًا في الأمر؛ كان ذلك الضوء الذي بلا جسد هو ما أخافني.
ثم سمعت صوتًا يتحدَّث، ولكني ظننتُ أنه لم يكن صوت مِدينا.
قال الصوت: «هاناي. هل أنت ريتشارد هاناي؟»
دارت عيناي رغمًا عني، ونظرتُ إلى ذلك الضوء الذي لا يُحتمل الذي يحرق مقلتَي عينَي وروحي. عثرت الآن على صوتي الذي بدا وكأنه يُراوغني، وقلت، وكأنني آلي: «نعم.»
شعرت وكأن وعيي وشعوري ينسلَّان منِّي بسبب تلك النظرة. ولكن شعوري الأساسي بعدَم الراحة كان جسديًّا، السيطرة النارية من الضوء الطافي، من دون وجهٍ أو عينَين، بل هالة آسِرة مقيتة. فكرتُ — إن كان من الممكن أن تدعو أي عملية ذهنية كانت تدور في عقلي تفكيرًا — أنَّني إن تمكنتُ من ربط هذه الهالة بشيءٍ مادي، فربما أشعر بالراحة. وبجهدٍ يائس، بدا أني أُشكِّل كتفَي رجل وظهرَ مقعد. أكرر أنني لم أفكر في مِدينا على الإطلاق لأنه كان قد اختفى تمامًا من عالَمي.
قال الصوت: «أنت ريتشارد هاناي. كرِّر من خلفي: «أنا ريتشارد هاناي».»
خرجَتِ الكلمات من فمي رغمًا عني. كنتُ أصبُّ كامل تركيزي على المعالم المريحة لظهر المقعد التي بدأت تُصبح ضبابية مرةً أخرى.
تحدث الصوت مجددًا.
وقال: «ولكنك لم تكُ شيئًا حتى هذه اللحظة. لم يكن ثمة وجود لريتشارد هاناي من قبل. والآن، بعد أن شَكَّلتك، يُمكنك أن تبدأ حياتك. أنت لا تتذكر شيئًا. لا ماضيَ لدَيك.»
سمعت صوتي يقول: «أنا لا أتذكر شيئًا»، ولكني كنتُ مُدركًا أثناء حديثي أني أكذب، وكان في هذا الإدراك خلاصي.
أخبرني الأطباء الذين يعملون في مجال التنويم المغناطيسي غير مرة أنني أكثر شخصٍ مُقاوم للتنويم المغناطيسي رأوه على الإطلاق. قال لي أحدهم ذات مرة إنني لا أملك تعاطفًا وكأني جبل الطاولة. يتعين عليَّ أن أفترض أن فِطرتي العنيدة قد جابهت ذلك الشيء الذي يُحاول السيطرة عليَّ وصددتُه. كنتُ أشعر بعجزٍ شديد، فلم يكن صوتي مِلكي، وكانت عيناي تحرقانني وتؤلِمانني، ولكني استعدتُ عقلي.
كنتُ أشعر وكأني أُسمِّع درسًا يُمليه عليَّ شخص ما. كنت أقول إنني ريتشارد هاناي الذي جاء من جنوب أفريقيا في زيارته الأولى لإنجلترا. ولا أعرف أحدًا في لندن وليس لديَّ أصدقاء. هل سمعتُ اسم الكولونيل أربوثنوت من قبل؟ لا، لم أسمع به. هل أعرفُ نادي الخميس؟ لا، لا أعرفه. هل سمعتُ بالحرب؟ نعم، ولكني كنتُ في أنجولا أغلب فترتها ولم أشارك فيها. هل أنا ثري؟ نعم، إلى حدٍّ ما، وأموالي مُوزَّعة على عدة مصارف، وأستثمرها في عدة استثمارات. ظللتُ أكرر هذه الكلمات بسلاسة وكأني ببغاء، ولكني كنتُ أعلم طوال الوقت أنني أكذب. كان شيءٌ في أعماقي يُصر على أنني السير ريتشارد هاناي الذي يحمِل رتبة الفارس القائد في نظام الحَمَام، الذي قاد فيلقًا في فرنسا خلال الحرب، وأنني سيد ضيعة فوسي، وزوج ماري، ووالد بيتر جون.
بدأ الصوت يُملي عليَّ أوامر. كان عليَّ أن أفعل كذا وكذا، وكنتُ أكرر الكلمات في إذعان. ولم أعد خائفًا على الإطلاق. كان أحدٌ ما أو شيءٌ ما يحاول التلاعُب بعقلي، ولكني كنتُ بارعًا في هذه اللعبة، على الرغم من أن صوتي بدا وكأنه يَصدُر عن جرامافون غريب، وعلى الرغم من أن أطرافي كانت ضعيفة للغاية. كان أكثر شيءٍ أرغب فيه هو أن يُسمَح لي بالنوم.
أظنُّ أني غفوتُ لبرهة، لأن آخِر ما أذكره عن هذه الجلسة الطويلة الغريبة هو أن ذلك الضوء الذي لا يُحتمَل قد اختفى، وعادت المصابيح العادية التي تُنير الغرفة لتضيء من جديد. كان مِدينا واقفًا بجوار نار المدفأة التي أصبحت رمادًا، وكان رجلٌ آخر يقِف بجواره، رجل نحيل أحدب الظهر ذو وجه رمادي أشيَب. لم يبقَ الرجل الآخر إلا لحظات، ولكنه نظر نحوي عن كثَبٍ وأظن أن مِدينا تحدَّث إليه وضحِك. ثم ساعدَني مِدينا على ارتداء معطفي، ووجَّهني إلى الطابق السُّفلي. كان يُوجَد مصباحان مضيئان في الشارع جعلاني أرغب في أن أرقد على الرصيف وأنام.
***
استيقظت في تمام العاشرة من صباح اليوم التالي في غرفة نومي في النادي، شاعرًا بشعور غريب للغاية. كنتُ أشعر بصداع، وشعرت وكأن عينَيَّ تُسوَّيان على نار بيضاء، وكانت ساقاي تؤلِمانني ولا تقوَيان على حملي وكأني مُصاب بالأنفلونزا. استغرق منِّي إدراك مكان وجودي بضع دقائق، وعندما تساءلتُ عما أوصلَني إلى هذه الحالة، لم أتذكر شيئًا. لم يكن يدور في ذهني إلا فكرة منافية للعقل؛ اسم «الطبيب نيوهوفر» وعنوانه في شارع ويمبول. استنتجتُ بطريقة غامضة أن هذه ذكرى مفيدة لمَن هو في مثل حالتي، ولكني لم أكن أعلَم من أين جاءتني هذه الفكرة.
كانت أحداث الليلة السابقة واضحةً في ذهني تمامًا. لقد تذكرتُ جميع تفاصيل العشاء الذي حضرته في نادي الخميس، وفظاظة ساندي، وسَيري مع مِدينا إلى منزله، وإعجابي بمكتبته العظيمة. كما تذكرتُ أني كنتُ أشعر بالنعاس وفكرت أني ربما أكون قد أشعرته بالملل من صحبتي. ولكني لم أتمكن على الإطلاق من تفسير الحالة السيئة التي كنتُ عليها. لا يمكن أن يكون السبب هو العشاء، أو الخمر، لأنني لم أكن قد شربتُ كثيرًا، كما أنه ليس من السهل أن أثمل على أية حال، ولا يمكن أن يكون السبب هو مشروب الويسكي والصودا الخفيف الذي شربته في منزل مِدينا. نهضتُ بصعوبة ونظرت إلى لِساني في المرآة. لم يكن به شيءٌ غريب، لذا لم يكن يُوجَد خطبٌ ما في جهازي الهضمي.
سوف تُدرك لاحقًا أن القصة التي كتبتُها للتوِّ كانت أجزاؤها تتجمَّع معًا كلما تذكرتُ حدثًا منها، ففي العاشرة من صباح اليوم التالي، لم أكن أذكر منها شيئًا؛ لا شيء سوى ما حدث حتى جلست في مكتبة مِدينا، واسم وعنوان طبيب لم أكن قد سمعت باسمه من قبل. استنتجت أنني قد أُصبت بجرثومة لعينة، ربما بتسمُّم غذائي، وأن حالتي الصحية قد تسوء بشدة. تساءلت في حزنٍ عن التصرُّفات الحمقاء التي أقدمتُ عليها في صحبة مِدينا، وتساءلت بحُزنٍ أكبر عما سيحدث لي. قررتُ أن أُرسل برقية إلى ماري بعدما أكون قد زرت طبيبًا، وأن أدخل دار رعاية في أقرب وقتٍ ممكن. لم أكن قد مرضتُ من قبل في حياتي، سوى مرة واحدة حين أُصبت بالملاريا، وكنت متوترًا كقط.
ولكن بعدما تناولتُ قدحًا من الشاي، شعرت بأني في حالٍ أفضل، ونهضت من الفراش. خفف حمَّام بارد من ألَم رأسي، وتمكنتُ من حلاقة ذقني وارتداء ملابسي. أثناء حلاقة ذقني، لاحظت الأمر الأول الذي أشعرني بالحيرة حيال أحداث الليلة السابقة. كان الخادم القائم على خدمتي قد أخرج محتويات جيوبي ووضعها على طاولة الزينة؛ مفاتيحي، وساعتي، وبضع عملاتٍ فضية، ومحفظتي، وغليوني وجرابًا. أنا مُعتاد على وضع غليوني في علبة جلدية صغيرة، وبما أنني نيِّق للغاية في عاداتي، فكنتُ دائمًا ما أعيد غليوني إلى علبته عندما يفرغ منه التبغ. ولكن العلبة لم تكن موجودة رغم أني أذكر أني وضعتها على الطاولة التي كانت بجواري في غرفة مِدينا، وعلاوةً على ذلك، كان الغليون لا يزال نصف مُمتلئ بتبغ غير محروق. استدعيت الخادم وعرفتُ منه أنه وجد الغليون في جيب سترة السهرة، ولكن من دون علبة. كان واثقًا مما قالَه؛ فقد كان يعرف عاداتي، ودُهِشَ عندما عثر على غليوني غير موضوع بنظامٍ في علبته.
تناولت إفطارًا خفيفًا في غرفة القهوة، وبينما كنت آكل، ظللت أتساءل عما كنتُ أفعله تحديدًا الليلة السابقة. بدأت أتذكَّر بعض التفاصيل الصغيرة الغريبة، وعلى وجه الخصوص، ذكرى عن جهدٍ كبير استنزف قوَّتي بالكامل. هل خُدِّرت؟ لم تكن الخمر التي شربتُها في نادي الخميس هي السبب. هل هو مشروب الويسكي والصودا الذي شربتُه في منزل مِدينا؟
كانت الفكرة جنونية، فعلى أية حال، لا يمكن أن يكون لسانُ رجلٍ تعرض للتخدير نظيفًا في صباح اليوم التالي.
أجريتُ حديثًا مع البواب الليلي؛ فقد اعتقدتُ أن يكون لدَيه شيء يمكن أن يُخبرني به.
سألته: «هل لاحظتَ في أي ساعةٍ عُدتُ ليلة أمس؟»
رد الرجل وقد ارتسمت ابتسامة مُرتابة على وجهه: «لقد عدتَ صباح اليوم يا سير ريتشارد. في حوالي الثالثة والنصف، أو ربما الرابعة إلا عشرين دقيقة.»
صحتُ قائلًا: «فليرحم الربُّ روحي! لم أعرف أن الوقت كان متأخرًا لهذه الدرجة. لقد جلستُ مع صديق نتبادل أطراف الحديث.»
«لا بد أنك كنتَ نائمًا في السيارة يا سير ريتشارد؛ فقد تعين على السائق أن يُوقظك، وكنتَ نعسانًا لدرجة أني ارتأيتُ أنه من الأفضل أن أصحبك إلى الطابق العلوي بنفسي. فليس من السهل العثور على غُرَف النوم في الطابق العلوي.»
سألته. «هل أسقطتُ علبة غليوني؟»
«لا يا سيدي.» أظهر وجه الرجل المُتحفظ أنه يظن أنني قد ثملتُ ولكني لا أريد أن ألقي باللوم على نفسي.
بحلول موعد الغداء، كنت قد جزمتُ بأني لن أمرض، فلم يعُد ثمة أي شيء غريب أشعر به في جسدي فيما عدا بعض التصلُّب في مفاصلي وصداعًا خفيفًا خلف عينَي. ولكن كان عقلي مرتبكًا للغاية. لقد بقيتُ في الغرفة في منزل مِدينا حتى بعد الثالثة صباحًا، ولكني لا أعرف ماذا حدث بعد الحادية عشرة والنصف تقريبًا. وغادرت منزل مِدينا في نهاية المطاف في حالةٍ مُزرية لدرجة أني نسيتُ علبة غليوني، ووصلتُ إلى النادي في سيارة شخصٍ ما — ربما كان مِدينا — وأنا أشعر بنعاسٍ شديد لدرجة أني احتجتُ إلى مَن يُرافقني إلى الطابق العلوي، واستيقظتُ مريضًا للغاية لدرجة أني ظننت أني مُصاب بتسمُّم غذائي. ماذا حدث بحق السماء؟
أظن أن مقاومتي لمن حاول السيطرة على عقلي، مكنَّتني، رغم عجز لساني وأطرافي، من تذكُّر ما كان يريد منِّي نسيانه. وبدأتُ أتذكر لمحاتٍ من هذا المشهد الغريب. تذكرت الضوء المبهر الغريب؛ لم أتذكره بخوف، بل بغضب شديد. تذكرت ذكرى مُبهمة عن تكراري بعض الهراء الذي أملاه عليَّ شخص ما، ولكني لم أتمكَّن من تذكر الكلمات. وكلما زاد تفكيري في الأمر، زاد غضبي. لا بد أن مِدينا مسئول عما حدث، إلا أن ربطه بالأمر بدا سخيفًا بعدما فكرتُ فيما رأيتُه منه. هل كنت عينةً لتجربة علمية يعمل عليها؟ إن كان هذا ما حدث، فلسوف يكون في غاية الوقاحة. لقد فشلت تجربته على أية حال — الأمر الذي أنقذ كبريائي — فقد ظلِلتُ محتفظًا بوعيي خلالها. كان الطبيب مُحقًّا عندما شبَّهني بجبل الطاولة.
فكرت في الأمر مليًّا، وتذكرتُ أمورًا وضَّحَت جوانب كبيرة مما حدث. تذكرتُ فجأة الظروف التي تعرفتُ خلالها على مِدينا. فقد سمع توم جرينسليد منه المُعطَيات الثلاثة التي توافقت مع القصيدة التي كانت مفتاح حلِّ اللغز الذي تعهدتُ بكشفه. حتى هذه اللحظة، لم أرَ هذا الرجل الرائع إلا حليفًا. هل من المُحتمَل أن يكون عدوًّا؟ كان هذا المنعطف عنيفًا للغاية على ذهني بدرجةٍ أعجزته عن التفكير. أقسمتُ لنفسي أن مِدينا رجل شريف، وكان من الجنون التفكير في أن هذا الرجل النبيل المُهذَّب قد يكون متورطًا ولو حتى من بعيدٍ في عالم الإجرام البغيض الذي وصفه لي ماكجيليفراي. ولكن ساندي لم ينخدِع به. شكرت حظي على أني لم أُخبره بأي شيءٍ عن مهمتي. لم أعتقِد حقًّا أن ثمة أي شكوك تدور حوله، ولكني أدركتُ أنه يجدُر بي أن أتصرف بحذرٍ شديد.
ثم خطرت لي فكرةٌ أخرى. لقد تعرضتُ لمحاولة تنويمي مغناطيسيًّا، ولكن المحاولة فشلت. إلا أنه لا بد وأنَّ مَن حاولوا فعل ذلك اعتقدوا من سلوكي أنهم نجحوا. إذا كان الأمر كذلك، فسوف يتصرَّفون بناءً على هذا التصوُّر بشكلٍ ما وفي مكانٍ ما. ومهمتي هي أن أُشجعهم على الإقدام على هذا الفعل. كنتُ واثقًا من نفسي للغاية حتى أُفكر في ذلك، والآن، بعدما تم تحذيري، لم تكن تجارب تنويم مغناطيسي أخرى لتؤثِّر بي. ولكن دعهم يكشفون عن نواياهم، ودعني أتظاهر بأني عجينة لدِنة طيِّعة بين أيديهم بلا حول ولا قوة. كان يجب أن أعرف «مَن» يكونون.
كنت أرغب بشدة في لقاء ساندي والتحدُّث عن الأمر، ولكني اتصلتُ هاتفيًّا بالعديد من الأماكن التي قد يتواجَد فيها، ولكني لم أتمكَّن من العثور عليه. ثم قررتُ أن أذهب إلى الطبيب نيوهوفر؛ فقد كنتُ واثقًا من أن هذا الاسم انغرس في ذهني خلال أحداث الليلة الماضية. فاتصلتُ بالطبيب وحددت موعدًا للقائه عصر ذلك اليوم، وكنت في تمام الرابعة أسير في شارع ويمبول.