الغفران
١
حين الزمان غرير، والأيام آفاق عريضة من الابتسامات، والناس يصدرون عن طيبة خالصة، والضمائر نقاء صافٍ، والحب يختلسه المحبون فيما يحسبون أنهم بنجاء من العيون الرواصد، بينما أمرهم علن مهموس وحديث دائر كلما اجتمع من الأسرة اثنان.
أحبَّ صابر عبد المعين ابنة خاله وداد الرحماني.
كان صابر عبد المعين في المدرسة الثانوية موشكًا أن ينال شهادة البكالوريا، وكانت وداد قد تركت المدارس وبقيت في البيت.
وحين نال صابر البكالوريا خفقت بقلب وداد رعشات الأمل، وتماوجت بين جوانحها ألوان من الفرح شتى تنتمي — وإن كثرت أشكالها — لأب فرد هو الحب.
وذهب مفيد الرحماني ليهنئ ابن أخته بالشهادة التي نالها، وذهبت في رفقته زوجته ألفت وابنتهما وداد.
واجتمعت الأسرة في بيت عبد المعين حماد تظلهم من السعادة سحابة حبيبة؛ فقد كان ذلك العهد يعيش في وفرة من المودة والصفاء الذي لا يعرف الحقد أو الحسد أو البغضاء.
وكان ابن الأخت ابنًا لخاله أيضًا، وابن الأخ ابنًا لعمه، وابنًا لكل من في عمر الأب من الأقارب أو ممن ينتسب إلى الأسرة بآصرة نسب أو وشيجة صداقة.
وقال عبد المعين: يا مفيد، قل يا رحمن يا كريم.
وقال مفيد وقد أدرك بحاسته إلى أين سيذهب الحديث: سبحانه جل شأنه!
– أنت تعرف أننا ناس من الفلاحين، من الأرض نعيش وعليها بعد الله اعتمادنا.
وقال مفيد محاولًا التسلل إلى جدية الحديث بشيء من الندى: كأني أعرفك اليوم، لقد تزوجْتَ أختي من عشرين سنة وأعرف تمامًا كيف تعيش.
وقال عبد المعين مستجيبًا لمحاولة مفيد: بل إنك تعرف عني ما لا أعرف، والبركة في أختك التي لا يبل في لسانها فولة. المهم …
– تعالَ إلى المهم.
– المهم أن صابر لن يدخل المدارس العالية، أنا أحتاج إليه في الأرض، وأنا أريد وداد لصابر.
وامتُقع وجه وداد من الفرح، وطغت السعادة على وجه ألفت، وقال مفيد بعد هنيهة صمت كان لا بد منها: ابني يخطب ابنتي، وأنت كبير عائلتنا ولك أن تتصرف فيها كيف تشاء.
– يعني موافق؟
– كلامك يا عبد المعين أمر في كل بيتي، فكيف إذا كان في موضوع يسعدني كما يسعدك؟
وقال عبد المعين في لهجة مُفعمة بالسعادة: قم يا صابر قَبِّل يد حماك.
وبفرائص مرتعدة من الفرح قام صابر يُقبِّل يد خاله، ثم قامت أمه تهاني فقبَّلَت أخاها وقبَّلَت سِلْفتها ألفت، ثم التفتت إلى وداد وقالت لها: أمَّا أنتِ فتعالي أُشبعك من القُبَل.
ثم أطلقت زغرودة أعلنت بها إلى الجيران والأزمان خِطْبَةَ وداد إلى صابر.
وفي صخب هذه العواطف التقت النظرات من وداد وصابر، وقالت العيون ما لم يَقُلْهُ حديث، وما لم تستطع القُبُلات المتبادلة بين الأهل أن تحمل معانيه، وما تنوء به زغاريد العالم كله بعظمته وأبعاده.
•••
كان عبد المعين موفور الثروة، وكان العثور على بيت أمرًا يسيرًا؛ فما أسرع ما اشترى الأب لابنه بيتًا من طابقين بحي الحلمية، وما أسرع ما جهزت تهاني بيت العرس! فما مر شهران حتى كانت العروس في حضن زوجها.
وبعد تسعة أشهر كان عبد المعين يحمل الحفيد الأوَّل له من ابنه.
«باسم الله ما شاء الله! اللهم اجعل خلقه رضيًّا وحبِّب فيه خلقك. اسمعي يا بنتي يا وداد! سأقول لك سِرًّا لم أقله لأحد، كنت أتمنى أن يكون اسمي عبد الكريم أو عبد الغني، أو عبد الله الشاملة لكل صفاته سبحانه وتعالى، ولم أكن أتمنى أن يكون اسمي عبد المعين، سبحانه! هو العون ومنه العون، ولكن العبد لا يحتاج إلى العون إلا حين يضيق به الأمر وتحوم حوله الشدائد، فلا تسميا الولد باسمي.»
وتبتسم وداد وتقول: اسمك بركة يا عمي.
– سمِّياه عبد الغني، عسى الله أن يغنيه بالقناعة، وهي الغنى الكامل.
ويقول صابر: فاسمه إذن عبد الغني، على بركة الله.
•••
ويمر عام وشهران، وينجب صابر ووداد ابنهما الثاني ويسميه جده عبد الودود.
•••
ولا ينتظر الجد حتى يرى حفيديه يسعيان في مناحي الحياة، بل يختاره الله إلى جواره وعبد الودود في الخامسة من عمره.
وما هو إلا عام وثلاثة أشهر حتى تلحق به زوجه، ويحس صابر بفراغ هائل يشمله ويحيط بأيامه. كان شجرة خضراء غضة تعتمد في صعودها على الخبرة من أبيه وعلى الحنان من أمه. وقد كان أبوه عالمًا بأصول الزراعة كل العلم، وكان محبًّا للناس يدري كل الدراية كيف يتألف قلوبهم. وكان يعطي من ماله عند ضيق وعند فرج، فيكسب حب الناس له وإجلالهم وتقديرهم. وكان من هؤلاء القلة الذين وهب الله لهم تلك الموهبة الفذة التي تجعلهم كبارًا بين قومهم وإن لم تعلُ بهم السن، هؤلاء الناس الموهوبون ملكةَ حب الناس، والقدرة على جعل الناس يحبونهم ويضعونهم بينهم في مكان الصدارة.
هؤلاء الناس الذين خلقهم الله كبارًا في تصرفاتهم وفي أقوالهم وفي أعمالهم. لا يَقْرَبون الدَّنِيَّة، ويجعلون أيديَهم هي العليا، ويعطون فلا بخل في العطاء، وكأنما هي لهؤلاء الناس حقٌّ عندهم يردونه إلى أصحابه.
وهكذا يجعلهم عشيرتُهم رؤساءَ لهم وإن لم يطلبوا. وقد لازم صابر أباه عبد المعين حياته جميعًا، وعرف كيف يكون مثله، وأكرمه الله بأن وهب له ما وهب لأبيه من الكبرياء بغير تكبُّر، ومن الحب للناس من غير تعاظم؛ يعطي ويلين للناس بالحديث والتراحم والأخوة، إذا صفت الأخوة برئت من جشع أو طمع أو حقد أو تحاسد.
لم يكن صابر مُقبلًا على الزراعة إقبال أبيه، ولكنه كان يعرف كيف يعامل الناس الذين يزرعون فأغدقت عليه الأرض. وقد ترك له أبوه مائة فدان خالصة من أجود أرض، مع أموال سائلة تغنيه كل الغناء.
وفي السنوات التي عاشها الجد استطاع أن يرى حفيديه كليهما يبدآن التعليم في مدارس الروضة الحكومية بالقاهرة، وكان يقسِّم وقته بين القاهرة وبين القرية، وكذلك كان يفعل صابر. وكان الطفلان يصاحبان الأب والجد إلى البلدة كلما ذهبا إليها، ولم تنقطع هذه العادة إلا حين بَدَآ تعليمهما في القاهرة. وأحس عبد المعين في فرح أن عبد الغني — ومثله عبد الودود — مقبلان كل الإقبال على القرية، وأن كليهما دائم السؤال عما تنتجه الأرض وعما يساويه هذا الإنتاج من مال. وكان عبد المعين في صفائه ورضا خلقه يسعد بهذا، لعل الله أن يضع حُبَّ الأرض في الحفيدين ما دام لم يستطع الابن أن يحب الزراعة.
وحين مضى عبد المعين للقاء ربه كان قرير العين بهذه الخاطرة؛ فأبناء الدنيا يرون الخير والشر من ثقب ضيق لا يتيح لهم أن يتعرفوا أين يكمن خيرهم الحق، وأين يتربص بهم الشر.
كان صابر في زهرة الشباب حين صعد أبوه إلى جوار ربه، ولم تستطع أسرته المحِبَّة له الحانية عليه أن تعوِّضَه عما فقد بموت أبيه، وقد ازداد لوعة بفقدان أمه أيضًا.
ولكن الحياة استطاعت أن تشغله بشواغلها، وما لبثت الأيام أن اجتذبته إلى دفاعها، ولكنه دائمًا كان يتحسس الجرح الغائر في حنايا نفسه بموت أبويه.
وكان الوقت شتاء، وكانت أسرة صابر كلها في القرية؛ فقد كان التلاميذ في إجازة نصف السنة، كانت الرياح خارج البيت عاصفة، واجتمعت الأسرة في حجرة واحدة من الطابق الأعلى من البيت الأنيق الذي كان عبد المعين قد بناه على أحدث طراز من فن ذلك الزمان؛ كان البيت يحتوي على أربع غرف في الطابق الأعلى، وعلى مثلها في الطابق الأوَّل.
أمَّا الطابق الأعلى فكان مخصَّصًا للنوم، وكان عبد الغني وعبد الودود ينامان في غرفة واحدة، فقد كانا متحابَّيْنِ كل الحب، متلازمَيْنِ في كل لحظة من لحظات حياتهما لا يفرق بينهما إلا فصول الدراسة، وقد أرادت وداد أن تخصِّص لكلٍّ منهما حجرة فأبى كلاهما ذلك.
وكانت هناك غرفة صابر ووداد، وجعلت وداد غرفة مخصصة للجلوس فيها وقضاء اليوم، وخصصت الرابعة للطعام.
أمَّا الطابق الأوَّل، فقد كان جميعه لاستقبال الضيوف.
كانت الأسرة جالسة في غرفة المعيشة، وقد أشعلوا موقدًا وراحوا يَسْمُرون بما يعنُّ لهم، وقد سرى الدفءُ في أوصالهم.
وفجأة انقض عليهم صوتٌ عالي الضجيج غلب على صوت الرياح، فملأهم الذعر وارتمى الطفلان في حضن أمهما، وأدرك صابر أن بناءً قد تهدم، فسارع إلى عباءته فأحكم لفها حول جسمه واندفع كالسهم خارجًا، ودون أن تدريَ ما هي فاعلة، تخلصت وداد من الطفلين وحذرتهما من الخروج، واندفعت إلى الخارج وراء زوجها، وانكمش الطفلان متلاصقَيْنِ في كرسي واحد.
ونزل صابر فوجد رهطًا من رجال العزبة قد سبقه إلى حظيرة المواشي التي تحطمت أعراقها الخشبية من شدة الرياح، وانهار سقفها فأصاب بقرة من ثمانِ بقرات وجاموسة من ست جواميس، وراح الرجال يُخرجون البهائم من الحظيرة، وراح بعضهم يقول لصابر: الحمد لله قدَّر ولطف.
وراح هو يردد دون وعي: الحمد لله، الحمد لله. ادفنوا البقرة والجاموسة، وضعوا البهائم الأخرى في حظائركم حتى الصباح.
والتفت بوحي مفاجئ من ضميره إلى حيث كانت وداد، فرآها في ملابس البيت واقفة على مبعدة من الرجال فسارع إليها.
– لماذا جئت يا وداد؟
– خفت عليك.
– ارجعي، أسرعي إلى البيت. لقد كُنَّا في حجرة دافئة وخرجت إلى هذا البرد القارس بلا معطف عليك؟! ارجعي أنت، الحمد لله لم يحدث شيء، حاجة بسيطة.
ورجعت وداد.
وقال الرجال لصابر: لقد كنت تتوقع هذا؟
– نعم، ولهذا بدأتُ أبني الحظيرة الجديدة، ولكنني كنت أتمنى أن تنتظر هذه حتى أتمَّ بناء الحظيرة الأخرى.
وقال أحد الرجال: له في ذلك حِكَم.
– سبحانه! كله بأمره.
•••
ما أهون الخسارة التي مُنِيَ بها صابر والتي انحصرت في بهائمه. رجع إلى البيت راضيًا؛ فقد كان من ذلك النوع من الإنسان الذي يظل خائفًا من المجهول، حتى إذا وقعت خسارة أو ألمَّ به مكروهٌ حَمِدَ الله أنها أقل مما كان ينتظر. لقد أصبح منذ وفاة أمه وأبيه من ذلك النوع الذي يتوقع من المصائب أفدحها، ومن الكوارث أشدها عنفًا، حتى إذا وقعت حادثة كهذه التي أصابت بهيميته اعتبرها نعمة لا نقمة؛ لأنه كان يتوقَّع من سير الأيام وتقلُّبها ما لا طاقة له به، فإذا انكمش هذا التوقُّع المروع إلى فقدان بهيمتين وسقف حظيرة فما أهون الأمر وما أضأله! فقد كان مع هذا القلق من الدنيا متفائلًا يقدر أن الأيام إذا عاجت يومًا في طريقها اعتدلت بعد ذلك أيَّامًا طوالًا.
مسكين ذلك الإنسان! يعيش من دنياه في هلع دائم، يتربص باللحظات عالِمًا أنها تتربص به، وعجيب ذلك الإنسان! يحب الحياة رغم ذلك، ولو كان عاقلًا لكفاه التهديد الدائم الذي يلحُّ على مشاعره حتى يكرهها، ويتمنى أن ينتقل إلى الأمن السرمدي هناك مع الرفرف الخضر والطمأنينة الخالدة.
•••
أصبح الصباح فإذا وداد تعاني من حرارة شديدة يتوقَّد لها جسمُها جميعًا، ويتفصَّد لها جبينها بل كل جارحة فيها، وتوشك أن تهذي من وَقْدَةِ الحمى، ويسارع صابر إلى الطبيب يستدعيه. إنه التهاب رئوي حاد، ويبدأ العلاج وتزداد بها الحمى سُعارًا. ويأتي طبيب، وآخر، ثم آخر، وتموت وداد.
٢
زوج يحب زوجته ولم يحب غيرها طوال حياته، وهي قد فاضت عليه بالحب خالصًا صافيًا، لا يَرْنَقُه كدر ولا ينغصه حرج أو تصرف يضيق به، ووهبت له البنين، وتضاعف الحب بين الزوجين بالتقاء قلبيهما حول ولديهما.
وفجأة وقبل أن تسعى بهما الحياة في مدارجها، وقبل أن تمسك بيد طفليها وهما في خطوات العمر الأولى، تموت الزوجة فتنزل الطامة بالشاب المؤمن نزول الصاعقة، وتعصف به أنواء الخوف والذعر من المستقبل. وتصبح نظراته إلى أولاده كلها ألم وحذر وحيرة وإشفاق، بعد أن كانت حُبًّا وتعاطُفًا وحنينًا مع قربهما إليه، وتفانيًا حتى لقد كان يتمنى أن يصبح بعضًا من كيانهما، أو يصبحا بعضًا من كيانه، فكيانه اليوم ممزق، ونظرته إلى أبنائه فَرَقٌ وخوف يطحن، وحيرة مع المستقبل في شأنهما.
كان كل يوم يمر يقترب به من بؤر الدوامة، حتى لقد أوشك أن يفقد اتزانه وقدرته على الحياة.
وفي إلهامة ربانية يصحب ابنيه إلى حج بيت الله.
وفي «لبيك اللهم لبيك» ارتدَّتْ إليه نفسه وعاد إلى رشده، وكأنما أجابته أستار الكعبة أن وداد في ظلال وريقة في الملكوت الأعلى. وتغلب حبه لها على جزعه لفقدها، ووجد الأبناء في حضن أبيهما أمنًا بعد فزع، وطمأنينة بعد حيرة وهلع، وأصبح صابر منذ وقوفه أمام البيت إنسانًا آخر، لقد رأى هناك أن الدنيا جميعًا ما هي إلا طريق إلى الخلود عند صاحب النفوس وخالقها وقابضها، وهكذا عاد إلى مصر وقد امتلأت نفسه بحب العبادة والتفاني في ذكر الله وفي الزكاة، والعجيب من أمره أنه أصبح مُحبًّا للزراعة وحريصًا على إتقانها، مرتئيًا أن الله حين يَهَبُ إنسانًا نعمةً فإنه ينبغي على العبد أن يشكر ما أنعم به الله، ولا يكون ذلك إلا برعاية ما وهبه سبحانه لعبده، وكان أول ما صنعه أن بنى مكان الحظيرة التي تهدَّمت مسجدًا غاية في الفخامة، وأسماه «مسجد الوداد»، وراح يوزع نفسه بين أرضه وبنيه، وكان يلجأ إلى حماته ألفت هانم أن ترعى ولديه، وتمر بهما كلما اضطرته ظروف العمل أن يترك الطفلين. وقد صحب لهما من القرية نبوية البوهي التي توفِّيَ عنها زوجها الخفير صالح عوض وهي في ريعان الشباب ورفضت بعده أن تتزوج، ولم تكن نبوية بذات بنين أو بنات، فأفرغت حنان الأمومة الرباني على عبد الغني وعبد الودود.
وتمشي الحياة وهي دائمًا تمشي لا يقف بها شيء، وإنما تشرق شموس الأيام من أجواف الظلمات، ثم يسقط الليل على النهار فيفنيه. وكما يُولد في كل مطلع شمسٍ يومٌ جديد، فإنه ما يلبث أن يموت بخطوات الظلام إلى الشمس، وتصبح الحياة كلها حياة وفناء. ومن الحياة يأتي الفناء، ومن الفناء تختلج الحياة، وتصبح هكذا سُنَّة الحياة جميعًا في كل لحظة من لحظاتها حياة وفناء! ومع مولد طفل في كل لحظة، تموت حياة في نفس اللحظة، وقد يكون الفقيد طفلًا أو شابًّا أو عجوزًا ولكنه يموت. وهل ميلاد طفل إلا هدية يقدمها الغيب إلى الموت في موعده الموقوت، لا يستقدمون عنه ولا يستأخرون. أَوَليس هو مُخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي؟ أَوَلا يصدق هذا على كل حياة في الأرض من إنسان أو نبات أو حيوان؟ وتمضي الحياة مهما يكن الميت عزيزًا على آله، ومهما يكن أثيرًا عندهم، ومهما يكن في ريعان الفتوة وزهوة الشباب. تمضي الحياة ففي ألفاظ حروفها معنى الموت، وإن كانت جملة الحروف تقول حياة. ولكن هل هناك حياة بغير موت؟ أو هل هناك موت بغير حياة؟ حتى يرث الله الأرض وما عليها فتكف الحياة عن لعبتها المتواصلة ويفرض الله الخلود، ويحيي النفوس التي أنشأها هو أول مرة، ويكون الحساب عند الحق الذي لا يضيع لديه أجر من أحسن عملًا، وتصبح حروف الحياة وقد فقدت معنى الفناء واكتسبت صفة الخلود. فتلك إذن هي الحياة الحق، وما هذه التي نحياها إلا طريق إليها نقطعه شِئْنَا أو أبينا، وعند نهايته ندري أضلالًا كان سعْيُنا أم كان على هدًى؟ وننطوي في ظل الجلالة العليا مخبتين آمنين، ولو لم نجد في رحباته إلا الأمن وحده لكان في ذلك حسبنا غاية الحسب، وهل بعد الأمن نعيم؟
تمر الأيام بحلوها ومرها على الأسرة المبتورة، ويصبح عبد الغني في الثانوية العامة، ويصبح عبد الودود في السنة السابقة لها؛ فقد كان الولدان ينجحان في كل عام في غير تفوُّق، وإنما هو نجاح متواضع هزيل، ولكنه نجاح.
وصابر طوال هذه السنوات حريص على فرض الله، وحريص أيضًا على القيام بواجباته في الزراعة. يكاد لا يزور إلا بيت خاله مفيد.
وكانت ألفت هانم تستقبله أحسن استقبال؛ فقد كانت تقدِّر أنه أكرم ابنتها غاية الإكرام، ولم يحبس عنها كرمه طول حياتها.
وكان كثيرًا ما يجد في بيت ألفت أختها رحيمة، قد أنس إليها ووجد فيها سيدة طيبة النفس لا خبث فيها ولا دخل. تكثر من الحديث عن سجية مواتية، وتذكر خاصة شئونها وكأنها أمور عامة ينبغي أن تُذاع على جميع الناس، حتى العلاقات الحميمة بينها وبين زوجها لا تُخفي منها شيئًا، بل إنها حتى لا تخفي شيئًا من فقر ابنتها هند وزوجها حامد، وكانت تروي عن حامد لا تخفي من أسرار عمله شيئًا، وكان صابر يجد في رواياتها إيناسًا ومتعةً.
«تُرى ألأني وحيد خلا بي البيت بعد وداد؟ ولكنني من ذكر الله في شعور عميق الفيض، إنني أسبح في الملكوت الأعلى غنيًّا عن العالمين، ما أحقر الإنسان مهما يرتفع بروحه إلى عليين في أسمى رحاب، يظل بجسمه بل وبتفكيره أيضًا عبد الأرض التي ما يزال يعيش عليها. يحتاج الإنسان في الأرض إلى الإنسان دائمًا، ما دام يعيش حياة الأرض، فهو في حاجة إلى الإنسان، وإلا فما هذه السعادة التي تغمرني وأنا أستمع إلى رحيمة؟ وما هذا الجدل الذي يعتريني وأنا أسمعها تروي عن ربو زوجها، وعن فقرها مذ زواج ابنتها، وعن خيبته أيضًا وكيف أنه لا يعرف شيئًا في الدنيا إلا المدرسة والتلاميذ.»
في يوم من بعد الظهيرة صحب طفليه إلى بيت جدتهما، وكانا قد أصبحا شابَّيْن. وكانت جدتهما كثيرًا ما تشكو إليه تقصيرهما في زيارتها، فاضطر أن يشدد عليهما النكير ليصحباه إليها وإلى جدهما مفيد، وواجهته في البيت سحابة سوداء من الحزن والأسى يعرف ملامحها، وإن كان لم يدرِ في يومه هذا سببها.
وسأل وجاء الجواب: حامد زوج هند.
– ما له؟
– أصابته نوبة قلبية خطيرة.
– وأين هو الآن؟
– في البيت، رفض الطبيب أن ينقله إلى المستشفى؛ فأية حركة خطرة عليه.
– لا حول ولا قوة إلا بالله! كم عمره؟
– في الخامسة والأربعين تقريبًا.
– أتريدان الذهاب إليه؟
– أنا أريد أن أذهب ومفيد يرفض.
– يا بني الطبيب مانع الزيارة، وأنا أعلم في هذه الحالات أن الزيارة خطرة، فما ذهابنا؟
– يا أخي أذهب إلى أختي وابنتها ولا أدخل إليه، الطبيب مانع زيارة المريض، لا زوجة المريض ولا حماته.
– وحين نذهب أليس من الطبيعي أن يُقدِّموا لنا قهوة وإكرامية، ونشغل البيت جميعًا عن المريض الذي يحتاج إلى كل عناية؟
– يا مفيد الله يهديك، ليس من المحتَّم أن تقدِّم لي أختي أو ابنة أختي إكرامية.
وأخيرًا تكلم صابر: أنت محق يا عمي، ولكن من وجهة نظر أخرى أرى ألَّا نتركهم وحدهم، وقد يحتاج الأمر إلى من يعينهم في هذه الفترة الحرجة.
وقالت ألفت: قل له يا بني.
وقال مفيد: أترى ذلك يا صابر؟
– أعتقد ذلك.
– هل معك سيارتك؟
– نعم، هيا بنا.
والتفت إلى ولديه وطلب إليهما أن يعودا إلى البيت.
وفي بيت حامد رأى صابر مصدر الوجوم الحزين الذي لقيه في بيت حَمِيه. مسكينة هند! الهلع والحيرة والخوف والأمل والاضطراب والجهد المستميت للسيطرة على نفسها، حتى تظل متماسكة لتراعي المريض وترعى شأنه. ورأى مُحيَّاها يكسوه ذلك الشعور بالوحدة القاتلة. أعلم أنها لا ولد لديها ولا ابنة، ولكن لها أبوها داود أفندي الدمراوي، ولها أمها، هيهات! الأم مهما تكن خفيفة الظل كثيرة الحديث إلا أن وجودها عند الشدائد يصبح كالعدم. والأب مشغول نهاره بالمدرسة التي يعمل بها مدرسًا، وليله بتلاميذ الدروس الخصوصية الذين يصيب منهم مالًا قليلًا يعينه على الحياة، وعلى شراء أدوية الربو الذي أُصيب به منذ سنوات.
لا عجب إذن أن تصبح هند وحيدة.
وكغريق لقف طوق النجاة!
– الحمد لله أنكم جئتم، هل سيارتك معك يا صابر؟
– نعم.
– هذا دواء كتبه الدكتور لحامد ولم نجد له أثرًا في الصيدليات القريبة.
– لحظات وأكون عندك بالدواء، كيف حاله؟
– ربنا يستر.
وراح صابر يمر بالصيدليات في إصرار وإخلاص، ولم يجد الدواء إلا بعد قرابة ساعتين. ولم يدرِ لماذا خامره هذا الشعور بالسعادة حين وجده، إن صلته بحامد صلة غير حميمة، وربما تكون لقاءاته بهند كثيرة حين يلقاها في بيت حَمِيه. ولكنه كان كلما لقيها يحس أنها تحمل ألمًا دفينًا عميقًا في الأغوار البعيدة من نفسها. تُرى ما سر هذا الألم؟ مسكينة هند، إنها لا تجد أحدًا تفضي له بأحزانها؛ فأمها مشغولة بالحديث عن الاستماع، وأبوها مشغول بالحياة عن الحياة، والابنة تطوي نفسها على هذا الألم لا يدري مأتاه وإن كان واثقًا منه.
رقيقة الملامح، هي جميلة غاية الجمال، لو أن الإشراق تلألأ في ثأمات وجهها لأصبحت قمة من الحسن لا تدنو إليها قمة. يعرفها منذ كانت طفلة، ولكنها لم تكن تزور خالتها كثيرًا فهي أكبر من وداد، وكانت قليلة الزيارة بعد الزواج. وحين ماتت زوجته أصبحت رؤيته لها بالصدفة، ولكنه لسبب لا يدريه كان يشعر نحوها بنوع من العاطفة يعجز عن وصفه. ليس حبًّا؛ فهو لا يتصور أن يحب سيدة متزوجة، والعاطفة عنده مهما تكن جيَّاشة إلا أنها خاضعة للعقل بالسليقة يقمعها قبل أن تشتط، ويردُّها دون التمادي قبل أن يصل الأمر بها إلى الثورة.
وصل صابر بالدواء، فطالعه ذلك الصراخ الذي يعلن به نساء مصر عن الموت، وسارع بالصعود ووضع الدواء الذي لم يصبح ذا فائدة على منضدة بجانب الباب، وضعه في خفية وعلى استحياء وكأنه يقوم بعمل مخجل، وذهب إلى خاله مفيد: خالي، اذهب أنت إلى البيت واترك الأمر لي.
وكأنما كان مفيد ينتظر إشارة تبعده عن هذا الكرب العظيم.
وتولى صابر الأمر وظل ملازمًا لهند حتى تمت كل الطقوس التي تعوَّد الناس أن يقوموا بها بعد الوفاة.
وبعد أن مرَّتِ الأيام الثلاثة التي تتقاطر فيها السيدات إلى بيت العزاء تحرَّى أن ينفرد بهند: ماذا أنت صانعة؟
– لا شيء، أحسب أنني سأعود إلى بيت أبي.
– طبعًا، ولكنك هناك كيف ستعيشين؟
– على أبي أن يقوم بشأني.
– أعلم ذاك أيضًا فهذا واجبه ولكن …
– أعرف كل ما وراء لكن.
– حامد لم يترك لك شيئًا طبعًا.
– من أين؟ أنت تعلم أنه كان مُدرِّسًا في أول حياته، وكان المرتب لا يكاد يفي بمطالبنا.
– اسمعي يا هند! ربما لم تُتِحْ لنا الأيام أن نلتقي كثيرًا، ولكنني أعرف عنكِ من والدتكِ كل شيء، ولكِ أن تتأكدي أنكِ ستجدين في بيت أبيك كل ما تحتاجين إليه.
– كيف عرفت ذاك؟
– أنت ابنة خالة وداد، وفي مكان الخالة لأولادي، وتأكدي أنني لو لم أكن واثقًا مما أقوله لما قلته.
– أكاد أفهم ولكن لا أريد أن أفهم؛ لأنني إذا فهمت ربما تأخذني العِزَّة، وربما فعلت ما لا ينبغي لي أن أفعل.
– إذن يحسن بك ألَّا تفهمي، كل ما عليك أن تطمئني.
وذهب من فوره إلى بيت داود الدمراوي، وكما توقَّع لم يجد الأب هناك ووجد الأم، وعاجلته رحيمة: هل سيارتك معك؟ أريد أن أذهب لهند وآتي بها.
– ستذهبين وستأتين بها، فقط انتظري قليلًا لنتحدث، فلي أيام لم أحدثك.
– أرأيت يا صابر ما أصابنا؟ مصيبة كبيرة يا بني يا صابر؛ البنت ما زالت صغيرة، وكالقمر، تصبح أرمل وهي في هذه السن! وماذا ستفعل؟ وكيف؟ …
وقاطعها صابر في حزم: يا خالتي رحيمة اسكتي.
وفوجئت رحيمة، يرتسم على مُحيَّاها وجوم ذاهل، وأكمل هو: للمرة الأولى وربما الأخيرة أريدك أن تسمعي بدلًا من أن تتكلمي، وللمرة الأولى وربما الأخيرة سأتكلم أنا.
وظلَّت على ذهولها وأكمل هو منتهزًا فرصة صمتها: عم داود ليس صغيرًا في السن والمرض يجهده، وما يكسبه من الدروس الخصوصية لا يكاد يفي بثمن أدويته، وأنا أعلم أنكم في ضائقة وأن وجود هند معكم سيزيد هذه الضائقة إحكامًا، أمسكي هذا المبلغ، سأقدم إليك كل شهر مثله، بشرط واحد ألا تعرف خالتي ألفت شيئًا، ولا تعرف هند شيئًا، ولا يعرف عم داود أيضًا شيئًا، وإذا احتجت إلى أكثر منه أثناء الشهر ما عليكِ إلا أن تطلبي مني، فأنا أعرف أنكِ تعتبرينني مثل ابنك، وسيظل هذا الأمر سِرًّا بيننا إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وازداد ذهول رحيمة وحاولت أن تفتح فمها، ولكنه عاجلها: ولا كلمة.
وأخيرًا قالت بلسان غير ثابت وبدموع جارية: يا بني لأول مرة لا أجد شيئًا أقوله، إلا كلمة واحدة سأقولها وأصمت: وسَّعَ الله عليك وأكرمك في نفسك وفي أبنائك!
– هيا بنا.
– هيا.
٣
في ذكاء شديد كان صابر يحرص غاية الحرص على أن يترك عبد الغني وعبد الودود في القرية ويذهب هو إلى القاهرة، ويترك لهما حرية التصرف، وهو يرقبهما من بعيد يجيز ما يجيز من تصرفاتهما، ويرفض ما يرفض دون أن يُشعِر واحدًا منهما أنه يرفض تصرُّفه، بل هو يعالج الأمر في كياسة وتلطف حتى لا يحرج صاحب الرأي أمام أهل البلدة.
وفي يوم من هذه الأيام التي انفرد فيها الشابان الصغيران بالأمر لغياب والدهما، قصد إلى عبد الغني ناظرُ الزراعة هنداوي فراج ومعه سعدان الدهموشي مقاول تطهير المصارف، وقال هنداوي: هل ترك البك معك حق سعدان يا عبد الغني بك؟
– نعم.
– لقد انتهى من تطهير المصارف.
– لقد مَرَرْتَ عليها ورأيتَهَا؟
– مصرفًا مصرفًا.
– وهل تظن أني أصدقك؟
– إن لم أكن محل ثقة ما استخدمني جدُّك، وما أبقى عليَّ أبوك.
– نعم، نعم، أعرف هذا الموال، ولكنني غير أبي وجدِّي.
– بالتأكيد يا عبد الغني بك، أنت غير أبيك وجدك.
وتدخَّل عبد الودود في الحديث محتدًّا: ماذا تقصد بهذا يا عم هنداوي؟
– لم يعد هناك داعٍ لكلمة «عم» هذه، فإنك أنت وعبد الغني بك نسيتما أيام كنت أحملكما على كتفي ونسرح في الغيط، ونشوي الذرة وتأكلانه.
– وهل معنى هذا أن تأكلنا؟
– أنا يا عبد الودود آكلكم؟!
– عبد الودود هكذا بلا حياء.
– لقد كَبِرَ الرجل يا عبد الودود ولم يَعُدْ يفهم.
– جاد خيرك يا عبد الغني أنت وأخوك، سلام عليكم.
وانتتر عبد الغني غاضبًا: سلام عليكم إلى أين؟
– إلى بيتي ولكم أب أرد عليه، إن كان هذا يعجبه يكون لنا كلام آخر.
– أَلَا يعجبك أنت؟
– لا يعجبني، ولا يعجب أحدًا يعرف معنى احترام الصغير للكبير، سلام عليكم.
– وفلوس سعدان؟
– سعدان عندك والمصارف عندك، افعل ما تريد.
وصاح سعدان: انتظر يا عم هنداوي خذني معك، إن الله الغني عن الفلوس إن كنت سآخذها من البهوات. خذني معك.
وخرج الاثنان وقال عبد الغني: أرأيت أن أبي يدير الأرض بضعف شديد؟ وهذا الرجل والذين يساعدونه يأكلون أبي أكلًا.
– إنه ليس له عمل إلا عبادة الله، أمَّا الأرض فهو لا يهتمُّ بها ويتركها لهؤلاء اللصوص.
– لو تركها لنا لجعلنا دخلنا من الأرض عشرة أضعاف إنتاجها الآن.
– على كل حال أين ستذهب الأرض؟! إنها لنا آخر الأمر.
– مت يا حمار! إن أبي ما زال صغيرًا، هل سننتظر حتى تصبح الأرض ملكنا؟
– ويلك ماذا تريد أن تفعل؟!
– لا، ليس إلى هذا الحد، وإنما علينا أن نراقب نحن الأرض ونحاول إبعاد اللصوص عنها، ونطلب إلى أبينا أن ينشغل هو بالعبادة والتفرُّغ للفروض والسنن.
– وهل يقبل؟
– نسايسه.
– وإذا رفض؟
– نسكت بعض الوقت ثم نعاود الكَرَّة.
٤
مر أكثر من عام على موت حامد، والمرتَّب الذي فرضه صابر على نفسه لم ينقطع يومًا عن يد رحيمة، وكان صابر يتحرى أن يذهب إلى بيت داود أفندي في الأوقات التي يكون واثقًا فيها أنه سيجد داود خارج المنزل، وأن حماته ليست في زيارة لأختها.
وكان يدخل فتستقبله رحيمة ومعها هند، وفي ذكاء متفق عليه تقوم هند لتعد له القهوة ويسلم هو الظرف إلى رحيمة، وحين تعود هند بالقهوة يبدأ الحديث وأغلبه طبعًا للست رحيمة، ولكن الحديث الطويل الطريف الضاحك لم يستطع أن يمنع نظرات أن تلتقي خلجات وجهين وابتسامات شفاه مختلسة أن تتشابك في حوار عالمي طويل، ربما كان جديدًا على صابر وربما كان جديدًا على هند، ولكنه باليقين والقطع ليس جديدًا على البشرية منذ أكل آدم تفاحة حواء، وإن يكن صابر قد تزوج وداد بعد حب، إلا أنه كان يصارحها بحبه، وما كان في حاجة أن يختلس النظرة أو الخلجة أو الابتسامة.
وإن تكن هند قد تزوجت من حامد، فإنها لم تكن تدري ما الحب معه؛ فقد تزوجها لأنه تعرَّف إلى أبيها في المدرسة، وعرف أن لديه ابنة جميلة من الزملاء.
وكان صابر يحرص ألا يجعل زيارته مرة كل شهر، مدَّعيًا أنه ينبغي أن يزور في الشهر مرات حتى لا تعرف هند أنه يقدم إليها معونة، ويحاول صابر في جهد جهيد أن يخفي عن نفسه أنه يحب. ويحاول أن يرفض هذا الحب مدَّعيًا أنه ينبغي ألَّا يتزوج بعد أن فقد زوجه وهواه، ويحاول أن يقنع نفسه بأن هند هي أيضًا ربما ترفض الزواج بعد فقد زوجها.
وتنماع الحجج التي يسوقها لنفسه والتي يتوهَّمها لهند، ويفرض الحب نفسه وتفرض البشرية نفسها، فعندها لا فارق بين عابد وغير عابد، فكلهم عند مطالبها بشر، وكلهم … وكلهم … عليهم أن يخضعوا لبشريَّتهم ولهم أن يختاروا طريق الخضوع؛ منهم من يختاره في خفاء عن عيون الناس وفي معصية لشرائع السماء، ومنهم من يختاره في عربدة بوهيمية، ومنهم من يختاره بالطريق المشروع في نزاهة وشرف ووضوح.
ذهب صابر في ذلك اليوم إلى بيت داود، واستقبلَتْهُ رحيمة وعلى ملامحها معالج جد غريبة على وجهها، واستقبلته هند وفي محيَّاها وجوم لم يره على محياها منذ شهور.
وذهبت هند إلى القهوة المزعومة، وسارعت رحيمة تقول: يا سي صابر، هند جاءها عريس.
ونزل عليه الخبر في مفاجأة وعجب، وفكر قليلًا ثم ما لبثت نفسه أن عادت إلى رشدها. وما العجب أن أفكارك وتخيلاتك لا تستطيع أن تفرض نفسها على الناس، وما دمت أنت لم تتقدم، فأي عجيبة أن يتقدم غيرك، وما دامت رحيمة تُنهي إليه خبر العريس وما دامت هند واجمة.
– إني أخطب إليك هند وأبلغي داود أفندي، ومستعد للزواج فورًا.
وانبسط ما كان مُعقدًا على وجه رحيمة: هل أنت جاد؟!
– وهل في هذا هزل؟
– وأختي؟ أتظنها توافق؟
– من المؤكد أنها ستوافق، فأي أم لولدي خير من هند؟
– نعم، ستوافق على بركة الله.
ودخلت هند بالقهوة وعاجلتها أمها: ارجعي بالقهوة وهات الشربات لعريسك.
وابتسمت هند وأطرقت في خجل لا صنعة فيه، وعادت لتأتيَ بالشربات.
الآن سار الأمر في طريقه الصحيح.
٥
قال لولديه: إني سأتزوج.
وقال عبد الغني: ألم نكبر على الزواج؟
– من تقصد بالكِبَر؟ أتقصدني أم تقصد نفسك وأخاك؟
– أقصد الجميع.
– أمَّا عني فكثيرون تزوجوا لأول مرة وهم في مثل سني. أمَّا عنكما فلو كنت تزوجت وأنتما صغيران لقيل لكما: أتى لكما بامرأة أب تعذبكما، فإذا انتظرت حتى تصبحا شابين يستطيع كلٌّ منكما أن يقوم بشأن نفسه قلتَ: إنكما كبرتما. وقال عبد الودود: والخلاصة؟
– الخلاصة أنني سأتزوج وضميري مستريح، والخلاصة يا قليل الأدب أن على الإنسان في هذه الحياة أن يُرضي ربه ويُرضي ضميره ويتوكل على الله، ومن يَرْضَ بعد ذلك فليرض، ومن يغضب فليغضب، اغربا عن وجهي.
وفي استخذاء خرج الابنان حتى إذا أَمِنَا العيون والآذان قال عبد الغني: فليتزوج ألف مرة، المهم ألَّا يأتيَ لنا بأبناء يشاركوننا في الأرض والثروة.
وقال عبد الودود: ما دام سيتزوج، فالطبيعي أن يأتيَ بأولاد.
– طيب، فليأتِ هو بهم وسترى ماذا أنا فاعل.
– وماذا يمكن أن تفعل؟
– كل شيء بأوانه.
– أَلَا أعرف؟
– وهل سيعرف إلا أنت؟! سترى.
•••
تزوج صابر بهند، وحين دخل بها طالعته مفاجأة عجب لها كل العجب.
– كيف ذاك؟
– وماذا كان يمكن أن أفعل؟
– لقد عشت معه ست سنوات.
– هذا حظي.
– لماذا لم تقولي لأمك؟
– أمي لا وقت عندها أن تسمع شيئًا، وخاصة إذا كانت الأخبار التي ستسمعها غير سعيدة.
– أتعنين أنه لم يقترب منك؟!
– رحمة الله عليه، قبَّلني يوم الدخلة وأفضى إليَّ بالحقيقة.
– ولماذا قبلت؟
– خجلت.
– أي سنوات عشتها!
– قلت في نفسي هذا حظي المقسوم، وعليَّ أن أحتمل.
– وهو كيف قبل؟
– كان يريد أن يبدوَ أمام الناس رجلًا.
– على حسابك؟
– المهم أنه أمام الناس زوج.
– ومن أجل هذا يفرض عليك رهبنة، الله يعلم إلى متى كان ستظل مفروضة عليك.
– رحمه الله!
– ولكنك حزنت لأجله، نعم حزنت، أنا أعرف الحزن حين أراه.
– عِشرة لا تهون. ومات صغيرًا.
– ولكنه كان قد فرض عليك الظلم.
– كان يحسن معاملتي.
– هل بشر هذا الذي أراه فيكِ؟ أم نوع من الملائكية لا تعرفه البشرية؟!
– بل إنسانة.
– في أعلى مراتب الإنسانية.
– لا تبالغ.
– بل إني مقصر في الوصف.
– أكنت تعرفين أنه مريض؟
– لقد مرض ومات في ثمانٍ وأربعين ساعة، كان قبلها في أتمِّ صحة وعافية، بل إنني لا أذكر أنه مرض مرضًا يستحق أن يطلب من أجله إجازة طوال سنوات زواجنا.
– كم تعذبت!
– وحدي ولا يدري أحد.
– كنت أرى في عينيك أسًى ووحدة وألمًا دفينًا.
– ولكن أمي لم تَرَ من ذلك شيئًا.
– أمك هذه شخصية فريدة في نوعها.
– لو رأيت كم كانت تلح عليَّ أن أذهب إلى الأطباء؛ ليعرفوا السبب في عدم إنجابي لدهشت.
– وماذا كنت تقولين لها؟
– أقول لها: الله هو الرازق اتركيها على الله. وطبعًا لم أذهب إلى طبيب.
– وهي ألم يدهشها إصرارك على الرفض؟
– كانت تفرغ دهشتها بأن تروي أمري للناس وتجعل من حكايتي موضوع حديثها.
– نعم أنت محقة، طالما سمعته منها.
– وكانت تأتي إليَّ بالوصفات والأحجبة.
– وتعتقد أنها قامت بواجبها.
– هكذا هي.
– أنت عظيمة يا هند.
– لعل الله أن يكرمني بك.
– أعدك أنك لن تَرَيْ مني إلَّا ما يُرضيك.
– وأنا أعرف صدقكَ عندما تَعِد، بل أنت صادق في كل ما تقول أو تفعل.
– إن الصدق عبء ثقيل، أعانني الله عليه!
– سيعينكَ إن شاء الله.
– الآن عرفتُ أنني أثير عند ربي؛ فإن الإنسان يكون في قمة السعادة إذا وهبه الله زوجة صالحة، وها هو ذا سبحانه يَهَبُ لي زوجتين صالحتين.
– رحم الله وداد! كانت صالحة.
– وأنتِ صالحة وصابرة، وفيكِ ملائكية لا أعرف أن أحدًا من النساء تقاربكِ فيها.
– أنت تبالغ.
– أكرمكِ الله كما أكرمتِ زوجكِ الأوَّل وكما سترتِ عليه.
– سيكرمني بكَ إن شاء الله.
٦
التحق عبد الغني بكلية الزراعة، ولحق به عبد الودود في العام التالي. وبعد أن كان سيرهما في الدراسة من ذلك النوع المتوسط الذي لا نبوغ فيه ولا نكوص، فكلاهما لم يسقط ولكن نجاحهما دائمًا كان نجاحًا غير مرموق، إذا بهما كلاهما ينبغان في الزراعة نبوغًا يدعو إلى دهشة من يراقبهما، وأدرك الأب من هذا النبوغ المفاجئ، ومن شواهد أخرى كثيرة أنهما يتعجَّلان التحكُّم في الأرض تحكُّمًا كاملًا. وإن كان كل الآباء يسعدون بأن يصبح أبناؤهم نبغاء، فإن شيئًا كالغُصَّة كان يقمَع الفرح في نفس صابر، فما أحب إليه أن تكون الأرض عزيزةً عند ابنيه، ولكن ما أشد كراهيته أن تصبح الأرض هي العزيز الوحيد عند ولديه؛ فقد كان المال عنده وسيلة ليعيش كريمًا على نفسه وعلى أسرته وعلى الناس. ولم يكن المال عنده في يوم من الأيام غايةً في ذاته.
وباقتراب صابر من رحاب الله أصبح ذا نفس شفافة ترى ما لا يراه سائر الناس، وبنوع من الروحانية التي لا يعرف البشر مأتاها كان يحس بمواطن الخطر المتخفي وراء أستار الطمأنينة والبُشْرَيات.
•••
كان الأخوان لا يفترقان إلا إذا ذهب كلٌّ منهما إلى محاضرته، ثم هما متلازمان في الكلية وفي البيت وفي القرية.
•••
بعد شهرين من زواج صابر بهند بدأت أعراض الحمل، وجاء الطفل في موعده المقدور مشرقًا إشراقة لم يعهدها صابر في ولديه.
– ماذا سنُسمِّيه؟
– كنتُ أرجو أن يكون لابنيَّ أخت، أستحضر أسماء البنات لا البنين.
– أغضبتَ أن جئتُ لكَ بولد ثالث؟
– أيغضب أحد من مجيء ولد؟ فكيف بمؤمن بالله إيماني؟! وكيف إذا كان الغلام بهذا الإشراق؟! إن النور يَبْهَرُ من ينظر إلى مهده.
– فماذا نسمِّيه؟
– أرى أنك تُضمرين له اسمًا.
– كان يُدرِّس لي في المدرسة شيخ طاهر وضيء السَّمْت والضمير، كنت أشعر بالسعادة كلما رأيته، وكنت أحرص دائمًا أن أقبِّل يدَه في كل صباح، وكان أملي أن يَهَبَ الله لي غلامًا وأسمِّيه باسمه.
– صِدِّيق إذن؟
– أتعرفه؟
– طالما ذكرتِهِ لي ونحن نسمر، هل نسيت؟
– كانت أحاديث عابرة.
– اسمعي! لقد كنت أنوي أن أسميه صِدِّيق، ولكني أردتك أنت أن تسميه، فقد خشيت في نفسي أن يكون حبك للشيخ من قبيل التبرك والإعجاب فقط، وليس لدرجة أن تُسَمِّيَ ابنك الأوَّل على اسمه.
– هذا أملي.
– وليكن صِدِّيقًا على بركة الله.
•••
وقال عبد الغني: إذن فقد أنجب الشيخ الزاهد.
وقال عبد الودود: أليس من الطبيعي أن تلد الزوجة لزوجها؟
– أنت غبي.
– أي غباء في أن يتزوج اثنان فتلد الزوجة؟! أَوَلم تكن تعلم أنها ستنجب منذ عرفت أنها حامل؟
– كنت أعرف طبعًا، وكم صليتُ ورجوتُ الله ألَّا تُكمل حملها.
– وأي سرٍّ فيك يجعل دعاءك عند الله مُجابًا؟
– وها هو ذا لم يستجب، ولكنك أيضًا غبي ما تزال.
– أنا موافق، فقط أخبرني فيم غبائي؟
– ألا تدري أن هذا الولد سيجعل ميراثنا ينقص بمقدار الثلث، غير نصيب الثمن الذي ستحظى به هند هانم إذا عاشت بعد أبي؟
– أمِنْ أجل هذا تراني غبيًّا؟
– طبعًا.
– ولكن النتيجة التي وصلت إليها لا تحتاج إلى أي ذكاء، فما دام قد أنجب فلا بد أن يرث ابنه.
– هذا إذا عاش الابن.
وفزع عبد الودود فزعًا شديدًا.
– ماذا تقول؟!
– ألم تسمع؟
– فقط أتعجَّب.
– الموت حق.
– على كل البشر، ماذا الذي جعلك واثقًا أننا سنعيش بعد موت أبينا؟
– سُنَّة الحياة.
– وهل سارت الحياة دائمًا على هذه السنة؟
– الاستثناء لا يُقاس عليه.
– ألم تقدر أننا قد نرث ثم لا يكون لنا بنون أو بنات، فيرث صِدِّيق كلَّ ما نملك؟ إنه أصغر مِنَّا بسنوات طويلة، إنه وُلد ونحن في الجامعة، فمن طبيعة سُنَّة الحياة أن نموت قبله.
– من الذي يُشكِّل الحياة؟
– الميلاد والموت لا يشكِّلهما إلا الله.
– أمَّا الميلاد فنعمة، أمَّا الموت …
– أتريد أن تشارك الله في ملكوته؟
– أدافع عن حقي.
– ولكنه حق صِدِّيق أيضًا.
– من قال له يأتي ونحن في هذه السن؟
– إذن لو كنت تكبرني بعشر سنوات لقتلتني؟!
– الأمر مختلف؛ لقد تعودت وجودك واستقر في ذهني أن ليس لأبينا وارث إلا أنا وأنت.
– ولكن الأمر تغير.
– نغيره مرة أخرى.
– كيف؟
– سترى.
•••
حرص صابر أن يبقى صِدِّيق في غرفة نومه منذ مولده، وأمر هند أمرًا صارمًا ألَّا تفارقه لحظة، ألم أقل لك أنه قريب من الساحة الربانية؟
٧
بلغ صِدِّيق الخامسة من عمره، وكان قريبًا كل القرب من أبيه، يكاد لا يتركه لحظة من حياته، بل إنه كان يصحبه كلما خرج لزيارة أصدقائه، ودون أن يدري جعل صِدِّيق لا يعرف ساحة اللعب التي يهفو إليها الأطفال؛ فهو أغلب وقته مع أصدقاء أبيه في مجالس الكبار.
ولكنه طفل، والطفل رغبته العارمة في اللهو والمرح. وأدركت هند ما يصبو إليه طفلها.
– يا صابر، ألا تترك صِدِّيق يلعب مع الأطفال؟
– هل شكا إليك؟
– هو لا يحتاج إلى الشكوى.
– سيدخل المدرسة هذا العام.
– وهذا ألعن؛ ينتقل من الجلوس إلى الكبار ليجلس إلى الدرس والمُدرِّس.
– افعلي ما شئت.
– اتركه لي قليلًا.
– ما ترين.
وحاولت هند أن تنشئ له علاقات مع أطفال من سنِّه، وبدأ صِدِّيق يعرف لَهْوَ الطفولة، ولكن لم يكد؛ فما أسرع ما لقفته المدرسة، وبدأ ينتظم فيها.
ويشاء بارئ النفوس أن تكون صحبة صابر لصِدِّيق نعمةً له أي نعمة؛ فقد وجد صِدِّيق نفسه في المدرسة متقدمًا، يستمتع بالدرس الذي يضيق به جميع الأطفال، ووجد نفسه في فِناء المدرسة محبوبًا من إخوان ملعبه، يجدون فيه وقارًا لا يتسنى لأحد منهم. ودون أن يشعر هو أو يشعر زملاؤه أصبح زعيم الأطفال وقِبْلَتَهُم؛ كلمته بينهم مسموعة مستجابة، فلا خلاف ينشب إلا قضى عليه صِدِّيق، وزاده بينهم مكانةً تفوُّقه المذهل في الدراسة، وكان مجرد سماعه للدرس يجعله يحفظه وكأنه قرأه عشرات المرات.
ومرت سنة دراسية وانتقل بيت صابر إلى القرية، وما إن يستقر بهم المقام حتى يقول عبد الغني لأبيه وهم جلوس إلى مائدة الغداء: بابا، نريد أن نذهب إلى المصيف.
ويصمت صابر قليلًا، ويُقلِّب الأمر في ذهنه: ما المانع؟ فكرة وجيهة.
وتقول هند: أي والله، لماذا لا؟
ويقول صابر: أتفكر في مصيف خاص يا باشمهندس؟
– باشمهندس مرة واحدة!
– ألم تتخرج في الزراعة وأصبح لقبك المهندس الزراعي؟
– والله أنا أفكر في الإسكندرية، ما رأيك أنت يا باشمهندس عبد الودود؟
ويضحك عبد الودود وينظر لأبيه: أنا أوافق على أي مصيف.
ويقول صابر: ما رأيكم في رأس البر؟
ويقول عبد الغني: لماذا اخترت رأس البر؟
ويقول صابر: مصيف هادئ، ولا أخشى على أخيكم صِدِّيق.
•••
وفي رأس البر يحاول عبد الغني أن ينفرد بصِدِّيق في البحر فتضيق عليه المسالك، ويقطع أبوه عليه كل تدبير دون قصد، فهو معهم دائمًا، وهو حريص كل الحرص أن يكون صِدِّيق في ذراعه. وقد عنَّ له منذ اللحظة الأولى لنزولهم إلى البحر أن يعلِّمه العوم، ولكن عبد الغني يقول له: يا بابا هذا العوم يصلح لترعة البلد ولا يصلح للبحر الأبيض المتوسط.
ويضحك صابر وهو يقول: أليس كله عومًا يا باشمهندس؟
– لا، هناك العوم الذي يجعل الإنسان طافيًا، وهناك العوم المبني على قواعد وأصول.
– أتعرف أنت هذا العوم؟
– تعلَّمتُه في الكلية على يد مُدرِّبين.
– أتريد أنت أن تعلِّم أخاك؟
– طبعًا، إذا علَّمتُه أنا فسيكون هناك فارق كبير بين تعليمي وتعليم سعادتك، مع احترامي الشديد.
– ولكني أرفض أن أشغلك بهذا، وأنت قادم هنا للمتعة.
– إنها متعة لي أن أُعلِّم أخي.
– لا أظن، وعلى كل حال سأفكر في الأمر.
وكان صابر وهند يصحبان صِدِّيق إلى الشاطئ كل يوم، بعد أن يتناولوا الغداء ويصيبوا نومة القيلولة، وكان عبد الغني وعبد الودود يقصدان إلى الجانب الآخر من رأس البر على النيل حيث الفنادق ذات الجلسات المرحة، حيث يجمع النيل على ضفته الشباب والشيوخ؛ أمَّا الشيوخ فيلعبون النرد أو الضُّمَنَه، أو يَسمُرون مكتفينَ من الجمال بالنظر؛ أمَّا الشباب فيمرح ما شاء له المرح في الأضواء المتلألئة من الكهرباء، ومن الهواء ومن الهوى، ومن شلالات السنين الخضر التي تريد أن تستوعب الحياة كلها في لحظة من عمر الزمن.
وبعد ذلك الحديث عن العوم كان صابر يجلس على الشاطئ مع صِدِّيق وهند، وكانت هند تشعر أن صِدِّيق مظلوم معهما في جلستهما هذه وكانت تفكر. ولم يَطُلْ بها التفكير فقد رأت أطفالًا في مثل عمره يلعبون الكرة، وفكَّرَتْ كيف تستطيع أن تجعله يشاركهم اللعب دون أن تفرضه عليهم فرضًا.
استأذنت زوجها: صابر، سأغيب عنكَ بعض دقائق.
– إلى أين؟
– ستعرف.
– مفاجأة؟
– ربما.
– أمرك.
وانصرفت، وخلا صابر بنفسه لا يجد ما يقوله لصِدِّيق، كما لم يجد صِدِّيق ما يقوله لأبيه، ودون قصد وجد صابر نفسه يفكر فيما قاله عبد الغني عن تعليم العوم.
ليس من حقي أن أحرم عبد الغني من متعة العوم مع أخيه وصحبه لأجعله يُعلِّم أخاه العوم، قد يطيق هذا يومًا أو يومين ثم يضيق بالأمر. ولكن عبد الغني محقٌّ في أن صِدِّيق يجب أن يتعلَّم العوم على أسسه الصحيحة وليس بطريقة عوم الترع التي تعلَّمت أنا بها، هذا البَحَّار لا بد أنه يتقن العوم.
– يا حاج.
وجاء البَحَّار حارس الشاطئ: تحت أمرك يا بك!
– ما اسمك؟
– مهدي الحوت.
– حوت مرة واحدة؟!
– أسماء يا بك، عائلتنا اسمها عائلة الحوت، من دمياط، من قبل أن يأتي إليها نابليون.
– يا مرحبًا يا عم مهدي.
– مرحبًا بك يا سعادة البك، أظن سعادتك أول مرة تشرفنا يا صابر بك.
– أتعرف اسمي؟
– واسم أبيك ولا مؤاخذة، وبلدك وكل شيء عنك.
– كيف؟
– منذ استأجرت للاصطياف هنا عرفنا كل شيء عنك.
ودهش صابر غاية الدهشة: مخابرات؟
– أبدًا يا بك، فقط نريد أن نعرف مع من سنتعامل في موسمنا.
– مشهورون أنتم بالذكاء يا أهل دمياط.
– هذا من ذوقك يا صابر بك.
– قل لي يا مهدي.
– تحت أمرك.
– أنت حوت فعلًا أم هو اسم فقط؟
– هذا يتوقف عما تقصد بالحوت.
– وماذا يمكن أن أقصد؟
– إن كنت تعني أنني جشع، أو أنني أبتلع الأسماك الأخرى، فأنا لست حوتًا.
وضحك صابر حتى اغرورقت عيناه بالدموع، وقال: بل أقصد هل أنت حوت في العوم أم لا؟
– آه، من هذه الناحية أنا — والحمد لله — أعظم من الحوت؛ تعلَّمت العوم قبل أن أتعلَّمَ المشي، ونحن يا بك لا نُعيَّن هنا إلا بعد اختبارات دقيقة.
– عظيم؟ إننا سنصبح أصدقاء أيها الحوت العظيم.
– تحت أمرك.
– أريد أن تعلِّمني وتعلِّم ابني هذا العوم.
– من عينيَّ الاثنتين.
– نبدأ من الغد.
– ومن الآن إذا أردت.
– غدًا نبدأ.
– يحسن أن يكون هذا في باكر الصباح؛ حتى لا يكون البحر مليئًا بالمصطافين.
– البركة في البكور، أنا وابني نصلي الفجر حاضرًا والحمد لله.
– إذن نأتي إليك في السابعة.
– على بركة الله.
وانصرف مهدي، وما هي إلا دقائق حتى أقبلت هند في يدها كرة غاية في الأناقة أعطتها لصِدِّيق وقالت له: قم فالعب بهذه الكرة.
– وحدي يا نينا؟
– أنا سألعب معك.
وصاح صابر: وأنا أيضًا.
وفرح صِدِّيق وهو يقول: حقًّا؟
وقام ثلاثتهم، وما إن ظهرت الكرة تتألق على ضوء الشمس التي بدأت تستعد للرحيل، حتى تحلَّقَ الأطفال الآخرون حول صِدِّيق ووالدَيْه. وما هي إلا لحظة من زمن حتى كان صابر وهند جالسين، وكان الأطفال قد أصبحوا أصدقاء ملعب وكأنهم يعرفون بعضهم البعض منذ وُلدوا.
وأي شيء يمكن أن يَحُول بين الأطفال وبين الصداقة؟ نفوس الجميع منهم جديدة وضيئة صافية كأنها البللور. لا يطمع أحد منهم في الآخر، ولا يرجو واحد منهم عند الآخر غنيمة، ولا تحقد نفس منهم على نفس. أبرياء هم كالطهارة، أنقياء كمياه السحب، أصفياء كالنور، مُتألِّقون كالأمل، خلجات الحياة هم، وإشراق الدنيا لم يزحف عليها غيوم الغروب.
تقدم مهدي الحوت إلى صابر وهند وهو مبهور: ربنا يحميه، ابنكم جماله ليس له مثيل.
– بارك الله فيك!
– أنا لا أجامل، أنا أشاهد آلاف الأطفال، لم أرَ جمالًا مثل هذا الجمال.
– فضل من الله.
– الجمال موهبة من عند الرزاق الكريم.
– نحمده ونشكر فضله.
– البنات من لحظة نزوله للعب يحطن به يكدن يأكلنه أكلًا!
وتقول هند: يا راجل يا طيب، إنهن أطفال.
– أي نعم، ولكنهن بنات، ويعرفن كيف يُقدِّرن الجمال، ربنا يحميه.
وانصرف عنهما وترك الأب سعيدًا والأمَّ تتلو قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ …
٨
كان عبد الغني وعبد الودود يمشيان على نيل رأس البر بغير هدف ولا غاية، وعَنَّ لعبد الغني أن يجلسا إلى مقهًى يرقبان منها الغادين والرائحين، أو إن شئت الدقة الغاديات والرائحات. وما كادا يجلسان وقبل أن يرشفا الرشفة الأولى من زجاجة المياه الغازية، حتى علا باسم كل منهما صراخ فرحان، التفتا إليه فإذا هما إزاء زميلتيهما في الدراسة رندة الدجوي وبجانبها فتاة تشبهها كل الشبه، فاستنتج الأخوان في لمحة خاطفة أنها أختها.
– عبد الغني صابر وعبد الودود، ماذا تصنعان هنا؟
– من نفسنا، أليس لنا حق الفسحة مثلكِ؟ اقعدي.
– وما البأس؟ تعالَيْ يا ناهد أعرفكِ بالأخوين المتلازمين.
وصاح عبد الودود في رنة إعجاب تخافت معها صوت عبد الغني: أهلًا ومرحبًا ناهد هانم.
وفي تهريجها ما تزال صاحت رندة: هانم مرة واحدة! قل «مدموزيل» يكون الكلام معقولًا، حضرته يا ستي عبد الودود صابر الأخ الأصغر، قدَّمْتُه عن أخيه الأكبر لأجل خاطر لقب هانم الذي أنعم به عليك، وحضرته أخوه الأكبر عبد الغني، كلٌّ منهما ظِلُّ الآخر، لا تَرَيْنَ الواحد منهما إلا ملاصقًا للآخر.
وضحك عبد الغني وهو يقول: وأنت ماذا يغضبك في هذا؟
– متى جئتم إلى رأس البر؟
– من يومين فقط.
– نحن جئنا بالأمس، وهذا أول يوم لنا نتمشى على النيل، هل وجدتَ هنا أحدًا من الإخوان؟
– أنا مشيت هنا بالأمس فقط، وكانت عيني تائهة لم أستطع أن أتبين الوجوه.
– أنت وعبد الودود أول اثنين أعرفهما على النيل، ماذا تنويان أن تفعلا الليلة؟
– هل عندك أنت فكرة؟
– هناك مركب ذاهبة إلى الجربي وفيها بعض شبان، وأنا وناهد نريد أن نذهب ولكننا لا نستطيع أن نذهب وحدنا بلا رجل نعرفه.
– ها قد وجدتِ رجلين.
– هل أنت متأكد؟
– عمى في عينك، وهل ستجدين رجالًا أحسن مني أو من أخي؟
– والسلام، الموجود يسد.
ويضحك عبد الودود في مرح شديد، ويقول له عبد الغني: عَلَامَ تضحك يا أهبل؟ هل تعجبك قلة أدبها؟
ويلتفت عبد الودود إلى ناهد ويسألها: أنت يا مدموزيل ناهد، ما رأيك؟ هل نصلح أنا وأخي لمهمة الصحبة هذه؟
وتضحك ناهد في جاذبية: رندة زميلتكم وهي التي تعرف.
– إذن فأنتِ موافقة على رأيها؟
•••
وكانت ليلة من ليالي العمر، كان ركاب المركب كلهم من الشباب، وأزال السن ما بينهم من غربة، فأصبحوا كأنهم أصحاب عمرٍ بأكمله، وحكم الراكبون على الفتيات أن تقوم بينهن مسابقة في الرقص، فازت فيها ناهد بالمرتبة الأولى. وكان القمر واحدًا من الرفقة، قد غدت أضواؤه أوتار الهوى في الصدور، وعلت الموسيقى أحيانًا، والضحك والسرور كانا صاحِبَيِ السيادة على الليلة جميعها.
•••
تكررت اللقاءات، وبدأت الرغبات في نفس عبد الغني وعبد الودود تحتدم. ولكن الفتاتين رفضتا إلا أن يكون الشرع هو الرباط بينهم.
– وما له؟
– هل نتزوج؟
– تخرجنا، ومن الطبيعي أن نتزوج، فما البأس؟
– ألا ترى أن الفتاتينِ متحرِّرَتانِ أكثر من اللازم؟
– وأرى أيضًا أنهما شريفتان.
– لا شك، وكل الفتيات متحرِّرات، وحسبنا أننا واثقان من شرفهما.
– هل عرفت شيئًا عن أبيهما؟
– عرفت القليل، إنما من الواضح أنه ميسور الحال، وإلا لما استأجر شقة للمصيف طوال فترة الصيف، وأنت ترى أن الفتاتين تلبسان أفخر الثياب.
– ألَا يهمك شيء إلا المال يا عبد الغني؟
– وهل هناك ما هو أهم منه؟
– ولكنك فيما أعتقد لم تأتِ إلى رأس البر لتتزوج.
– الولد صِدِّيق ملازم لأبينا، وجاءنا أيضًا الحوت فعلَّمه العوم على أصوله.
– هل يئست؟
– من رأس البر نعم.
– ولكنك لم تعدل عن فكرتك.
– هيهات، ها نحن هذان سنتزوج، وسننجب أطفالًا طبعًا.
– هل أنت واثق؟
– هذا هو الطبيعي، من يتزوج ينجب غالبًا.
– فلماذا تنكر هذا الحق على أبينا؟
– لأنه أبونا.
– أهذا ذنبه؟
– هذا قدره.
– المهم، ستُكلِّم أنت أبي أم أُكلِّمه أنا؟
– نُكلِّمه معًا.
– على بركة الله.
•••
وأقام صابر لولديه فرحًا باذخًا، واستأجر لكلٍّ منهما شقة بعمارة واحدة حتى يظلا متلازمين كما تَعوَّدا طوال حياتهما، وأتاح لهما فرصةً أوسعَ في إدارة الأرض وإن لم يترك لهما الأمر جميعه.
وخلا البيت بهند وصابر وصِدِّيق.
٩
بدأ عبد الغني يَنْهَج نهجًا جديدًا نحو أخيه صِدِّيق دهش له صابر بعض الدهشة، ولكنه فرح به كل الفرح.
صار عبد الغني يُعْنَى عناية فائقة بشأن صِدِّيق، ويذهب إلى مدرسته في فترات متقاربة، ويبلغ أباه بسعادةٍ مقدار تفوُّق صِدِّيق، وإعجاب المدرسة به من ناظر إلى أساتذة إلى تلاميذ. وشارك عبد الودود في هذه العناية مشاركة غير خافتة، وظنَّ صابر في براءته وهند في نقائها أن الكبيرين يرعيان أخاهما الأصغر شكرًا لما هيَّأه لهما أبوهما من حياة زوجية مستقرة وبيت سعيد لكلٍّ منهما.
وحين حاول الأب أن يتعمَّق في الأمر … لعلَّهما الآن يحسان باقترابهما من الأبوة، وربما راوحت نفسيهما هذه العواطف فهزَّتْ حنايا الحب والأخوة معًا نحو أخيهما الذي يكاد أن يكون منهما بمكان الابن أيضًا.
وهكذا لم يكن غريبًا أن يأتيَ عبد الغني إلى أبيه: اترك لي صِدِّيق أخرج به إلى الدنيا.
– أخاف عليه.
– مني؟
– من غيرك.
– سأخرج به أنا وعبد الودود وزوجتانا.
– أين تذهبون به؟
– إلى حيث يلعب هو نتسلى نحن.
– أين؟
– إلى الملاهي.
– الملاهي؟
– ما لها، أليست للأطفال؟
– أي نعم، ولكن ألعابها خطرة.
– ونحن معه؟!
– الآلات لا قلب لها.
– ولكن قلوبنا معه.
– أخاف عليه.
– توكل على الله.
وصحب عبد الغني صِدِّيق إلى الملاهي، وذهب معه عبد الودود والزوجتان. وفي الملاهي أوكل عبد الغني إلى رندة وناهد أمر صِدِّيق. وجلس هو مع أخيه في مقهى الملاهي يقطعان الوقت بالحديث، وسار صِدِّيق مع زوجتي أخويه وكانتا عنه لاهيتين، وإنما هما تمرَّان في شبه تأدية واجب ليس حبيبًا على ألعاب الملاهي، وهو وراءهما لا تسألانه عما يحب أن يشترك فيه من ألعاب. وأحس صِدِّيق بالعطش، فتسلَّلَ دون أن تحس به الأختان إلى المقهى ورأى من بعيد أخويه منهمكين في الحديث. فقصد إلى داخل المقهى وطلب ماء، وحين همَّ بالخروج من الداخل سمع اسم صِدِّيق على لسان أخيه عبد الودود، فاقترب من أخويه دون أن يَرَيَاهُ وسمع عبد الغني يقول: لا بد أن أنتهي منه اليوم.
– يا أخي أجِّلها إلى يوم آخر.
– إن أبي لم يسمح لي باصطحابه إلا بجهد شديد، فكيف أطمئنُّ إلى أنه يسمح لي بذلك مرة أخرى؟ أقتله اليوم.
– وماذا أنت قائل لأبيك؟
– وقع، مات.
وارتعدت فرائص صِدِّيق، وأيقن أن الحديث عنه، فتراجع عن مكانه حذرًا أن يراه واحد من أخويه، حتى إذا اطمأن أنه ابتعد عن المكان تلمَّس طريقه إلى خارج الملاهي يبحث لنفسه عن ملجأ من قاتليه.
وراح يعدو يعبر الشارع المزدحم بالسيارات، فإذا بسيارة تصدمه ويغيب عن الوعي.
نزل راكب السيارة وحمله ووضعه في المقعد الداخلي، وأجلس زوجته بجانبه. وانطلق بالسيارة قبل أن يتجمَّع الناس حوله، وما لبثت السيدة أن قالت: قلبه ينبض، لا تخف.
– أليس به جروح؟
– جرح بسيط بجبهته.
– أنذهب إلى المستشفى؟
– لا داعي، اذهب بنا إلى البيت، ما الداعي للمستشفى و«س» و«ج»؟ الولد ليس به شيء.
– هو الذي كان يجري.
– هل نحن في تحقيق؟ اذهب إلى البيت.
وقبل أن يصلا إلى البيت كان صِدِّيق قد أفاق من غشيته، وتلفت حواليه غير مصدق أنه نجا. وسألته السيدة: الحمد لله على سلامتك.
– من حضرتك؟
– ستعرف كل شيء.
– وإلى أين نحن ذاهبون؟
– إلى بيتنا.
– بيتكم أنتم؟
– نعم، أم تحب أن نذهب بك إلى بيتك؟
– بيتي! بيتي!
وتذكر صِدِّيق وتملكه الهلع، وصاح في عفوية وفي غير تدبر: أنا ليس لي بيت.
– كيف؟ هل هناك أحد ليس له بيت؟
فقال في تلجلج: أقصد أنني لا أعرف بيتنا.
– ما اسمك؟
ودون رَوِيَّةٍ قال: صِدِّيق.
– واسم أبيك؟
واستردَّ صِدِّيق وعيَه وأدرك أنه يحاول أن يهرب، فسكت قليلًا وقال: إبراهيم.
– إبراهيم ماذا؟
– لا أدري.
– وأين تسكن؟
– لا أدري.
– كنت مع مَنْ في الملاهي؟
وأدركه الهلع وهو يتذكر، ووجد نفسه يقول: كنت … كنت وحدي.
– كيف؟
– لا أدري.
وأدرك الزوجان أن الطفل يخفي أمره في إصرار، وقالت الزوجة: أنت تأتي معنا إلى البيت ثم نبحث الأمر.
وهَوَّم صمت، وكان صِدِّيق لا يخشى شيئًا قدر خشيته أن يعرفه هذا الزوجان ويعيداه إلى بيت أبيه؛ فقد أصبح على ثقة أنه لن ينجو من القتل ما دام أخواه يُضمران هذه النية، وثبت في رُوعِه أن أباه لن يستطيع أن يحميه. بل إن الخوف صوَّرَ إليه أن أباه قد لا يطول به العمر، وحينئذٍ من يحميه من هذين الأخوين؟ كان صِدِّيق مذعورًا ملتاعًا هالعًا أسيفًا؛ فقد كان يحب أخويه غاية الحب، وهاله ما ظهر له من دخيلة نفسيهما.
تولَّاه صمت صاخب يُفكِّر فيما ينتظره من قابل الأيام.
وبلغت السيارة منزلًا قريبًا من صحراء، ونزل ثلاثتهم.
وراحت السيدة تُضمِّد الجرح الصغير في جبهة صِدِّيق، حتى إذا هدأ رُوعُه أو خُيِّل إلى الزوجين أن رُوعَه هدأ سأله الزوج: أكل ما تعرفه أن اسمك صِدِّيق إبراهيم؟
– أين تسكن؟
– لا أعرف.
– أتذهب إلى مدرسة؟
– أذهب.
– أين تقع؟
– لا أدري.
– يا ابني، لقد أوقعتنا في حيرة بالغة.
وقالت الزوجة: نبقيه عندنا بضعة أيام ونرى.
وقال الزوج: أنسيتِ أننا مسافران إلى أوروبا الأسبوع القادم؟
– من اليوم إلى يوم السفر يحلُّها الذي لا تغفل له عين.
– ألا ترين أن نبلغ الشرطة؟
وفزع صِدِّيق صائحًا: لا.
وعجب الزوجان. وقال الزوج: لماذا تخاف من الشرطة يا صِدِّيق؟
ولم يجد صِدِّيق ما يجيب به، وعاد إليه الزوج يسأله: أين كنت قبل أن تصدمك السيارة؟
– كنت … كنت … كنت في الملاهي.
– وحدك؟
وبعد تردد طويل قال: رحلة مع المدرسة.
– ولماذا تركت مدرستك؟
– تهت، وكنت أبحث عنهم.
وتقول الزوجة: يا وجدي أنا خائفة، ولا بد أن نبلغ الشرطة.
وفي فزع صرخ صِدِّيق مرة أخرى: لا.
وتعجب وجدي وسأله: ما الذي يخيفك من الشرطة؟
– لا أحب الشرطة.
– ألا تريد أن ترجع إلى أبيك وأمك؟
وفي عفوية طفلة قال دون ريث من تفكير: لا.
– أنت طبعًا لا تعرف عنوان بيتكم؟
وفي سرعة فائقة: لا.
– ولا الحي الذي تسكن فيه؟
– لا.
والتفت وجدي إلى زوجته: إن في الأمر سرًّا.
وقالت الزوجة: عجيب أمر هذا الطفل، أنا لم أرَ في حياتي طفلًا في مثل جماله، بل إنني أعتقد أن الله لم يخلق طفلًا على صورته أبدًا، كيف لا يضعه أهله في أعينهم؟
وهوَّم صمت فيه حديث وضجيج وصراع، وآمال ومخاوف، وهلع قاتل وإعجاب أخاذ، وتردد بين إقبال وإحجام.
وقطع وجدي الصمت قائلًا: خذي صِدِّيق إلى حجرة نوم ليستريح قليلًا، وأنا سأذهب وأشتري له بعض ملابس بدلًا من حُلَّته التي تمزَّقتْ في الحادثة.
وفي ذكاء المرأة قالت الزوجة زهيرة: فيم تفكر يا وجدي؟
– نتحدث بعد أن نعود.
والتفتت زهيرة إلى صِدِّيق: ألست جائعًا يا صِدِّيق؟
وفي براءة وصدق: أكاد أموت من الجوع.
– سأعد لك طعامًا، وادخل أنت إلى الحمام، أتعرف كيف تستحم، أم أن والدتك هي التي كانت تتولى هذه المهمة؟
وفي تردُّد تلجلج لسانه قائلًا: بل … بل … أعرف.
ولكن زهيرة أدركت تهيُّبَه وقالت: تعالَ، سأتولى أنا حمامك، تعال.
١٠
صرخت الفرملة في الملاهي جحيمًا حين ضغط عليها وجدي في محاولته لإنقاذ صِدِّيق، والتفتت الرءوس جميعًا إلى مصدر الصوت، وهرع عبد الغني يلحق به عبد الودود إلى الطريق العام، ورأيا صِدِّيق ملقًى على الأرض. وفغر عبد الودود فمه وأوشك دون ريث من تفكير أن يصيح بالاسم، ولكن عبد الغني عاجله بلكزة قوية في صدره جعلت صيحته تتحول تلقائيًّا إلى: آه.
وهمس: ولا كلمة.
وشاهد الأخوان وجدي يحمل أخاهما ويضعه في السيارة، وينطلق قبل أن تُتاح فرصة لرواد الملاهي وعابري السبيل أن يتجمَّعوا حول الحادثة.
وهمس عبد الودود: ألا نأخذ نمرة السيارة؟
وقال عبد الغني: وماذا نصنع بها؟ المسألة جاءت من عند ربنا، الولد مات، لا شك في ذلك.
– كيف عرفت؟
– الذراعان الساقطان والرأس المائل، الولد مات. وهذا الذي حمله في السيارة سيحاول أن يدفنه في أول تربة، إنها فرصة عمر أن أحدًا لم يعرفه، ولا حاول أحد من الواقفين أن يكتب رقم السيارة، سبحان الله! العبد في التفكير والرب في التدبير، جاءت من فوق!
– ما كل هذه الثقة؟
– أحسها من داخلي، أنا متأكد.
وجاءت الزوجتان تبحثان عن زوجيهما وأخيهما، فطالعهما عبد الغني بالنبأ في محاولة هزيلة للتفجُّع: مات.
– ماذا؟
– كيف؟
وفي خبث إجرامي يُحمِّل الزوجتين المسئولية: ألم يكن معكما؟ لماذا تركتماه؟
وقالت رندة: وهل تصورنا أن يتركنا؟ كُنَّا نتحدث، وحين التفتُّ إليه لأعرض عليه أن يلعب لعبة الحبل كان فص ملح وذاب.
– وماذا أخرجه إلى الشارع؟
وقال عبد الغني في صوتٍ عجز عن أن يجعله ملائمًا للمناسبة: قدره.
وقال عبد الودود: وقدرنا.
وفكر عبد الغني قليلًا ثم قال: نعم وقدرنا.
وغمر الذهول وجه الأختين، وقفز إلى ذهن أربعتهم في لحظة واحدة ما رَدَّدَتْه رندة: ماذا نحن قائلون لعمي صابر؟
وقالت ناهد: أنا ساقاي لا تحملانني، تعالَوْا نجلس ونفكر.
وقصدوا أربعتهم إلى المقهى، وسكت عبد الغني منتظرًا رأيهم، وقال عبد الودود: غير معقول أن نذهب إليه ونقول له: صِدِّيق مات.
وقالت ناهد: وماذا يمكن أن نقول؟
قالت رندة: على كل حال لا بد أن نقوم الآن إلى قسم الشرطة ونبلغ.
وقال عبد الغني: إذا لم نفعل نحن هذا فسنكون مقصرين أمام أبينا، وسيذهب هو إلى قسم الشرطة.
وقام عبد الغني وهو يقول: هيا نذهب إلى الشرطة بدلًا من تضييع الوقت.
وفي قسم الشرطة تولى عبد الغني إملاء البلاغ، وكان البلاغ حاسمًا في تضليل كل من يحاول البحث عن أثر لصِدِّيق، ولم يذكر شيئًا عن وثوقه من موته، إنما ذكر ما رأى ولم يذكر ما يظنه أو ما يرجوه.
وخرج أربعتهم إلى مواجهة الأب والأم الجازعين في البيت، وقد حاصرتهم الحيرة، لا يدريان ماذا يصنعان، يتوجَّسان من التأخير في هلع بالغ. وحين بلغ ركب عبد الغني البيت وجد الأب والأم معًا هما من يفتحان الباب، وكانت وجوه الأربعة تحمل الخبر القاتل، فانهار صابر جالسًا وصاحت الأم في لوعة: صِدِّيق، صِدِّيق.
ودخل الأربعة وأُغلق الباب وقال عبد الغني: ربنا وحده القادر على أن يلهمنا الصبر.
ودون وعي قال صابر: ماذا صنعتم بابني يا عبد الغني؟
وقال عبد الغني في جزع: إنه أخونا.
وأعاد الأب جملته: ماذا صنعتم بابني يا عبد الغني؟
وقال عبد الودود: كلنا أبناؤك.
وقال صابر: ماذا دبَّرْتُم؟
وصاحت ناهد: دبَّرْنَا؟ وهل تشكُّ فينا يا عمي؟
ولم يلتفت إليها صابر، وإنما نظر إلى عبد الغني: تكلم يا عبد الغني، تكلم يا عبد المال.
وقال عبد الغني: بهذه الطريقة لا أستطيع الكلام، أعطني فرصة.
وأمسكت هند بملابس عبد الغني في عنف وشراسة، وفي استجداء أيضًا: أين صِدِّيق يا عبد الغني؟ قل أي شيء إلا أنه مات، أي شيء إلا أنه مات.
– لا، إن شاء الله، لا.
وراحت تهزه وتقول: إذن قل! تكلَّم!
وجلس عبد الغني وراح يروي القصة، حتى إذا انتهى منها قال صابر: لم يَمُتْ يا عبد الغني، أنا على وعد من الله أنه لن يموت قبلي.
ونظر عبد الغني وعبد الودود وناهد ورندة إلى بعضهم البعض، وأكمل صابر: ما هذه النظرات؟ أحسبتم أنني جُننت؟ هذه آمال، أجن أنا ويموت صِدِّيق! ليس في العالم مالٌ يساوي أن يُقال عنكما: إن أباكما مجنون، وليس في العالم مالٌ يساوي روح إنسان، أي إنسان. فما بالك إن كان هذا الإنسان أخاك.
وأحس عبد الغني أنه أصبح صفحة بيضاء أمام عَيْنَيْ أبيه، يقرأ دخيلة نفسه. وأكمل أبوه: إن صِدِّيق لم يمت، لم يمت، والأيام بيننا يا عبد الغني ويا عبد الودود، وستريان.
وارتمت هند صامتة ذاهلة على أريكة، وصاحت رندة: أهذا معقول يا عمي؟
وصاح صابر: اخرجوا الآن واتركوا أباكم الذي حطمتم، وأمَّكم التي رَبَّتْكم كأبنائها ولم تشفقوا على وحيدها.
وحاول عبد الودود أن يقول: ولكن يا …
وقبل أن يكمل يصيح أبوه: ولا كلمة، اخرجوا الآن، والموضوع لم ينتهِ، بل لن ينتهي إلا حين يعود صِدِّيق، وسيعود رغم أنفك يا عبد الغني ورغم أنفك يا عبد الودود، هيا اخرجوا، أريد أن أفرغ لهذه المسكينة وأبث إلى قلبها الإيمان الذي في قلبي.
١١
وضعت أمامه طعامًا وراح يأكل، وراحت تنظر إليه في إعجاب شديد وفي عجب أشد أن له سرًّا لا يريد البوح به. وكان صِدِّيق جائعًا، فراح يأكل وكأنه يرى ما يدور بذهنها؛ فهو يخشى أن تحادثَه ويخشى أن تستدرجَه. وفي ذكاء المرأة الموهوب والمكتسب قالت زهيرة: كُلْ وأنت مطمئن، لن أسألك شيئًا، ولك الحرية المطلقة أن تحتفظ بسرك.
وحين حاول أن ينفي احتفاظه بسر قاطعته: لا تقل كلمة، فقط كُلْ، وتأكَّد أننا سنجعلك سعيدًا.
وآثر صِدِّيق الصمت، وراح يأكل وهو أكثر اطمئنانًا.
وجاء وجدي ومعه ملابس لصِدِّيق، ومن بينها بيجاما للنوم، وأمسكت بها زهيرة: أحسنت يا وجدي! إنها مناسبة له. هيا يا صِدِّيق لتلبسها وتستريح قليلًا.
ولبَّى صِدِّيق الأمر تاركًا أمر مستقبله لله. وحين هدأ به الفراش قال في نفسه: ما مصير ذلك الحلم الذي رأيته منذ قريب ورويته لأبي؟ كنت في الحلم تائهًا، ومع ذلك كنت أعرف طريقي. أسير في سراديب لا أتبيَّن معالمها، ولكنني كنت فيها أسير على هدًى. وانتهت بي الطرقات المتشابكة من العتبة إلى جبل شاهق، رأيتني وكأنني أقف على قمته وفي السفح عبد الغني وعبد الودود وناهد ورندة ومعهم أبي وأمي يشيران إليَّ أن أصفح عن أخوي. وأفهم الإشارة وأرى في سمتها الشمس وكأنها تطلب إليَّ أن أستجيب لما يشير به أبي وأمي.
حين روى لأبيه الحلم وقد فرغ من صلاة الفجر وقرآنه، التفت إليه وقال: أنت مبارك يا صِدِّيق، احفظ عليك رؤياك لا يعلمها أخواك.
أتُراني اليوم أبدأ مسيرتي في التيه.
•••
قالت زهيرة: أراك قد عزمت أمرك على شيء.
– لا أستطيع أن أبتَّ في الأمر قبل رأيك.
– ماذا تريد؟ وإن كان يُخيَّلُ إليَّ أني أعرف ما تريد.
– إنكِ لا شك عرفتِه.
– أتريد هذا؟!
– وما البأس؟
– ليس صغيرًا.
– لا يهم.
– والناس الذين نعرفهم ماذا نقول لهم؟
– طفل فقد أهله وتبنيناه.
– وشهادة الميلاد؟
– إنني في مكان أستطيع منه أن أستخرج عشرين شهادة ميلاد إذا أردت.
– أجمل طفل رأيته في حياتي.
– أستخرج جواز سفر له؟
– افعل.
– غدًا يكون جوازه بين يديك.
•••
وفي الغد كان جواز السفر بين يدي زهيرة ومعها شهادة ميلاد تُثبت أن صِدِّيق اسمه صِدِّيق وجدي البطاش.
وفي نفس الغد كان صابر في قسم الشرطة يسأل إن كانت الشرطة قد وصلتْ إلى جديد في شأن ابنه. ثم هو يترك القسم ويذهب إلى الملاهي ويجلس بها، وإنما مجلسه لها كان بين رُوَّادِها عجبًا. إنه يُولِّي ظهره للملاهي ويستقبل الشارع، ينظر إلى الطريق والسيارات، وكأنما ينظر قادمًا هو واثق من مجيئه.
سافر وجدي إلى بولندة، وكان في بعثة لمدة سنة ليشهد نظام السجون هناك؛ فقد كان وجدي ضابطًا بدرجة رائد في السجن الحربي. وقد استطاع أن يدبِّر هذه البعثة وشجعه عليها الرؤساء؛ ليحاولوا عن طريق بعثته أن يرفعوا إلى رأس النظام تقريرًا يثبت أنهم أكثر شدة من كل السجون التي تشرف عليها النظم الشيوعية.
وحين صحب وجدي وزهيرة صِدِّيق فكَّرا في الطائرة: ماذا نحن صانعان بك هناك؟
– لقد أفهمتُ سفيرنا هناك أن معي طفلًا وأريد أن يواصلَ تعليمه.
– وماذا قال لك؟
– قال: لا مشكلة.
– واكتفيتَ بهذا؟
– وماذا تريدينني أن أصنع؟
– تستفهم، تسأل، تعرف.
– في التليفون، والخطوط مراقبة؟
– وهل يهمك أنت الخطوط المراقبة؟
– أنا أكثر من أي إنسان في مصر.
– فلماذا لا تراقب الله في بيتك؟
وصوت خفيض مليء بالذِّلَّة قال: هل ينقصكِ شيء؟
وفي جرأة المرأة إذا كان الحق في جانبها: ألا تعرف؟
وفي ذِلَّةٍ أخرى تحاول أن تبتعد عن بؤرة الدوامة: أنت تعيشين أحسن عيشة؛ فيلا وسيارة وطلباتك أوامر تتسابق إلى تنفيذها إمكانات دولة بأكملها.
– إذن فلا ينقصني شيء.
– مؤكد.
– وجدي.
– نعم.
– من أين تأتي بهذه الجرأة؟
– ألست ضابط جيش؟
– في السجن تنفِّذ عذاباتك على العُزَّل الذين لا يملكون حربك.
– عملي في السجن. على كل ضابط أن ينفذ الأوامر الصادرة إليه، مخالفة الأوامر جريمة قد تصل عقوبتها إلى الإعدام.
– أنتم تنفذون الإعدام بلا جريمة على الإطلاق.
– اسكتي الله يخرب بيتك.
– أكثر من هذا الخراب؟
– اسكتي.
– أتظن أن أحدًا يسمعنا الآن ونحن في الطائرة؟
– من يدري؟
– كيف تقول: إنك تعلَّمت الجرأة من الجيش؟
– الجرأة على العدو لا على النظام الذي أعمل واحدًا من أجهزته.
– وهل أنا عدو؟
– ألعن.
– اسمح لي أن أعود إلى سؤالي الأول وأعدله بعض الشيء: من أين تأتي بهذه الصفاقة؟
– صفاقة!
– أليست صفاقة منك أن تقول: إنني لا ينقصني شيء؟
– طبعًا لا ينقصك شيء.
– أنت الذي تقول هذا؟
– وكل الناس تقوله معي.
– أسمح لكل الناس أن يقولوه إلا أنت.
– لماذا؟
– يا لك من فاجر.
– فاجر؟!
– أقل وصف طاف بذهني.
– ألا تقومين إلى صِدِّيق الذي يجلس وحيدًا؟ ألا يكفيه شعوره بالبعد عن أهله الذين يرفض أن يقول عنهم شيئًا؟
ودون أن تعير محاولته لتغيير الحديث أدنى التفات استمرَّتْ في هجومها الشرس: أنا يا وجدي لا ينقصني شيء؟!
– مؤكد، قومي إلى صِدِّيق.
– ألا تعرف ماذا ينقصني؟
– يا ستي فهمت.
– فهمت؟ يا لك من ذكي! أيحتاج هذا إلى فهم؟
– إذن فلماذا هذا الهجوم؟
– كان ينبغي أن تطلقني من أول يوم عرفت فيه أنك عاجز تمامًا كرجل.
– وأفضح نفسي؟
– ليس هذا ما يمنعك، أنت تعرف أنني لن أقول شيئًا.
– وكيف أعرف؟
– ومن أجل هذا ترفض أن تطلقني وتجعلني تحت المراقبة الدائمة، أهذه رجولة؟ آسفة، أنت أصلًا لست رجلًا، ولكن لا بد أنك إنسان، ولكن كيف؟ من أين لك الإنسانية ووظيفتك التي تعيش عليها هي قتل الإنسانية في الإنسان، أنت مخلوق شاذ، لا من البشر أنت ولا أنت من الحيوان؛ لأن الحيوان يأكل فريسته ولا يعذِّبها. أنت …
ويقاطعها وجدي في محاولة للحزم: زهيرة، كفى.
– ثورة تحرق نفسي أطلقت لها العنان في أول لحظة شعرت فيها أنني في حمى الله بعيدة عن مصر، وأنني أستطيع أن أقول ولا تهدِّدني بما تملكه في مصر من جبروت وظلم وطغيان. أقوم الآن إلى صِدِّيق.
وقامت إلى صِدِّيق وبدأت معه الحديث محاولة أن تزيل عنه الغربة المادية والنفسية التي يعانيها، ولم تدهش حين وجدته سعيدًا بأنه في الطائرة بعيدًا عن أهله.
«تُرى ما الذي يلاحقك أنت أيضًا أيها الطفل رائع الجمال في بيت أمك وأبيك؟ كان الله لك يا بني وكان الله لي.»
١٢
لم يكن عبد الغني ولا عبد الودود يتصوران أن يحيط كل هذا الدمار بأبيهما، حتى لقد كانت هند، وهي الأم التي ليس لها إلا صِدِّيق، أكثر صلابةً من زوجها وتحاول أن تصبره: يا صابر، لقد فقدت وحيدي، فأستحلفك بالله ألَّا تجعلني أفقدك أنت أيضًا.
وفي إصرار وألم: لم تفقدي صِدِّيق، ولن تفقديني حتى نجده.
– أتتصور أنه حيٌّ ولم يأتِ طوال هذه المدة؟
– وأنا أيضًا لا أتصوَّر أن يصدم شخص طفلًا بسيارة ويختطفه.
– الصدمة قاتلة، والمجرم أراد أن يُخفِي معالم جريمته.
– يا ستي لا يمكن، أين تظنين أنني كنت أذهب في الصباح طوال الأيام الماضية؟
– لا أدري.
– كنت أظل الساعات الطوال في شارع الملاهي، حركة السيارات بطيئة للغاية لزحمة المرور، لا يمكن أن تكون الصدمة قاتلة في هذا المكان مطلقًا.
– ربما كان الشارع خاليًا في هذا اليوم.
– يوم جمعة، والملاهي مزدحمة، والمرور لا يسمح أن تسير سيارة بسرعة تؤدي إلى قتل من تصدمه.
– لا يمكن أن تثق كل هذه الثقة من أجل استنتاجات مثل هذه. يا صابر، أرجوك، تحتسب لله، ولا تُوجِد في نفسي أملًا أعلم أنه لن يتحقق.
– بل سيتحقق، وسترين إن شاء الله.
– من أين لك كل هذه الثقة؟
– ومن يملك أن يرسل الثقة في النفوس إلا الواحد الحق، الملك، القدوس.
– ما دمت مطمئنًّا، ففيمَ حزنك؟
– إنه بعيد عني ولا أعرف عنه شيئًا، ما مصيره؟ إلى أين تقوده متاهات الحياة؟ هو حي، هو حي لم يمت، أنا واثق؛ لأن الله يمدُّني بهذه الثقة، ولكن كيف يحيا حياته؟ ما مصيره؟ إن الله لا يبتلي إلا عباده المؤمنين، هو مولانا وعليه توكلت، وإليه المصير.
– وهل معنى هذا أن تترك زراعتك ولا ترعى شأنك؟
– اسمعي، أولادي أهملوا شأن أخيهم من أجل الزراعة، وكلاهما خريج زراعة، سأترك لهما كل شيء، ولكنني سأحتفظ بالملكية حتى تقسم على ثلاثتهم وليس عليهما وحدهما، فليفعلا ما يريدان، ولكنني سأظل أنا المالك.
وكذا انفرد عبد الغني وعبد الودود بشئون الأرض، يديرانها كيفما أرادا، ولكن صابر كان دائمًا قابضًا على ما تغله، يعطي ولديه ما يريد أن يعطي، وينفق ما يشاء، ويدخر ما يشاء، وقد كان دائمًا حريصًا على أن يجنب مبلغًا من المال يعتبره حق صِدِّيق الذي ينبغي أن يبقى له لا يعدو عليه أحد.
كان المال يدخره صابر لصِدِّيق، وكان صِدِّيق قد التحق في بولندة بمدرسة تعلِّم اللغة الإنجليزية، فبهر المدرسين هناك بسرعة تعلُّمه بصورة لم يشهدها واحد منهم قط، وقد جعلهم هذا يتعهَّدونه بالرعاية ويمدونه بالكتب، وصِدِّيق يسير في تعليمه مقبلًا عليه غير ملتفت إلى ما يلهو به أبناء سنِّه من ملاعب الأطفال. حتى لقد كانت زهيرة ووجدي يحثانه على اللعب فيتأبى عليه. وكما بهر صِدِّيق مدرسيه، بهر وجدي وزوجته بمحافظته على الصلاة في مواقيتها، وحين أدركهم شهر رمضان هناك أصر على الصيام، حتى لقد خجل منه وجدي وزهيرة وصاما هما أيضًا، وأمرُهُما إلى الله.
وتمر السنة وتعود الأسرة التي أصبحت ثلاثة نفر إلى القاهرة، وفي الطائرة يسأل وجدي صِدِّيق: ما رأيك يا صِدِّيق، أتذهب إلى مدرسة عربية أم تكمل الدراسة بالإنجليزية؟
– أفضِّل أن أتمها بالإنجليزية.
– لك ما تريد.
وتقول زهيرة: إنها فرصة أن يتعلَّم الإنجليزية وهو أصلًا قوي في اللغة العربية.
– معقول.
– وخاصةً أنه دائمًا يقرأ في القرآن، فلا خوف عليه في اللغة العربية أبدًا.
– لقد حفظت ربع القرآن والحمد لله، وفي فترة قليلة سأحفظه كله.
وفي اليوم التالي لوصولهم إلى القاهرة يُقيِّد وجدي اسم صِدِّيق في مدرسةٍ أساسُ التعليم فيها باللغة الإنجليزية.
وتمر السنون.
١٣
ينفرد عبد الغني وعبد الودود بالأرض تمامًا، ويصبح صابر وهو لا عمل له إلا الصلاة والعمرة والحج، والعجيب أن ولديه لم يستطيعا أن يغلباه على أمره، فإن أحدًا منهما لا يملك التوقيع، ولا بد من توقيع صابر على كل المعاملات التي تتصل بالأرض، وحين حاول عبد الغني أن يقول: يا بابا، أنت تسافر كثيرًا، والمعاملات المالية تحتاج إلى …
قاطعه صابر في حزم ودون أي تفكير: إذا كنت تريد أن أكتب لك توكيلًا لأصبح أنا وكأني غير موجود فهيهات، هذه الأرض ملكي، وستُقسَّم على أبنائي الثلاثة عند موتي، وتأخذ زوجتي نصيب الثمن حقها الشرعي.
– ولكن يا أبي …
– أي محاولة أخرى سأعود أنا إلى إدارة الأرض إدارة كاملة.
– ما أحب إلينا.
– لا تستطيع أن تخدع أباك، إن الذي لا يُقدِّر ذكاء الآخرين ويحاول أن يتذاكى عليهم غبيٌّ لا يفهم.
– وهل حاولت؟
– صدمتي في ابني لم تفقدني عقلي، وإنما زهدتني في الأرض التي جعلت الإخوة يهملون الأخ. أمَّا عقلي فقد ازداد حدة وازددتُ إدراكًا للحياة. وإقبالي على العبادة حب في الدنيا وفي الآخرة، وتعشُّقي للذات الربَّانيَّة جعلني أكثر فهمًا للحياة وإدراكًا لها، نحن الربانيين أعقل من يمشي على الأرض، والذي يعاملنا على غير هذا الأساس غبي لا يفهم.
وهكذا استقر الأمر على أن يدير عبد الغني وعبد الودود الأرض ما طابَتْ لهما الإدارة، ولكن إصدار المال واستقباله يكون لصابر وحده.
وقد زرع عبد الغني وأخوه الذي كان أشبه بتابع له الأرضَ جميعَها موالحَ، وأصبح عائد الأرض عشرة أضعاف عائدها حين كان صابر يديرها، وقد استطاع الشابان المتخرِّجان في الزراعة أن ينتجا من أرض الموالح أحسن ما تستطيع أن تعطيه كميةً ونوعًا، وأصبح لإنتاجهما شهرةٌ بعيدة.
•••
أصبح صابر ذات يوم فوجد نظره يتغشاه ما يعوق الرؤية بوضوح، فذهب من يومه إلى الطبيب.
فقال له الطبيب: لقد تَعرَّضْتَ لصدمات عصبية؟
ولم يُجِبْ صابر.
– طبعًا تحتاج إلى عملية.
– هل نجاح العملية مؤكد؟
– إن شاء الله.
وحين عاد إلى البيت سألته هند فقال: يريد أن يُجرِيَ لي عملية، ولن أُجرِيَها.
– ماذا تقول؟
– لن أُجرِيَ عملية؛ فأنا لا أحتاج لنظري إلا يوم يعود صِدِّيق، حين يعود سأُجْرِي العملية.
– أهذا إيمان؟
– أنا لا أقتل نفسي، إنما أنا أستغني عن جارحة شاء الله أن يصيبني فيها، والله المستعان.
– وكيف ستقرأ القرآن؟
– تقرئين أنت لي فأكسب فيكِ ثوابًا، وتجدينَ شيئًا تصنعينه بدلًا من الحزن الذي يفري كيانك وترفضين أن تبيني عنه، حتى لا يُقال عليكِ ما يُقال عليَّ.
– ما يُقال عنك لا يعيبك.
– إنني لا أفتأ أذكر صِدِّيق حتى لقد أوشكت أن أجن.
– ابنك وحزنتَ عليه، لا ضير عليك.
– إذن فابكي يا هند كما أبكي حتى تخففي لوعتك.
– ولماذا أبكي وأنت تقول أنه موجود، وأنت لم تكذب في حياتك قط؟
– ألهذا الحد تثقين بي؟
– وأي غرابة في ذلك؟ أنت جدير بكل ثقة.
– أكرمَكِ الله قدر ما تعذبت يا هند.
– أكرِمْني أنت حتى يُكرمني الله.
– وهل قصَّرت؟
– أَجْرِ العملية.
– أنا لا أريد أن أراك حزينة، وأرى ولديَّ فرحين بما حقَّقا من نجاح. ربما خفت ضياع بصري من الآلام التي أطالعها بعينيَّ في حياتي.
– أليس الإبصار إكرامًا من الله؟
– ولسبب أراده حجبَه عني فترة، الحمد لله على ما أعطى، والحمد له على ما أخذ، ولن أحاول أن أستردَّ بصري إلا إذا كان هناك ما أحب أن أراه.
١٤
نال صِدِّيق شهادة الثانوية العامة، وقدَّم أوراقه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فقُبلت؛ فقد كان من أوائل الحاصلين على الشهادة.
وحدث أمرٌ عجيب.
كانت زهيرة في حجرتها تتزين؛ فهي حريصة دائمًا على أن تتزين. وحين أكملَتْ زينتها نظرت إلى المرآة بحسرة ملتاعة، وتصاعدت من كيان المرأة فيها حُميَّا نيران متقدة بالحريق، وشعرت أنها إذا ظلَّتْ رائية إلى المرآة فستحطمها، فسارعت تخرج من الغرفة ومرَّتْ بحجرة صِدِّيق واقفًا أمام المرآة يكمل ملابس نومه، فراعها ما رأت.
مَنْ هذا الفتى الشامخ الجمال المفتول العضل السمهري القامة ذو الكبرياء الأشم؟ ويلي! إنه ليس ابني، إنه فتًى لا أعرف مَنْ أبوه ولا أعرف أمه، وإنما بذلت له من نفسي السنوات الطوال لِيَدْرُجَ من الطفولة إلى هذا الشباب النادر.
وقفت زهيرة على باب الغرفة يغمرها الذهول، تمزقها الجرأة فيها، تدفعها الأنوثة ويردُّها الحذر.
أهذا هو الفتى الذي قدم إلى بيتي خائفًا ملتاعًا يَتَسَرْبَلُ رعبُه، ويرد ببيتي غوافل حياة طالعَتْه بالأهوال وبالرعب وبالتهديد وبالويلات؟ أهذا هو الطفل الذي دخلت معه الحمام يوم مجيئه والذي احتضنته من أهوال الحياة وأقمت عليه الحصون مما كان يهدده؟ أهذا هو مشروع الإنسان الذي جاء إليَّ يتكفَّى في مخاوفه ومحاذيره، فأمَّنْتُه ورعيته حتى أصبح هذا الرجل كله؟
ألم يَئِنِ الأوانُ أن يصبح لي رجلًا بعد أن كان في بيتي طفلًا ما كنت أنا أمه، وما كان صاحب حق عندي؟ فما البأس به أو بي أن يكون فتاي؟
ذهبت إلى غرفتها وخلعت ملابسها وارتدت قميصًا داخليًّا ووقفت بالباب ونادت: صِدِّيق.
وجاءها صوته: أفندم.
– هل أنت خارج؟
– لا أبدًا.
– تعال.
– حالًا.
وفي لحظة كان عندها؛ فقد كانت إشارتها عنده أمرًا، وقبل أن يجيء كانت قد سارعت هي إلى السرير واستلقت عليه معتمدة رأسها على كفِّها، وما إن دخل حتى قامت إلى الباب الذي دخل منه فأغلقته، وسارعت إلى باب الحجرة الآخر الذي يؤدي إلى حجرة زوجها والذي لا يُستعمل مطلقًا فأغلقته هو الآخر والتفتت إلى صِدِّيق: قبِّلني.
وأصابه ما يشبه الجنون. ما هذا الذي يراه؟ إنه كان يتصور أي شيء إلا هذا! إنها امرأة في قمَّة الجمال ولكنها في مكان أمه. وما قيمة هذا؟ إنه ليس زواجًا. إنها جميلة، إنها المرأة كما ينبغي أن تكون المرأة.
قبَّلها في خدها، وصرخت: أهذه هي القُبلة؟ القُبلة هكذا.
والتقفت فمه والتقف فمها، وثارت في دمائه نار الشباب الملتهب، وهَمَّ بها ولكنه فجأة: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ.
صاح: أستغفر الله، كيف أخونه؟ إنه من فتح لي بيته وأمَّن حياتي وربَّاني. لقد شرَّدَني الظلم، فكيف أظلم أنا؟
وجرى إلى الباب فلحقت به، وأمسكت بردائه فمُزِقَ في يدها.
ودخل الزوج، وأدرك كل شيء.
وحاول صِدِّيق أن يقول شيئًا، ولكن وجدي أشار إليه فسكت وانسحب إلى غرفته وراح يجمع ملابسه، إلى أين بي المسير؟ إلى أين بي يتجه المصير؟
وقفت زهيرة لوجدي متصدِّية، إنها امرأة، وإنها لا تنال حق الزوجية، فما البأس بها أن تلتمس حقها عند غيره، وبدلًا من أن يثور وجدي أطرق في خزي وكأنها هي التي أطبقت عليه متلبِّسًا بالخيانة، فإن الحق قديم، ومهما يحاول الطاغية أن يعتدي على حق الناس في العلن، إلا أنه في دخيلة نفسه يعرف أنه ظالم غاشم يستلب الناس ما لهم من حقوق.
ووجدي يعلم كل العلم أنه يُبقي زوجته معه ظلمًا وبهتانًا وزورًا واغتصابًا.
استخزى وجدي وانسحب مثل قِطٍّ جريح إلى حجرته واستلقى على الكرسي.
«ماذا أنا صانع الآن؟ إن ترك البيت فضحني، وإن طَلَّقْتُها فضحتْني، وما أنا بمطلِّقها أبدًا، وكيف أسمح لها أن تكون حرة وتتزوَّج غيري ويعرف الجميع أن وجدي الأسد الكاسر الذي دوَّخ الناس وأمر بالاعتداء على أعراضهم وكراماتهم وجسومهم، عاجزٌ أن يكون مثلَ أضعف الرجال وأهونهم شأنًا.»
فزَّ عن كرسيه وسارع إلى غرفة صِدِّيق فوجده قد أعد حقيبته.
– نعم هذا ما توقعته. لا، لا تفعل هذا.
– لا أستطيع أن أبقى في البيت، لا يمكن.
– سنرى، وإنما خروجك مستحيل. إلى أين تذهب؟ وماذا ستقول للناس؟
– أنت تعرف أنني لن أنطق حرفًا.
– فإذا خرجت فإنك غير محتاج أن تقول شيئًا، سيقول الناس بالنيابة عنك كل شيء.
وَجَمَ صِدِّيق لا يدري ماذا يقول أو يفعل، الكلام الذي يقوله كافله واضح وصادق، وهو حريص على أن يظل هذا البيتُ الذي رعى شأنه من الطفولة الباكرة إلى الشباب نظيفًا أمام الناس بعيدًا عن كل شبهة، نقيًّا في سمعته شريفًا في مظهره مهما يكن داخله عفنًا شائهًا، وهو أشد حرصًا ألَّا يكون هو سببًا مباشرًا أو غير مباشر فيما يجعل هذا البيت على ألسنة الناس تشنيعًا وتجريحًا وقذفًا، ويقطع عليه وجدي تفكيره: أتحب أن تسافر إلى الخارج؟
– ماذا أصنع في الخارج؟
– تقضي الإجازة.
– وبعد الإجازة؟
– بعد الإجازة تعود.
– يا عمي وجدي أنا لن أعيش في هذا البيت أبدًا بعد اليوم، ولو كان متاحًا لي أن أسافر إلى الخارج لأتعلَّم لفعلت، ولكن هذا مستحيل.
وفي شبه حيرة وضياع يقول وجدي: لماذا مستحيل؟
– أنت أنفقت عليَّ أكثر مما ينبغي، وليس معقولًا أن أكلِّفك أيضًا أن تنفق عليَّ في الخارج. وأنت يا عمي وجدي في منصب سياسي، والمنصب السياسي قد يتغيَّر بين يوم وليلة، فما مصيري إذا نُقلت أنت من مكانك؟ سيصبح مستحيلًا أن تواصل تعليمي؛ لأنك لن تستطيع أن ترسل لي مالًا بالطريق المشروع، وستكون تحت العيون، ولن تستطيع أيضًا أن تستعمل الطرق غير المشروعة. هذا من ناحيتك، ومن ناحيتي أنا لا أتصور أن أترك مصر أبدًا؛ إن قدري أن أرتبط بمصر وأنا أعلم هذا كل العلم.
– فماذا ترى إذن؟ أراك تُعِدُّ حقائبك فإن … أين كنت تنوي الذهاب؟
– إلى فندق.
– قد يكون هذا حلًّا مؤقتًا.
– حل مؤقت لا شك.
– أستأجر لك شقة.
– أنا لن أكلفك بعد اليوم مليمًا، ولو أدَّى ذلك إلى أن أستجدي في الطرقات.
– هل هذا معقول؟ وكيف ستعيش إذن؟ ليس لك أحد على الإطلاق.
وقال صِدِّيق في نفسه: يعلم الله أن لي أبًا لا يحب أحدًا في حياته قدر حبه لي، ولي أم أنا كل أملها في الدنيا، ولي أيضًا مع الأسف أخوان يريدان قتلي، ولكني لن أعود قبل أن يعرف الأخوان أنني في غنًى عن مالهما.
ولو استطاع وجدي أن يسمع ذلك الحديث الذي انبثق في نفس صِدِّيق لكان له شأن آخر، ولكن من أين له أن يسمع؟ وعلا صوت صِدِّيق وهو يقول: لي الله.
– ونعم بالله.
– ولن يتركني.
– نعم يا بني، ولكن الله يهيِّئ الأسباب، فماذا أنت صانع الآن؟
وصمت صِدِّيق وراح وجدي ينظر إليه منتظرًا ما يقول، وفجأة رأى وجدي على وجه صِدِّيق نورًا كأنما سكبته عليه السماء، ثم رأى إشراقة أمل. وقال صِدِّيق دون ريث انتظار: السجن.
– ماذا؟
– ما سمعت.
– ماذا تقول؟
– أنا الآن سأدخل الكلية، وكل ما أريده أن أتفرغ للمذاكرة حتى أتخرج بدرجة مشرفة، وأنت مشرف على السجن تستطيع أن تُدخِلَ فيه من تشاء، وإن الداخل إلى السجن لا يدري كم سيبقى.
– أهذا معقول؟
– أعتزل العالم.
– وإذا انتقلت أنا وتركت السجن؟
– أخرجني قبل أن تترك مكانك، ويفرجها المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك.
– وماذا أقول لمن سيسأل عنك؟
– سافر يكمل تعليمه في الخارج.
– وكيف ستذهب إلى الكلية.
– هات لي الكتب ودع الباقي على الله وعليَّ.
سكت وجدي وراح يفكر في الأمر: الفكرة بالنسبة لي ممتازة؛ أوَّلًا أبعده عنها تمامًا فلا تحاول محاولتها الأثيمة مرة أخرى، وأخفي عنها أنه في السجن، وثانيًا سيكون تحت رقابتي دون أن يدري أحد، ومن ناحيته سيذاكر ولن يشغله شيء عن المذاكرة، وأنا أستطيع أن أجعل السجن ليِّنًا بالنسبة إليه، وستكون صلته بي مباشرة وأستطيع أن ألبِّيَ جميع مطالبه، فيصبح سجينًا غير سجين. الفكرة ممتازة.
وأعاده صِدِّيق من أفكاره المنفردة: ماذا قلت؟
– أكمل إعداد ملابسك.
وراح صِدِّيق يكمل إعداد ملابسه في حزم وإصرار وقد أصبح وجهه كله عزمًا وإقدامًا.
•••
وفي حجرة خاصة نزل صِدِّيق بالسجن، وصدرت الأوامر أنه يستطيع أن يلتقي بمن يشاء من المساجين دون حرج عليه؛ حتى لا يشعر بالوحدة.
وكان إدخال شخص إلى دار سينما. فالسينما على الأقل ستكلفه ثمن التذكرة، أمَّا السجن فلا يكلفه إلا ادعاء بأنه خطر على الأمن، فقال شفاهًا ثم يصبح السجن هو المصير.
١٥
كثر الحديث حول زهيرة، وعرف الكثيرات أن الفتى الذي تولَّت تربيته منذ الطفولة خرج من البيت إلى حيث لا يدري أحد على الإطلاق. وتَملَّكَها الغيظ؛ فالتهمة قاتلة، ولا أحد يعرف دافِعَها عليه، فإن سرها مع زوجها ظل حبيس صدرها وفراشها لا يعلمه أحد إلا الله.
ومع الأيام كانت زهيرة تشعر بِسَعَةِ التهمة، واتساع اللغط بها بين صويحباتها جميعًا، ولم تكن واحدة منهن لتجرؤ على مواجهتها بها. وهكذا واجهت موقفًا عجبًا: تهمة ولا تهمة، وحديث ولا إعلان، ومناجاة بين النساء؛ لا يرتفع إلى المواجهة ولا ينقطع، ولم تكن زهيرة فتاة صغيرة، بل كانت في السن التي ينبغي فيه للنساء أن يكن بعيدات عن الشبهة كريمات السمعة.
ولو أن هذا الذي يطالعها اليوم كان أمرًا طبيعيًّا في حياتها ربما احتملته وضربت بالسمعة والشرف عُرْضَ الأفق، ولكنها عاشت عمرها كله نقية السيرة لا يتناولها لسان إلا بالطهر والعفاف، حتى وإن كان لسانًا عدوًّا حادًّا جارحًا، ربما اتهمها بعضهن بالكبر أو ربما ذكرها لسان بالحدة والعنف، ولكن لسانًا ما لم يتعرض لعِرْضِها قط.
وهكذا واجهت زهيرة فترة مريرة من حياتها، وزادها مرارة أنها لا تدري كيف تخرس هذه الألسنة.
إلا أن فكرة عجيبة طرأت لها لا تدري مأتاها، وراحت تنفذها في إصرار، وعاونها على ذلك أن زوجها كان في شبه قطيعة معها، لا يسألها عن خروج من البيت أو دخول؛ فقد كان صِدِّيق في يده مطمئنًّا إلى أنه بعيد عنها كل البعد. وهو يدري أنها لم تحاول أن تخطئ إلا مع صِدِّيق؛ فهو منذ تزوج فرض عليها العيون الرواصد وأطلق خلفها أدواته الجهنمية التي لا يخفى سر عليها وأصبح واثقًا منها كل الثقة، أمَّا صِدِّيق فجماله يفتن أعظم الناس عِفَّةً وأكثرهن نقاءً وطهارةً، ثم إنه معها في البيت، وإذا قَبِل فالسر دفين، ولن يتصور أحد أن علاقة تقوم بين فتًى في مكان الابن وبين امرأة هي منه في مكان الأم.
إن تكن حاولت معه فهي بالقطع واليقين لن تحاول مع غيره، فلتخرج ما طاب لها الخروج فهي في موقف صعب شديد، وهي وإن تكن تكسر عين زوجها بعجزه إلا أنها تشعر أن ما فعلته غير جدير بها ولا يُبرِّره حال زوجها، كما لا يُبرِّره ثقتها أن زوجها لن يستطيع أن يُطلِّقها؛ فهي تدري أنه يحرص على أن يظل أمرُه خفيًّا عن الناس غاية الخفاء. وقد عمل على ذلك بكل السلطات التي في يده؛ شرعية هذه السلطات مستمدة من قوامة الزواج، أو غير شرعية مستمدة من السلطان الظالم والبغي والجبروت.
تأكدت زهيرة أن زوجها سيكون غائبًا عن البيت في يوم الأربعاء، فاختارت هذا اليوم لتدعو إلى الشاي جميع اللواتي اتهمْنَها بالعيون اللائمة أو العيون المتسائلة أو العيون المتلصصة، أو بالابتسامة الخبيثة. وأصرَّتْ أن تدعوَ اللواتي تجرَّأْنَ وسألْنَها كيف حال صِدِّيق لماذا لا نراه؟ وكان هذا السؤال غريبًا؛ لأن صِدِّيق كان بالنسبة لصويحباتها شبحًا يسمعْنَ عنه ولا يَرَيْنَه منذ قدم إلى البيت.
دعت أولئكن جميعًا وأعدت لهن حفلة شاي باذخة أكثرت فيها من الفاكهة واختارت التفاح بالذات، وذهبت خِصَّيصَى إلى من يسن السكاكين فيجعلها بالغة الحدة، وذهبت أيضًا إلى أحد المصورين وأعطته صورةً صغيرةً عندها وطلبت إليه أن يكبِّرَها فيجعلها بالحجم الطبيعي.
وجاءت المدعوات وقدمت إليهن التفاح وانتظرت حتى بدأْنَ يقشرن التفاح، وأزاحت الستار عن الصورة المكبرة لصِدِّيق، فبدت الصورة وكأن صاحبها هو الماثل لا الصورة. وارتبكت السكاكين في أيدي النسوة وقطعن أيديهن وتصايحن: هذا ملاك، لم نَرَ مثل هذا الجمال، ليس هذا من البشر.
– لا تلمنني إذن وأنتن قطعتن أيديكن.
وسترت الصورة، وفهم المدعوات أنه لا معنى لبقائهن بعد ذلك؛ فقد أسدل الستار على نهاية التمثيلية التي أَلَّفتها زهيرة.
وفي المساء اقتحمت زهيرة على وجدي غرفته، وأصابه ارتباك شديد وراح ينتظر ماذا هي قائلة له، ولم تقل كثيرًا: هذا جواز سفري.
– ما له؟
– أريد تأشيرة للأراضي الحجازية.
– ما زال الوقت بعيدًا عن الحج.
– سأقيم هناك حتى موعد الحج وأؤدي الفرض.
– من الآن إلى موعد الحج؟
وفي حسم قاطع: نعم.
وفي خضوع حازم: أمرك.
١٦
نال صِدِّيق شهادة البكالوريوس، ويوم أن أبلغه وجدي بالنتيجة وبشَّره أنه نالها بدرجة الامتياز قال له شيئًا عجيبًا: يا صِدِّيق أنا أعرف أنك على قدر كبير من العلم والحكمة، وأنك موصول الأسباب بالله سبحانه وتعالى.
– الحمد لله.
– رأيت رؤيا.
– قلها؛ فكل رفاقي في السجن يلجئون إليَّ لأفسر لهم ما يرون من رُؤًى، فهم كما تعلم لا يَرَوْنَ من الدنيا شيئًا إلا عندما ينامون.
قال وجدي: رأيت كأنني في صَحْرَاء عريضة وحدي أشعر بالوحشة الشديدة والانفراد، ثم فجأة رأيت كأنما تنبت الصحراء حولي نوعًا عجيبًا من النبات أحاط بي كالسوار، فجريت إلى أعواد النبات أحاول أن أزيحها فإذا هي أعواد من حديد صلب لا يلين ولا ينثني، وقد التصق كل عمود منه بالآخر كأنه حائط لا فراغ فيه، وفجأة اخترق هذا الحائط الحديدي جماعةٌ من النمور كانت تخترق الحديد وتدخل منه، ثم يعود الحديد إلى الالتئام وكأنه ما لان للنمور ولا انفرج عنها، والتفَّت النمور حولي وملأني الرعب، ورحت أدور بعينيَّ في عيون النمور فأجد غضبًا عارمًا وأجد نيرانًا لاهبة وصرخت، وصحوت، ما هذه الرؤيا؟
– اسمع، أنا عرفت الرؤيا، ولكن لن أعبِّرَ لك عنها إلا عندما تأتي إليَّ في المرة القادمة، وتخبرني أنني عُيِّنت مستشارًا ماليًّا لوزارة الزراعة.
– حددت المنصب؟ أيُعقل أن تُعيَّن في هذا المكان وأنت متخرج في هذا العام؟
– لا عليك، اجعلني أقابل وزير الزراعة ولن أطلب منه تعييني إلا بالدرجة التي يؤهلني لها تخرجي، ولكنني أعرف في نفسي أنني خبير في هذا المكان، وأنني سأُفيد مصر فائدةً عظمى فيه.
– وما شأن هذا بالرؤيا؟
– إن له شأنًا أي شأن.
– ما ترى.
– وشيء آخر.
– ماذا؟
– لقد قضيت هنا أربع سنوات، وأنت أخبرتني أن السيدة حرمك أصبحت لا تترك فرضًا من فروض الله إلا أدَّتْه، وأنها دائبة على قراءة القرآن، وأنها أصبحت إنسانًا آخر.
– هذا حق.
– فلا معنى لبقائي هنا إذن؟
– أنا تحت أمرك.
– أخرج الآن معك.
– لك هذا، بيتي تحت أمرك.
– بل تضعني في حجرة مفروشة.
– هيا بنا.
•••
لقي وزير الزراعة وانبهر به الوزير وعيَّنه مستشارًا خاصًّا له في مكتبه، وجاء إليه وجدي يهنِّئه.
– ما الرؤيا؟
– لقد انتهى عهدكم، وعليك أن تُعِدَّ نفسك لمواجهة الذين عذبتهم، إنهم هم النمور، والصحراء بعض الذين يساندونك، والحديد هو الحصار الذي سيحيط بك.
– أتعني أنني …
– أعني أن لكل عهد نهاية، ولكل أجل كتاب، وليس ربك بظلام للعبيد.
– شماتة؟
– معاذ الله! ما كنت لأشمت فيك، وقد أكرمت مثواي، ولكنه الحق الذي عاهدت الله ألَّا أقول غيره.
– الأمر لله من قبل ومن بعد.
– سبحانه!
•••
منذ عُيِّنَ صِدِّيق لم يضيِّع وقتًا، فقد طال به الحنين إلى أبويه. كان يراقب بيت أبيه عن كثب، وشهد أباه يخرج في أحد الأيام معتمدًا ذراع أمه، ووضح له تمامًا أن أباه لا يرى، واعتصر الحزن قلب صِدِّيق: رعاك الله يا أبي لست أنا الذي صنعت بك هذا، وإنما هما ابناك الآخران.
تمكَّن صِدِّيق من مكانه الجديد في مكتب الوزير أن يعرف كل شيء عن حالة الزراعة في أرض أبيه، وعرف أيضًا أن أخويه قد جعلا الزراعة كلها موالح. واستخدم المفتش الزراعي المختص بمنطقة الأرض وعرف أن أباه هو الذي يأخذ الأموال كلها، وأنه رفض أن يُعطي أيَّ توكيل لأبنائه حتى بعد أن كُفَّ بصرُه. وعرف من المفتش أنهم يبيعون الثمار إلى الوزارة؛ لأنها ثمار مثالية.
١٧
تسلَّم عبد الغني خطابًا مُسجَّلًا من وزارة الزراعة أن الوزارة لن تشتريَ منهم ثمارَ هذا العام، وأنهم يستطيعون مقابلة الأستاذ صِدِّيق وجدي بمكتب الوزير للمناقشة معه في هذا الأمر على أن يكون ذلك بعد أسبوعين من تاريخه بديوان الوزارة.
ونزل الخطاب على عبد الغني نزول الصاعقة، وسارع إلى أبيه يروي له أمر الخطاب وهو يتميز من الغيظ. وقال صابر: هل ما زلت تحبُّ المال هذا الحب يا عبد الغني؟ ماذا أنت صانع به؟
وزلزلَتْ كلمة الأب كيان عبد الغني، وفهم الخفيَّ الواضحَ في كلام أبيه.
– ألأني لم أنجب ذرية يا أبت؟
– لا أنت ولا أخوك. أتحبَّان المال لذاته؟ إن ذلك لشأن عجيب.
– أنهمل أمورنا لأننا بلا أولاد؟
– وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. كل ما في الأمر أن ثمن المحصول سيكون أقل من السنوات الماضية، أليس كذلك؟
– وهل هذا قليل؟
– ليس كارثة على كل حال، اقرأ عليَّ الخطاب.
وقرأ الخطاب، ووجد أباه يقول بغير مناسبة: ما الذي أذكرني صِدِّيق الآن؟
وثارت هند: حرام عليك يا صابر، إن كنت لا تريد أن ترعى نفسك فارحمني دون أن تذكر صِدِّيق، وها أنت ذا ترفض أن تعالج عينيك.
– لا أريد أن أرى الحياة بدون صِدِّيق.
– أليس هذا أمرًا عجيبًا؟ وعلى كل حال ما الذي أذكرك صِدِّيق الآن؟
وقال عبد الغني في يأس وإحباط: إنه لا يريد أن يجيبني برأي في شأن الخطاب.
وقال صابر: كيف عرفت ذلك؟
– هذا واضح.
– إنك لا ترى الواضح يا عبد الغني.
– كيف ذاك؟
– إن الخطاب يطلبك للمناقشة، إذن فعدم الشراء ليس أمرًا نهائيًّا، بل إن هناك شروطًا جديدةً، أو هناك على الأقل كلام سيُقال.
– أعزَّك الله يا أبي، لقد والله فتحت لي باب أمل من حيث لا أدري.
•••
نادى صِدِّيق ساعيَ مكتبه الذي يدعوه بعم خضر، وطلب إليه أن يركب سيارة أجرة معه. واستجاب عم خضر دون أن يسأل عن القصد، وكان مع صِدِّيق لفافة صغيرة يمسك بها في حنان، وحين بلغت السيارة بيت أبيه أوقفها، وقال لعم خضر: انزل إلى هذا البيت وأعط هذه اللفافة لمن يفتح لك الباب. وحين يسألك عمَّا بها قل: إنها رسالة قديمة وُجِدَتْ في أمانات البريد ووجدت عليها العنوان فقلت: آتي بها إليكم، ربما كان بها شيء مهم.
وفعل خضر ما طلبه إليه صِدِّيق بحذافيره، وفتحت له هند الباب وهو ما توقعه صِدِّيق، وفي طيبة واقتناع قبلت هند ما روى لها خضر ودخلت باللفافة إلى حجرة صابر، وقصَّت عليه الأمر وهي تفتح اللفافة. وما إن رأت ما يغلِّفه الورق حتى رمت به صائحةً: بسم الله الرحمن الرحيم. ووقع القميص على وجه صابر فإذا هو يقول في هدوء وطمأنينة وثقة: إنه قميص صِدِّيق، ما كان الله ليخذلني أبدًا.
وصاحت هند وهي تلقف القميص، وقد أوشكت على الجنون: أحقًّا ما أرى؟
وراحت تقبِّل القميص بدموعها وروحها وبكل كيانها، ويقول صابر ثانية: ما كان الله ليخذلني أبدًا.
وتجلس هند وهي تقول: أمعنى هذا أنه حي؟
ويقول هو في ثقة: أمَّا التفسيرات والتخمينات فأتركها لك، أمَّا أنا ففي شأن آخر.
– ماذا أنت صانع؟
– كم الساعة الآن؟
– ماذا تريد؟
– كم الساعة؟ أظنها العاشرة.
– تقريبًا.
– هيا خذي بيدي.
– إلى أين؟
– ستعرفين.
– يا صابر، ربما كان الأمر كما رواه الرجل الذي أحضر اللفافة وتكون رسالة قديمة.
– أنا لن أناقش الأمر. هيا بنا.
– إلى أين؟
– إلى الدكتور علي مالك.
– أحقًّا؟
– توكلي على الله.
– رسالة خير والله، رسالة خير. لو لم تَعُدْ إلينا إلا بعدك لكفى.
كانت عملية صابر من العمليات الحديثة بأشعة الليزر، وكان الدكتور علي مالك توَّاقًا أن يقوم بها لصابر؛ فقد كان يرى فيه واحدًا من رجال الله المخلصين.
وتمت العملية.
١٨
ذهب عبد الغني وعبد الودود إلى مكتب صِدِّيق ولقيهما من فوره. وراح عبد الغني يتكلم دون أي مقدمات: يا سعادة البك، إن الثمار التي ننتجها لا مثيل لها في القطر كله، فلماذا ترفضون شراءها؟ أهذا معقول؟ إنها أول مزرعة في مصر، وجميع إنتاجها يُصدَّر إلى الخارج و…
واستمر الحديث طويلًا وصِدِّيق يسمع لا يتكلم، حتى إذا نفدت كلمات عبد الغني وأصبح لا يجد شيئًا يقوله التفت صِدِّيق إلى عبد الودود وقال له: وأنت! أَلَا تقول شيئًا؟
– لا يا أفندم، قال أخي كل شيء.
– أَلَا زلتَ على حالك، هو يقول وأنت تسمع وتنفِّذ؟
وفي بَهْرِ مذهولٍ صاح كلاهما: ماذا؟
وأكمل دون أن يعير ذهولهما أي التفات: كنت أتصور يا عبد الودود أنك مع السن ستصبح لك شخصية، ولكن للأسف أنت كما أنت، لم تزدك السنون إلا ضعفًا.
ونظر عبد الغني إلى عبد الودود وقال: مَن هذا؟ أيمكن …؟ أيُعقَل …؟ أيَتصوَّر أحد هذا؟
وانتفض عبد الغني واقفًا في حيرة من يجابه الماضي في مكان لا يتصوَّر أن يرى فيه أثرًا منه، وصاح: أهو أنت؟! أصِدِّيق أنت؟! أنت صِدِّيق؟!
ويصيح عبد الودود وكأنه صدى صوت: أهو صِدِّيق؟! صِدِّيق أخونا! أهو صِدِّيق؟!
وفي ثبات حازم يصيح بهما صِدِّيق: اصمتا واسمعا، اسمعا كلامًا ظل كالإعصار في نفسي منذ وعيت الحياة، كعزيف الريح كان وآن له أن ينتقل إلى اللَّذَيْنِ أثاراه.
– ماذا؟
– ماذا تقول؟
وفي هدوء ثابت أطلق صِدِّيق عاصفته التي لازمته سنين العمر الواعي كلها: لماذا أردتما قتلي؟
وصاح كلاهما كما لو كانت رصاصة قد أصابت كلًّا منهما: ماذا؟!
وفي هدوئه لا يزال يقول صِدِّيق: لقد غبتُ عنكما هذه السنوات وأنتما لا تعرفان أنني سمعت المؤامرة التي كنتَ تدبِّرها أنت يا عبد الغني والتي وافقت عليها أنت يا عبد الودود، وأنتما جالسان بمقهى الملاهي.
وصاح عبد الغني: سمعت ماذا؟ سمعت ماذا؟
وصاح عبد الودود: إذن فقد سمعت.
ويُكمل صِدِّيق في ثبات: وجريت يومذاك مذعورًا. ولو كنت قُتلت لكنتما قاتليَّ. وانتظرت هذه السنوات أرفض العودة حتى أكون واثقًا من نفسي، وأنفي عن نفسي خوف الأخ الأصغر يريد أخواه الكبيران أن يقتلاه، وأنتما اليوم كلاكما أضعف مني، وأنا أواجهكما.
وأجهش الأخوان باكيَيْنِ؛ فقد كان البكاء هو كل ما يمكن أن يُقال. وقال صِدِّيق: بعض دموع ستحمل إلى نفسيكما الراحة، أين هي من عذاب طفل وفتًى وشاب يعيش على الصدقة في بيت لا يجمعه به نسب ولا تصله به قرابة؟ ما بعض دموع أمام ذل السنوات والشعور بالضياع والإحساس أنني في أي لحظة قد أُطرَد من البيت؟ ما بعض قطرات من ماء العين وأنا الذي وجدت السجن أحبَّ إليَّ من الحرية، وعشتُ فيه لأقطع ما بيني وبين هؤلاء الناس؟ ابكيا ما شاء لكما البكاء، فقد ألقيتُماني السنين الطوال إلى عالم لا أموت فيه ولا أحيا.
وقال عبد الغني: أَلَا نطمع في غفران؟ إن الحياة التي اختارها الله لتكون سخطة على آدم لا بد أن يكون فيها أمثالنا من الخاطئين، وهي غير جديرة بأن تُعاش، إن لم يكن فيها أمثالك من الصِّدِّيقين الغافرين.
– وإن غفرتُ لحقي، فكيف أغفر لحق أبي؟
– لقد عاد إليه نظره.
– لأني أرسلت إليه قميصي، لقد حطمتم رجلًا لولا إيمانه لأحاط به الفزع الأكبر من الهول.
– هو سيغفر.
– لأنه أب، وأنه لم يعرف ما كنتما تدبران.
– أو تقول له؟
– سنرى. هلمَّ بنا إليه.
•••
وارتمى صابر في أحضان صِدِّيق وعلا منهما بكاء الفرح، وأحاطت بالاثنين ذراعا هند وقلبها. وراح صِدِّيق يقبِّل رأس أمه ووجهها وعينيها، إنها أمه الحق التي لا يخاف عندها ولا يعرى، وحين هدأ اللقاء نظر صابر إلى صِدِّيق ثم نظر إلى عبد الغني وعبد الودود وقال لصِدِّيق: إنك لن ترد لي عندك طلبًا.
– حتى إن كانت عودتي إلى حيث كنت.
– أنا أعلم أنك ما هربت إلا فزعًا من أخويك.
وقف الإخوة الثلاثة، وأكمل صابر: أتذكر الرؤيا التي رويتها لي قبل أن نفترق؟ إنك في الرؤيا قد غفرت، فهل أرجو أن تغفر في الحياة؟ وكفاهما أنهما لم ينجبا ولدًا ولا ابنة، إن السماء تعرف كيف توزع الأرزاق.
ويقول صِدِّيق مطرقًا: اللهم إني أغفر، واللهم ارزقهما البنين والبنات، واللهم لك الحمد في الأولى والآخرة، اللهم تقبل دعاء.
ويطرق صابر وهند وعَبَرات تسبق قولهما معًا: اللهم آمين.