حادثة دنجان
وبعد وصول بير ريتيف إلى الناتال لقي رجالًا من قبيلة الزولس، فأعطاهم كتابًا مؤرخًا ٢٣ أكتوبر سنة ١٨٣٧ لملكهم دنجان يعلمه فيه بأنه عازم على زيارته قريبًا؛ ليخبره عن الأسباب التي دعتهم للمهاجرة من بلاد الكاب، ولكي يعين له الأراضي التي يرغب الإقامة فيها هو ورجاله؛ لأنها مجاورة لأملاكه، ويقول له: إنني آمل أن نعيش معًا بالاتفاق الدائم والصفا المستمر. ولم تمضِ أيام قلائل على إرساله الكتاب حتى قام قاصدًا إنكجلوف عاصمة الزولس، فقابله دنجان بكل فتور؛ لعلمه بما كان يحدث منه ضد إنكلترا من الفتن في مستعمرة الكاب، فعقد النية على التخلص من البوير ومجاورتهم، فقال له دنجان: لا تؤاخذني إذا قلت لك بأني لا أعرفك، ولا أعرف رجالك قبل الآن، ولقد سُرقت بهائم كثيرة من قبيلتي، وقال لي بعض رجالي بأنهم رأوها عندكم؛ ولذلك لا يمكنني التصريح لكم بالإقامة في الأراضي التي جئتم تطلبونها حتى أتفحَّص الأمر جيدًا. فاستفهم حينئذٍ ريتيف عن البهائم المسروقة من دنجان، فأجابه بأنه رآها عند شيخ قبيلة صغيرة اسمه سينكويولا، وأعطاه وعدًا صريحًا بأنه يأتيه بها من السارق، ففرح دنجان بهذا الوعد، وأفهمه بأنه إذا وفَّى بما وعد يمنحه طلبه، وعلى ذلك تم الاتفاق.
يوم الباغي دنجان
وبعد واقعة نهر بوشمن عزم الزنوج على مواصلة القتال والهجوم على باقي البوير، وانقسموا إلى جملة فرق سارت كل منها في جهة، وأكبر فرقة قصدت نهر بلوكرنتز، حيث كان بوتجيتر وجاكوبيس هيز وموريتسن، ولما بدءوا بالهجوم كان البوير جميعًا في استعداد تام للقائهم، فهزموهم شر هزيمة، وقتلوا منهم ما ينوف عن الستمائة رجل، عدا الذين غرقوا في النهر عند عبوره، فرجعوا متقهقرين إلى بلادهم، ولم يكتفِ البوير بذلك، بل أرادوا أن يهاجموا بلاد الزولس ليأخذوا بثأر إخوانهم، ولو دفعهم ذلك إلى الموت عن بكرة أبيهم، ولكن قلة عَددهم وعُددهم كانت حائلًا دون مشتهاهم، فاستغاثوا بالإنكليز سكان الناتال، وطلبوا منهم المساعدة فلم يضنُّوا عليهم بها، وساروا لمحاربة دنجان. ولما علم هذا بقدومهم جمع رجاله تحت قيادة أخيه المسمى بندا. وانقسم جيش الأمازولس إلى ثلاثة أقسام، بقي قسم منها بالعاصمة للمحافظة عليها، وسار القسمان الآخران لمقابلة البوير؛ فالتقى الجيشان في ١٦ أبريل سنة ١٨٣٨، واحتدمت نيران الوغى بينهما، وكان يومًا هائلًا شابت فيه لمم الأطفال، وفنيت فيه أبطال الرجال، وما غربت شمسه إلا والبوير عائدون بخُفَّي حُنين، يقطرون بدل الدمع دمًا، ويصعدون بدل التنفس نارًا؛ لشدة الحقد والغيظ والندم على ما قُتل منهم؛ خصوصًا على فقد أحد قوادهم بيتر وابنه، فضلًا عن عودتهم بالخيبة والخزلان؛ ولذلك كانت كبارهم تبكي كصغارهم، وسُميت النقطة التي كُسروا فيها ونين؛ أي: محل البكاء. وظلوا عاكفين على الجمر إلى ديسمبر من السنة نفسها، وقد ضاقت بهم الدنيا على رحبها، فطلبوا المساعدة من الناتال مرة ثانية، وكان حاكم الكاب في ذاك الوقت اسمه جورج نابير، فأصدر أمره بعدم مساعدتهم بالكلية، ومنع عنهم الأسلحة والبارود، وأعلنهم بأن يعودوا إلى مستعمرة الرأس، ويعيشوا كما كانوا، فأبوا أن يقبلوا ذلك، واكتفوا بما عندهم من الميرة والذخائر، وهاجروا جزء عظيم منهم بلاد الناتال تحت قيادة بريتوريوس. فأرسل الحاكم المذكور في أثرهم مائة عسكري بقيادة الميجر شارتر لإرجاعهم، فما قدروا عليهم، ورجعوا مخذولين. وكان بندا ينظر لأخيه دنجان بعين الحسد، ولما علم هذا الأخير بذلك خاف منه أن يسعى في خلعه أو قتله، فأراد قتله ليكتفي شره. ولما أحس بندا بما يضمره له أخوه من السوء؛ هرب من عنده ومعه كثير من رجال القبيلة المخلصين له، وتقابل مع البوير، وانضم معهم وسار في مقدمتهم لمقاتلة أخيه، فما شعر دنجان إلا والبوير على حدود بلاده بالقرب من نهر الجاموس، وكان ذلك في ١٤ ديسمبر سنة ١٨٣٨، فجمع من رجاله خمسة وثلاثين ألف مقاتل، وخرج بنفسه لقتالهم، فعلموا البوير بذلك، وكان عددهم وقتئذٍ لا يتجاوز الألفين غير رجال بندا.
وفي صباح ١٥ ديسمبر سجدوا جميعًا وصاروا يصلُّون ويتضرعون إلى الله بخضوع طالبين منه القدرة على إذلال عدوهم، ونذروا جميعًا أنه إذا تم لهم النصر يشيدون كنيسة عظيمة تذكارًا لذاك اليوم، ويجعلونه يومًا سعيدًا يحتفلون به سنويًّا، وبعد انقضا صلاتهم برزت الغزالة من خدرها بثوبها الوردي، كأنها تخاطبهم قائلة: صلواتكم صعدت أمام الله فقُوبلت بالقَبول! وبينما هم كذلك تقدمت طليعة جيش الزولس فقابلتهم البوير بالمدافع والبنادق وظل القتال مشتغلًا النهار بطوله، وثبت الفوز فيه للبوير، وفي اليوم الثاني؛ أي: يوم ١٦ ديسمبر جدُّوا في القتال، وكانت يد الله معهم؛ فما غربت الشمس حتى مدت أشعتها إليهم تصافحهم وتبشِّرهم بالنصر. ولما رأى دنجان عجز رجاله أمرهم بالهجوم دفعة واحدة، فهجموا كقطيع بلا راعٍ، وقد أوقع الله الرعب في قلوبهم لأمرٍ دبَّره بحكمته، فكانوا يختبئون وراء الصخور وألقى الكثيرون منهم بنفوسهم في نهر الجاموس ورصاص البوير يتساقط عليهم، وبلغ عدد القتلى أربعة آلاف تقريبًا. ولما عجز دنجان عن المقاومة أشعل النار في عاصمة بلاده وفرَّ هاربًا مع بعض رجاله إلى قبيلة البازوتس، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقتلوه أشر قتلة. أما البوير فإنهم وصلوا العاصمة في ١٩ ديسمبر ووفوا بنذرهم وشيدوا كنيسة بيتر ماري تزبرج تذكارًا لانتصارهم هذا. وظلوا يحتفلون بمثل هذا اليوم من كل سنة ويسمونه عيد يوم دنجان. وفي ١٣ يناير سنة ١٨٣٩ قامت حملة من البوير من بيتر ماري تزبرج للبحث عن دنجان ورجاله مؤلفة من ٣٠٠ بويري و٤٠٠ رجل من قبيلة الكفرة وقبيلة الهوتنتو، وأخذوا معهم ما يلزمهم من الذخيرة والمؤنة، وساروا خمسة أيام حتى وصلوا إلى نهر توجلا، وكان ذلك في مدة فيضانه، فقاسوا كثيرًا في عبوره، وعسكروا على الضفة المقابلة منتظرين المدد من الغرب، ومكثوا في الانتظار يومَين قضوهما في مطالعة التوراة والترانيم الروحية. وفي ٢١ منه وصل المدد فقاموا جميعًا وعبروا نهر كليب، وتطوَّع لهم عدد عظيم من قبيلة الماتانيا، وبعدما استراحوا جملة أيام قاموا وعبروا نهر أم شيناتي. وفي ٣١ منه، عبروا نهر أم فيلوس، وفي ٢ فبراير وصل إليهم مدد آخر مؤلف من ١٥٠ بويريًّا بقيادة القومندان لومبار. وبعد البحث الطويل اتضح لهم موت دنجان، ولكنهم التقوا برجاله فهزموهم، فاكتفى بريتوريوس بذلك وولى بندا ملكًا على قبيلة الأمازولس، بعد أن أقسم له أن يعيش خاضعًا للبوير ومسالمًا لهم. ثم أعلن برتوريوس أن الأراضي الكائنة ما بين نهر توجلا ونهر أم فيلوس صارت من أملاك البوير، فقطن كثير منهم تلك الأراضي وأسسوا فيها مدينة ميدلبرج. وهذه كانت أول حرب أظهر فيها البوير ما يدهش العقول من الشجاعة في القتال.