تداخُل إنكلترا
وفي أوائل نوفمبر سنة ١٨٧٦ كان السير بركلي في لندرا، فتفاوض مع كبراء حكومته بخصوص حالة الترنسفال، وبيَّن بأن الخطر محدق بها من كل جانب، وأيَّد كلامه هذا بعرائض الاستغاثة المقدمة من بعض القبائل التي تقاسي مرارة العذاب من حمل ذلِّ البوير، واتحادها على مهاجمة بلاد الترنسفال، فأرادت إنكلترا أن تتداخل في الأمر حسمًا للنزاع، فانتخبت لهذا الأمر رجلًا قد اتصف بالوداعة وحسن التدبير، واشتهر بالحكمة والشفقة، ألا وهو السير تيوفيل شيبستون حاكم مستعمرة الكاب، وأمرته بالتوجه إلى تلك البلاد للنظر بعين الدقة في أحوالها، وتقديم التقرير اللازم عما يتراءى له، وإذا تأكد بأنه يُرجى إصلاحها كان به، وإلا فتُضَم لإنكلترا. وفي ٣٠ ديسمبر سنة ١٨٧٦ أرسل السير شيبستون مكتوبًا إلى الرئيس برجر يقول فيه: إني عازم على زيارة بلادكم بصفتي مندوبًا من حكومتي للاتحاد معكم وإجراء اللازم لحل المشاكل الحاضرة قبل اتساع الخرق، وخصوصًا بعد ما رأيناه من أن القبائل كلها قد اتحدت يدًا واحدة ضد جمهوريتكم، وذلك مما يدعوننا إلى المبادرة لمساعدتكم وحفظ المستعمرات البريطانية في جنوب أفريقيا من الخطر؛ لأنها تصبح مهددة إذا أُصيبت بلادكم بسوء. فكان لهذا الخبر أعظم تأثير في قلوب القاطنين في بلاد الترنسفال على اختلاف أجناسهم، فمنهم مَن تلقَّاه بالفرح والسرور، ومنهم مَن تلقَّاه بالحقد والغيظ، وهم من حزب الدوبيرز لعلمهم بأن بحار الحرية سترويهم وسماء العدل ستظلِّلهم، ممتدةً إليهم من لندن بيد السير شيبستون، وذلك عكس ما يرغبون.
ولما حضر السير شيبستون إلى الناتال أقام فيها بضعة أيام، ثم قصد بريتوريا، وحينما صار على مقربة منها وانتشر خبرُ قُربِ وصوله إليها هرعت الناس إليه أفواجًا لاستقباله، وفي أثناء مروره كان بعض الأهالي يتقدَّم إليه بمزيد الانعطاف، ويُظهِر له من الإخلاص والولاء ما لم يكن يظنه منهم، وعند وصوله إلى بريتوريا تقاطرت إليه الحكام يهنُّونه بسلامة الوصول، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية وآيات البشر على مُحَيَّاهم، إظهارًا لما يكنُّه ضميرهم من المحبة له؛ لعلمهم بأنه ما وطئ بلادهم إلا لقصد مصالحهم، وما يعود بمنافعهم، فخطب فيهم قائلًا: «إن الحوادث قد أظهرت لكل عاقل ضرورةَ الاتحاد وتبادل المحبة، وخصوصًا بين الأمم المسيحية؛ لتستنتج منه الراحة والحرية والسِّلْم والسعادة بين الجنس الأبيض والأسود، وإني واثق بمساعدتكم على إتمام مشروعي هذا؛ لعظم فائدته، ولأجل أن نكتب على راية جنوب أفريقيا هذه الكلمات اللطيفة: «الاتحاد أساس القوة».» ثم طلب من الرئيس برجر تشكيل لجنة للنظر في أحوال الجمهورية الداخلية والخارجية، فأجاب طلبه، وتألَّفت من المستر هندرسن والمستر أوزبرن من الإنكليز، والمستر كروجر والمستر جوريسن من البوير، وكانت الرئاسة للسير شيبستون، فلم تأتِ هذه اللجنة بالغرض المقصود؛ لاختلاف آراء أعضائها، ولأن حزب الدوبيرز وأتباعه كان متفقًا ومُصِرًّا على مقاوَمةِ إنكلترا ومنعها من التداخل في أمورهم، غاضًّا الطرفَ عن حالة بلادهم وحرج مركزهم. وكان المستر كروجر زعيم الحزب المذكور والعاضد له؛ إذ كان يطمح إلى رئاسة الجمهورية؛ ولذلك صار هذا الحزب يدسُّ الدسائسَ ويلقي الفتن سرًّا؛ لئلا تحبط مساعيهم إذا ظهرت وتتوطد أقدام إنكلترا في بلادهم، فتناقشهم الحساب.
وفي أول فبراير سنة ١٨٧٧ قال الرئيس برجر لأعضاء مجلس الفولسكراد: «إنكم تعلمون أن بلادنا أصبحت في خطر عظيم لجملة أوجه؛ أولها: نفاد المال من خزينة الحكومة، وعدم استطاعتنا تحصيل الضرائب. ثانيًا: اتحاد القبائل يدًا واحدة ضدنا وعزمها على مهاجمتنا، وفي مقدمتهم قبيلة الزولس، وقد أرسلت إنكلترا مندوبًا من طرفها ليقف على أحوالنا، وهو يقول بوجوب ضم بلادنا لمستعمرات دولته، والذي أراه أن أفكار الشعب لا تميل إلى ذلك، ولكني إذا سُئِلت عن ذلك أجاوب بأن انضمامنا إلى هذه الدولة القوية، إلى أن يمكننا حفْظُ استقلالنا بأنفسنا تكون نتيجته حسنة، وأرى من الضروري خضوع البوير لهذا الرأي، ومتى تم ذلك الانضمام تكون جميع مستعمرات جنوب أفريقيا من رأس الرجا الصالح إلى مينا اليصابات مملكة واحدة ذات قوة عظيمة، تُوقِع الرعبَ في قلوب أعدائها، وإني أرى بعين الأسف بعضَ البوير الذين لا يُذعِنون لدستور البلاد ولا يميلون إلى الأحكام، ويفضِّلون معيشتَهم بدون ارتباط ولا نظام كالوحوش البرية، ويأبَوْنَ الخضوع للحكومة الإنكليزية؛ ولذلك فإنهم يعرقلون مساعي المندوب الإنكليزي، وإذا أصرُّوا على هذا العناد فإن العاقبة تكون وبالًا عليهم.» وبعد انتهاء كلامه انفضَّ المجلس على غير جدوى، ولم يبتَّ أحدٌ من أعضائه رأيًا فيما أبداه ذلك الرئيس.
وفي أوائل أبريل علم السير شيبستون أن سكسوني يحشد قواه على الحدود ويستعدُّ لاستئناف قتال البوير، فأرسَلَ إليه مكتوبًا يُعلِنه بأن يُوقِف استعداده ويفرِّق قوته، وإلا تكون إنكلترا ضده، فخاف سكسوني العاقبة، وأرسل إليه يطلب توسُّطَه في الصُّلح مع حكومة الترنسفال، فأَطْلَع السيرُ شيبستون الرئيسَ برجر على ذلك، وبعد المفاوَضة أقرَّا على تشكيل لجنة وإرسالها إليه لعقد معاهَدة الصلح، وانتُخِب لذلك ثلاثة من الترنسفال، وهم المستر فان جوركن والمستر هولت هوزن والقومندان فريريا واثنان من الإنكليز، وهما المستر أوزبورن والكابتن كلارك، فتوجَّهوا إلى مدينة ميدلبرج الواقعة على الحدود، وتقابلوا مع اثنين من كبار السكسونيين، فطلب البوير منهم ثلاثة شروط؛ أولًا: الخضوع لجمهورية الترنسفال. ثانيًا: تقديم ألفَيْ رأس من الغنم تعويضًا حربيًّا. ثالثًا: منع تعدِّي رجال القبيلة الحدودَ التي يصير تحديدها بمعرفة اللجنة. فعرضوا هذه الطلبات على ملك القبيلة في إيزندلوانا، فصادق عليها وعُقِدت معاهدة، وأُرسِلت للفولسكراد للتوقيع عليها، وبذلك تم الصُّلْح. وقد كتب السير شيبستون تقريرًا بأعماله وأرسله لحكومته في لندن، بيَّن فيه الخوف على البوير من القبائل القاطنة حول دائرة الترنسفال باتحادها معًا، وذكر أيضًا أن سكسوني قبِلَ الصُّلْحَ خوفًا من إنكلترا، ومتى رحلتْ عن البلاد رجع لقتالهم، وختمه بأنه لا يمكن رفع الخطر عنها إلا بانضمامها لإنكلترا.