النظر في الفضائل بالتفصيل
(١) الإحسان
المراد بالإحسان ميلُ الإنسان إلى أن يفعل للناس خيرًا، أو يظن بهم خيرًا، وهو في حقيقة معناه مراعاة مسرات الآخرين ومساءاتهم والإحسان عند النفعيين هو المبدأ الوحيدُ الذي يجبُ أن يكون له أثرٌ في كل فِعْلٍ من أفعال الإنسان.
- (١)
الإحسان إلى الأقارب: كالرحمة البنوية والتعلُّق بالعائلة، وأمثال ذلك.
- (٢)
الإحسان إلى الجوار الذي نعيش فيه الذي يسمى «بالروح العامة» وغير ذلك.
- (٣)
الإحسان إلى الوطن: كالقومية وحُب الوطن.
- (٤) الإحسان إلى الإنسانية: كعطف الإنسان على البشر وحُبه لهم، وقد يظهر ويزاول حيث العلاقة اختيارية مثل:
- (أ)
إحسان الإنسان في معاملاته بمُراعاة الشرف في الوفاء بالديون وغير ذلك.
- (ب)
الإحسان إلى المجتمع بالتأدُّب والتكريم، ومعنى هذين الإحسان في صغائر الأُمُور.
- (جـ)
الإحسان إلى الدين والحزب، بالإخلاص لهما «وهو روح التحزُّب» ولكنه يشمل خلتي الأناة والتسامح مع من يخالفون في الرأي، فعلى المعلم أن يحث الأطفال على أَنْ يتعاملوا بالشفقة والحلم والمراعاة وحسن اللقاء والكرم، وأن يكونوا رقاق الحواشي ومؤدبين في معاملة الناس طرًّا بصرف النظر عن اختلاف طبقاتهم وأحوالهم، وعليه أن يقضي على خِلَال الجشع والأثرة والخشونة بكل ما لديه من قوة.
- (أ)
نعم إن الإحسان لا ينفذه قانون، ولكنه ملزم على كل حال إلزامًا أدبيًّا؛ ولذلك يجبُ أن يعلم التلاميذُ أنه كالعدل والصدق سواء بسواء.
وقال لوق: «علِّم الطفل الحب وطيب الخلق في طفولته؛ تجعل منه رجلًا كاملًا في رجولته واعلمْ أَنَّ الظلم ينشأُ من تطرُّف المرء في حب نفسه وتقصيره في حب غيره.»
وقال روسو: «إن مزاولة الفضائل الاجتماعية تغرس حُبَّ الإنسانية في أعماق القلوب، وما تكون طيبًا حتى تعمل طيبًا. تلك حقائقُ لا شك فيها؛ لذلك يجب أن يعلم الأطفال ويحثوا على مقاسمة الإخوان ضراءهم وينصرفوا عن المزح والأضاحيك التي قد تمس كرامة الغير حتى ولو كانت في ذاتها غير مؤذية ويقلعوا أيضًا عن المشاحنات والمغاضبات والمظالمات.»
إن اعتياد الأطفال تعذيب الحيوانات وقتلها وذبحها يولد القسوةَ في قلوبهم حتى على إخوانهم. وأولئك الذين يجدون في تعذيب المخلوقات الدنيا وإبادتها لذةً لأنفسهم ومسرة هم أبعدُ الناس عن تمثل خلة الرأفة بالناس والترفُّق على العباد.
ولأجل غرس الرأفة في القلوب يقول كانون دانيل بوجوب عناية المدرسة بإعطاء التلاميذ دروسًا في تراكيب أجسام الحيوانات، وطُرُق معالجتها ولا سيما ما كان منها أليفًا كالبقر والغنم والكلاب والقطاط وهلم جرًّا، وليعلم المعلم أن في زمان أفراخ الطير فرصة لإعطاء التلاميذ دروسًا خاصة في حُب الإنسانية، وكذلك الأمر قبيل الشتاء. وليذكر المعلم أيضًا أن دروس المشاهدة والملاحظة العرضية خيرٌ من دروسٍ تُتلى في الفضيلة الأدبية. فلا يَفُتْه أن ينتفع بالأولى عند سنوحها ولا يفته أيضًا أن يستثير لها كُلَّ عال من البواعث وسامٍ من الدواعي؛ فإن حق الحيوان الأعجم علينا كحق الإنسان، وكلاهما من حق الله.
(٢) الشجاعة
كلمة الشجاعة في الأصل يُراد بها استعدادُ الشخص ورضاه بتحمُّل الآلام الجسمانية أو المخاطر.
وقد كان يظن فيما مضى أن القلب مستقرُّ الشجاعة حتى أثبت العلمُ غير ذلك، ولكن لا يزال يجري على الألسنة ما يُفيد الرأي القديم، فيقال فلانٌ شجاعُ القلب قوي الجنان، وغير ذلك.
أما وقد سارت المدنية بالعلم شوطًا بعيدًا فلم تَعُد الحاجة إلى القوة البدنية كبيرةً، بل أصبح اللفظُ يطلق للدلالة على معنًى أشمل وأوسع، فيُقال — مثلًا: فلانٌ شجاعُ الرأي؛ أي أن له من الشجاعة ما ينطق به عن آرائه بالرغم مما يجرُّهُ عليه من أذًى، ومعنى ذلك أن لفظة الشجاعة لم تصبح تدل على خلة التأهُّب والرضى بالآلام والمخاطر فحسب، بل آلام الفؤاد أيضًا. ثم هي تشملُ صفة استعداد المرء لأنْ يعمل عملًا صالحًا حقًّا وأن يخضع لأحكام القانون الأدبي، بصرف النظر عن مغبة ذلك.
فاللفظُ يشمل الصبار والتجلُّد، وهما في رأي لوق تملُّك الإنسان نفسه وهو هادئ وقيامُهُ بواجبه غير مروَّع، بالرغم مما قد يترتَّب على عمله من الشر، وبالرغم مما قد يعرض له من المخاطر بسببه.
قلنا إن الشجاعة في رأي أرسطو هي وسطٌ بين الجُبن والتهور؛ إذ إن فَقْدَ الشجاعة يُفضي إلى الجُبن وهو الخوفُ مِنْ أمرٍ لا ينبغي أن نخاف منه، وفرطُ الشجاعة يدفع إلى التهوُّر أو الطيش وهو الإقدامُ على ما لا ينبغي الإقدامُ عليه، وكِلاهما أمران يجبُ أن يتجنبهما الإنسانُ، وقال لوق إن التهوُّر وقلة التأبُّه للخطر كالتفزُّع والانقباض لقرب كل شر هيِّن، كلاهما غير مبرر. إنه لم يُخلق الخوف فينا إلا ليكون باعثًا على المسارعة في أعمالنا وعاصمًا من شَرٍّ داهم، وعلى ذلك ففُقدان الاعتداد بالضر الوشيك وعدم قدر الخطر حق قدره وإلقاء النفس في التهلكة من غير تدبر في عواقبها ولا اعتداد بنتائجها أو فوائدها؛ لا يُعَدُّ مِنْ صحة العزم في مخلوقٍ عاقل، وإنما هي تهوُّر بهمي.
وقال أيضًا إن مقت الشر فطريٌّ لا يخلو منه إنسان؛ إذ ليس الخوفُ إلا قلقًا ناشئًا من تصور مكروه مقبل، وعلى ذلك فإذا ألقى امرؤٌ نفسه في خطر فلا غرو إن قيل إنه سلك هذا المسلك مدفوعًا بدافع الجهل أو مؤتمرًا بعاطفة أرفع منه؛ إذ ليس في الأرض إنسانٌ من العداوة لنفسه بحيث يغشى مواقع السوء بملكه ويتقبل التهلكة حبًّا فيها.
الخوف غريزي فإذا استعمل بحكمة (كالخوف من عاقبة الإساءة إلى المعلم أو كخشية العقاب) فهو نافعٌ بل ضروري للنظام ولأمر الاحتفاظ بالنفس، أما الإفراط في الخوف فهو أذًى يجبُ دفعُهُ، وإلا أفضى بصاحبه إلى الجُبن، وظاهرٌ أَنَّ الإفراطَ في الخوف يشل الإرادة، وينجُمُ عن ذلك فُقدان الإنسان ثقته بنفسه وموت شعوره بمقدرتها.
- أولًا: أن تُبعد الأطفال في طفولتهم عن صُنُوف المفزعات كافة، فلا يصح أن يُتلى عليهم ما يُشيع الخوف في قلوبهم، ولا أن يطلعوا على مشاهدَ تلقي الرعب في نفوسهم؛ لئلا ينطفئ سراجها وتخمد جذوتها خمودًا لا سُطُوع بعده؛ إذ المُشاهد أن الطفل إذا أُشرب الخوف والفزع في صغره شَبَّ حتى إذا صادف مفزعًا في مقتبل أيامه توزعت نفسه وارتبك في أمره، ففقد قوة التدبُّر بفقدان رشده.
- ثانيًا: يجب أن يروَّض الأطفال شيئًا فشيئًا على أن يألفوا ما اعتادوا الخوف منه حتى يتغلبوا على مخاوفهم. وإن في مثل ذلك لَعَوْنًا للمعلم على أن يوقر في نفوس الأطفال أن السوء ليس من الحقيقة والعظم بمقدار ما يصوره الخوف، وأن طريقة تجنُّبه ليست في الفرار منه أو في خور العزيمة والاستسلام والقنوط حيث يجب الإقدام.
وعلى المعلم أن يَقِيَ فؤاد الطفل من تصورات العفاريت والمردة ومن مخاوف الظلام؛ فإنها ما علقت بأفئدة وفارقتها بعد ذلك؛ ذلك بأنها لِمَا يصحبُها من الفزع تتغلغل في فؤاد الطفل وتتمكن أُصُولها من نفسه حتى لا يسهل اجتثاثُها بعد ذلك. فإذا استقرت غشيتْه منها خيالاتٌ غريبةٌ تجعل من الطفل في وحدته خبًّا وتملك عليه مشاعره حتى لَيخاف من ظله ومن كل ظلمة تحدق به ما دام حيًّا.»
ويقول كانون دانيل: «الشجاعة أمر من أُمُور التربية في الغالب؛ فمن يكون شجاعًا في ظروف يكون في الغالب متهيبًا في ظروف أُخرى لم يكن قد ألفها، فيستنتج من ذلك أن شجاعة الإنسان متوقفةٌ على إلفه المخاطر وعلى إحساس الإنسان بقدرته على مغالبتها؛ ولذلك فإن خير ما يعالج به الجُبن في الصبي إيلافُهُ المخاطر وتشجيعه على مواجهة المصاعب الكُبرى بتغلُّبه على المصاعب الصغرى، ولما كان هذا العمل مِن أَشَقِّ الأعمال على المربي فالواجب أن يصبر له وليعلم من يعنى بتربية الطفل أن شدةَ الخوف تُفقد الرشد وتقضي على مَلَكة التفكير.
والغالب أن تكون حاجةُ الأطفال والرجال إلى الشجاعة الأدبية أشد منها إلى الشجاعة البدنية؛ لذلك يجب أن يعنى بتربيتها. وعليه فإذا جاء طفلٌ من تلقاء نفسه واعترف بذنب اجترمه فإنه يجب أن يخفَّف العقاب الذي يترتب على الذنب في مقابلة هذا الاعتراف إن لم يصلح العفو عنه بما اعترف وإذا وجد أَنَّ طفلًا عاصَى في نفسه بواعثَ الإذناب وكانت قوية فيجب أن يثنى عليه من أجل ذلك. ولن تقتصر الحاجةُ إلى الشجاعة الأدبية على الشعور بضرورة معاصاة بواعث الهوى، بل إنما الحاجة إلى المجاهرة بآرائنا إذا هي ناقضت آراء الغير أشد وأكبر؛ فلذلك يجب أن يحث الأطفال على الجهر بآرائهم صراحة في كل ما يستطيعون إبداء الرأي فيه. هذا ومن جهة أُخرى لَمَّا كان تلاميذُ المدارس أشد الناس تشبثًا وتعصبًا لرأيهم فإنه يقتضي لنزول الطفل عن رأيه والإذعان لرأي غيره وتصريحه به شجاعةٌ أدبيةٌ لا تَقِلُّ عن تلك؛ ولذلك يجب على المعلم أن يوقر في نفس الطفل وجوب الإذعان للحجة الناصعة والبرهان السليم، وأن يعتقد أن في ذلك فضلًا كبيرًا.
(٣) العدالة
يمكنُ تعريفُ العدالة بأنها معرفةُ ما يجب للغير والرغبة في إعطائه. فيجب أن يبصَّر الأطفال بأنَّ لغيرهم من الناس مثل ما لهم من الحقوق؛ ولذلك يجب أن يربَّوا على تقدير راحة الناس وهناءتهم، وعلى مُراعاة إحساسهم، وأن يعملوا في كل حال على أن يُعطوا كل ذي حَقٍّ حقه، وعليه فكل عمل من أعمال الظلم والبغي على غيرهم وكل فعل ليس من أفعال الأمانة والنزاهة يجب أن يقضى عليه قضاء مبرمًا، ويجب أن يغرس في نفوسهم أن يحب الطفل لأخيه ما يحب لنفسه.
- (١)
عدم التحيُّز: وهو مراعاةُ المساواة في تنفيذ قواعد توزيع اللذائذ والآلام.
- (٢)
التوفية: وهي التعويضُ عن الضرر.
- (٣)
العدل الاحتفاظي: وهو مُراعاةُ القوانين التي تمس علاقاتنا بالغير وتنفيذها.
وهذه تشمل:- (أ)
الخضوع للقوانين والقيام بالعهود المعقودة والاتفاقات المحدودة.
- (ب)
القيام بكل ما يكون ارتقابُهُ أمرًا عاديًّا طبيعيًّا.
- (جـ)
العدل المثليُّ الأعلى، وهو توزيعُ اللذائذ والآلام وفاق أصفى شرعة نعتقد بصحتها وصوابها.
- (أ)
(٤) الحزم
الحزم اعتيادُ العمل بعد التبصُّر في العواقب وطول التفكير والتروِّي، وعلى ذلك فإذا نحن فَعَلْنَا أمرًا بحزم فإنما نكونُ قد تَدَبَّرْنَا نتائجَه المستقبلة لا المباشرة وحدها.
والحزم في معناه العام: الحكمةُ العمليةُ مطلقًا، وفي معناه المجمل: الحكمة العملية في تدبير الشخص مصلحة نفسه.
- (١)
سعة من الوقت للتروي؛ إذ العجلة تقضي على الصواب في الفعل، على أن الإغراق في التروِّي قاضٍ على الفعل بتة.
- (٢)
توافُر العرفان والتجاريب في النفس؛ فإنه لا رأي بغير مددٍ منهما.
- (٣)
توافُر الفطنة؛ إذ لا سبيل إلى صحة الفكر بغيرها.
- (٤) توافر الثبات أو كبح النفس؛ لتستطيع بهما تنفيذ العزمة على أن الإغراق فيهما ينقلب تشبثًا، وكثيرًا ما يفضي إلى الخطل. فمما تقدم يتبين أَنَّ الحوائل دون الحزم هي:
- (أ)
العجلة في الفعل.
- (ب)
الإغراق في التروي.
- (جـ)
قلة التجربة والعرفان.
- (د)
سقم الفكر أو خطأه.
- (هـ)
التشبث.
- (أ)
ويقول كومينيوس: «يجب تمثيل الحزم في النفس بتعليم الأطفال حقائق ما بين الأُمُور من الفروق إذ إن صواب الحكم هو أساس كل فضيلة ولكي يفرق الإنسان بين خير الأُمُور وشرها ويميز بين حقها وباطلها ويعرف اللائق من ضده؛ يجب أن يعرف طبيعة كل أمر على حقيقته.»
ويقول لوق: «إن أليق ما يهيئ الطفل للحكمة تعويدُهُ طلب كُنه الأمر، وأن لا يهدأ حتى يصل إليه، وأن يرقي فؤاده إلى حيث لا يشغل إلا بعظيم الرأي وأن يبعد به عن المين والخبث اللذَين هما — في رأيه — مسببان عن نقص الإدراك.»
(٥) التعفف أو ضبط النفس
يمكن تعريف التعفف بأنه تعديل الرغبة في اللذة؛ فهو يُفيد الاعتدال. قد نمضي في الفراش زمنًا أطول مما تستدعيه الحاجة، وقد تقطع من الليل فوق ما تجيزه الضرورة فلا ننام مثلًا إلا غرارًا وقد نُرهق أنفسنا في العمل أو لا نلم به إلا قليلًا. وقد لا يهدأ لنا لسان أو قد نكمُّ أفواهنا. كل تلك أشكال من الإغراق والتطرُّف فهي لذلك أشكال من قلة الاعتدال أو قلة الاقتصاد وعليه يجب الإقلاعُ عنها، وعلى ذلك فالتعفُّف اسم آخر لضبط النفس، وهو القدرةُ على الكف أو القدرة على كبح جماح الهوى.
هذه القدرة لا يوقظُها الإحساسُ بل العقل والروية والاختبار، وليس للطفل في أول أمره من القدرة على ضَبْط نفسه إلا قليل فرقيُّهُ في ذلك الطور منحصر في إخماد الإحساسات السُّفلى وإحلال إحساسات عالية محلها، وذلك مشاهدٌ في سُلُوكه؛ إذ الطفل مغرًى بالمرح والجري في كل مكان واللعب فوق ما أُجيز له، ولكن يمنعُهُ عن الاسترسال في ذلك خشيةُ استياء معلمه.
الأفعالُ مظاهرُ الشعور، فإذا أمكن إبطالُ الفعل فقد يُمكنُ إبطالُ الشعور، وكذلك أفكارُنا؛ فإنها مرتبطةٌ بشعورنا، وعلى ذلك فإذا أَمْكَنَ إخمادُ أفكارنا أمكننا إخمادُ شعورنا.
وَلَمَّا كان المعروفُ عن الطفل أنه لا يتعلمُ ضَبْطَ النفس إلا ببطء؛ فالواجب على المعلم أن يسعى لاستئصال بواعثِ الهوى مِنْ نفس الطفل ما استطاع. لا يصحُّ له مثلًا أن يترك الأطفال في ظُرُوف قد تجمح بهم كأنْ يترك الغرفة مدةً من الزمان بلا مراقبة، وعليه فالواجبُ على المعلم — في أول الأمر — أن يزيل بنفسه كل ما يُعين على الجموح، فأما ما وراء ذلك فإن الطفل يتعلم إزالتَه بنفسه.
وبما أَنَّ ضَبْطَ النفس عادةٌ فيجب على المعلم أن يترك للتلاميذ قليلًا من الحرية والاستقلال في العمل لينمُّوا بذلك خلة ضبط النفس، وفي هذا سببٌ من أسباب ضرورة إعطاء التلاميذ دروسًا منزلية.
(٦) نموُّ ضبط النفس
- أولًا: يتعلم الطفل أن ينزل عن شيء من اللذة الحاضرة إما:
- (١) لتحصيل لذة أكبر منها في المستقبل كأن يوفر الصبي اليوم قرشًا لينفقه غدا.
- (٢) لدفع ألم أشد في المستقبل؛ كأن يُقلع التلميذ عن اللعب في المدرسة تجنبًا للعقاب.
- ثانيًا: (شكل أرقى) يتعلم الطفل أن هناك أغراضًا أُخرى أَدْوَم حالًا من اللذة الحاضرة أو الألم الحاضر، كحُسن السمعة والعرفان وهلم جرًّا، مثل أن يُقلع الطفل عن اللعب في المدرسة؛ لا تَجَنُّبًا للعقاب ولكن للحُلُول من معلمه محلًّا عاليًا.
- ثالثًا: (شكل أرقى مِنْ سابقه) يتعلمُ الطفلُ المقارنة بين قِيَم لذائذ مختلفة واختيار أرقاها مثل أن يُقلع الطفلُ عن اللعب في المدرسة، لا تَجَنُّبًا للعقاب ولا للحلول من معلمه محلًّا عاليًا، ولكن لاعتقاده أن مِنَ الصواب أن يفعل ذلك.
- رابعًا: (أرق الأشكال) يتعلم الطفل أن ينزل عن لذته مِنْ أجل لذةِ غيره وسعادته، كأن ينصرف
الطفل مِنْ تلقاء نفسه عن أن يلعب لعبًا مبررًا إذا هو وجد أنه ربما آذى به مَنْ كان
أصغرَ منه سنًّا. من هنا كان كبحُ النفس شاملًا خلة إنكار الذات، وهذه أما أن تكون:
- (١) إنكارًا للذات من أجل منفعة الذات، مثل أن ينزل رجلٌ عن لذةٍ مِنْ أجل أن يوفِّرَ مالًا.
- (٢) إنكارًا للذات من أجل الغير، مثل أن ينزل رجلٌ عن لذة لا يأباها على نفسه لولا أنه يرعى بذلك حق زوجته أو بنيه أو رجال قومه أو نسائهم أو إخوانه في الوطن أو الدين أو المرفق. كذلك يشمل كبح النفس الشجاعة. قال الأستاذ مويرهد: «يقتضي للإنسان إذا هو أراد أن يتقي خادعات اللذة أَنْ يَتَحَمَّلَ أَلَمَ المقاومة الذي يترتبُ على ذلك.»
(٧) الصدق
هو الفضيلةُ التي تجعلُ ظاهر أقوالنا وكل أفعالنا وفاق الباطن والحقيقة، وهذه الفضيلةُ هي أساسُ كُلَّ تَعَامُل اجتماعيٍّ وكل ارتقاء. وهي جوهريةٌ لأداء الواجبات في مختلَف العلاقات الحيوية، وإلا لم يستقمْ للثقة بين الناس ظلٌّ. أجل؛ فإنه يستحيل مع الكذب أن يستقيم للجماعات حال؛ إذ هو يقضي على ما للصدق من الإجلال في النفوس ذلك الإجلال الذي لا بد أن يشعر به كل فرد باعتبار أنه عضوٌ في المجتمع.
من هنا كان الصدقُ ضروريًّا لوُلَاة الأمر المديرين للحكومة ورجال الحياة العملية والاجتماعات وللأصدقاء وكل من لهم علاقةٌ خاصةٌ بالناس وللوالدين أو المعلمين والأطفال.
لذلك يجب على المعلم أن يغرس في نفوس الأطفال ضرورة هذه الفضيلة؛ إذ لا يكفي أن تكون لأقوالهم مظاهرُ الصدق وحدها.
ويجبُ أن نحرص على أن تكون أقوالُنا معبرةً عما نعتقد صدقه أو عما في نيتنا عمله، تعبيرًا بينًا قاطعًا، فإذا تم ذلك فإنه يجب علينا أن نجعل أفعالَنا التالية لها وفاقًا لتلك الأقوال بقدر ما نستطيع. ولنذكر أن منشأ الكذب «نية الخداع» فكل مواربة يُمكن أن تكون الألفاظ فيها صدقًا بمعنًى من المعاني وكاذبةً بالنسبة للمعنى المراد؛ يجب تجنُّبها، وكذلك الأمر في المبالغة التي يعمد إليها للتأثير، فإنه يجب التحذيرُ منها؛ لأنها وإن كانت مما يسر لها السامعون قد تضلهم وتخلط عليهم سبيلَ الفهم، ولكي يتم صدقُنا يجب أن نُعنَى بكل ما أحدثنا في قُلُوبهم من أمل، سواءٌ كان ذلك مباشرةً أو بواسطةٍ، كما يجب أن نعنى بكل وعد وعدنا به.
إن مبدأ الصدق هو أوضح المبادئ وأحدُّها، كما أنه لازمٌ لزومًا تامًّا، ولكن من الناس مَنْ يرى أنه قد يجوز في أحوال استثنائيةٍ أن يلجأَ إلى الكذب اعتمادًا على أَنَّ الغاية تشفع للوسيلة؛ أي رعيًا للمصلحة، فيقولون إنه لا بأس بكذبة تنجي الإنسان من الموت وبإخلاف وعد قهر الإنسان على أن يعد به. احتجاجًا بأنه ليس للسائل في الأُولى حق أن يتطلب من المسئول النطق بالصدق أو ينتظره منه أو أَنَّ السائل في الثاني بما فعل قد أخرج نفسه من دائرة القانون الأدبي.
ويجب أن لا يعلم الناس — ولا سيما الأطفال — أو أن يُترك لهم سبيل إلى الظن بأنه يُمكن أو يجوز الميل عن جادة الصدق في أَيِّ حالٍ من الأحوال. يقول «لوق» إنه يجب أن تُملأ قلوب الأطفال ذعرًا من الكذب وأن يُحْمَوا منه بإظهار الدهشة والاستفظاع وبالتأنيب، وبتوقيع العقوبة البدنية إذا اقتضى الأمر.
إن الأكاذيب التي يفتريها بعضُ الأطفال ليس منشؤها إلا خروج الآباء أو المعلمين عن الحد اللائق في الجزاء وشدتهم. ولا عجب في ذلك؛ فإنه إذا أخطأ طفلٌ كان له من فعله باعثٌ شديدٌ على أن يكذب تخلُّصًا من العقاب، ولا سيما إذا أصم الوالد أو المعلم أذنَه عن استماع معاذيره أو كان كثيرَ التسامُح والغض؛ ولذلك يرى «لوق» أن اعتراف الطفل بذنبه مِن تلقاء نفسه أمرٌ يجبُ أن يُقابَل بالمدح وإعفائه من العقاب.
هذا ولا يصحُّ أن يُتَّهم الطفلُ بقول الكذب من غير سببٍ صحيحٍ؛ لأنه إن عُوقب على جُرم لم يجترمه قام في نفسه أثرُ الفعل لو كان فعله. وإذا شعر الطفل أنه فقد حُسن سمعته بالنسبة لفضيلة بعينها لم يرغب بعد ذلك في الحصول عليها؛ لأنه يرى أنه لا فائدة من محاولة تحصيلها بعد إذ ثبت عليه ضدها، وعلى ذلك يفقد الطفل باعثًا مِن أقوى البواعثِ على التحلي بهذه الفضيلة.
من ثم كان واجبًا على المعلمين أن يناجوا شعور الأطفال بشرفهم. فقد وُجد بالتجربة أن هذا من أنجح الوسائل لتربية الطفل.
قيل إن الدكتور أرنولد لم يكن يتهم تلميذًا من تلاميذه بقول الكذب، بل كان يصدقهم في كل ما يقولون، ولقد بلغ من أمر هذا السلوك أن أحد تلاميذه قال في هذا الصدد: «إن من العار أن نكذب على أُستاذنا مرة ما دام أستاذنا يصدقنا في كل ما نقول.»