سكسوني ومقتل يوحنا
كانت قبيلة عظيمة من قبائل البازوتس، تُسمَّى قبيلة السكسونيين نسبةً إلى اسم ملكها، قاطنةً على حدود ليدنبرج ومتمسِّكة بالدين المسيحي، وكانت خاضعة للبوير تدفع إليهم مالًا سنويًّا، ففي سنة ١٨٧٥ أثناء غياب المستر برجر تولَّد النزاع بشأنِ قطعةِ أرضٍ بها قلعةٌ في جهة بوتسبلو، يسكنها يوحنا أخو سكسوني، فقامت البوير تدَّعي مِلكية هذه الأرض، بأنها اشترتها من قبيلة السوازيس، وأرسلت إلى يوحنا تأمره بالانسحاب منها، فأبى إجابةَ طلبهم، فأرسلوا إلى سكسوني ينذرونه بسُوء العاقبة، فأجابهم بقوله: «إن الأرض التي تدَّعون بأنها من أملاككم هي مِلك قبيلتي، ولأخي الحقُّ أن يقيم بها، وجميع القبائل تشهد بأن الأرض أرضنا، وليس لكم فيها قيراط واحد، وبما أنني ممَّن يكرهون إهراقَ الدماء، فأرغب أن ينتهي الأمر بيننا بسلام، وإلا إذا كنتم عقدتم النية على مناوَشتِنا واغتصاب أملاكنا ظلمًا، فهذا أمر لا يمكننا الصبر عليه، والحسامُ يفصل بيننا.»
وقد كان يظن سكسوني أن ما فعله البوير من قبيل التهديد فقط، فجاء الأمر على خلاف ذلك؛ لأن برجر رئيس الجمهورية لما عاد من أوروبا وعلم ذلك، جمع خمسة آلاف رجل نصْفُهم من البوير والنصْفُ الآخر من قبيلة السوازيس، وساروا بقيادة الرئيس المذكور إلى المحل المقيم فيه يوحنا، فأمر قائد البوير العبيدَ بالهجوم على القلعة، فهجموا عليها، وكان قتالهم مما يفتِّت الأكباد، لِمَا كانوا يفعلونه من الأمور الوحشية؛ وذلك لأن رجال السوازيس كانوا يقتلون النساء ويهشِّمون رءوس الأطفال على الصخور، وبعد قتال هائل انجلى عن فوز البوير وامتلاك ما كانت تطمح إليه أنظارهم، وخرج يوحنا من القتال مجروحًا جرحًا بليغًا، أذاقه الحِمامَ بعد ثلاثة أيام، وأما البوير فإنهم فرحوا بهذا النصر وسموا هذه الموقعة موقعة النصر العجيب.
واقعة إيزندلوانا
ولما انتصر البوير في بوتسبلو أرادوا أن يضربوا السكسونيين الضربةَ القاضية، فاجتمع مجلس الفولسكراد لهذه الغاية في ٤ سبتمبر سنة ١٨٧٦، واقترح الرئيس برجر تأليفَ حملة أخرى لمطاردة العدو، يتولى قيادتها الكابتن فون شليكمان، فصادف اقتراحه قبولًا، وعُمِلت الاستعدادات اللازمة، وبعد أيام وجيزة سارت الحملة ليلًا إلى قرية ستيل بور التي هي ضمن أملاك سكسوني، فأمر فون شليكمان رجاله بمهاجمتها، فاستيقظ أهلها، ولما كانوا على غير استعداد ولَّوْا هاربين، فأمر حينئذٍ قائد البوير بقتل جميع مَن بقي بالقرية، فذبحوهم عن آخرهم. وبعد هذه المذبحة صارت البوير تتقدَّم ورايات النصر تخفق فوق رءوسهم، حتى وصلوا إيزندلوانا عاصمة سكسوني، ولكنْ خانَهم النصرُ في هذه المرة، وهزمهم السكسونيون شرَّ هزيمة، وتبعوهم إلى بريتوريا وأرادوا أن يقاتلوهم هناك، فاستغاث البوير بإنكلترا، فأغاثتهم وأصلحت بينهما.
هذه كانت حالة حكومة الترنسفال مع القبائل في الخارج، أما حالتها الداخلية، فلم تكن بأصلح من تلك؛ لأن خزينة ماليتها كانت خالية من الأموال، فأقرَّ مجلس الفولسكراد على إصدار أوراق يتعامل بها بدل النقود إلى أن تتحسَّن حالةُ ماليتها، وربط ضريبةً باهظة على أصحاب الحقول، أجانبَ كانوا أو وطنيين. ولما كان للإنكليز أكثر الأملاك رفضوا تأديتها، وقدَّموا شكاوى كثيرة للحكومة، فكان جوابها لهم هكذا: «مَن يريد الإقامةَ ببلادنا فَلْيخضع لقوانين الجمهورية، ومَن يأبى فَلْيرحل.» ولمَّا أخفقوا سعيًا، رفعوا عريضةً إلى جلالة الملكة موقَّعًا عليها من ستة آلاف منهم يطلبون بها مداخلتَها، وكانت الأحوال في بريتوريا مرتبكةً بعد ربط هذه الضريبة الفادحة من جهة، ولانتخاب رئيس الجمهورية من جهةٍ أخرى؛ لأن مدة الرئيس برجر كانت قد انتهت، فظهر حينئذٍ في بريتوريا أحزابٌ كثيرة، أهمها حزب الدوببز وزعيمه المستر كروجر، فرشَّحوه للرئاسة، ولكن حزب برجر فاز عليه، وتم الأمر بتجديد انتخابه، وكان لا يتمنَّى ذلك؛ لأنه رأى ما في داخل بلاده من الهياج العظيم، وما بخارجها من عداءِ القبائل لها، ومما زاد الطين بلةً اتحادُ أعضاء مجلس التنفيذ على خَزْله، مع أن المنتظر منهم الأخذ بناصره وشد أزره لتنفيذ آرائه، ولكن كثرة الأحزاب كانت تدفع كلًّا منهم للسعي في إحباط مساعي الآخر.