خرافة الجنس الآري، أو تفوق العناصر النوردية
لم يقتنع أصحابُ نظريات الجنس بإعلان تفوُّق السلالات البيضاء على السلالات الملونة، ولا بنظريات التفرقة العنصرية، ولا بمحاربة اختلاط الدماء والسلالات، مؤكدين أن ذلك يؤدي إلى تدهور شامل في السلالات، فقد شعروا أنه من الضروري — بالإضافة إلى كل هذه النظريات — بالحاجة إلى إقامة زعامة مقدسة داخل السلالات البيضاء ذاتها، على أسس بيولوجية ونفسية، محاولين بذلك تبرير حقوق جديدة في الغزو والسيطرة والسيادة، يخصون بها سلالة أو طبقة معينة من السلالات البيضاء.
هذا هو أصل ومنشأ النظرية «الآرية»، أو «النوردية» التي تُنادي بعقيدة التفوق الجنسي، وقد تولدت عن هذه النظرية عدة نظريات أُخرى ثانوية، مثل «نظرية تفوق العنصر الجرماني» التي نشأت في ألمانيا، و«نظرية العنصر الأنجلوساكسوني» التي نشأت في كل من بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، «نظرية الكلتيين» التي نشأت في فرنسا.
وإذا كان الأمر كذلك، فلنبحث أولًا في أصل هذه النظرية الآرية، وتوزيعها، والصفات الجوهرية للعنصر، أو السلالة «الآرية.»
أصل الآريين Aryans
ويتضح من الأمثلة التي سبق ذِكْرُها مدى اختلاف الآراء حول الآريين، وكيف أن بعض هذه الآراء يتعارض تعارضًا تامًّا مع بعضه، وهذا التعارُض، والاضطراب في الآراء لا يسلمنا إلا إلى الاعتقاد بأن ما قيل عن الشعوب الآرية، والجنس الآري ليس إلا خرافة، وأسطورة؛ لأننا نجد المقاييس التي استُخدمت لتحديد الوطن للآريين لم تكن مقاييسَ موضوعية، بل شخصية بحتة، ودون الاعتماد على أَيِّ سند من الأسانيد العلمية.
مذهب الآرية والتيوتونية:
وقد كان لآرائه، وأفكاره أثرٌ كبيرٌ على الأفكار، والمعتقَدات السياسية، والفلسفية الأُوربية، وقد عُرف جوبينو منذ البداية في ألمانيا حيث عقد صلات وثيقة بالمؤلف الموسيقي المشهور رتشارد فاجنر، الذي ساعده كثيرًا في آرائه.
أما في فرنسا — موطن جوبينو — فقد تأخر الأخذ بنظريته التي أصبح لها أثرٌ كبيرٌ واضحٌ فيما بعد على الاتجاهات العامة.
وقد كان جوبينو سليلَ أُسرة بورجوازية ترجع إلى القرن السابع عشر، وكانت رغبة جوبينو المُلِحَّة أن يثبت الأصل النبيل الذي تنحدر عنه أُسرته، ولهذا فإن كتابته، وآراءه جاءت نتيجةً لأبحاثه التي أجراها ليوضِّح بها «تفوُّق طبقته ورُقِيَّها ونبالة محتدها»، ومن ثم فإن نظرية التفوق الجنسي عند جوبينو لم تكن مبنية على أُسس وطنية يرفع بها من شأن جنس وطنه، ويمجِّده، إنما كانت نظرية طبقية مؤسَّسة على تفوُّق الأرستقراطية، والدفاع عن هذه الطبقة، ومركزها الاجتماعي ضد تهديد الشعبية (البروليتارية) العمالية، و«الجنس الآري» الذي نادى به جوبينو لم يكن إلا طبقة «متفوِّقة» نقية الدماء خالية من التزاوج، والاختلاط تكوِّن أقليةً مختارة ذات امتيازات وحقوق خاصة، وُلدت لتحكم، وتتولى مقاليد الأُمور، وتوجه مصائر وأقدار الكتل الشعبية «المتخلِّفة» المختلطة الدماء، في كل دولة، وعلى هذا لم يكن جوبينو رغم جنسيته الفرنسية، من المدافعين عن رُقِيِّ الفرنسيين، ولا من المدافعين عن رقي الألمان، بل إنه أكد فقط «انتساب الطبقة الأرستقراطية — في أي دولة — إلى سلالة آريَّة نقية الدماء، راقية ومتفوقة على غيرها.»
هكذا ظل مفهومُ النظرية الآرية حتى قيام الحرب السبعينية بين فرنسا وبروسيا سنة ١٨٧٠، فقد تَغَيَّرَ مفهومُها من مذهب يؤكد التفوُّق الوراثي لطبقة اجتماعية معينة — وهي الأرستقراطية — إلى عقيدة تُنادي بتفوُّق، ورقي شعوب معينة، وعلى الرغم من الخطأ الشديد، الذي سنَتَبَيَّنُه فيما بعد، والناجم عن افتراض نقاوة بيولوجية لطبقة اجتماعية، فإن افتراض، وتأكيد النقاوة الجنسية لشعب ما؛ يُعَدُّ أسخفَ وأكثر خطأ من الافتراض السابق. ومع ذلك فقد وُجد بين الفرنسيين — كما وجد بين الألمان والشعوب الأنجلو سكسونية — من رجالات الفكر، ومن الساسة، ومن أشباه العلماء من كرسوا مواهبهم ونشاطهم لكي يثبتوا أن انتصارات المدنية العالمية كانت من اختراع شعوبهم وحدها ودون سواها من شعوب العالم، وقد وجَّه أبطالُ النظرية الآرية كل الثناء، والتقريظ للعنصر النوردي، امتدحوه على أنه المنبع الوحيد الذي أدت إشعاعاتُه إلى نُشُوء المدنيات العالمية، وإلى كل تقدم وإنتاج حضاري راقٍ في كل مكان وفي كل زمان. ومن بين الأمثلة على ذلك: أن جوبينو كان يعتقد أن نشأة الحضارة الصينية كانت نتيجة لتسرُّب «الدماء الآرية» إلى الصين.
وقد كان لتلاميذ جوبينو الفضل في تحديد النوع «الآري» على أنه طويل القامة، أزرقُ العينين، أشقر الشعر، طويل الرأس … هذا من الناحية الجسدية. ثم أضافوا إلى المقياس النواحيَ النفسيةَ التالية للعنصر «الآري»: حيوية الرجل، والنبالة الوراثية، ودافع طبيعي للهجوم والعدوان، مع نظرة موضوعية هادئة رزينة للأشياء، وكرهه لاستعمال الكلمات التي لا ضرورة لها والخطب الجوفاء، لا يستسيغ الأشكال والكتل غير الواضحة، فهم دقيق، حب الاستقلال والحرية، مع أخذ أنفسهم وغيرهم بالشدة، شعور كامل بالمسئولية، بُعد نظر إلى درجة عظيمة، وعزيمة قوية متماسكة، تتوافر فيهم صفات سلالة تتولى الزعامة والقيادة والأعمال العظيمة والأفكار والآراء الصائبة الحكيمة … إلخ.
وتمضي النظرية فتقول: إن كبار الشخصيات الأخرى في التاريخ عبارة عن اختلاط «دماء تيوتونية» «بالدماء الداكنة للأجناس الجنوبية»، وهذه الطبقة من مشاهير التاريخ تضم أمثال دانتي، رفائيل، مايكل، أنجلو، شكسبير، وهؤلاء تصفهم النظرية بأنهم «عباقرة ليس بسبب اختلاط دمائهم، ولكن بالرغم من هذا الاختلاط»، وأن «مواهبهم الطبيعية تمثل ما ورثوه عن الدماء التيوتونية التي تجري في عروقهم.»
وتُشير النظرية إلى «بولس» الرسول محاوِلةً إدخالَه ضمن «المجموعة الآرية»، فتقول: إن رجلًا عظيمًا مثل بولس لا يمكن أن يكون يهوديًّا مائة في المائة، ولذلك لا بد أن نكتشف بالبحث أن أباه كان يهوديًا، وأن أُمَّه كانت إغريقية.
ويظهر تقديس الجنس التيوتوني في أقصى درجات السخف في أبحاث فالتمان الخرافية حينما يؤكد — بناء على خيالات لغوية — الأصل الألماني لكثير من مشاهير الرجال في عصر النهضة، قائلًا: إن أسماء هؤلاء المشاهير أصلها ألماني ثم حُرفت، ومن أمثلة هذا التخريف الأسماء التالية: جوتو أصلها الألماني يوتو، ودانتي اليجيري أصلها الألماني آجلر، وفنشي أصلها الألماني فينكه، وتاسو أصلها الألماني داسه، وبوناروتي مايكل أنجلو أصلها الألماني بوروت، وفيلسكيز أصلها الألماني فيلاهيزه، وموريللو أصلها مورل، وديدرو أصلها تيتروه … إلخ.
مذهب الأنثروبولوجيا الاجتماعية والانتخاب الاجتماعي
- (١)
في الدول التي يحدث فيها اختلاط، وتزاوج بين الأجناس تتزايد الثروة بنسبة عكسية مع النسبة الرأسية، وبعبارة أخرى: فإن الأفراد الذين يتميزون بنسبة رأسية منخفضة (رأس طويل) أغنى من ذوي الرءُوس العريضة ذات النسبة الرأسية العالية.
- (٢)
السواد الأعظم من سكان المدن يتصفون برأس طويل، على حين تتصف الأغلبية العظمى من سكان الريف برأس عريض.
- (٣)
لحياة المدن أثر معين في الاختيار الاجتماعي يُلائم الأفراد ذوي الرءُوس العريضة.
- (٤)
هناك اتجاه كبير إلى تأكيد وجود صفة الرأس الطويل بين الطبقات الراقية بخلاف الطبقات المنحطة، والتنافس للوصول إلى مراكز اجتماعية عالية يؤدي إلى استبعاد ذوي الرءُوس العريضة الذين يُوجدون عادة كعمال، وأُجَرَاء.
- (٥)
منذ عصور ما قبل التاريخ، لُوحظ زيادة مضطردة في النسبة الرأسية، أي: زيادة عدد عِرَاض الرءُوس في أُوربا. وبناء على هذا يتنبأ دي لابوج باندثار «العنصر الأشقر الطويل الرأس»، وبالتالي يسود العالم عصر مظلم طويل.
وقد بُنيت الافتراضات السابقة كلها على أساس ما يسمى «قانون آمون» الذي يؤكد تركُّز ذوي الرءُوس الطويلة في المدن، و«تفوُّقهم» على ذوي الرءُوس العريضة.
وهناك نقطةٌ أُخرى مغايرةٌ لنظرية الرأس الطويل، والشقرة، فهناك حالاتٌ كثيرةٌ عن اتصاف كثير من المفكرين، والمثقفين بالرأس العريض ولون البشرة المائل إلى السمرة، ويحاول أمون تفسيرها، فيقول: إن «الاختلاط بالقليل من دم ذوي الرءُوس العريضة عملية رابحة؛ لأن ذلك يلطف من الحماس المتزايد عند الآريين، ويسبغ عليهم صفتي الصبر، أو السعي المستمر دون انقطاع، والتأمل الذهني، وهما عاملان يساعدان الآريين على صلاحيتهم للبحوث العلمية»، ويمضي فيقول: «وفي بعض الحالات نجد أفرادًا من النوع الألماني الحقيقي من حيث بياض البشرة، وشقرة العينين، والشعر، ولكنهم ذوو رءُوس عريضة، ومن ثم فهم من الناحية النفسية يرتبطون بالجنس عريض الرأس»، ثم يقول: «إن شكل الرأس هو العامل الحاسم في الموضوع كله؛ لأن الشكل يحدد شكل المخ، وبالتالي النوع النفسي الذي ينتمي إليه الفرد»، وقد بلغ التطرف أشده في زعم دي لابوج «أن الرأس العريض لدليل دامغ على عدم قدرة الأفراد الذين يتميزون به على رفع مستواهم فوق مستوى البربرية، والهمجية!»
وقد أثبتت الأبحاث الإحصائية، بما فيها أبحاث دي لابوج وأمون أن هناك ميلًا كبيرًا إلى الرأس العريض بين المثقفين، والمفكرين، ولون البشرة الأسمر، والمائل إلى السمرة بين من يسمون بالطبقات الراقية، وهذه النتائج تتعارض تعارضًا شديدًا مع نظريات أمون، ولابوج، ولكن لابوج حاول الهرب من هذه الحقيقة بالانغماس في سفسطائية جوفاء، فوصف هؤلاء المثقفين بأنهم أصحاب «رأس عريض خداع»، إنه فعلًا وصفٌ جميل، ولكنه حقًّا خالٍ كل الخلو من أي معنى أنثروبولوجي!
والحقيقة أنه لو أجريت دراسات أنثروبولوجية طبيعية على المثقفين، والمفكرين في دول مختلفة، لأظهرت النتائج مدًى هائلًا من ارتباطات صفات أنثروبولوجية تُعزى الآن إلى الشعوب التي تسمى بالشعوب البدائية.
وإننا لنرى الآن — بوضوح تام — أن المادة التي قدمها لنا أصحابُ المذهب الأنثروبوسوسيولوجي مادةٌ متناقضة متعارضة، ولا تثبت شيئًا فيما يختص بالادعاء الكاذب «بتفوق طوال الرءُوس فكرًا وثقافة». كذلك لم يتمكنوا من إثبات ما زعموه عن وجود أثر معين لحياة المدن على الاختيار الاجتماعي يؤثر في القادمين إلى المدينة، ويعمل حسب قانون أساسه شكل الرأس، كذلك كان زعمهم بوجود نسبة كبيرة من طوال الرءُوس في الطبقات الاجتماعية الراقية أقلَّ نجاحًا من مزاعمهم السابقة.
لقد اعتنق المذهب الأنثروبوسوسيولوجي نظرية تفوق العنصر الأشقر طويل الرأس، ودعا إليه، والحقيقة أن كل ما عمله هذا المذهب هو تدعيم وتعزيز الغرور الجنسي فيما يسمى: «بالجنس الآري»، والعمل على زيادة الميول العدوانية للعنصر التيوتوني، وتقوية النعرة المتطرفة للحركة الألمانية؛ بإيهامها — كذبًا — بأن لهذه النعرة أُسسًا أخلاقية.
النظرية الآرية كما قدمتها النازية والفاسية
وتطورت الأُمور في ألمانيا إلى أن أصبحت هذه النظريةُ مذهبًا زاد خطرُهُ إبان الحرب العالمية الأولى. وكان قادةُ ألمانيا يُثيرون الحماس المحموم للدفاع عن الحضارة التيوتونية، ويَدْعُون الشعب إلى نشر هذه الحضارة بين الأجناس «الأقل حضارة» في أُوربا. وفي هذا الوقت كان زعماء الدول الأخرى، يؤكدون أن «الألمان الشقر» ليسوا من أصل أُوربي إنما أصلهم أسيوي ينحدر من سلالة الهون، وأنهم تنقصهم الحضارة الحقيقية، وليست عندهم أدنى فكرة عن معنى الحرية، ومفهوم الديمقراطية، وأنهم بذلك يستحقون الفناء، والإبادة عن آخرهم.
وبهذه المناسبة فقد حُكيت نكتةٌ تاريخية لطيفة تُدلل على عدم وجود ما سُمِّيَ بالجنس «الآري»، أو «النوردي»، ولا بأس من ذكرها هنا، فقبل سنة ١٩١٤ طلب غليوم الثاني، إمبراطور ألمانيا، رسم خريطة جنسية توضح مدى انتشار الجنس «الآري» في ألمانيا، وبعد أن استكمل الباحثون المعلومات، والإحصائيات اللازمة، لم يتمكنوا من رسم الخريطة المطلوبة؛ لأنه اتضح أن كل ألمانيا عبارة عن خليط شديد من الأجناس الفرعية المختلفة، وفي مناطق مختلفة، مثل إقليم بادن في جنوب غرب ألمانيا، لم يوجد أثرٌ مطلقًا للعنصر الآري، أو النوردي.
- (١)
طبقة عليا تظهر فيها الدماء النقية الألمانية، تمثل «التيوتونيين المثاليين»، وتتمتع بكل المميزات السياسية والاجتماعية.
- (٢)
طبقة متوسطة تظهر فيها بعض الدماء الألمانية، ويكون لها حقوق وامتيازات محدودة.
- (٣)
طبقة غير الألمان، وهذه تُحْرَم كل الحقوق السياسية، ويجب إبادتهم عن طريق تعمقيمهم بحيث لا يتوالدون، وذلك لتأمين الدولة، وضمان استمرار المدنية الألمانية.
وقد كتب هتلر نفسه في كتابه «كفاحي» (١٩٢٥) في مسألة تفوق الألمان، فقال: «إنه من الواضح بشكل مثير، من أدلة التاريخ، أنه حين يختلط دم الآري بدماء غيره من الشعوب المنحطة فإن النتيجة كانت بلا نزاع دمارًا على الأجناس المتحضرة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية — حيث توجد غالبيةٌ كبرى من الشعب أصلها ألماني لم يحدث داخلها إلا اختلاط ضئيل مع عناصر أُخرى منحطة تنتهي إلى الأجناس الملونة — نجد السكان والمدنية على النقيض ما نجده في أمريكا الوسطى والجنوبية، وذلك يرجع إلى أن الأغلب الأعمَّ من المهاجرين قد اختلطوا بالأهالي الأصليين …» وفي موضع آخر من نفس الكتاب يقول هتلر: «إن الألماني الذي حافظ على نقاوته الجنسية من الاختلاط قد أصبح سيد القارة الأمريكية، وسيظل دائمًا سيدها ما لم يَرِدْ بنفسه موارد التهلكة بأن يختلط بغيره من الدماء»، وبعبارة أخرى، وحسب نظرية الجنس الألمانية، فإن سكان أمريكا اللاتينية مُساقون حتمًا إلى تدهور بيولوجي لا خلاص منه، ومن ثم فسيعيشون دومًا تحت حكم الآريين، أو الجنس الألماني، وإزاء هذه الآراء لا أرى ما يوجب التعليق.
وقد سبق أن ناقشنا في الفصل السابق أن الفاشية الإيطالية لم تقتصر فقط على إعلانها مناهضة السامية، وعداوة اليهودية، بل أعلنت أن العنصرية النوردية هي أساس الوحدة القومية، وأساس التحالف السياسي، والاقتصادي مع النازية.
النوع «الأنجلوساكسوني» المزعوم
النظرية الكلتية CELTICISM
إن الكلتية ليست إلا نوعًا من أنواع النظرية الآرية، وهي إحدى ثمرات النزعات الوطنية المتطرفة، تطورت في فرنسا بعد الحرب السبعينية (١٨٧٠)، وتؤكد هذه النظرية أن الجنس الكلتي وحده هو الذي يقطن فرنسا. ويُعزى إلى هذا الجنس صفات جسدية، ونفسية تجعل منه جنسًا «متفوقًا» عن بقية الأجناس البيضاء. ففي الوقت الذي عزا فيه جوبينو، ولابوج، وأمون وتشامبرلين، وفالتمان، وغيرهم عبقرية فرنسا الخالقة إلى العنصر الآري، أو التيوتوني، نادت الكلتية بأدلة أخرى على «تفوق الكلت الجنسي.»
وقد اعتبرتْ بعضُ مذاهب الفكر في فرنسا أن سكان الدولة هم الكلت، واعتقدت مذاهبُ أُخرى أنهم من الغال، ولا يوجد اتفاق بين علماء فرنسا على من هو الجنس الذي سكن فرنسا، ولا ما إذا كان كِلا الجنسين في الحقيقة جنسًا واحدًا، ومن ثم فإن بعض الباحثين يقولون: إن الاصطلاح «كلت» ليس إلا عبارة عن اصطلاح تاريخيٍّ لا قيمة له علميًّا، قد استُعمل لتحديد سُكَّانٍ كانوا يتكلمون لغاتٍ متقاربةً، ولهم صفات جسدية مختلفة فيما بينهم اختلافًا كبيرًا يبدأ من القصير القامة الداكن البشرة عريض الرأس، إلى متوسطي الرءُوس طويلي القامة نسبيًّا، وينتهي إلى الطويل القامة الأشقر ذي الرأس الطويل، ومع ذلك فإن كل هذه الملاحظات الصحيحة ليس لها أثر يُذكر على العقلية، والكفاءة الذهنية التي يتضمنها معنى النظرية العنصرية.
- (١)
جنس البحر المتوسط كان يمثل السكان الأصليين في جنوب فرنسا، حيث لا تزال له السيادة العددية.
- (٢)
الجنس الألبي الذي زحف إلى الشمال الغربي، ويكوِّن الآن الجنس السائد في مقاطعات سافوي وأوڨرن وبريتاني.
- (٣)
الأجناس البلطية (النورمان والتيوتون والساكسون والفرانك والبورجانديين)، وكلهم كانوا من أصول كثيرة الاختلاط، وانتشروا في فرنسا من الشمال إلى الجنوب، وأعطى أحدهم اسمه (الفرانك) للأقليم (فأصبح يسمى فرنسا)، وحتى الآن فإن العنصر «الجرماني» ما زال سائدًا في مناطق واسعة في شمال فرنسا.
وختامًا، فإننا إذا أخذنا في الاعتبار شكل الجمجمة، ولون العين، والشعر، والبشرة، وطول القامة؛ فإنه يصبح واضحًا أن سكان فرنسا من الناحية الجسدية كان، وما زال، شديد التنوع في صفاته بشكل مدهش.
نقد ورفض هذه النظريات
إن الخطأ الجوهري في نظريات الآرية، أو النوردية، أو أيِّ شكل آخرَ من الأشكال التي اتخذتْها هو ذلك الخلط بين الأفكار، والآراء، وهو على شيوعه وانتشاره بعيدٌ كل البعد عن الصفة العلمية؛ فإن اصطلاح «الجنس» يُستعمل دون أَيِّ اكتراثٍ كاصطلاحٍ مُعادل للفظ «اللغة»، و«الأمة».
وحقيقة أن هناك مجموعة، أو أسرة من اللغات المتقاربة تسمى مجموعة اللغات «الهندو-أوربية»، أو «الآرية»، واللغة تنتشر وتنقل من شعب إلى آخر بواسطة عوامل الهجرة، أو الغزو، أو التبادل التجاري، دون أن يعني ذلك الانتشارُ اللغويُّ ضرورةَ انتماء من يتكلمون بها إلى أصل بيولوجي واحد، أي: دون أن يُشترط أن يكونوا من جنس بيولوجي واحد.
وأحسن الأمثلة على هذا القول هو ما نجده في الولايات المتحدة الأمريكية، فسكان هذه الدولة يبلغون حوالي ١٥٠ مليون نسمة، وهم لم يتكونوا من جنس واحد، بل ساهم في تكوينهم جمعٌ عديدٌ من الأجناس من مختلف بيئات العالم. وعلى الرغم من أن الأصول الرئيسية لهؤلاء السكان تتراوح بين العنصر النوردي الطويل القامة الطويل الرأس الأشقر، وعناصر شرق أُوربا القصار القامة ذوي الرءُوس العريضة نوعًا، والشعر الأشقر، إلى ذوي الرءُوس الطويلة، والبشرة السمراء، والقامة الطويلة من سكان البحر المتوسط والمحيط الأطلسي فإن كل السكان يتكلمون اللغة الإنجليزية. وبعبارة أُخرى: في الولايات المتحدة الأمريكية عددٌ من العناصر ذات الصفات الجسدية المختلفة تتكلم كلها لغةً موجودة، هذا إذا لم نأخذ في الاعتبار أولئك الذين يتكلمون الإنجليزية من الزنوج والهنود الحمر والصينيين.
وبعبارة أُخرى يمكن القول: إن أُمَّةً واحدة قد تتكون من أكثر من جنس واحد، كما نجد العكس بحيث تتفرق مجموعةٌ بيولوجية واحدةٌ متشابهة إلى عدة أُمَم. فسكان أمريكا الشمالية يُشابهون سكان الدانمارك والسويد أكثر من تشابههم مع سكان جنوب ألمانيا. وسكان جنوب ألمانيا يتشابهون جنسيًّا مع بعض سكان فرنسا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوجوسلافيا. فكيف يمكن إذن الكلام عن «الجنس الألماني»، أو «الجنس الآري»، أو «الجنس الأنجلو-ساكسوني؟» إن التعميمات التي حدثت عن الجنس الآري، وتفوقه مبنية أساسًا على مقدمات تفتقر إلى كل المقومات الموضوعية. وبذلك فهي مخطئةٌ، ومتناقضةٌ، وغيرُ علمية.
إن عدم التناسُب يزداد ضخامة إذا عالجنا الموضوع من ناحية الصفات الجسدية، فقد قامت أبحاثٌ عن تكوين الجماجم وغيرها من الصفات الجسدية للأفراد أو المجموعات، التي زعموا أنها تمثِّل — بحق — الآريين، والتيوتون، والأنجلوساكسون، والكلتيين.
ودلت النتائجُ على اختلافات كبيرة، سواء في الأزمنة القديمة، أو الأزمنة الحالية.
وعلى أَيِّ الحالات، فقد جاءت اللحظة التي بدأ فيها أصحاب أسطورة الجنس الآري يحسون بالتدريج أن هذا الجنس الذي أَضْفَوا عليه صفات التفوق والقوة، والسلالات الأخرى غير الآرية المنحطة؛ كل هذا لم يكن له وجودٌ إلا في أوهامهم.
وقد اعترف أمون نفسه بأنه لم يقابل مطلقًا ألبيًّا عريض الرأس من النوع المثالى النقي، فقال: «إن بعضهم عراض الرءُوس شقر البشرة، وبعضهم طوال القامة، وبعضهم تتمثل فيهم الأنف الطويلة الضيقة، أو تتمثل فيهم صفاتٌ ما كان ينبغي أن تكون لهم.»
ثم يقول مؤكدًا أن هذا الفهم الذاتي «يعلمنا أكثر مما قد نتعلمه في مؤتمر أنثروبولوجي.»
وفي إحدى المرات نرى تشامبرلين يتساءل: «ماذا كان شكل هذا الإنسان الآري حقًا؟» ثم يقول: إنه لا الفلسفة، ولا الأنثروبولوجيا، ولا الإثنولوجيا قادرةٌ على إعطائنا وصفًا دقيقًا للشعب الآري. ويعود إلى تساؤله مرة أُخرى: «ما الذي سيُقال عن الآريين في سنة ١٩٥٠م؟»
والنتيجة الواضحة لهذا أن النظرية العصرية — بناء على ما جاء في الكلام السابق — لا تستند إلى المقاييس الطبيعية الجسدية، إلا كستار من الدخان، وللتمويه ليس إلا، ثم تُنَحِّي جانبًا هذه المقاييس إذا ما أصبحت عديمة الجدوى بسبب أي ظروف من الظروف.
وهكذا نرى بوضوح أن أصل النظرية العنصرية سياسي، وليس علميًّا، إنها سلاح يستعمله الفريقان المتعاديان لتبرير قتال بعضهم، وذلك على الرغم من أن هؤلاء الأعداء ربما كانوا متشابهين من ناحية التركيب الجنسي، كما هي سلاح يستعمله المتحالفون لكي يكشفوا فيما بينهم عن «أُخوَّة جنسية»، حتى ولو كان واضحًا أنهم ينتمون إلى أجناس مختلفة. وعلى سبيل المثال نذكر أن من المنطق أن يعد الآريون اليابانيين شعبًا منحطًّا، مكونًا من جنس دون الجنس الإنساني على أساس اختلاف لونهم عن الآريين. ولكن ذلك لم يمنع عقد محالفات سياسية مع اليابان، وكان تفسيرُ عقد هذه المحالفات أن شعب الآنيو الأبيض في اليابان قد تَزاوج واختلط كثيرًا بالجنس الأصفر، ومن ثم جاء اليابانيون الحاليون نتيجة هذا الاختلاط. وهؤلاء اليابانيون اليوم، رغم أنهم يمثلون أحد العناصر الصفراء «إلا أنهم يمتلكون كل الصفات الخلقية والعقلية التي للآريين، بل للشعوب النوردية.»