عوايد البوير وصفاتهم
للبوير صفات حسنة ومزايا جميلة نادرة الوجود في باقي الأمم، ولهم في الشجاعة وإتقان الفنون الحربية شهرة تحاكي الشمس، لا يختلف فيها اثنان، ولغتهم الهولندية، وهم أصحاب تقوى، ميالون إلى السلم، محبون للحق، كارهون للكذب، ويعتنون كثيرًا باقتناء الكتاب المقدس؛ ولذلك لا تجد منزلًا لهم، حقيرًا كان أو عظيمًا، إلا وفيه هذا الكتاب، وهم يقرءون فيه يوميًّا عند الصباح وجزءًا عظيمًا من الليل، ولا يُنشدون الأغاني الغرامية، بل إذا كانوا فرحين يرنمون الترانيم الروحية، عاملين بقول الإنجيل: «إذا كنت فرحًا فرتل وإذا كنت حزينًا فصلِّ.» ولا يعرفون للكسل معنًى بل هم أقوياء البنية.
متصفون بالنشاط التام والاجتهاد المستمر، وهم قليلو الشفقة على غيرهم، ولا يميلون إلى التملق، وكانوا لا يحبون تثقيف عقولهم بالعلوم والمعارف، ولكنهم عدلوا عن هذه الخطة من زمن ليس ببعيد، وتَغيُّر خطتهم هذه هي التي أحوجتهم لإرسال شبانهم إلى العواصم الأوروبية.
ولكن عادات تلك العواصم لم تؤثِّر على طباعهم، بل ظلوا على كرههم للتمدن الحديث، ينفرون منه كما ينفر الإنسان من الأفعى، أما لونهم فأشقر، وهم حِسان الخَلق والخُلق، ونساؤهم على جانب عظيم من الرشاقة والخفة، جمعن بين رشاقة القدِّ وذكاء العقل، وتحلَّين بالعفة والشرف، وعندما يصل الرجال والنساء إلى درجة الشيخوخة يميل الفريقان إلى السِّمن. وأول شيءٍ ما يُربَّى عليه أولادهم الخضوع التام لسلطة الوالدين وتوقيرهما؛ ولا يتأنقون في ملابسهم، والمُثرون منهم يستثمرون أموالهم بالتجارة والزراعة، أو يضعونها في صناديق ويفضِّلون حفظها فيها عن إقراضها بالربا؛ إطاعةً للأوامر الإلهية المدوَّنة في الكتب المقدسة، القائلة: لا تعطِ فضتك بالربا. وكل منهم يختار لسكنه قطعةً من الأرض لا تقل مساحتها عن ستين فدانًا مصريًّا، فيشيد له منزلًا في جزء منها؛ ولذلك تجد منازلهم بعيدة عن بعضها بعدًا شاسعًا، ويبنون الزرائب لمواشيهم في قطعة بعيدة عن المنزل، وما تبقى من الستين فدانًا يُترك بعضه مرعًى للماشية والقسم الآخر يُزرع حبوبًا وبقولًا وما شاكل ذلك. وبعضهم يقتني النعام ويبيعون ريشها في منيا اليصابات. ومن عاداتهم الصمت؛ حتى ربما يسير أحدهم مع أخيه أو صديقه طول النهار في طريق واحد وهو صامت لا يتكلم إلا للضرورة. وكل فرد منهم يسعى بجد واجتهاد لتوسيع نطاق أملاكه، وما يعود بنمو ثمارها وبإكثار نتاج ماشيته التي يتولى رعيها بنفسه. ومن صفاتهم شدة كرههم للدولة البريطانية؛ نظرًا لنفوذ كلمتها وامتداد سطوتها التي تشمل كثيرًا من إخوانهم القاطنين في المستعمرات الإنكليزية، وهم يحتقرون الجنس الأسود، ولا يكلمونه إلا بالخشونة والعنف؛ لما هو كامن في الصدور من الحقد المتبادل بين الطرفين، الناتج عن الدماء التي بينهم. وهذه الطباع يتوارثها الأبناء عن الآباء. ولما كانت فلاحة الأرض وزراعتها مهنة البوير ألقوا أتعابها ومشاقَّها على العبيد المساكين الذين يتحملون ذلك بمزيد الكره والملل؛ لما يقاسونه من الضرب والإهانة، ومضض المعيشة والازدراء، فضلًا عن التعب الشديد في تأدية خدمتهم التي فوق الطاقة. ومما يزيدهم حزنًا وكرهًا أنهم لا يقبضون من البوير مقابل أتعابهم إلا الصفع على القفاء والضرب المؤلم.
أما الصيد والقنص وحمل السلاح فعامَّة فيهم، وهي مزية حسنة خاصة بالبوير، يمتازون بها عن الأمم المختلفة، فعندما يبلغ الولد العاشرة يحمل البندقية وتكون هي لعبته الوحيدة، فيتمرن أولًا على صيد العصافير الصغيرة، ثم الطيور الكبيرة، وهكذا إلى أن يصل إلى صيد الوحوش الضارية، فلا يبلغ الرابعة عشرة إلا وقد حذق فن الرماية كأحسن الماهرين به، وفي ذلك منتهى الإعجاب.
وإذا أراد أحدهم الزواج يكتب قائمة بأسماء الفتيات الموجودات في المنازل المجاورة له، وحينئذٍ يضع له ريشة مخصوصة لهذا الأمر في قبعته، ويركب جواده ويذهب إلى منازلهن، وعندما يصل إلى منزل إحدى الفتيات المذكورات يدخله بسكون، ويقدِّم لوالدة الفتاة علبة من مربى البرقوق، وللفتاة شمعة مصنوعة من شمع النحل، فتدركان بذلك القصد من زيارته؛ والفتاة مخيرة حينئذٍ في قبول الشمعة أو ردِّها إذا كانت لا تقبله زوجًا لها، فإذا ردَّتها غادرهما في الحال وامتطى صهوة جواده قاصدًا منزلًا آخر، أما إذا حلَّ طلبه محل القبول، فتأخذ الفتاة الشمعة وتوقدها، فتأتي الوالدة بدبوس وتدسه في الشمعة على مسافة أربعة سنتيمترات أو ثمانية من أعلاها، ويأخذ الفتى والفتاة يتحدثان حتى إذا بلغ النور الدبوس قُفل باب الحديث بينهما، ولكن ذلك لا يمنع الفتاة من نقل الدبوس إلى أسفل؛ لإطالة المدة والتلذذ بالمحادثة إذا طابت لهما، ومتى انقضى حديثهما تذهب الفتاة إلى والدتها، وتخبرها بما تراءى لها من مكالمتها معه، ففي الحال يُحدد يوم الاحتفال بالقران، وليس للوالد أدنى مداخلة بأمر الزواج، بل المنوط به الأمهات فقط مع البنات، وإذا تُوفيت زوجة أحدهم فلا يسوغ له أن يتزوج إلا بعد مضي ثلاثة أشهر على الأقل من تاريخ الوفاة.
ديانتهم ومذاهبهم
يا إله الرحمة، ارحم شعبك هذا؛ لأنه هرب ليعبدك بسلام بعد أن تحمَّل الأتعاب الشاقة، وقاسى أهوال القتال من الأشرار الذين لا يعرفونك. والذين يعرفونك ولا يعملون بوصاياك. وأنت يا إلهنا كنت لنا معينًا في الشدة، ومنقذًا وقت الضيق، ولم تزل ترفق بنا وتغمرنا بمراحمك الإلهية. ولما كنا على شفاء الهلاك ناديتنا بفمك الطاهر الشريف بهذه الكلمة، قائلًا: عش يا شعبي وتبارك وكن عظيمًا. فكنا يا إلهنا كما قلت. ولم تتخلَّ عنا إلى هذا الوقت؛ لأننا متمسكون بمحبتك الثمينة والخضوع الدائم لوصاياك، فأعنا يا إلهنا ولا تنسَنا من الآن وإلى الأبد، آمين.
ولهم عيد عظيم يحتفلون به سنويًّا، وهو يوم ١٦ ديسمبر، ويُسمى عندهم يوم دنجان، وهو تذكار لواقعة حربية كانوا قد انتصروا فيها انتصارًا عجيبًا، وسيأتي الكلام عليها.
أما المذاهب عندهم فثلاثة؛ أولها المذهب البروتستانتي، وهو أكثرها انتشارًا بينهم، وهو المذهب الرسمي الذي تعتبره الحكومة، ويليه المذهب الأرثوذكسي، ثم الكاثوليكي، وهو أقل المذاهب انتشارًا هناك.
العلوم والمعارف
بلغ تعداد المدارس في كل أنحاء الجمهورية لغاية سنة ١٨٩٩ «٥٠٠ مدرسة»، فيها ١٣٥٦١ من الطلبة، يتلقَّون فيها اللغة الهولندية، ويُوجد غير ذلك مدارس مخصوصة للإنكليز؛ لأن مدارس الترنسفال لا تجيز لطلبتها تعليم اللغة الإنكليزية التي يكرهونها ككرههم لأصحابها. وتوجد مدرسة كلية في بريتوريا. وفضلًا عن هذه المدارس، فإنه يُوجد أساتذة تُعلِّم القاطنين في القرى البعيدة عن المدارس. وقد كانت المعارف منحطة إلى أدنى الدركات، ولكنها أخذت ترتقي في السنين الأخيرة، حتى بلغت مقامًا رفيعًا، ولم يكتفِ شبان البوير بمدارسهم هذه، بل سار بعضهم إلى مدارس أوروبا؛ لتلقي العلوم العليا، وخصوصًا الطب والصيدلة، وهذا بيان تعداد الطلبة في أربع سنين مختلفة، ومنه يتضح مقدار تقدُّمهم:
سنة | تلميذ | مصاريف |
---|---|---|
١٨٨٥ | ١٠٠٠ | ٢٠٠٠٠٠ |
١٨٩٠ | ٨٠٠٠ | ٨٠٠٠٠٠ |
١٨٩٥ | ٧٠٠٠ | ١٤٠٠٠٠٠ |
١٨٩٨ | ١٣٠٠٠ | ٢٢٠٠٠٠٠ |
المحاكم والقوانين
لكل مقاطعة في بلاد الترنسفال محكمة ابتدائية تُسمى «لندروست»، للحكم في القضايا المدنية التي لا تتجاوز قيمتها خمسمائة جنيه، وفي القضايا الجنائية التي لا يتجاوز الحكم فيها غرامة قدرها خمسة وسبعون جنيهًا، أو السجن أو الأشغال الشاقة لستة أشهر فقط، أو خمسة وعشرين جلدة، وتُستأنف أحكام هذه المحاكم إلى محكمة عليا، يرأسها قاضٍ من مجلس القضاء العمومي، وهذا المجلس مؤلَّف من قضاة منتخبين من ثلاث مقاطعات مختلفة، ومن ثمانية عشر عضوًا من ثمانية عشر مقاطعة، ينظرون في القضايا الكبرى المهمة، إذا لم يقتنع أربابها بالأحكام الابتدائية والاستئنافية، ويرأس هذا المجلس رئيس الجمهورية، وأحكامه نافذة على جميع القاطنين في بلاد الترنسفال. ولكل مقاطعة لجنة مشكَّلة من ثلاثة أعضاء منتخبين من أعيان البوير القاطنين فيها، وأصحاب أملاك بها للنظر في القضايا المختصة بالأراضي، ويحكمون بما يتراءى لهم، ثم يعلنون للمتنازعين الحكم الذي أصدروه، ويرفعون بذلك تقريرًا لمجلس القضاء العمومي لتنفيذ حكمهم. وفي كل مقاطعة محكمة صغرى اسمها «فيلدكورنت»، للنظر في القضايا المنزلية والمنازعات التي تحدث ما بين المستخدمين والمخدومين، وتُستأنف قضاياهم كغيرهم إلى المحكمة العليا، أو مجلس القضاء العمومي. وأما القضايا التي تكون بين الزنوج فقط؛ فإنها تُنظر أمام لجنة مشكَّلة من بني جنسهم؛ إلا القضايا الكبرى، فإنها تُرفع إلى المحكمة العليا، أو مجلس القضاء العمومي للنظر فيها بحسب ما يتراءى للنائب العمومي.
أما قوانينهم فعلى قاعدة القانون الروماني الهولندي.
تقسيم الحكومة
تنقسم حكومة الترنسفال إلى ثمانية عشر مقاطعة — كالمديريات في القطر المصري — ولكل مقاطعة حاكم خصوصي كالمدير، ينتخبه مجلس التنفيذ لمدة ثلاث سنوات، وتنقسم كل مقاطعة إلى أقسام أخرى كالمراكز، لكل قسم منها حاكم كمأمور المركز؛ لتحصيل الأمور الأميرية، وإدارة أشغال الضبط والربط والتنظيم، والإقرار على الطلبات التي يجب طلبها من الحكومة لمصالح البلاد. وفي أيام الحرب تكون له السلطة في تجنيد الشبان المطلوبين من قسمه، وحكام الأقسام المذكورة يكونون تحت سلطة حكام المقاطعات. ولكل مقاطعة مجلس يُسمى مجلس المقاطعة، مؤلف من أعضاء منتخبين من الأقسام التابعة لها، وهذا المجلس يجتمع تحت رئاسة حاكم المقاطعة للنظر والإقرار على الطلبات التي يجب طلبها من الحكومة وفي ربط الضرائب، وينتخب من كل مقاطعة عضوين أو ثلاثة أعضاء من نخبة البوير، ينوبون عن الأهالي أمام الهيئة الحاكمة، ويتألف من هؤلاء المنتخبين مجلس الفولسكراد (مجلس النواب)، وأعضاؤهم اثنان وأربعون، كل منهم يُنتخب لمدة أربع سنوات، يقضيها في عضوية المجلس المذكور، ولا يُخول له الحق في الاستعفاء ما لم يكن قضى فيه سنتين، ومتى انسحب أحدهم ينتخب في الحال بدلًا عنه من أهالي مقاطعته، ويُشترط لقبول كل منتخب أن يكون متحصلًا على الشروط الآتية وهي؛ أولًا: أن لا يقل عمره عن الثلاثين سنة. ثانيًا: أن يكون مسيحيًّا تابعًا للمذهب البروتستانتي. ثالثًا: أن يكون من القاطنين في البلاد، وله أملاك فيها. رابعًا: أن لا يكون أبوه أو أحد أبنائه منتخبًا في ذلك المجلس. خامسًا: أن لا يكون أحد أبويه غريب الجنسية. سادسًا: أن لا يكون ضابطًا في الجيش.
وهذا المجلس لا يمكن إلغاؤه إلا إذا أقر جميع الأعضاء على ذلك، وهو الذي ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس سنوات كاملة، ويمكن تجديد الانتخاب عند انتهاء كل مدة. وللرئيس المذكور الكلمة النافذة، ويقوم بمساعدته مجلس يُسمى مجلس التنفيذ، ينتخب أعضاءه مجلس الفولسكراد، وهو مؤلَّف من وكيل الجمهورية الذي يُنتخب لمدة عشر سنوات، ومندوب عن الزنوج يُنتخب لمدة سنتين، ومن اثنَين مستشارَين من مجلس القضاء العمومي؛ لينوبا عنه مدة سنتين، ويرأس هذا المجلس رئيس الجمهورية، ولأعضاء مجلس التنفيذ كراسي مخصوصة في مجلس الفولسكراد، وليس لهم أصوات فيه، لكنهم ينظرون في آراء الأعضاء ومناقشاتهم، وما يتفقون عليه من الأمور العائد تنفيذها إلى رئيس الجمهورية وإليهم. ويرتبط بمجلس الفولسكراد المذكور مجلس يُسمى الراد، وأكثر أعضائه من الأجانب الذين لا تقل مدة إقامتهم ببلاد الجمهورية عن أربع سنوات، وهذا المجلس مكلف بالنظر في أشغال المعادن والتجارة، وهو تحت رئاسة مجلس الفولسكراد الذي ينتخب أعضاءه، ولا يعتبرون الرجل وطنيًّا ما لم يكن مولودًا في البلاد، ووالده من البوير، وأما الأجانب فينالون حقوق الوطنيين بعد إقامة أربعة عشر عامًا في البلاد.