الرحيل إلى الناتال
وكان من البوير رجل جليل القدر مسموع الكلمة، محبوب من بني جنسه اسمه ريتيف، فكتب منشورًا ووزعه على إخوانه، دعاهم به إلى الرحيل إلى بلاد بعيدة عن النفوذ البريطاني، يتخذونها وطنًا لهم، ويعيشون فيها مستقلين، فصادف اقتراحه قبولًا تامًّا ولحق به عشرة آلاف رجل. وكانت بلاد الترنسفال حينئذٍ لا يقطنها إلا الزنوج، فألَّف بير ريتيف فرقة من رجاله وأرسلها لارتياد أرض كافية تقوم بمعيشتهم، فذهبت هذه الفرقة، وعبرت نهر أورنج ثم نهر الفال، ووقفت تحت جبال اسمها جبال عشب السكر، ثم عادوا إلى إخوانهم، وأخبروهم بوجود أرض خصبة شاسعة، فهاجر العشرة الآلاف تحت قيادة ريتيف إلى تلك الأراضي. أما إنكلترا فهالها ذلك الأمر، وأخذت تبحث عن أسباب مهاجرتهم، ومنعت إخوانهم عن الالتحاق بهم، فانتهز إستوكنسروم هذه الفرصة واعترض على أعمال بنيامين دربان، وانتقد صنعه أمام حكومته، فعينته الحكومة ثانيًا حاكمًا لمستعمرة الرأس مع بنيامين دربان، باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع المهاجرين، فبوصوله أصدر الأوامر والمنشورات الكثيرة وعُقدت معاهدات مع القبائل.
وقرر بأن سلطة إنكلترا تشمل السكان والأراضي الممتدة إلى درجة ٢٥ من العرض، وفعل ذلك دون أن يستشير بنيامين، فلما رأى هذا الأخير استقلاله بالرأي استقال عن وظيفته وترك المستعمرة لاستوكنستروم الذي لم ينجح في أعماله أيضًا، إذ زاد عدد المهاجرين في أيامه فبلغ سبعة عشر ألفًا. أما المهاجرون فانقسموا إلى أربعة أقسام، تولى قيادتهم أربعة من عظمائهم؛ وهم: جيرت موريس، وبيتر هيز وبوتجتر وبرتوريوس، والجميع تحت قيادة بير ريتيف، وذهب كل فريق في جهة، واتفقوا على الاجتماع في نقطة واحدة، ولما وصل بعضهم إلى حدود المتابيلان وقف على شاطئ نهر موريكفه في أراضي موزيليكاتس ملك إحدى قبائل الزنوج. فلما علم هذا الملك بوصولهم طمع في أخذ عشر خيام وعشر نساء منهم.
فأرسل من قبيلته ثلاثة آلاف رجل، وكان عدد البوير في هذه النقطة لا يتجاوز الأربعين رجلًا، غير نسائهم وأطفالهم، ففي ليلة دهماء أخذ الزنوج بالمسير زمرًا زمرًا بغير نظام، قاصدين موقع البوير، ولكن عواء الكلاب نبه أفكارهم وأعلمهم بأن عدوًّا يريد مفاجأتهم، فأخذوا يستعدُّون للقائه، ووضعوا عرباتهم بشكل مربع وتحصَّنوا فيها، وعند بزوغ الشمس بدأ القتال بين الفريقين، ولم تمضِ نصف ساعة حتى بلغ عدد قتلى الزنوج مائة نفس تقريبًا، وقُتل من البوير اثنان، وجُرح اثنان، فولَّت الزنوج مدبرة مذعورة. هذا كان نصيب بعض المهاجرين، ولم تقلَّ عثرات البعض الآخر عن ذلك؛ لأن القبائل الأخرى كانت تناوشهم كثيرًا، حتى كادوا أن يرجعوا من حيث أتوا، ثم سهَّل لهم الله بأن انتشب القتال ما بين دنجان ملك الأمازولس وموزيليكاتس، فانتهز البوير الفرصة وهجموا على بلاد موزيليكاتس، وغنموا منها غنائم كثيرة. كل ذلك حدث لهم قبل أن يقطعوا جبال دراكنسبرج، حيث صعد بير ريتيف إلى أعلاها فأراهم أراضي الناتال، وقال لهم: سيعطيكم الله هذه الأرض الفسيحة الخصبة لتكون وطنًا لكم عن قريب. ولما علمت إنكلترا بقصدهم هذا أرسلت تنذرهم بأنها لا تجيز لهم التخلص من نفوذها، كما أنها لا تسمح لهم بإنشاء حكومة مستقلة في الأراضي التابعة لأملاكها، وكانت مينا الناتال ملكًا لإنكلترا ولها حاكم إنكليزي، وحول المينا أراضي واسعة تكفي لإقامة الملايين من البشر، ولكنها خالية من السكان، وهي التي طمع في امتلاكها البوير؛ لذلك شحذوا غرار عزيمتهم وقطعوا الجبال المذكورة قاصدين بلاد الناتال التي كان جزء منها تابعًا لإنكلترا، فعبروا نهر توجلا من عند منبعه، وأقاموا على ضفتيه ثم تركهم بير ريتيف قاصدًا مينا الناتال، وكان وصوله إليها في أكتوبر سنة ١٨٣٧، فلقي فيها المستر بيجر حاكمها، فقابله هو والسكان بكل ترحاب، ولما أطلعهم على قصده من رغبته في الإقامة بجوارهم أذنوا له بذلك بكل ارتياح وطيبة نفس.