الفصل السادس

المنزل في جوسبِل أوك

كان عصر يومٍ جافٍّ من أيام شهر مارس، وكانت تهبُّ تلك الرياح الرائعة التي تبدو وكأنها تُغير اتجاهها كل ساعة، وتحاول أن تهب في وجوه الناس من جميع الأنحاء. كان التراب يدور في القنوات، ورائحة الزنابق وزهور النرجس المُتسللة من متاجر الزهور تختلِط بتلك الرائحة الكئيبة المُملة التي تنذر بوصول الربيع إلى لندن. أثناء عبوري شارع أوكسفورد، أذكر أنني كنتُ أفكر في المهمة الغريبة العديمة الجدوى التي ورَّطتُ نفسي فيها. ولم أرَ مخرجًا منها سوى الاستمرار لأرى ما ستئول إليه الأمور. كنت في طريقي للقاء طبيب لا أعرف عنه شيئًا، بشأن عِلَّةٍ لا أعلم إن كنت مُصابًا بها أم لا. لم أُكلف نفسي حتى عناء وضع خطة، وكنتُ سعيدًا بترك الظروف تُرشدني.

كان المنزل أحد تلك المباني الجامدة الكئيبة التي تحمِل مداخلها الأمامية أسماء نصف دزينة من الأطباء. ولكن على المدخل الأمامي لهذا المبنى، لم يكن يوجَد إلا اسم الطبيب إم نيوهوفر فقط. أدخلتني موظفة الاستقبال إلى غرفة الانتظار الكئيبة المُعتادة المزدانة بنقوش لشعار الأكاديمية الملكية، والمفروشة بأثاثٍ مصنوعٍ من خشب السنديان المدخَّن، وغُطيَت جدرانها بمجموعة متنوعة من ورق حائط عتيق يحمل صورًا، وعادت على الفور تقريبًا وأشارت لي بدخول غرفة الفحص. كانت هذه الغرفة أيضًا من النوع المعتاد في عيادات الأطباء؛ مكتبات ذات واجهات زجاجية، وحوض لغسيل الأيدي في أحد أركانها، ومكتب ذو غطاء منزلق، وطاولة تحمل عددًا من دورية طبية وبعض الصناديق الجلدية. وبدا الطبيب نيوهوفر للوهلة الأولى طبيبًا عاديًّا. كان في مُقتبل العمر، عظمتَا وَجْنتَيه بارزتان، وجبهته عريضة، وشعره أشقر كثيف مُصفَّف في خطوط مُستقيمة للخلف. كان يضع نظارةً أنفيةً، عندما خلعها ظهرت عيناه الزرقاوان الفاتحتان الثاقبتان. استنبطتُ من مظهره أن والِدَه هو من أطلق على نفسه اسم نيوهوفر.

استقبلني بطريقةٍ بدت لي على الفور متعاليةً وديكتاتورية. تساءلتُ عما إذا كان من الشخصيات البارزة في مِهنته؛ شخصًا لا بد أني سمعتُ به. قال: «حسنًا يا سيد هاناي، ماذا يُمكنني أن أفعل من أجلك؟» لاحظتُ أنه يدعوني بلقب «سيد»، رغم أنني كنتُ قد أبلغتُ مَن حادثته هاتفيًّا وكذلك موظفة الاستقبال بأن اسمي «السير ريتشارد.» خطر لي أنه ربما يكون شخصٌ ما قد تحدَّث معه عني، وربما لم يتذكَّر اسمي بالشكل الصحيح.

فكرتُ أنه من الأفضل أن أوضِّح الأعراض المُقلقة التي أشعر بها منذ استيقاظي هذا الصباح.

فقلت: «لا أعرف ماذا أصابني. أشعر بألَمٍ خلف مقلتَي عينَي، وذهني مشوش تمامًا. أشعر بنعاس وخمول، وأشعر بأن ساقَيَّ لا تقوَيان على حَملي وبأن ظهري ضعيف وكأني أُصبت للتو ﺑ «الأنفلونزا».»

أجلسني واستمر في طرح الأسئلة عن صحتي. قلت إن صحتي جيدة، ولكني ذكرت له إصابتي بالملاريا في الماضي، ومرات إصابتي العديدة بارتجاج في المخ، وتظاهرت بأني قلِق للغاية على حالتي الصحية. ثم بدأ يُمارس حِيَله الكثيرة؛ سماع نبضات قلبي باستخدام سماعة الصدر، وقياس ضغط دمي، وضربي بقوة أسفل رُكبتي ليرى ردَّة فعلي. كان يجب أن أؤدي دوري جيدًا، ولكن، وبلا شك، كادت ردة فعلي على بعض الأسئلة أن تكون مُبالغًا فيها وربما أزعجته. ظل طوال الوقت محتفظًا بذلك السلوك الغريب الودِّي المُتسلِّط، العدواني إلى حدٍّ ما.

جعلني أستلقي على أريكةٍ بينما كان يفحص عضلاتِ رقبتي وكتفي بأصابعه وبدا وكأنه يُدلك رأسي بيدَيه الباردتَين. كنت أشعر في تلك اللحظة بأني على خير ما يُرام، ولكني تمكنتُ من التظاهر بالضعف في أكثر من عضو من أعضائي، وبالكثير من الاضطرابات الذهنية المُقلِقة. تساءلت عما إذا كان بدأ يشعر بالشك، لأنه سألني فجأة: «هل تنتابُك هذه الأعراض منذ فترة طويلة؟» فقررتُ أنه من الأفضل قول الحقيقة، فقلت له: «منذ هذا الصباح فقط.»

سمح لي أخيرًا بالنهوض، وخلع نظارته التي تُشبه صَدفة السلحفاة التي كان يرتديها وارتدى نظارته الأنفية، وبينما كنتُ أزرِّر ياقتي، بدا عليه التفكير العميق. أجلسني في مقعد المرضى، ووقف أمامي ينظر إليَّ من فوقي بطريقةٍ مُستبدة جعلتني أرغب في الضحك.

وقال: «أنت تُعاني من نوعٍ غير طبيعي من أعراض شائعة. إن تأثير الارتجاج الدماغي يظهر عادةً بعد بضعة أيام من حدوثه، لذا فنتائج التوتر العصبي قد تتطلَّب وقتًا طويلًا لتظهر. لا شك لدي في أنه على الرغم من صحتك الجيدة، أنك قد عرضت ذهنك وجسدك خلال السنوات الأخيرة لضغطٍ كبير، وظهرت نتائج ذلك فجأة هذا الصباح. لا أريد أن أُخيفك يا سيد هاناي، ولكن الاضطراب العصبي مرضٌ غامضٌ للغاية، ويجب أن نتعامَل معه بجدية، خاصة عند ظهوره للمرة الأولى. ثمة بضع نقاط في حالتك لا أشعر بالرضا عنها. على سبيل المثال، هناك احتقان — أو ما يبدو لي أنه احتقان — في مراكز الأعصاب في الرقبة والرأس. قد يحدُث ذلك بسبب حوادث — ارتجاج في المخ وما شابَهَه — مثل تلك التي أخبرتني عنها، أو ربما لا تكون هي السبب. لا شك في أن العلاج سيتطلَّب وقتًا، لذا فإن الراحة وتغيير الجو أمران إلزامِيَّان. هل تهوى الصيد؟ هل تصطاد السمك؟»

أخبرته أني أفعل.

«حسنًا إذن، سأصف لك بعد قليلٍ قضاء بعض الوقت عند نهرٍ لصيد أسماك السلمون في النرويج. كان للابتعاد عن الحياة المُعتادة وتأمُّل جريان المياه السريع نتائج مبهرة مع بعضٍ من مرضاي. ولكنك لن تتمكن من الذهاب إلى النرويج حتى شهر مايو، وخلال هذه الفترة، سأكتب لك علاجًا محددًا. نعم. أعني التدليك، ولكنه ليس تدليكًا عاديًّا. هذا العلم لا زال يخطو خطواته الأولى، ولا يزال مُمارِسوه يتحسَّسون طريقهم. ولكننا من وقتٍ لآخر نعثر على شخصٍ ما، رجل أو امرأة، يملك موهبةً خاصةً في فك وتسوية التشوُّهات العضلية والعصبية. وسأرسلك إلى أحدِهم. قد يُدهشك العنوان، ولكنك رجل خبير بالعالَم بما يكفي لتُدرك أن المهارات الطبية ليست قاصرة على المنطقة ما بين شارعَي أوكسفورد وماريليبون.» وخلع نظارته وابتسم. ثم دَوَّن شيئًا على قصاصة من الورق وسلَّمها لي. قرأتُ على الورقة: «مدام بريدا، ٤ ميدان بالميرا، الحي الشمالي الغربي.»

قلت. «حسنًا! أنا مدين لك بالكثير. أتمنَّى لو تمكنَتْ مدام بريدا من علاج هذا الصداع الرهيب. متى يُمكنني زيارتها؟»

«أؤكد لك أنها ستُعالج الصداع. إنها سيدة سويدية تعيش في لندن منذ انتهاء الحرب، وهي تعتز بفنِّها للغاية لدرجة أنها لا تستقبل إلا مريضًا واحدًا من وقتٍ لآخر. إنها تُقدم خدماتها في أغلب الأحيان للأطفال في المستشفيات دون مقابل. ولكنها لن ترفض لي طلبًا. بادئ ذي بدء، لن أُضيِّع أي وقتٍ من أجل أن تستعيد راحتك في أقرب وقتٍ ممكن. ماذا عن صباح الغد؟»

«لِمَ لا أذهب الليلة؟ لا تُوجَد لديَّ أي التزامات، وأريد أن أتخلص من هذا الصداع قبل موعد النوم. لِمَ لا أذهب لرؤيتها الآن؟»

«لا يُوجَد ما يمنعك من ذلك. ولكن يجب أن أُحدد معها موعدًا. سأتصل بها هاتفيًّا. اعذرني للحظة.»

غادر الغرفة وعاد بعد بضع دقائق وأخبرني أنه حدد معها موعدًا في تمام السابعة. «إنه مكان غير مألوف الذهاب إليه، ولكن أغلب سائقي سيارات الأجرة يعرفونه. وإذا لم يعرف السائق الذي ستركب معه المكان، فأخبره بأن يذهب إلى جوسبل أوك، وهناك سيرشدك أي شرطي إلى المكان.»

كنت أحمل دفتر شيكاتي معي، ولكنه رفض الحصول على أتعابه قائلًا إن علاجي لم ينتهِ بعد. ويجب أن أعود له بعد أسبوع لأُطلِعه على ما أحرزت من تقدم. بعدما انصرفت، ظل يُلازمني انطباع عن الرجل بأنه بارد مثل حية، ذو عينَين شاحبتَين جاحظتَين، وعظمتا وجنتيه بارزتان تشبهان الرسوم الكاريكاتورية عن الاسكتلنديين. كان الطبيب نيوهوفر شخصية غريبة ولكن مُثيرة للإعجاب. لم يبدُ غبيًّا، ولو لم أكن أعرف يقينًا مدى براعتي في التظاهر، لكنت شعرت بالقلق من تنبؤاته عن حالتي الصحية.

سرتُ في شارع أوكسفورد وشربت الشاي في صالةٍ للشاي. أثناء جلوسي بين عمَّال الآلات الكاتبة الذين يتبادلون أطراف الحديث والنُّدُل، ظللت أتساءل عما إذا كنتُ لم أكن أضيع وقتي وأتصرف بحماقة. ها أنا ذا، في أتمِّ صحةٍ وكأني صياد، أستشير الأطباء وأزور خبيرة تدليك مجهولة في شمال لندن، كل هذا دون هدفٍ واضح. منذ أقل من أربعٍ وعشرين ساعة، كنتُ قد وقعت بين براثن عالَمٍ مجنون، وانتابني للحظات شكٌّ رهيب عما إذا لم يكن الجنون داخل عقلي أنا. هل أثر شيءٌ ما على عقلي ليلة أمس في تلك الغرفة في منزل مِدينا، وأصبحت حاليًّا ما يصِفُه الناس بأنه «مختل»؟ راجعتُ تسلسل الأحداث مُجددًا، وشعرت بالاطمئنان عندما تذكرتُ أنني تمكنتُ من الحفاظ على وعيي رغم كل ما مررتُ به. لم أصل إلى مرحلة وضع نظريات؛ فقد كنتُ لا أزال أنتظر تطوُّر الأحداث، ولم أتمكَّن من رؤية أي سبيلٍ آخر أمامي. لا بد، بالطبع، أن ألتقِي بساندي، ولكن دعوني أرَ أولًا ما سينتُج عن موضوع التدليك هذا. ربما لم يكن ثمة ما يريب في الأمر؛ ربما أكون قد تذكرت اسم الطبيب نيوهوفر عبر إحدى حيل الذاكرة — ربما سمعتُه من أحد الأصدقاء — وربما كان هذا الطبيب المُثير للاهتمام نزيهًا. لكني تذكرت طريقة تعامل الرجل معي؛ كنت واثقًا من أنه يعرف شيئًا عني، وكأن شخصًا أخبره أنني سأزوره. ثم فكرت أنني مُتهور بذهابي إلى منزلٍ مجهول في ضاحية قذِرة. فدخلت على الفور إلى كابينة هاتف عمومي، واتصلت بالنادي، وقلت للناطور إذا ما اتصل الكولونيل أربوثنوت أن يُخبره أني في ٤ ميدان بالميرا، الحي الشمالي الغربي — وجعلته يُدوِّن العنوان — وأني قد أعود إلى النادي قبل العاشرة.

كنت بحاجةٍ إلى التريض، فقررتُ أن أسير، فلم يزل أمامي مُتسع من الوقت. الغريب في الأمر أن الطريق كانت تُشبه كثيرًا تلك الطريق التي سلكتُها في أحد أيام شهر يونيو عام ١٩١٤ عندما كنتُ أنتظر بوليفانت وجماعة بلاك ستون، وظللتُ أسير خارجًا من لندن لتمضية الوقت.١ وتذكرت أني كنتُ حينئذٍ مُتحمسًا للغاية بسبب توقعاتي الجامحة، ولكني كنتُ حاليًّا رجلًا أكبر سنًّا وحكمةً، وعلى الرغم من أني كنتُ متحيرًا للغاية؛ فقد تمكنت من كبح ارتباكي بالفلسفة. توجَّهتُ نحو بورتلاند بلايس، وعبرت مُتنزَّه ريجينت، حتى أصبحَت منازل الأثرياء خلفي، ووصلتُ إلى ذلك الحزام من الحواري الضيقة التي تُميز منطقة المرتفعات الشمالية. أرشدَني العديد من رجال الشرطة إلى وجهتي، واستمتعتُ بالنزهة سيرًا على الأقدام كما لو كنتُ أستكشف المكان، فلطالما كانت لندن تُمثل لي بلدًا غير مُستكشف. مررتُ بساحات كانت منذ فترة قصيرة قِطَعًا من حديقة تجارية، وشرفات، بعضها فخم، وأصبحتُ الآن وسط الأحياء الفقيرة؛ فلندن مثل دغل استوائي، إذا لم تبقَ يقظًا باستمرار، ستجد نفسك في الغابة، في الأحياء الفقيرة في هذه الحالة. كانت الشوارع مكتظةً بموظَّفِين وبائعات متاجر في انتظار الحافلات، وعمال من مصانع حي سانت بانكراس ومنطقة كليركينويل في طريقهم إلى منازلهم. كانت الريح تشتد مثيرة أتربة مزعجة في الأزقة غير النظيفة، ولكن كلما ارتفعت الأرض، زادت نظافة بفعل الريح التي تحمِل عبق حقول كِنت وبحر الشمال ونضارة الربيع المُنعشة. توقفت قليلًا ونظرتُ إلى ما خلف السهل المُضاء الذي يُدعى لندن مرتجفًا في الضوء الأزرق الداكن للغسَق العاصف.

خيَّم الظلام، بعد العديد من المحاولات الفاشلة، عندما وصلتُ أخيرًا إلى ميدان بالميرا. كان ميدانًا اسمًا فحسب؛ إذ كان يشغل أحد جانبَيه مخزنٌ قبيح الشكل، وتكدست على جانبه الآخر مجموعات من منازل صغيرة مبنية بالقرميد. وكان جانب آخَر عبارة عن شرفات منازل أنيقة، حديثة إلى حدٍّ ما، لكلٍّ منها نافذة قوسية وتحمل أسماءً على غرار «شاتسوورث» و«فيلا كيتشنر». كان للجانب الرابع، الذي يُطلُّ جنوبًا، طابع خاص فيما مضى، ولا شك في أن البَنَّاء الذي صمَّم المكان منذ سبعين عامًا ظن أنه يبني مُجمعًا سكنيًّا جذابًا. فعلى ذلك الجانب، كانت تُوجَد مساحات فارغة تفصل بين المنازل، كلٌّ منها عبارة عن حديقة كانت فيما مضى مرجًا أخضر وزهورًا. أما الآن، فكانت هذه الحدائق مجرد ساحات مُتربة مليئة بعلب الصفيح وقصاصات الورق، ولم يُنبئ بماضيها المُبهج سوى شجرة دردار ميتة وحيدة، وسياج نباتي أعجف من نبات الحناء، وبعض أشجار البنفسج القزمة. عُلقت على أحد هذه المنازل يافطة نُحاسية تحمل اسم طبيب، وعلى منزل آخر يافطة أخرى تحمِل اسم مُعلم موسيقى، والعديد من اليافطات التي تُعلن عن منازل للإيجار، كانت سلالم المنازل مُتَّسخة، وبواباتها مائلة، وكان المظهر العام يبدو وكأنه يقصُّ قصةً حزينة لأرستقراطي رثِّ الثياب يُوشك على السقوط في القذارة.

كان المنزل رقم ٤ أفضل حالًا من بقية المنازل، وكان بابه قد دُهن حديثًا بلونٍ أخضر زاهٍ. دققتُ جرس الباب الكهربي، ففتحَته خادمةٌ بدت مُحترمة للغاية. عندما دخلت المنزل، رأيتُ أنه أكثر اتساعًا مما تخيلت، وأنه كان، ولا شك، منزل مواطن ميسور الحال. لم تكن الردهة تُشبه تلك الردهات التي تُشبه الصهاريج التي تُميز منازل لندن الصغيرة، كما أن الغرفة التي أدخلتْني الخادمة إليها كانت مفروشةً بأناقة، رغم صِغر مساحتها، وكانت نار كهربية تستعرُّ في الموقد. بدت غرفةً لاستقبال الزبائن؛ فقد كانت تحتوي على هاتف، وخزنة كبيرة، وتناثر على الرفوف صف من صناديق مُصنفة أبجديًّا تحتوي على أوراق. بدأت أظن أن مدام بريدا، أيًّا كانت، لا بدَّ وأنها تدير عملًا مُزدهرًا بمقاييس الأعمال العادية.

قادتني الخادمة بعد قليلٍ إلى غرفةٍ على الجانب الآخر من الردهة، حيث استقبلتني سيدةٌ مُبتسمة. كانت المدام امرأةً بدينةً في أوائل الأربعينيات من عمرها، ذات شعرٍ داكن، سمراء، تتحدَّث الإنجليزية بلسان أهلها. قالت لي: «أنت من أرسلَه الطبيب نيوهوفر. أليس كذلك؟ لقد أنبأني بقدومك. هلَّا تكرَّمتَ ودخلت هناك وخلعت معطفك وصدريتك؟ وياقتك أيضًا، من فضلك.»

فعلتُ ما طُلب مني، وفي حُجيرة محجوبة بالستائر، خلعتُ هذه الملابس ولم يتبقَّ إلا كُمَّي قميصي. كانت الغرفة مُبهجة للغاية، عند أحد طرفيها باب قابل للطي، ومفروشة بأثاث غُرف الاستقبال العادية، مزهريات وكتب، ومطبوعات بدت لي أنها من القرن الثامن عشر. تلقت أي شكوك راودتني، بشأن حُسن نوايا هذه المرأة، صفعةً قوية. ارتدَتِ المدام فوق فستانها الأسود زيًّا كتانيًّا أبيض غطَّاه بالكامل، مثل أزياء الجراحين، وكانت مساعِدتها فتاة صغيرة الحجم نحيلة غريبة الشكل ارتدت زيًّا مماثلًا، ووضعت فوق شعرها القصير قبعةً صغيرةً بيضاء.

قالت المدام: «هذه جيردا. جيردا مساعِدتي. إنها ماهرة للغاية.» ابتسمَت لجيردا وابتسمت لها جيردا بدَورها، ابتسامةً كانت انبعاجًا صغيرًا غريبًا في وجه خالٍ من التعبيرات.

جعلتني المدام أرقُد على أريكة. «هل تشعر بصداع؟»

قلت لها كاذبًا أن نعم.

«سأُعالجه سريعًا. ولكن، هل تشكو من شيءٍ آخر؟ هل هذا صحيح؟ يجب أن أستكشف ذلك. ولكني سأريحك من الألَم أولًا.»

شعرت بأصابعها الخفيفة القوية تعبث بصدغَيَّ وقاعدة جُمجمتي وعضلات عنقي. كان إحساسًا مُبهجًا، وكنت موقنًا من أني لو كنتُ أشعر بأقوى صداع في العالم، لكان اختفى. ولأني كنتُ في أتمِّ صحة، شعرتُ بالهدوء والانتعاش.

قالت وهي تبتسِم: «قل لي. هل تشعر بأنك في حالٍ أفضل؟ أنت ضخم للغاية وليس من السهل أن يُصبح سائر جسدك بخير على الفور. لذا، يجدُر بي أن أهتم بأشياء أكثر صعوبة. أعصابك ليست بخير، على الإطلاق. آه! هذه الأعصاب! إننا لا نعرف ماذا تكون، كل ما نعرفه عنها هو أنها ما يمكن أن تطلِق عليه اسم الشيطان. أنت يقظ تمامًا الآن. ألست كذلك؟ حسنًا، لا بد أن أجعلك تنام. هذا أمر ضروري، إذا سمحت بذلك.»

أجبتها: «حسنًا»، ولكني كنتُ أقول في ذهني: «لا أيتها المرأة، أراهن أنك لن تستطيعي.» كان ينتابني الفضول لأرى إن كنتُ قادرًا على مقاومة أي محاولة لتنويمي مغناطيسيًّا، وكنت أعتقد أنني قادر بالفعل على ذلك، بعدما أصبحتُ مُدركًا لما يحدُث.

تصورتُ أنها ستُحاول أن تسيطر عليَّ بعينَيها اللتَين كانتا كُرتَين مميزتين دون شك. ولكن كانت الطريقة التي اتبعتُها على النقيض تمامًا من ذلك؛ فقد أحضرت الفتاة الصغيرة شيئًا على صينية، ورأيت أنها ضمادات. كان أول ما فعلته هو أن عصبت عينَي بمنديل قطني، ثم ربطت فوقه منديلًا آخر من قماش ثقيل غير شفاف. لم يكن المنديلان مربوطين بإحكام؛ فقد كنت بالكاد أشعر بوجودهما، ولكنهما حجبا الرؤية عني تمامًا. لاحظت أنها راعت ضبطهما جيدًا بحيث لا يُغطِّيان أذنَي.

سمعتُ صوتها يقول: «أنت لستَ يقظًا، أظن أنك تشعر بالنعاس. ستنام الآن.»

شعرت بأنامِلها تمر على وجهي، وكان الشعور هذه المرة مختلفًا، فعندما كانت تعالج صداعي، شعرتُ من أناملها بوخزٍ مُحبب ومنعش على جلدي، أما الآن، فبدا وكأنها ترسِل موجات مُتماثلة متتالية من الخمول المُحبَّب. ضغطَت على جبهتي، وبدا وكأن حواسي جميعها قد تركزت في هذا المكان ثم هدأَت بفضل هذا الضغط. ظلَّت طوال تلك العملية تهدل بصوتٍ أشبه بصوت أمواج البحر الهادئة. لو كنتُ أريد النوم، لنمتُ على الفور بكل سهولة، ولكني لم أكن أريد النوم، ولم أواجِه أي صعوباتٍ في مقاومة هذا الإجبار اللطيف. أظن أن هذه هي حالتي الدائمة عندما أتعرَّض للتنويم المغناطيسي. لا يمكن إخضاعي لشيء، ولن يؤثر فيَّ التنويم المغناطيسي رغمًا عن إرادتي. على أية حال، كنتُ أستمتِع بلُطف العملية، ولكني كنت أتجاهلها. ولكن كان يجب أن أتظاهر بأني مريض مُطيع، فتظاهرتُ بأني استسلمتُ للنوم. تنفَّستُ ببطءٍ وهدوء، وأرخيتُ جسدي تمامًا.

بعد قليل بدت وكأنها قد اكتفت بذلك. قالت شيئًا للطفلة التي سمعتُ وقع قدمَيها وهي تقطع الغرفة. سمعتُ صوت انفتاح أبواب؛ لعلك تذكُر أن أذنَي لم تكونا مُغطَّاتَين بالضمَّادات وأن سمعي حاد، وشعرتُ وكأن الأريكة التي أرقد عليها بدأت تتحرك ببطء. شعرتُ بالقلق للحظة وكدت أكشف تظاهري برمَّته برفع رأسي. بدت الأريكة وكأنها تتحرك بسلاسة على قضبان، وأدركت أني عبرت الباب القابل للطي وأصبحتُ في غرفةٍ أخرى. ثم توقفت الأريكة عن الحركة، وأدركتُ أنني أصبحتُ في جوٍّ مختلفٍ تمامًا. وأدركتُ أيضًا أن ثمة شخصًا آخر قد انضمَّ إلى المشهد.

لم يقُل أحدٌ أي شيء، ولكن انتابني شعورٌ غريبٌ لا يمكن تفسيره لا يعتمد على الرؤية أو السمع بأن ثمة حضورًا بشريًّا. قلتُ سابقًا إن جو المكان كان قد تغير. كان الهواء مُعبقًا برائحة لو كنتُ شممتُها في أي مكان آخر لأقسمت أنها رائحة دخان ناتج عن احتراق بقايا نباتية، وكانت الرائحة ممزوجة برائحة أخرى لم أتبيَّنها، ولكن بدت وكأنها ليست ضمن أيٍّ من الروائح التي قد تشمُّها في لندن، أو أي منطقة سكنية، بل في البراري. ثم شعرتُ بأنامل خفيفة تضغط على صدغَيَّ.

لم تكن أنامل مدام بريدا الماهرة المُكتنزة. لا، بل كانت أنامل رفيعة ورقيقة في خفة النسيم، ولكن خلف هذه الخفة كانت تكمن لمحةٌ من الصلابة، وكأنها قادرة على الخنق مثلما هي قادرة على التمليس. كنت مُستلقيًا على ظهري محاوِلًا أن أحافظ على انتظام أنفاسي، فمِن المُفترَض أني نائم، ولكني شعرتُ بانفعال غريب يتزايد في صدري. ثم هدأ هذا الانفعال كما لو أن تلك الأنامل قد هدأته. تحدَّث صوتٌ بلغةٍ لم أفهم منها كلمة واحدة، ولم يكن الحديث موجهًا لي، ولكنه كان يُكرر الكلمات كما لو كان يُردِّد تعويذة. امتزج التمليس والصوت معًا وكادا يُفقدانني وعيي بدرجةٍ تفوق ما حدث في الليلة السابقة، بل تفوق ما حدث لي خلال حياتي بأكملها.

كانت التجربة جديدة جدًّا عليَّ، وكانت من القوة بمكانٍ لدرجة لم أتمكن من تكوين انطباع ولو بسيط عنها. دعوني أَصُغ الأمر كالآتي. رجل في مثل عمري أصبحَتِ الشيخوخة على مرمى حجرٍ منه، وكلما اقترب أكثر من نهاية رحلة حياته، زاد تَوقه لشبابه الآخِذ في الانحسار. لا أعني أنه قد يعود إلى عمر الطفولة، إذا ما منحته جِنِّية ما هذه الهبة، فقِلة منا فقط مَن سيختارون العودة إلى هذه السن، بل أقول إنه يُغلِّف شبابه بالكامل بهالةٍ من السعادة ويتُوق إلى ذلك المنظور النقي الفضولي الذي كان ينظر به للحياة حينئذ. ويُخزِّن في ذاكرته، كفتاةٍ حالمة، جميع الأصوات والروائح وتفاصيل المشاهد التي لا تقطع صِلته بهذه الفترة من حياته بالكامل. بينما كنتُ أرقد معصوب العينَين على تلك الأريكة، شعرت بأيادي وأصواتٍ تحاول خلع حاجز السنوات نيابةً عنِّي وتُحطمه. كنت أهرب إلى بلدٍ مبهجٍ، بلد الشباب، وكنت سعيدًا بهذا الهروب. لقد خضعتُ للتنويم المغناطيسي، ولا شك في أني كنت أتحرك مثل خروف يتجه إلى حيث يريد راعيه أن يكون.

ولكني كنتُ واعيًا، وعلى الرغم من أني كنتُ على شفا الاستسلام؛ فقد تمكنتُ من المقاومة والتغلُّب على التأثير. ربما كان التأثير واضحًا تمامًا لذاتي الواعية ما أثار فيها مقاومةً خافتة. كنتُ على أية حال قد بدأت بالفعل مقاومة واعية عندما بدأ الصوتُ الذي يُردِّد التعويذة في التحدُّث بالإنجليزية.

قال: «أنت ريتشارد هاناي. كنت نائمًا ولكني أيقظتك. هل أنت سعيد في العالم الذي صحوتَ فيه؟»

كنت في هذه اللحظة قد استعدتُ حُريتي كاملةً، وبدأت أضحك في صمتٍ في أعماقي. تذكرتُ الليلة السابقة، والأحداث التي وقعت في منزل مِدينا والتي ظلَّت تتَّضح في ذاكرتي شيئًا فشيئًا على مدار اليوم. رأيتُ ما حدث كمسرحية هزلية، ورأيتُ ما يحدث كمسرحية هزلية، وفي حضور الفكاهة، انكسر السحر. ولكن كان الأمر يعود لي لأُقرر إذا ما كنت أرغب في استمرار الخدعة، فبذلتُ أقصى ما في وسعي لكي أُخرج من بين شفتَي صوتًا غريبًا يدل على أني أغط في نومٍ عميق.

قلت بصوتٍ أشبه بصوت الأشباح التي تتَّشح بالملايات: «أنا سعيد.»

«هل ترغب في الاستيقاظ كثيرًا في هذا العالم دائمًا؟»

أصدرت صوتًا يعني أنني أرغب في ذلك.

«ولكن لكي تستيقظ، عليك أن تنام أولًا، وأنا الوحيد الذي يُمكنه تنويمك وإيقاظك. وهناك ثمن لذلك يا ريتشارد هاناي. هل ستدفع لي الثمن؟»

حيَّرني الصوت. فلم يكن يحمل تلك اللكنة الأجنبية التي تتحدث بها مدام بريدا، ولكنه كان يحمل لكنةً مميزة للغاية، ولكني لم أتمكن من تحديدها. بدا للحظةٍ أنه يحمل إيقاع لكنة منطقة روس الغربية، ولكنه في الوقت نفسه يحتوي على إيقاعات لا تنتمي لمنطقة هايلاند. كما أن نبرة الصوت كانت غريبة؛ كانت حادة ومرتفعة، وكأنه صوت طفل. هل من المُحتمَل أن تكون تلك الطفلة الصغيرة الغريبة التي رأيتها هي العرافة؟ قررتُ أن لا، فلم تكن اليدان يدَي طفلة.

قلت: «سأدفع الثمن»، فقد بدا أن هذه هي الإجابة المطلوبة مني.

«ستكون إذن خادمي عندما أستدعيك. والآن، عُد إلى النوم.»

لم أشعر بأني خادم أي أحدٍ على الإطلاق. داعبَت اليدان صدغَيَّ مرةً أخرى، ولكن لم يزد تأثيرها عليَّ عن تأثير ذبابتَين مُزعجتَين. كنت أقاوم رغبة جامحة في الضحك، فكبتُّها عبر التفكير في مدى غباء وانعدام جدوى أفعالي الحالية. شعرتُ بالأريكة التي أرقد عليها تنزلق إلى الخلف، وسمعت الباب القابل للطي ينفتح وينغلِق. مجددًا. ثم شعرت بالضمادات تُزال من على عينَي، ورقدتُ مكاني والضوء يسقط على جفنَي المُغمضَين، محاولًا أن أبدو وكأني تمثال مقاتل نائم فوق تابوت ما. كان ثمة شخص ما يضغط أسفل أذنَي اليسرى، وتذكرتُ طريقة الصيادين القديمة في إيقاظ شخصٍ ما برفقٍ من النوم، فبدأتُ أتظاهر بالإفاقة من النوم. آمُل أن أكون قد نجحت. على أية حال، لا بدَّ أني بدوتُ مشوشًا بالقدر الكافي؛ فقد أبهرَت المصابيح عينَي بعد أن ظلَّتا لفترةٍ طويلة في الظلام.

كنتُ قد عدتُ إلى الغرفة الأولى، ولم يكن معي أحد سوى المدام. ابتسمَت لي بودٍّ بادٍ في عينَيها، وساعدتني على ارتداء معطفي وياقتي. وقالت: «لقد وضعتُك تحت ملاحظةٍ دقيقة، فعادةً ما يكشف النوم عن أماكن النهايات العصبية المُتضرِّرة. وتوصلتُ إلى استنتاجاتٍ مُعينة سأبلغ الطبيب نيوهوفر بها. لا، لا أتعاب. سيتولى الطبيب نيوهوفر الأمر.» وَدَّعَتني بطريقةٍ مهنية ممتازة، وهبطتُ الدرج خارجًا إلى ميدان بالميرا كما لو كنت قد قضيتُ ساعةً عاديةً في تلقي تدليكٍ لعلاج آلام ظهري.

بمجرد خروجي إلى الهواء الطلق، شعرتُ بتعبٍ وجوعٍ شديدَين. لحُسن الحظ، لم أسِر طويلًا قبل أن أركب سيارة أجرة أخبر سائقها بأن يتَّجه إلى النادي. نظرتُ إلى ساعتي ورأيتُ أن الوقت متأخرٌ أكثر مما تخيلت؛ فقد اقتربت الساعة من العاشرة. كنتُ قد قضيت عدة ساعات في المنزل، ولا عجب في أني كنتُ مُرهقًا.

وجدتُ ساندي يذرع الردهة جيئةً وذهابًا في قلق. وقال عندما رآني: «حمدًا لله! أين كنتَ يا ديك؟ لقد أعطاني البواب عنوانًا غريبًا في شمال لندن. يبدو أنك في حاجة إلى شراب.»

قلت: «أشعر أني في حاجة إلى طعام. لديَّ الكثير لأُخبرك به، ولكن يجب أن آكل أولًا. لم أتناول عشائي بعد.»

جلس ساندي أمامي بينما كنتُ أتناول الطعام، كابحًا رغبته في أن يسألني عما حدث.

سألته. «ما الذي سبب لك هذا المزاج السيِّئ ليلة أمس؟»

بدت عليه الكآبة. وقال: «الرب وحدَه يعلم. لا، هذه ليست الحقيقة، أعلم السبب جيدًا. لم أرتح إلى مِدينا.»

«وما السبب في ذلك؟»

«لا أعرف. ولكني مثل الكلب: لا يُعجبني أشخاص مُعينون منذ لقائنا الأول، والغريب في الأمر أن حدسي لا يخطئ.»

«حسنًا، أؤكد لك أن هذا رأيك وحدك. ما الذي جعلك تنفر منه؟ إنه رجل مهذب ومتواضع وصياد ماهر، ويمكنك أن ترى أنه ماهر بالفعل كما يُشاع عنه.»

«ربما. ولكني أشعر بأن هذا الرجل أُكذوبةٌ كبيرة. ومع ذلك، لنتَّفق على ألا أتسرَّع في الحكم عليه. ثمة الكثير من الأمور التي يجب التحقق منها.»

وجدنا غرفة التدخين الخلفية الصغيرة في الطابق الأول خالية، وعندما أشعلتُ غليوني وجلست مُستريحًا في مقعد وثير، جذب ساندي مقعدًا مماثلًا بجواري تمامًا. وقال: «والآن، أخبرني بما حدث يا ديك.»

قلت: «بادئ ذي بدء، قد يُهمك أن تعرف أن مِدينا يمارس التنويم المغناطيسي.»

فقال: «كنت أعرف ذلك، استنبطتُه من حديثه ليلة أمس.»

«كيف بحق السماء …؟»

«من اقتباسٍ عادي استخدمه. إنها قصة طويلة سأُخبرك بها لاحقًا. استمر.»

بدأتُ بافتراقنا بعد عشاء نادي الخميس وأخبرته بكل ما أمكنني تذكره من الساعات التي قضيتها في منزل مِدينا. تمكنتُ من قص القصة بنجاح مُبهر. كان ساندي مهتمًّا لدرجة أنه لم يتمكن من الجلوس في مقعده، فاضطر إلى النهوض والوقوف على سجادة المدفأة أمامي. أخبرته أنني استيقظتُ بعد ذلك وأنا أشعر باعتلالٍ غير طبيعي، وأني لا أتذكر شيئًا عن الأمر سوى عنوان طبيب ما في شارع ويمبول، وأني بدأت أتذكَّر ما حدث تدريجيًّا على مدار اليوم. بدأ يسألني وكأنه محامي استجواب.

«ضوء مُبهر؛ أحد أدوات التنويم المغناطيسي العادية. وجه، بدا منفصلًا عن بقية الجسد؛ هذا أمر شائع في السحر الهندي. تقول إنك كنتَ تشعر أنك نائم، ولكنك كنتَ واعيًا إلى حدٍّ ما أيضًا، وكنتَ قادرًا على سماع الأسئلة والإجابة عليها، وكنت تشعر بنوعٍ من المقاومة طوال الوقت جعلتك تنجو من هذا الموقف العصيب. ربما نجوتَ من أقوى محاولةٍ للتنويم المغناطيسي في العالَم يا ديك، وعليك أن تشكر الرب على ذلك. والآن، ماذا كان السؤال؟ إجبارك على نسيان ماضيك وأن تبدأ حياتك كإنسانٍ جديد خاضع لسلطة سيدٍ ما. ووافقتَ على ذلك، مع تحفظات شخصية لا يعلم عنها المُنوم المغناطيسي شيئًا. لو لم تتمكَّن من الاحتفاظ بوعيك والتمسُّك بتلك التحفظات، ما كنتَ ستتذكَّر أي شيءٍ مما حدث ليلة أمس، وكانت إرادتك ستصبح مقيدةً بقيدٍ غير واعٍ. ولكنك لا تزال على حالِك، حرٌّ تمامًا؛ ولكن الرجل الذي حاول التلاعُب بك لا يعرف ذلك. لذا، يجدُر بك أن تبدأ أنت التلاعُب به. أنت تعرف وضعك جيدًا، ولكنه لا يعرف وضعه.»

«في ظنك ما الذي أراده مِدينا من فعلته تلك؟ كان تصرفًا في غاية الوقاحة منه على أية حال. ولكن، هل كان مِدينا بالفعل؟ أظن أني أتذكر وجود رجلٍ آخر في الغرفة قبل أن أنصرف.»

«صفه لي.»

«لا أملك إلا صورةً مشوشةً عنه؛ رجل ذو وجهٍ شاحب حزين.»

«حسنًا، لنفترض حاليًّا أن من حاول تنويمك مغناطيسيًّا كان مِدينا. تذكر أن ما يُحاول فعله هو محو كل ما يتذكَّره رجلٌ عن حياته الماضية، وجعله يبدأ كمشرَّد في عالمٍ جديد. سمعتُ في الشرق عن مثل هذه الأمور، ولا شك في أن مَن فقدَ ذاكرته يكون تحت رحمة الشخص الذي أفقدَه إيَّاها. وربما ليس هذا هو المقصود في حالتك. إنهم يريدون فقط أن يُوجِدوا تحكمًا في عقلك الباطن. ولكن لا يمكن أن يحدُث هذا على الفور مع شخصٍ يمتلك تاريخًا مثل تاريخك، فنظموا عملية اتَّبَعوها. غرسوا في ذاكرتك أثناء غفوتك اسم طبيب، وكانت المرحلة التالية هي عمله. صحوتَ من نومك وأنت تشعر بتعب شديد وعقلك يذكر عنوان طبيب، وفكروا في أنك قد تظن أن ثمة مَن اقترح عليك هذا الطبيب، وسترسم في ذهنك مسارًا كاملًا لكيفية سماعك به. ولعلك تذكر أنهم يفترضون أنك لا تذكُر أي شيءٍ آخر مما حدث تلك الليلة. والآن، أخبرني عن هذا الطبيب الجراح. هل التقيتَ به؟»

واصلتُ سرد القصة، وعندما وصلتُ إلى جزء شارع ويمبول، انفجر ساندي ضاحكًا لفترةٍ طويلة وبصوتٍ عالٍ.

وقال: «نقطة أخرى لصالِحك. تقول إنك تظن أن ثمة مَن أخبر الطبيب بقدومك وأن هذا الشخص ليس أنت؟ بالمناسبة، كان حديثه منطقيًّا للغاية، ولكني ما كنتُ لأعتمد عليك في المهام التي تحتاج إلى صلابة الأعصاب.» ثم دوَّن عنوان الطبيب نيوهوفر في مفكرته. وقال: «استمر. أظن أنك ذهبت بعد ذلك إلى المنزل رقم ٤ في ميدان بالميرا.»

خلال الجزء التالي من قصتي، لم يضحك ساندي. وأكاد أجزم أنني قصصتُ عليه هذا الجزء أفضل مما كتبتُه هنا؛ فقد كانت التجربة التي مررتُ بها لا تزال حاضرة في ذهني حينئذ، ورأيتُ أنه انبهر للغاية مما حدث.

«خبيرة تدليك سويدية، وفتاة صغيرة غريبة المظهر. جعلتك تنام، أو ظنَّت أنها فعلت، ثم كاد شخص آخر أن يسيطر عليك بينما كانت عيناك معصوبتَين. يبدو أن لهذا الأمر علاقة بالسحر. أرى تشابهًا في الإطار العام لما حدث، ولكنه سحر قوي، ولم أكن أعرف أنه يُمارَس في هذه البلاد. ديك، إن الأمر يزداد تشويقًا. وظللت يقظًا رغم كل هذا؛ إنك وحش عجوز، ولكنك أعطيتَهم انطباعًا بأنك طوع أمرِهم تمامًا. هذا جيد؛ لقد تقدمت عليهم حتى الآن بثلاث نقاط.»

«حسنًا، ولكن ما اللعبة التي يُمارسونها؟ أنا مُتحير للغاية.»

«وأنا أيضًا، ولكن يجب أن أفكر في بعض الفرضيات. لنفترِض أن مِدينا مسئول عما حدث. ربما كان يُحاول فقط أن يقيس مدى قوته، واختارك أنت لأنك أصعب عينة أمكنه العثور عليها. وعليك أن تتيقَّن من أنه يعرف كل شيءٍ عن تاريخك. ربما كانت تجربة يُجريها على إنسان من دون هدف معين.»

قلت: «في كلتا الحالتَين، سيتلقى مني لكمةً في رأسه.»

«في كلتا الحالتَين، كما قلت للتو، ستتمكن من الاستمتاع بأن يتلقى منك لكمةً في رأسه. ولكن لنفترِض أنه يُضمِر هدفًا أكثر عمقًا، أمرًا شريرًا ولعينًا بحق. إذا ما تمكن، باستخدام قُدرته على التنويم مغناطيسيًّا، من أن يُحوِّلك إلى أداة في يده، فتخيل القوة التي ستُصبح ملك يمينه. رجل في مثل قدرتك وقوتك. لعلك تذكر أني قلتُ لك مرارًا وتكرارًا إنك تمتلك موهبةً فطرية لأن تكون مجرمًا.»

«أؤكد لك يا ساندي أن كل هذا محض هراء. من المُستحيل أن يُضمِر مِدينا شرًّا … مُستحيل.»

«ربما كان غير مُحتمَل، ولكنه ليس مستحيلًا. نحن لا نترك شيئًا للصدفة. وإذا كان محتالًا، ففكر في مقدار القوة التي يمتلكها مع كل مواهبه وجاذبيته وشعبيته.»

ألقى ساندي بجسده على أحد المقاعد، وبدا وكأنه يتأمل. وكسر مرةً أو مرتين الصمت الذي خيَّم على الغرفة.

«أريد أن أعرف ماذا كان يقصد الطبيب نيوهوفر عندما تحدث عن نهرٍ لصيد أسماك السلمون في النرويج. لِمَ لمْ يتحدث عن لعب الجولف في نورث بيرويك، على سبيل المثال؟»

وفي المرة الثانية، قال: «هل قلتَ إنك شممتَ رائحةً تُشبه البقايا النباتية في الغرفة؟ بقايا نباتية! هل أنت واثق من ذلك؟»

نهض أخيرًا. وقال: «أظن أني سأذهب غدًا لألقي نظرة على المنطقة المحيطة بذلك المنزل في جوسبل أوك. بالمناسبة، جوسبل أوك اسم غريب، أليس كذلك؟ قلتَ إن المكان مُضاء بإنارة كهربية. سأزورهم متظاهرًا بأني عامل في شركة الكهرباء يرغب في قراءة عداد الكهرباء. أوه، من السهل تنفيذ هذه الخطة. سيُبلغهم ماكجيليفراي بخبرِ ذهابي إليهم.»

جعلني ذكر ماكجيليفراي أنتبِه. فقلت: «اسمع، إنني أُضيِّع وقتي الثمين. لقد تواصلتُ مع مِدينا لكي أطلب مُساعدته، والآن تورطتُ في عددٍ من التجارب المُنافية للعقل التي لا صلةَ لها بمُهمتي. يجب أن ألتقي ماكجيليفراي غدًا لنتحدَّث بشأن مساعدة ذلك النبيل الريفي من شروبشاير. في الوقت الحالي، لا شيء مريب في أمر مِدينا.»

«فليذهب النبيل الريفي من شروبشاير إلى الجحيم! أنت غبي مُسن يا ديك. في الوقت الحالي، كل شيءٍ في أمر مِدينا مُريب. كنتَ تريد عونه. لماذا؟ لأنه المرحلة التالية في الدليل الذي يؤدي إلى حلِّ لُغز تلك القصيدة السخيفة. حسنًا، لقد اكتشفتَ بنفسك أن ثمة أمورًا مُريبةً بشأنه. لا يمكنك الحصول على عونه، ولكنك قد تحصل على شيءٍ أهم. يُمكنك التوصل إلى السر نفسه. بدلًا من محاولة التنقيب في ذاكرته، مثلما فعلتَ مع جرينسليد، ربما تجده أمرًا بارزًا في حياته.»

سألته متحيرًا. «هل تعتقد ذلك حقًّا؟»

«لا أعتقد أي شيء بعد. ولكنه أكثر مسار واعد في نظري. إنه يظن، أنه بفضل ما حدث ليلة أمس، وما حدث منذ ساعتَين، أنك أصبحتَ تحت سيطرته، مساعد، وربما أداة. ربما كان الأمر برمَّته تم بِنيَّةٍ حسنة، أو ربما بِنِيَّة سيئة للغاية. عليك أن تكتشف ذلك. يجب أن تظل قريبًا منه، وأن تُغذي أوهامه، وأن تُجاريَه بكل ما أوتيتَ من قوة. وسيكشف عن نواياه لا محالة. لستُ بحاجة لأن تُقدِم على أي فعلٍ من جانبك. سيمنحك الأفضلية من تلقاء نفسه.»

لا يُمكنني الجزم بأن هذه الفكرة أعجبتني، فلم أكن أُحب التظاهر، ولكن يجب أن أُقِرَّ بأن فكرة ساندي كانت منطقية. سألته عما سيفعله؛ فقد كنتُ أعتمد على مساندته أكثر مما يسعني أن أُفصِح.

قال: «أظن أني سأعود إلى الترحال. أودُّ أن أستكمِل دراساتي في المكتبة الوطنية الفرنسية.»

«ولكني كنتُ أظن أنك ستشاركني في المهمة.»

«أنا أشاركك فيها بالفعل. سأسافر إلى الخارج من أجل مهمَّتك، كما سأوضح لك يومًا ما. كما أني أرغب في مقابلة الرجل الذي اعتدْنا على أن نُطلق عليه اسم رام داس. أعتقد أنه متواجد في ميونخ حاليًّا. ستقرأ في جريدة التايمز بعد غد أن الكولونيل سَيِّدَ عائلة كلانرويدن قد غادر البلاد لأجَل غير مسمى ليهتمَّ بأمرٍ شخصي.»

صِحتُ قائلًا: «ما الفترة التي ستغيبها؟»

«ربما أسبوع، أو أسبوعَين، أو أكثر. وعندما أعود، ربما لن أعود في هيئة ساندي أربوثنوت.»

١  انظر رواية «درجات السلم التسع والثلاثون».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤