أسطورة الدم وانحطاط السلالات المختلطة
لقد كان اختلاط دماء المجموعات والسلالات مادةَ نقاش لا نهاية له، وتتجدد الآراء في هذا الموضوع تبعًا لوجهات النظر فيما يختص بالسلالة واختلاف السلالات. لهذا نرى مناهضي اختلاط السلالات يبدءون بافتراض عدم تساوي البشرية، حين يبدأ مؤيدو الاختلاط بالاعتقاد بأن الاختلافات بين المجموعات البشرية ليست بالدرجة التي تُصبح معها عائقًا للاختلاط. ومن ثم فإن أول ما نحتاج إليه لدراسة المشكلات المترتبة على اختلاط السلالات هو، بلا شك، تعريف واضح لمدلول كلمة السلالة، واختيار المقاييس التي يُمكن بواسطتها تقرير ما إذا كانت هناك سلالات نقية أم لا.
وبناء على أكثر التعريفات ميوعة، فإن كلمة السلالة تعني: وجود مجموعات تشترك في مميزات جسدية معيَّنة متشابهة، وهذه الصفات الجسدية تَتَّسم بصفة الدوام والاستمرار بناء على قوانين الوراثة البيولوجية، مع تَرْك هامش أو فرصة للتغيرات الفردية.
وسكان أوربا متعددو الأصول لدرجة أن أي محاولة لتصنيفهم على أساس صفتين جسديتين فقط (مثل: لون العين والشعر) ستنتهي باستثناء ثلثي السكان في أي إقليم من أقاليم أوربا يقع عليه الاختيار لدراسته، أي: أننا سنجد اشتراك هاتين الصفتين في ثلث السكان فقط. وبإضافة صفة جسدية ثالثة مثل (تكوين الجمجمة) إلى الصفتين السابقتين يتبقى لنا مجموعةٌ أصغرُ من السكان يظهر فيها الترابط المطلوب بين الصفات الجسدية الثلاثة. وإذا أضفنا إلى هذه الصفات طول القامة، والنسبة الأُفُقية فإن عدد السكان الذين تظهر فيهم هذه الصفات كلها سيتضاءل إلى حد كبير.
وأكثر من هذا، فإن وجود السلالات المغولية والزنجية في أوربا في عصر ما قبل التاريخ يُعد دليلًا آخر على أن اختلاط السلالات ليس ظاهرة حديثة، وأن أقدم سكان أوربا ليسوا إلا نتاجًا لعملية الاختلاط بين السلالات التي استمرت آلاف السنين، ومع ذلك فسكان أوربا لا يتسمون بعدم الانسجام، أو التدهور الذي يعتقد كثير من الكُتَّاب أنه ينجم عن اختلاط السلالات.
ويُشير التاريخ إلى أن جميع الأقاليم التي نشأت فيها حضاراتٌ عالية كانت موضع عملية غزو من جماعاتٍ من البدو الرُّحل للسكان الأصليين، تنتهي بانهيار التقسيم الطبقي، وتكوين خليط جديد من السكان، وهؤلاء، وإن اعتبرهم البعض أُممًا متجانسة جنسيًا، ليسوا في الواقع سوى قوميات جديدة تضم سلالات مختلفة.
والثابت أَنَّ كُلًّا من نظامي الإضواء (التزاوج الداخلي)، والاغتراب في الزواج يُستخدم حسب الحاجة في حالات تحسين النسل بين الحيوانات، فإذا كانت هناك سلالة من الحيوان تتميز بصفة مرغوبة من جانب صاحب المزرعة فإن التزاوج الداخلي بين أفراد هذه السلالة يستمر أجيالًا عدة دون خَلْطِهِ بدماء غريبة، ودون أن يظهر على هذه الأجيال أي مظهر من مظاهر التدهور. ونظام الإضواء يكشف للباحث كل الإمكانيات الوراثية لأية مجموعة، ذلك أنه يُظهر باستمرار كل الصفات الوراثية الكامنة، التي تظل كامنة إذا كانت ممثَّلة في واحد من الأبوين (أي: إذا كان الأب والأم من سلالتين مختلفتين). أما في الحالات التي تكون الرغبة فيها متجهة إلى التخلص من بعض الصفات فإن الخطوة الضرورية المنطقية هي اتباع نظام الاغتراب لإتاحة الفرصة لتقديم عاملٍ وراثيٍّ جديد قوي يُضعف الصفة الكامنة غير المرغوب فيها.
وهكذا، فإن النتيجة المباشرة للاختلاط والتهجين هي وقف عيوب كامنة وراثية في السلالة أو الجنس. وبعبارة أخرى: فإن التزاوج داخل السلالة يُظهر العيوب والشذوذ الكامن الوراثي، في حين أن الاغتراب (الاختلاط) يقضي عليها، أو يقلل من شأنها.
ومثل هذه الأدلة يمكن تطبيقها على حالات المواهب الوراثية المفيدة، والميزات والكفاءات، ومن ثم فليس في الاستطاعة أن نُؤكد في عبارات عامة أن آثار الاغتراب، أو التزاوج الداخلي في السلالة آثارٌ مرغوبة أو مكروهة، فإن طبيعة النتائج تتوقف في كل حالة على الميزات الوراثية للأفراد.
ويرى مؤيدو نظرية الاختلاط بين السلالات أن نظام التزاوج الداخلي يؤدي إلى تدهور الجنس، وأن العناصر المولدة، أو الخليطة، أقوى وأنشط نتيجة دخول «دماء جديدة» تزيد من حيوية المجموعة … إلخ. وهذا أيضًا تعميمٌ خاطئ يمكن رفضه بنفس الحجج التي رفضْنا بها الآراءَ السابقة.
- (أ)
نتائج الاختلاط بين جماعات ثبت قطعًا أنها فوق المتوسط وبين جماعات أدنى من المتوسط.
- (ب)
الشكل الذي تأخذه العوائق البيئية، والتي يجب على العناصر المولدة الخليطةِ الدماءِ مجابهتُها عادة.
فإذا كانت العناصر الخليطة في أي بلد من البلاد تُعامل على أنها تكوِّن مواطنين من الدرجة الثانية (سواء من النواحي الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية) فهناك احتمال كبير أَلَّا يتماثل ما يُسهمون به في البناء الحضاري للدولة مع قدراتهم الكامنة، ومن الواضح أنه يجب ألا تقوم دراسة آثار اختلاط الدماء على أساس المستوى الذي يصل إليه المولدون إذا كانوا يعيشون في ظل نظام طبقي متشدِّد لا يوجد فيه أدنى احتمال لأن يرتقي فيه الفرد عن المستوى الاجتماعي المنخفض الذي وُجِدَ فيه أبوه. ومن الناحية الأُخرى فإن نشاط المولدين في مجتمع يقوم أساسُ تقسيمه الاجتماعي على الجدارة الفردية؛ دليل قاطع على صفاتهم ومزاياهم.
وإنه من الصعب في الحقيقة أن نُميز بين آثار الاختلاط، والتهجين بين السلالات، على هذه الصورة، وبين الاختلاط والتهجين الذي يحدث بين الطبقات المنحطة اجتماعيًّا في الشعوب بغَضِّ النظر عن أصولهم الجنسية. وقد ظهر من بين حالات التهجين بين الطبقات الراقية في التقسيم الاجتماعي أفرادٌ من أحسن الناس، ولكن لا يجوز أن نعزو هذه النتائج في هذه الحالات إلى اختلاط الدماء فقط، وفي حالتنا العلمية الراهنة لا يوجد دليلٌ على أن اختلاط الدماء يترتب عليه تدهور أو ارتقاء في الأجيال المولدة.
ولا شك أن فكرة انقسام الإنسانية إلى أقسام وسلالات منفصلةٌ تمامَ الانفصالِ غيرُ صحيحة فهي مبنية على أُسس خاطئة ومبنية، على وجه الخصوص، على نظرية «الدم»، وآثاره الوراثية، وهذه النظرية خاطئةٌ خطأ النظريات العنصرية القديمة.
فجملة «من دم واحد» جملةٌ لا معنى لها؛ نظرًا لأن عوامل الوراثة لا علاقة لها مطلقًا بالدماء، وهي عوامل مستقلة لا تتحد، إنما تميل إلى التشعُّب والاختلاف، فالوراثةُ ليست سائلًا يقومُ الدم بنقله إلى السلالة. كذلك ليس صحيحًا أن دماء الآباء والأُمهات تتحد وتمتزج في نسلهما.
أولئك الذين ينحون هذا المنحى في التفكير هم في الواقع قاصرون تمامًا عن فهم طبيعة مظاهر الوراثة، والمظاهر الاجتماعية التي تلعب فيها الوراثة دورها: ولنا أن نتساءل: لماذا يختلف الأخوين في الشخصية، مع أن الدم الذي يجري في عروق كل منهما دمٌ واحد؟ وكيف نفسر ظهور مميزات، وصفات في بعض الأفراد كانت لأجدادهم، ولم تكن لآبائهم؟
وأخيرًا، فإن نجاح عمليات نقل الدم بين الأفراد من السلالات المختلفة — بشرط تجانس نوع ومجموعة الدم — لَدليل جديد قاطع على أن «أسطورة الدم» تفتقر افتقارًا كليًّا إلى أيٍّ من الأُسس البيولوجية.
وهناك أمثلة أخرى عديدة في أقاليم الحضارات العالمية الكبرى، مثل مصر والعراق والهند، وكلها تمثل المناطق التي التقت فيها السلالات والشعوب المختلفة واختلطت.
ولنضرب الآن أمثلة على حدوث اختلاطٍ بين السلالات التي تتكوَّن فيها شعوب نعدها شعوبًا متمدينة، فبريطانيا كانت منذ أقدم العصور مأهولة بسكان ينتمون إلى جنس الكرومانيون، وآخرين ينتمون إلى السلالة النوردية، وغيرهم ممن ينتمون إلى سلالة البحر المتوسط، والسلالة الألبية. وفي العصور التالية غزت بريطانيا قبائل السكسون، وجماعات نرويجية، ودانمركية وقبائل النورمنديين. وهيهات والحالة هذه أن نقول في عصرنا هذا: إن هناك جنسًا إنجليزيًّا نقيًّا، بل على العكس أمامنا من الأدلة ما يعطينا مثالًا طيبًا لخليطٍ جنسيٍّ عجيب.
وقد تشابهت مجريات الأحداث في قارات أخرى، وإذا كنا نعتقد أن اختلاط السلالات قد بلغ أقصى مراحله في القارات الأمريكية عقب اكتشاف كولمبس لها، فإن ذلك مرده فقط أننا نشهد عملية التهجين، والاختلاط بأعيننا، ومعاصرة الشيء أشد وقعًا من قراءته مدونًا في كتب التاريخ، وعلى كل حال يجب أن نضع في الأذهان أن سكان أمريكا قبل اكتشاف كولمبس لها كانوا أيضًا، ومنذ البداية، يمثلون خليطًا من السلالات، أي: أن الأميرند (الهنود الحمر) ليسوا بسلالة نقية.
وفي كل المناطق التي نجد فيها حضارات عالية نجد أيضًا غزوات وهجرات واختلاط أجناس، ولهذا فإن الادعاء بالتدهور نتيجة الاختلاط قد ثبت خطؤه؛ لأن كل سكان العالم عبارة عن نتاج اختلاط مستمر، يتزايد استمراره على الدوام.
وتشير الوقائع والحقائق إلى أن المجموعات البشرية المنعزلة لم يكن لها إلا قدر ضئيل، وربما لم يكن لها إطلاقًا أيُّ أثر في التقدم الحضاري البشري، في حين أن اختلاط السلالات كان من أكبر العوامل التي تُساعد كثيرًا من الجماعات على أن تلعب دورًا هامًا في تقدم المدنية وارتقائها.
والواضح أن هجرة الجماعات التي تنتمي إلى سلالة البحر المتوسط والقزويني إلى شمال إيطاليا كان له أثر واضح، بل ربما كان عاملًا من عوامل ازدهار عصر النهضة في تلك المنطقة. وإذا استطردنا في هذا الموضوع فإنه يصح لنا أن نتساءل: هل كان من قبيل الصدفة أن تبدأ المدنية الأوربية في التقدُّم، والارتقاء بعد العصور المظلمة على إثر تبلور الاختلاط الجنسي (الذي ساد أوربا خلال العصور المظلمة)، وتكوين شعوب جديدة مهجنة؟ وأخيرًا فإن أوضح الأمثلة على بلوغ عملية الاختلاط، والانصهار بين السلالات، والجماعات ذروتها هو — ولا شك — الولايات المتحدة الأمريكية: هذه الدولة تمثل في عصرنا الراهن أحد المراكز الرئيسية للمدنية الحديثة.
- (١)
لقد حدث اختلاط السلالات، والجماعات منذ فجر الحياة البشرية.
- (٢)
ينتج عن الاختلاط تغيُّراتٌ جسدية، ونفسية، ويسمح بظهور أنواع عديدة من تركيبات عوامل الوراثة، وبهذا يزداد مدى الصفات الوراثية في مجموعات السكان المهجنة.
- (٣)
واعتمادًا على الناحية البيولوجية لا يمكن القول إن التهجين، والاختلاط عاملان لهما آثار مباركة أو آثار سيئة؛ إذ إن أثر الاختلاط يستند أساسًا، وفي كل حالة، إلى الصفات الفردية للأشخاص الذين تحدُث بينهم عملية الاختلاط، وبما أن غالبية عمليات الاختلاط قد حدثت بين أفراد ينتمون إلى الأوساط الاجتماعية الدنيا، وفي ظروف اقتصادية واجتماعية غير ملائمة، فإن أسباب ظهور أنواع معينة من الشذوذ (والتدهور) التي سُجلت في هذه الحالات، يجب أن تعزى إلى هذه الحقيقة، وليس إلى الاختلاط ذاته.
- (٤)
أما وجود أمثلة عن سلالات نقية، أو مجموعات بشرية منعزلة استطاعت أن تُطَوِّرَ حضارة عالية مستقلة عن غيرها، فهي استثناء، لا قاعدة.
- (٥)
وعلى العكس من ذلك، فإن الغالبية العظمى من المناطق التي نشأت فيها مدنيات وحضارات عالية، قد غمرتْها مجموعات، وسلالات بشرية مختلفة.