أسباب حرب سنة ١٨٩٩
فلما طمحت أنظار البوير إلى الاستيلاء على مستعمرات إنكلترا، أخذوا يدبِّرون الحيلة سرًّا خوفًا من بطش بريطانيا، فعقدوا في مارس سنة ١٨٩٧ مع جمهورية أورنج معاهدةً دفاعية هجومية على أن يكونا معًا يدًا واحدة في أي عمل، سياسيًّا كان أو حربيًّا، فيقاوما أية دولة أو قبيلة تريد شنَّ الغارة على أحدهما، وشكَّلا مجلسًا مركبًا من عشرة أعضاء يُنتخَبون من الجمهوريتين ويجتمع هذا المجلس في كل سنة مرتين: الأولى في بريتوريا، والثانية في بلوم فتين ليبحث في الأعمال التجارية والسياسية، وإذا حدث حادث خطر تُعقَد جلسات فوق العادة، فلما علمت رعايا الإنكليز بذلك خابرت حكومتها به، فكلَّفت هذه المستر شامبرلن ناظر المستعمرات أن ينظر في ذلك الذي لم يَعُدْ بوسعه السكوت، بل جاهَرَ بأفكاره وبيَّنها في خطاب ألقاه في البرلمان الإنكليزي في ٢٢ أبريل سنة ١٨٩٧، ذكر فيه أن إنكلترا لها السيادة على الجمهورية، وعدمُ مخابرتها بمعاهدة أورنج خروجٌ عن القانون يحملنا على سوء الظن بها. فحُمِلت كلماته هذه على صفحات الجرائد حتى وصلت إلى مسامع الرئيس كروجر، فقال في ٢٥ أغسطس سنة ١٨٩٧ في مجلس الفولسكراد ردًّا على هذا الكلام: «إني مطلق الحرية في بلادي، وأدير شئون حكومتي كيف شئت، فلا حقَّ للمستر شامبرلن في أن يذكر سيادةَ حكومته على جمهوريتنا؛ لأن هذه الكلمة كانت قبلًا في معاهدة سنة ١٨٨١، ومُحِيت من المعاهدة سنة ١٨٨٤، وسكوت الحكومة الإنكليزية للآن دليلٌ على صحة كلامي؛ وعلى ذلك فلا حقَّ لوزير المستعمرات فيما أبداه، ولا يسعنا الاعتراف به أبدًا.»
وفي أوائل يناير سنة ١٨٩٨ كانت مدة رئاسة المستر كروجر قد انتهت، فأُعِيد انتخابه بأغلبية الأصوات، فأراد حينئذٍ تغييرَ نظام حكومته واستبدال قوانينها بما هو أحسن، فأصدَرَ أوامرَ كثيرة أهمها طرْدُ الأجانب الذين يثبت عليهم عدم الاستقامة، وتنزيل خمسة شلنات من عوائد الديناميت، والسَّجْن من سنة إلى ستِّ سنوات لكلِّ مَن يُفشِي أسرارَ الحكومة، ومثله عقابًا لكل محرِّر جريدة ينشر كلامًا ضد الجمهورية. وفي ٣١ مايو سنة ١٨٩٨ اجتمع المجلس المؤلَّف من جمهوريتَي الأورنج والترنسفال فأقرَّ على إصلاح مدارس الوتلندر، وإلزام تلامذتها بتعلُّم اللغة الهولندية وتاريخ جنوب أفريقيا. وفي ١٩ يوليو أقرَّ مجلس الفولسكراد على إلغاء عوائد الجمرك عن الدخان الوارد من بلاد الكاب. وفي ٦ أكتوبر أصدرت الجمهورية أمرًا بإعفاء الوتلندر من الخدمة العسكرية إجابةً لطلب إنكلترا والتصريح ببيع المواد الكحولية للعبيد، فكان هذان الأمران داعيَيْن لرضاء الوتلندر وسرورهم، وظنوا أن الإصلاح قد فاجَأَهم على حين غفلة منهم، ولم يعلموا بأن الجمهورية جعلت ذلك تمهيدًا لما يبعد حدوثه عن الظن؛ ففي ١٧ نوفمبر سنة ١٨٩٨ اجتمع مجلس الفولسكراد وطلب من شركات التعدين نزع ملكية الأراضي التي يستخرجون منها الذهب، وطلب أيضًا احتكارَ الديناميت، وربط ضريبةً قدْرُها اثنان ونصف في المائة على الذهب المستخرَج، ثم في ٢ نوفمبر من تلك السنة زاد الفولسكراد الضريبة وجعلها خمسةً في المائة، فاعترض أصحاب المناجم على ذلك، ولكن اعتراضاتهم ذهبت بغير فائدة. ثم أقرَّ على عدم نيل الأجنبي حقَّ الانتخاب ما لم يكن قد قضى في بلاد الجمهورية مدةً لا تقلُّ عن أربع عشرة سنة، فهاج الوتلندر وماجُوا؛ لأن هذه الطلبات كانت ضدَّ صالحهم، ودلالةً على تولُّد الشر، وأرسل الرئيس كروجر يخابر معامل أوروبا بشأنِ صُنعِ تماثيل نحاس بصور الرجال الذين تغلَّبوا على جمسون لتُوضَع في ساحات الشوارع تذكارًا حسنًا للبوير، وسيئًا للإنكليز.
فبعدَ هذه التغيرات الكثيرة لم يجد سسل رودس بابًا للصبر، خصوصًا وقد رأى مواطنيه في ارتباك عظيم من اهتضام حقوقهم، فأرسل يطلب من حكومته أن تتداخل في هذا الأمر، فلبَّتْ طلبه وأرسل المستر شامبرلن تلغرافًا في ١٣ يناير سنة ١٨٩٩ يعترض على حكومة الجمهورية احتكارَ صناعة الديناميت، فما أجابته على هذا الاعتراض. وفي أثناء ذلك خابَرَ ناظرُ خارجية الترنسفال السيرَ ألفريد ملنر حاكمَ مستعمرة الكاب بشأن تعيين قنصل ترنسفالي في بلاد المستعمرة المذكورة، فأجابه بأن يرفع طلبه هذا إلى حكومة إنكلترا مباشَرةً، فما ركنت الجمهورية لهذه الإجابة، بل طرحتها ظهريًّا وأرسلت قنصلًا إلى هناك، فعارضَتْها إنكلترا في ٢٧ فبراير سنة ١٨٩٩، فاحتجَّتِ الجمهورية عليها بأنها سبق لها تعيينُ قنصلٍ في جوهانسبرج بدون مخابرتها على أنها خابرت حاكمَ مستعمرة الكاب بهذا الصدد، فأجابها إجابةً ليست كافيةً مع اضطرارها لتعيين قنصل لها في تلك الجهات.
أما الوتلندر فكانوا في قلقٍ شديد خوفًا من إهمال إنكلترا أمرهم، وتركهم تحت تصرُّف الجمهورية، فقدَّموا في ٢٨ مارس سنة ١٨٩٩ عريضةً مُمضاة من واحد وعشرين ألفًا منهم إلى السير ألفريد ملنر، تتضمَّن شِكايتَهم من اهتضام حقوقهم، فأرسلها السير ألفريد ملنر إلى جلالة الملكة، وكان الرئيس كروجر في ذاك الوقت يتجوَّل في بلاده ليتفقَّد راحة أهاليها، فكان يُقابَل بكل ترحيبٍ وتبجيل، وفي أثناء جولاته قُدِّمت إليه عريضةٌ مُمضاة من أربعة عشر ألفًا من البوير يطلبون منه أن يمنع تداخل الأجانب في شئونهم؛ لأن عددهم أصبح نحو ثلثَي السكان، ويُخشى منهم أن يستولَوْا على إدارة الحكومة؛ فيخرج الحكم من أيدي البوير إلى أيديهم.
وفي ٣ مايو سنة ١٨٩٩ تقدَّمت عريضةٌ أخرى من الوتلندر إلى البرلمان الإنكليزي يستغيثون فيها من البوير، ويطلبون النظرَ في أمرهم فورًا، ولما قُرِئت هذه العريضة في الجلسة قال المستر شامبرلن: «لا يجب علينا أن نصمَّ آذاننا عن نداءِ واحدٍ وعشرين ألفَ رجل من رعايانا، ولا بد أن يكونوا في موقف حرج حتى جاءوا بلسان واحد يطلبون تداخل حكومتهم، ويستغيثون بها من ظلم البوير ومعاملتهم.» فاتفق أعضاء البرلمان على مطالَبةِ حكومة الترنسفال بمعامَلة الوتلندر بالعدل وإعطائهم حقوقَهم.
- أولًا: الأجانب الموجودون الآن في البلاد ينالون حقَّ الانتخاب إذا قضوا فيها تسعَ سنوات، وسبعَ سنوات لمَن يأتي بعد السنة الحاضرة.
- ثانيًا: أن يكون ربع أعضاء المجالس من الوتلندر والباقي من البوير.
- ثالثًا: يكون التكلم في المجالس باللغة الهولندية.
- أولًا: تنقيص المدة وجعلها خمسَ سنوات.
- ثانيًا: لا تتداخل إنكلترا في شئونهم مطلقًا.
- ثالثًا: المشاكل التي تحصل بين إنكلترا والجمهورية تُعرَض على لجنةٍ دولية للفصل فيها، ويكون حُكْمُها نافذًا على الطرفين.
ثم أرسل هذا التقرير إلى إنكلترا، فأبَتْ قبوله.
وفي ٢٥ سبتمبر سنة ١٨٩٩ اجتمع البرلمان، وكان المستر شامبرلن هو الصوت الصارخ فيه، يطلب حقوقَ الوتلندر وتنفيذها رغمًا عن المستر كروجر، وبعد المفاوَضة أقرَّ الأعضاءُ على تسييرِ حملةٍ مؤلَّفة من خمسين ألف مقاتل إلى بلاد الترنسفال، وفي الحال تعيَّن المال الكافي لنفقاتها. ولما علِمَ الرئيس ستين أن الحرب أصبحت من المقرر، أعلن بأن جمهوريته ستتحد مع جمهورية الترنسفال في محارَبة إنكلترا، فأرسلت إليه تحذِّره من الاتحاد وتضمن له استقلالَه إذا لزم الحياد، فأبى الرئيس ستين ذلك.
وبينما كانت الاستعدادات سائرةً على قدم السرعة في بلاد الجمهوريتَين، كان الحزب المعارِض للحرب يشدِّد النكير على المستر شامبرلن وينشر المقالات الطوال في الجرائد ضدَّ سياسته، وكان الرئيس كروجر يستند إلى هذا الحزب ويظن أنه سينتصر على سياسة المستر شامبرلن ويُوقِفها أو تتداخل الدول بينهما، وخصوصًا ألمانيا، لِمَا كانت تُظهِره من الانعطاف والوداد، ولكن خابَ ظنُّه وذهبت مساعي هذا الحزب أدراجَ الرياح، ولم تتداخل أي دولة من الدول في هذا الأمر، بل تركتهم وشأنهم.
- أولًا: الفصل في المسائل الحادث فيها الخلاف بيننا بواسطة التحكيم، أو بأي واسطة أخرى يصير الاتفاق عليها.
- ثانيًا: الأمر بسحب الجنود الإنكليزية الواقفة على الحدود حالًا.
- ثالثًا: استرجاع ما زاد من الجنود التي أُضِيفت على جيش مستعمرة الكاب من ابتداء شهر يونيو.
- رابعًا: الجنود الآتية في البحر لا تنزل إلى البر، بل تعود من حيث أتت.
وها نحن في انتظار الإفادة لغاية يوم الأربعاء ١١ أكتوبر الساعة الخامسة بعد الظهر، وإذا لم يأتِنا ردٌّ مُرضٍ في الميعاد المحدَّد نعتبر ذلك بمثابة إعلانِ حربٍ تعود مسئوليتها على الحكومة البريطانية، ونكون نحن بريئين من تبعتها.
فأرسل في الحال السير ألفريد ملنر هذا البلاغَ على جناح البرق إلى حكومته، فكان له وقْعٌ سيئ في نفوس جميع الإنكليز، حتى إن الحزب الذي كان يدافع عنهم في إنكلترا أمسَكَ عن اعتراضه، وعدَّ ذلك عنادًا وإهانة. وفي ١٠ أكتوبر الساعةَ العاشرة والدقيقةَ الخامسة والأربعين مساءً بعث المستر شامبرلن إلى السير ألفريد ملنر تلغرافًا يقول فيه: «بلِّغْ حكومة الترنسفال أن تلغرافهم عُرِض على جلالة الملكة، فرفضتْ قبوله.»
وفي ١١ أكتوبر تحرَّك جيش الترنسفال بقيادة الجنرال جوبير، وسار إلى مستعمرة الناتال وحاصَرَ مدينة لادي سميث، وكان قائدُ حاميتها الكولونيل كيكوينش، وكان معه نجلُ اللورد سالسبوري والمستر سسل رودس عدوُّ البوير، وحاصَرَ مدينة مفكنج، وكان قائدُ حاميتها الكولونيل بادن بول (هو اليومَ ميجر جنرال)، ثم تطوَّع لجيش الترنسفال عشرون ألفًا من البوير الخاضعين لإنكلترا في مستعمرة الكاب والناتال، وأعلن الرئيس كروجر بأنه يعطي مكافأةً قدْرُها عشرون ألف جنيه لمَن يأتي بالمستر سسل رودس حيًّا أو ميتًا.
ولمَّا تطايَرتْ إلى لندرا أخبارُ حصار المدن الثلاث أمرت الحكومةُ الجنرال السير ردفرس بولر بالذهاب إلى جنوب أفريقيا لاستلام القيادة العامة للجيش البريطاني، فأبحر إلى هناك مع أركان حربه في ١٥ أكتوبر سنة ١٨٩٩، وفي ٢٠ منه حدثت واقعة جلانكوي حيث أُصِيب الجنرال سيمونس برصاصةٍ في أمعائه، وقبل أن يفارق الحياة أُخِذ أسيرًا، فحينما رأت الجند أن هذا البطل العظيم أُصِيب وأُسِر هجموا على البوير قائلين: «فَلْننتقِم لقائدنا.» فأخذوا منهم قِممَ دندي وهزموهم، فارتدَّ البوير خاسرين ومعهم الجنرال سيمونس يتألم من جروحه، ويهنئ نفسه بفوز جنوده. وفي الساعة الخامسة من مساء ٢٦ أكتوبر فارَقَ الحياة الدنيا مأسوفًا عليه، وكان لخبر وفاته وقْعٌ سيئ في قلوب جميع الإنكليز، وأرسلت جلالة الملكة رسالةً إلى اللادي سيمونس تعزِّيها على فقْدِ زوجها.
وحينما وصل الجنرال بولر إلى الناتال كان موضوع خطته الحربية خلاصَ لادي سميث من الحصار أولًا، ثم المدن الباقية بعدها، وبعد وصوله ظلت إنكلترا تنتظر أخبارَ النصر حتى مضت الأيام الطوال، ولم يأتِهم ما يفرِّج كربهم، بل كانت أخبارُ الكسرات المتوالية تطنُّ في كل وقت، حتى تخيل لكل أحدٍ أن الدولة الإنكليزية ستقضي نحْبَها في هذه الحرب، وصارت الدول المعادِية لها تُظهِر الشماتةَ والازدراء، ولم يزل الأمر على هذا الحال والحكومة الإنكليزية ترسل الجنودَ والعُدَد الحربية من وقتٍ إلى آخر، ولكن بدون فائدة حتى خافت العاقبة بعكس البوير الذين كانوا ثمِلِين بخمرة الانتصارات العديدة في جميع وقائعهم.
وفي ١٧ ديسمبر سنة ١٨٩٩ اجتمع البرلمان الإنكليزي وقرَّرَ زيادةَ الجيش إلى مائة ألف مقاتل، وتعيينَ اللورد روبرتس قائدًا عامًّا، واللورد كتشنر بطل الخرطوم رئيسًا لأركان حربه، وجعْلَ الجنرال بولر قائدًا حرًّا على ثُلث الجيش فقط، منعًا لمسِّ إحساساته، وحينما وصلت الأوامر إلى اللورد كتشنر في مصر قام في الحال في ٢٧ ديسمبر إلى جبل طارق حيث تقابل مع اللورد روبرتس، وفي ١٠ يناير سنة ١٩٠٠ وصلا إلى مدينة الرأس، فعند وصولهم عزم اللورد روبرتس على تغيير الخطة التي سار عليها الجنرال بولر، فأمر الجنرال فرنش أن يقود ثلاثةَ أَلْوية من الفرسان والطبجية والبيادة، ويسير بهم شرقًا عابرًا نهر مدر حتى يصل إلى أورنج، ثم أمر فريق الجنرال طوكر واللورد كتشنر أن يقوما بإثره وألحَقَ بهم الجنرال كليكني، فعبروا نهر مدر من جهة معبر كليب، فصادفوا البوير في طريقهم، فتغلبوا عليهم، وفي ١١ فبراير سنة ١٩٠٠ استولوا على ثلاثة معسكرات، وفي ١٦ منه دخل الجنرال فرنش مدينةَ كمبرلي بعدما رفع عنها الحصار، فقُوبِل بالدعاء والسرور العظيم.
أما الجنرال كرونجي الذي كان محاصرًا لكمبرلي، فتقهقر برجاله قاصدًا بلوم فنتين ليحصِّنها ويردَّ هجمات الإنكليز عنها، فجدَّ الجنرال كليكني واللورد كتشنر في إثره، وفي ١٧ فبراير سنة ١٩٠٠ غنم الإنكليز منه ٩٥ مَرْكبة محمَّلة بالذخيرة، وفي اليوم المذكور كان التعب قد أنهَكَ قوى البوير، فوقف الجنرال كرونجي في نقطةٍ اسمها باردي برج بالقرب من نهر مدر في أرضٍ منبسطة، وصفَّ المركبات الباقية معه على شكلِ دائرةٍ حول جنوده، وأخذ بإطلاق الرصاص على الإنكليز فجاوَبتْهم بالمثل، وفي ١٨ منه جاء الجنرال فرنش ليساعد الجنرال كليكني واللورد كتشنر، ثم لحقه اللورد روبرتس، وفي ١٩ منه أحاطت الجنود الإنكليزية بجيش الجنرال كرونجي من كل جانب، ولمَّا تيقَّنَ هذا الأخير بعدم الخلاص وقد فقد من جيشه ٨٠٠ مقاتل وكثيرًا من الخيل، أرسَلَ إلى اللورد كتشنر يطلب هدنةً ليدفن القتلى، فردَّ عليه بقوله: «لا أوقف القتالَ حتى تسلِّم.» فأبى كرونجي التسليمَ وأصرَّ على القتال حتى يُقتَل، وفي مساء ٢٦ فبراير هجمت الإنكليز على خنادق البوير وحمِيَ وطيسُ القتال في هذه الليلة، حتى تمزَّقت القلوب، ولما لاح الفجر أتى رسولٌ من البوير رافعًا رايةً بيضاء وبيده كتابُ التسليم بدون شرطٍ من الجنرال كرونجي، فأُوقِفَ القتال، وتم الفوز في هذا اليوم للإنكليز الذي في مثله من سنة ١٨٨٠ كُسِروا على تل ماجوبا، وقد محا هذا النصرُ الأخير ذِكْرَ الانكسار السيئ. وفي ٣ مارس ١٩٠٠ أبحر الجنرال كرونجي ومَن معه إلى جزيرة القديسة هيلانة.
وبينما كان اللورد روبرتس يحارِب البوير شرقًا في باردي برج، كان الجنرال بولر يحاربهم غربًا عند نهر توجلا، وقد انتصر عليهم وهزمهم ورفع الحصارَ عن لادي سميث، وكان فرح الأمة الإنكليزية عموميًّا لا يُوصَف لِمَا أحرزوه من النصر المتوالي، ووردت رسائلُ التهاني إلى جلالة الملكة، كما أن جلالتها أرسلت التهاني أيضًا لجميع قوَّادها في جنوب أفريقيا.
وفي ٦ مارس سنة ١٩٠٠ أرسل الرئيسان كروجر وستين رسالةً برقية إلى اللورد سالسبوري يطلبان منه الصُّلْحَ على شروطٍ أهمُّها حفْظُ استقلالهما، فأجابهما في ١١ منه يقول: «إن حكومة جلالة الملكة لا يمكنها إجابتُكم إلا بالرفض القطعي وعدم الرضاء باستقلالكما.» فأرسل الرئيسان إلى جميع الدول يستغيثان بها ويطلبان منها التداخل في أمرهما، فرفضت طلبهما، فانتخب البوير وفدًا منهم برئاسة المستر فلورنزا رئيس وزارة أورنج، والمستر فيشر رئيس وزارة الترنسفال، وقام الوفد المذكور في ١٢ مارس قاصدًا الذهاب إلى عواصم أوروبا لإلقاء الخُطَب وتهييج الرأي العام للأخذ بناصرهم.
أما إنكلترا فما اكترثت بما فعله البوير، وظلت تقاتل إلى أن بقي بينها وبين بلوم فنتين خمسة عشر ميلًا، ومن ثَمَّ أرسل اللورد روبرتس إلى الرئيس ستين يطلب منه التسليمَ فأبى، وكان إباؤه بعكس رغبة الأهالي؛ ولذلك هرب إلى مدينة كرونستاد وجعلها عاصمةً جديدة لحكومته، وفي الساعة الثامنة من صباح ١٣ مارس دخل اللورد روبرتس مدينةَ بلوم فنتين، ورفع عَلمًا بريطانيًّا فوق ديوان الجمهورية كانت صنعته اللادي روبرتس بيدها، وأعلن في الحال باسم جلالة الملكة احتلاله لعاصمة جمهورية أورنج رسميًّا، وعين الجنرال بريتمان حاكمًا عسكريًّا للمدينة.
وفي ١٥ مارس سنة ١٩٠٠ استقال الجنرال جوبير من قيادة الجيش العامة؛ لأنه كان يُلِحُّ كثيرًا على الرئيس كروجر في طلب الصُّلْح أيامَ انتصارهم فلم يسمع الرئيس لكلامه، حتى وقعوا فيما كان يخشاه، ولما قنط من النصر فضَّلَ الاستقالةَ وأوصى بتسليم القيادة بعده للجنرال بوثا.
أما الجيوش الإنكليزية فلم يَزَل النصرُ قائدَهم حتى أنقذوا مدينةَ مفكنج، فدخلها فيلق الكولونيل ماهون في الساعة الرابعة من صباح ١٦ مايو بعدما عانى تعبًا شديدًا في رفع الحصار عنها، ثم فتحوا أكثر بلاد الجمهوريتين، ونخصُّ بالذكر مدينة جوهانسبرج التي فتحوها في غُرَّة يونيو سنة ١٩٠٠، وفي ٤ منه دخل اللورد روبرتس مدينة بريتوريا عاصمة جمهورية الترنسفال، وما زال الإنكليز يفتحون بلاد الجمهوريتَين الواحدة بعد الأخرى حتى أوائل أكتوبر سنة ١٩٠٠.
ولما تيقَّنَ الرئيس كروجر بعدم نجاح جنوده ووقوع أكثر بلاده في أيدي الإنكليز، قام من خليج دلاجوي في ٩ أكتوبر سنة ١٩٠٠ قاصدًا السياحة في عواصم أوروبا؛ ليطلب من ملوكها التداخلَ بينه وبين الإنكليز لإيقاف رَحَى الحرب وإعادة استقلاله تحت سيادة إنكلترا، أو بأي الشروط، وترك الرئيسَ ستين والجنرال دي ويت والجنرال بوثا وغيرهم في ساحة القتال، وقد امتنعت كل ملوك أوروبا عن التداخل ولازموا الحياد.
ولقد أظهرت هذه الحرب ما أدهَشَ العالَمَ بأسره من فِعال المتحاربين؛ فالبوير على قِلَّتِهم قد أتَوْا بما يُدهِش العقل ويَحار له الفهم من ضروب الشجاعة والصبر على الدفاع عن بلادهم، حتى صارت أخبارهم لا تكاد تُصدَّق لاستعظامها، فجديرٌ بتاريخهم أن يُحفَظ بخزائن الفكر ويُرسَم على صفحات القلوب؛ لأنهم شخَّصوا في ميدان القتال روايةً عظيمة ذات فصول مهمة، كان موضوعُها محبةَ الوطن والدفاع عن الاستقلال.
وقد شخصت هذه الحرب أيضًا نصبَ أعين العالم آخِرَ ما تصل إليه مداركُ الإنسان، ونبَّهت الأفكارَ إلى تقلُّبات الأيام وتغيُّراتها السريعة التي لم تكن في الحسبان، فبعدما كانت جمهوريتا أورنج والترنسفال في استقلالٍ تام واطمئنان عظيم تعلِّلان النفْسَ بتوسيع نطاق أملاكهما، قلب لهما الدهرُ آمالَهما بهدم استقلالهما، وصارت الجمهوريتان مستعمَرتَيْن إنكليزيتَين ابتداءً من منتصف سنة ١٩٠٠، فسبحان مغيِّر الأحوال ومبدِّل الآمال.