احتلال إنكلترا الأول
ولما تحسنت الزراعة والتجارة في بلاد الرأس، وكثرت سكانها واتسعت بلدانها، وصارت
مستعمرة واسعة الأرجاء، كثيرة الخيرات، يسرح سكانها في ميادين الهنا ويمرحون في ساحات
العز؛ أرادت بريطانيا العظمى حفظ الموانئ والطرق الموصلة إلى الهند، فطلبت من حكومة
هولندا أن تتنازل لها عن هذه المستعمرة، فتعطيها مقابل ذلك تعويضًا، فلبَّت هولندا
الطلب، وكان ذلك في سنة ١٧٩٥، فجهزت إنكلترا أسطولًا تحت قيادة الأميرال ألفنستون،
وعقدت لواء الجيش على الجنرال كريج، ولما علم المهاجرون بقدوم الجيش الإنكليزي تناسَوا
ما بينهم وما بين الهولنديين المقيمين معهم من النفور والعداوة، وعقدوا الخناصر على
الاتفاق ضد الجنود البريطانية.
وفي الحال تألَّف من الطرفين جيش تحت قيادة أحد المهاجرين المسمى الكابتن دي بلسيس،
فقاوم الجنود البريطانية مقاومة عظيمة، حتى أوقفها في مضيق فيزنبرج ٤٨ ساعة، وأظهر من
المهارة وضروب الشجاعة ما يحير العقول، ولكن جميع ذلك ذهب دون جدوى؛ لأن النصر تم
للإنكليز، أما أعمال دي بلسيس وتدبيراته الحربية فقد جعلت له مقامًا ساميًا في عيون
العظماء، حتى إن نفس الجنرال كريج بعد احتلاله المستعمرة وتوليه أحكامها، أراد أن
يكافئه على شجاعته، فقدم له سيف الشرف ليكون تذكارًا له، وأُشيع بأن نابوليون بونابرت
أرسل له يشكره ويدعوه للعودة إلى فرنسا ووعده أن يعطيه لقب دوق، فأبى أن يهجر مستعمرة
الكاب، ولو أنها صارت مستعمرة إنكليزية، أما هذا الاحتلال فكان قصير العمر، ففي سنة
١٨٠٢ عُقدت معاهدة سميت بمعاهدة أمين
١ بين فرنسا وإنكلترا وإسبانيا وهولندا، مآلها سحب الجنود الإنكليزية من
مستعمرة الرأس حسب طلب فرنسا، فأجابت إنكلترا ذلك وصادقت الدول الأربع على المعاهدة
المذكورة، على أن أجلها كان أقصر من أجَل الاحتلال المشار إليه؛ فلم يُعمل بها سوى أربع
سنوات؛ وذلك أنه لما تولى لويس بونابرت ملكًا على هولندا سنة ١٨٠٦ انتهزت إنكلترا هذه
الفرصة، فطلبت منه أن تحتل مستعمرة الرأس مرة ثانية، فأجاب طلبها، وللحال أرسلت جنودها
لاحتلال بلاد الرأس كما كانت، وأنفذت من قِبَلها حكامًا من نخبة الإنكليز أجروا العدل
في أرجائها، ونشروا لواء الحرية على ربوعها. ولما احتلت إنكلترا البلاد تنازلت للبوير
عن الأراضي التي أخذوها من الشركة، فاستغزروا منها هذا الكرم الذي لم يحلموا به قبلًا،
وما علموا أن ذلك التنازل ما حصل إلا لتستميلهم إليها؛ لأن سلطتها كانت سلطة احتلالية
فقط، وكانت تنتهز الفرص لضم هذه المستعمرة إلى أملاكها، وقد أُتيح لها ذلك في سنة ١٨١٤
بمقتضى معاهدة عُقدت بينها وبين هولندا، ولما علم المهاجرون بذلك تناسوا فضلها وما رضوا
بالخضوع لأحكامها، وأرادوا مقاومتها على قدر استطاعتهم، فامتدت الفتنة حتى شملتهم
جميعًا. وكان زعيمَهم الأكبر رجل منهم يدعى بذندنهوت، كان يحرضهم كثيرًا على نبذ
أوامرها، وكأن إنكلترا احتقرت الأمر في بدأته ثم استعظمته أخيرًا؛ ولذا قبضت على خمسة
من زعمائهم، وفي مقدمتهم بذندنهوت وحكمت عليهم بالإعدام شنقًا عبرةً لرفقائهم، وأُنفذ
فيهم الحكم على قمة جبل يسميه البوير «سلشيترنسك»؛ أي: قمة المذبحة.
وكان ذلك في ٩ مارس سنة ١٨١٤ فأخلد البوير إلى السكينة وجعلوا صدورهم حجابًا لحقدهم
متوعدين الإنكليز بالانتقام والأخذ بالثأر، ووطَّنوا النفس على انتهاز الفرصة، وما
زالوا كذلك إلى سنة ١٨٢٧، ثم أرادوا العودة إلى العصيان ودس الدسائس وإلقاء الفتن بينهم
وبين الإنكليز، فلما أشعر الإنكليز بذلك أخطروا حكومتهم، وبعد المفاوضات بين حكام الكاب
وحكومة لندرا لاستبدال النظام الهولندي بنظام إنكليزي وجعل تعليم اللغة الإنكليزية
إجبارية، تعين لهذا الغرض مندوب سياسي اسمه استوكنستروم، وكان يبغض قبائل الزنوج بغضًا
شديدًا لقتلهم والده، فأراد أن ينتقم منهم؛ ولذلك صار يشجع البوير ويغريهم على قتال
الزنوج، فما زالت الفتن منتشرة بينهم إلى سنة ١٨٣٣، ثم قنع المندوب الإنكليزي بما مضى
من المشاكل، فأراد أن يوقف البوير عند حدهم، وأصدر أمرًا بمنع تجارة الرقيق ومنح الحرية
والمساواة بين جميع السكان، فهاج البوير عند ذلك، وماجوا وملئوا الفضاء بصراخهم
واعتراضاتهم. ولما رأى أن الفتنة تعاظمت طلب الاستعفاء من حكومته، فأعفته وعيَّنت بدله
مندوبًا آخر يُسمى بنيامين دربان، وبعد تعيينه هاجم عشرون ألفًا من قبيلة الكفرة بلاد
الرأس تشفيًا وانتقامًا من البوير، فاتحد البوير والإنكليز على قتالهم وردُّوا الزنونج
خاسرين إلى ما وراء نهر الكي. وكانت إنكلترا تظن أن هذا النصر كان فاتحة الاتحاد مع
البوير، ولم تدرِ أنه صار سببًا لتشحيذ همتهم وتشجيعهم وحبهم للاستقلال، فعوَّلوا على
السعي في سبيله من تلك الساعة.