تكوين الفضائل النفسية أو التربية الأدبية
المقصد الأول من التربية هو تربية قوة العزيمة في النفس وثباتها، ثم تنمية إرادة حية طاهرة قادرة على خدمة الإنسانية العالية. وعلى ذلك فكل تربية حقيقية هي تربية أدبية ويُمكن أن يُقال إن الفضيلة الأدبية هي الخيرية في الفعل لا في القلب، وهو ما كان يرمي إليه فريبول الألماني؛ فقد كان يسعى لتنمية قُوى ضبط النفس في الطفل؛ لكي لا يكون في حالة الطفولة والرجولة في حاجةٍ إلى معونة الغير.
من ثم كان جديرًا بنا أن نميِّز بين التربية الأدبية وبين تحصيل معلوماتٍ عن الأخلاقيات؛ فإن هذه تنتهي في الغالب بما يُسَمُّونه «التحذلق».
- (١)
معرفة طبيعة الميل الذي نحن في صدده ومقدار شدته.
- (٢)
إخماد الغرائز المكروهة وتكوين عادات العمل النافعة.
ويجدر بنا في هذا المقام أن ندل على أن الغرائز ليست إلا عادات ورثناها عن أسلافنا، فلا يصح أن تُخلط بما سميناه مفتطرات؛ إذ الأمر المفتطر هو المعرفة التي لم تحصل بالتجربة مطلقًا. أما الغرائزُ فهي نتائجُ تجارب أسلافنا، وهذه يجوزُ الحث على إبطالها أو تغييرها تغييرًا كليًّا أو تقويتها بتكوين العادات.
(١) الميل
يُمكنُ تفسيرُ ميل الطفل بأنه مجموعُ الانعطافات الوجدانية والأدبية التي ورثها عن أسلافه مثل غرائزه ومزاجه.
ولذلك فميولُ الأطفال مختلفة اختلافًا كبيرًا، فلا غرو إذا اختلفت طُرُق التربية الأخلاقية أيضًا.
- (١)
سريع التهيُّج: فمن كان في الأطفال كذلك؛ كان سريع التأثر والانفعال، ولا يكون ثابت السلوك؛ نظرًا لفُقدان غرائز الحزم منه، فلا يمكن — والحالة هذه — أن يعتمد عليه.
العلاج: يجب على المعلم أن يرعى عواطفَ الطفل ويستخدم تطلعها إلى الحق في سبيل إصلاحه.
- (٢)
اليرع والعصبي: من كان يرعًا؛ أي مشوبًا بالجبانة، أو كان عصبيًّا كان حييًّا قمعًا لا ثقة له بنفسه ولا اعتزاز.
العلاج: مثل هذا الطفل يحتاج إلى كثير من التشجيع، ولا يصح — بأي حال من الأحوال — أن يسخر منه أو يهزأ به، ولا ينبغي أن يكلف بأداء عمل يرى فيه المعلم أدنى سبب للإخفاق.
- (٣)
النشيط: من كان من الأطفال ميالًا إلى النشاط كانت غرائزُهُ مستكملة النمو، وكان شديد الرغبة في العمل؛ أي أن ميله في الجملة سليم، ولكن يعوزُهُ التمحيص والتدبير.
العلاج: يجبُ استخدام حب الطفل للعمل؛ كما يجب أن يبصَّرَ بضرورة مُراعاة راحة الغير وشعوره.
- (٤)
المتصلب: من كان من الأطفال كذلك كان غبيًّا ناقص العطف. ومثل هذا لا يحب الخير إلا لنفسه، ثم هو لا ينجع فيه تعليم.
العلاج: يجب على المعلم أن يحاول تحريكَ إحساس الطفل تحريكًا شديدًا حتى يمكن توجيه صلابته وخشونته إلى الخير بدلًا من توجيهها إلى الشر.
- (٥)
الكسلان: من كان من الأطفال كذلك كان طيِّبَ القلب في الغالب، سهل القياد، ولكن تعوزُهُ الغرائزُ الأدبية. لا يدرك لضبط النفس معنًى ولا يعرف النظام ولا النظافة.
العلاج: هذا الميل أصعب الميول وأشدها معالجة؛ فلا بد للمعلم أن يعنى بتربية العادات الصالحة فيه، وذلك بالتدريب والتربية والتشدُّد فيهما.
قال كومينيوس: «إن تكوين كل الفضائل النفسية يجب أن يكون في رخص الطفولية قبل أن تتبوأ الرذائل مستقرها.» ويقول أيضًا: «إن تعلُّم الفضائل لا يكون إلا بدوام الإتيان بشريف الأعمال.» ويقول أيضا: «الأمور التي يُراد معرفتها تحصل بالمعرفة، والأمور التي يراد عملها تحصل بالعمل، فتحصيل خلة الطاعة يكون بأن نُطيع، والتعفُّف بأن نعف والصدق بأن نصدق والثبات بأن نثبت وهلم جرًّا.» وقال أيضًا: «يجب أن يكون أمام وجه الأطفال مصباحٌ منيرٌ من حُسن الأسوة وجلال المثل. فالوالدان والمربُّون والمعلمون وإخوان المدرسة؛ كُلٌّ منهم يجب أن يكون ما يصدر عنه جميلًا صالحًا؛ لأن ملَكة الملاحظة في الأطفال حادةٌ دقيقة، وهم منذ الحداثة سراعٌ إلى تقليد مَنْ يحيطون بهم.
(٢) المعلم
- (١)
أن يتمسك بأهداب الأمانة في كل الأُمُور التي لها علاقةٌ بأعمال المدرسة، وتلك كثيرةٌ جدًّا، وقد تبدو للعين هينةً تافهةً وهي في الحقيقة من جلائل الأمور.
- (٢)
أن يكون أنيقًا مرتبًا نظيفًا في نفسه وفي عاداته.
- (٣)
أن يراعي المواعيد مراعاةً تامة، فيجب أن يكون انتهاؤُهُ في الدرس كابتدائه فيه في ميعاده، لا يتقدم عنه ولا يتأخر.
- (٤)
أن يكون صبورًا مع الغبيِّ شفيقًا مراعيًا ومشجعًا مع الضعيف أو المشجون والحيي واليرع ولطيفًا مع الجميع.
- (٥)
أن يكون مع الآباء صديقًا، وإذا جاءته منهم رسائلُ شديدة اللهجة اصطبر لها، ثم آساهم.
- (٦)
أن يتجنب أدنى مظهر من مظاهر التحيز والمحاباة وقلة القسط أو عدم الثبات، وبعبارة أخرى يجب عليه أن يكون عادلًا لا يعرِّض نفسه للتأثُّر بداعٍ إلا مصلحة الأطفال، ولا أن يجنح به الهوى أو الحقد أو الكسل أو حب تهوين الأُمُور.
- (٧)
وإذا عاقب راعَى الأَفْيَد من العقاب قبل المستحَق، وأخذ بالتشجيع والحث والتحذير والنصح، لا التعنيف أو التهديد أو العقاب.
- (٨)
وإذا طلب إلى الأطفال شيئًا أو كلَّفهم بأمرٍ كان طلبه مقبولًا وأداؤه مستطاعًا وإلا استاقهم إلى العصيان وترك الطاعة بطريقة عملية، ولا يصح أن يكون فظًّا في استعمال سلطته.
فيتضح مما سبق أَنَّ التربيةَ الأدبيةَ مختلفةُ الأُسلوب، وأن تأثير المنزل والمدرسة بحُسن الأسوة وجمال المثال من الآباء والمعلمين؛ هي أَهَمُّ العوامل في التربية.
التعليم الأدبي المباشر (التاريخ)
في المدارس تعليمٌ أدبيٌّ، ولكنه ليس له — على كل حال — إلا درجة ثانوية في تكوين خلال الطفل الأدبية.
فالحكايات التي يسمونها بالقصص الأدبي التي تنطوي على مغزًى ظاهر هي في الحقيقة لا تُفيده مطلقًا؛ لأن الأطفال لا يستطيعون إدراكَ جلال المغزى، ولكن التاريخ بما فيه من الحكايات الحقيقية عمن سلف من الأخيار والنبلاء والشجعان والجبناء والصادقين والكاذبين؛ يوقظ في النفوس كل شعور نبيل. ولا بد للمعلم أن يوحي إلى القلوب حُبَّ الحق وبُغض الباطل، فالتاريخ لذلك تعليمٌ أدبيٌّ يفيد فائدةً مباشرةً — وإن كان هذا التعليم غير مباشر.
ساحة اللعب
يرى بعضُهُم أن ساحة اللعب خيرُ مكان وأَلْيَق محل لتدريب الأطفال تدريبًا أدبيًّا؛ إذ فيها تبدو مظاهرُ خلال العطف والإشفاق والإكرام والصبر وغير ذلك أكثر مما تبدو في قاعات الدروس، كما أنه يُباح لما يقابل ذلك من الأخطاء والأهواء أن تنمو وتستقر.
وعلى ذلك فالواجبُ أن تكون ساحةُ اللعب تحت إشراف المعلم؛ إذ هو لحضوره واشتراكه معهم في ألاعيبهم إنما يقرن القول بالعمل ويقرن الحكمة بالمثل، وكلاهما دافعٌ إلى عمل الخير ناهٍ عن الشر، صارفٌ عن الأذى صغيره وكبيره.
قال روسو: «إن الدروس يتلقاها التلاميذُ بعضُهُم عن بعض في ساحة اللعب أمكنُ في نفوسهم أثرًا مما يتلقونه في قاعة الدرس مائة مرة.»