الثقوب السوداء
بعض الناس كالثقوب السوداء، يمتصون حياتك ولا يعطونك شيئًا. ولأن الحياة ضرب من النور، فإنه ليس أسهل من تبذير الحياة: يشربها ثقب أسود، ويجعل من روحك جدارًا يمكن لأي كان أن يكتب عليه ما يشاء، ويمر. الثقب الأسود قد يكون وجهًا، منقَّبًا، فالنقاب أيضًا ثقب أسود. إنه يمتص كمية النور التي تنتظرها من أي قادم نحوك، ولا يصل أبدًا. أما حين يدخل شعبٌ بأكمله في ثقب أسود، ويكون لديك عندئذٍ شعب منقَّب، فعليك أن تتوقع وجهية من نوع جديد تمامًا: تلك التي تميز مَن لم يعُد يحمل وجهًا أصلًا، لأنه لا ينظر إلينا، ولا يعترف بالأفق الذي نقف فيه.
ولكن ما معنى أن نفكر تحت ثقب أسود؟ وهل يمكن لمَن لم يعُد يرى وجه أحد أن يفكر؟ أليس التفكير هو تبادُل ذلك النور الذي تلقيه العيون على الوجوه حتى يصبح اللقاء البشري ممكنًا، فتبدأ قصة ما؟ الثقب الأسود قد يكون شارعًا. بعض الشوارع أكلت حيوات كثيرة في يوم واحد. وحين تمرُّ أمام مجموعة من صور الشهداء الذين تجمَّدَت وجوههم عند نظرة واحدة، إلى الأبد، تفهم كم أنت داخل ثقب أسود لا يحبك. وإذا بالشوارع تتحوَّل إلى مجموعة من الجدران التي نسيت أنها واقفة منذ وقت طويل. ولم تعُد تحمل أي شيء من أجلنا على كتفيها. وتنصحنا بالمرور من مكان آخَر.
بعض الأيام أيضًا ثقوب سوداء. تدخلها ولا تخرج منها حيًّا. لا يعني ذلك أنك ستموت، وتنعم بذلك الانسحاب المشرف من الواجهة. أنت سوف تُستدعى على الدوام استدعاءً فاحشًا للمساهمة في التأريخ لأوجاعك التي ظننتَ أنك قد شُفيت منها. وقد تُقتل في الطريق إلى نفسك الجديدة، وقد يهنِّئ بعضُ الناس البعضَ الآخَر على قتلك. ولو مؤقَّتًا. فالموت المؤقت سلفة مناسبة للنسيان. هذه الأيام المثقوبة بالسواد قد صارت كثيرة في البلد الأمين. وإذا بجيل بلا ذاكرة يسرق منا سماءنا ويحوِّلنا إلى غجر جدد. الانتماء أيضًا ثقب أسود.
أجل، حين تستيقظ ولا تجد نفسك، ستدخل في هُوية سوداء، وسوف يؤرخ لك الناس تأريخًا مشطًّا بأنك لا أحد، وبأنهم يملكون كل أنواع الشرعية للإشراف على تأبين آخِر أنفاسك، كجزء من مراسم الانتماء. وإذا بهويتك تتحوَّل إلى حجر أسود بين يديك. عليك أن تقبل ما لا ترى.
بعض الناس مجرَّد أفكار مُسبَقة حول أنفسهم.
ولذلك فالمستقبل أيضًا ثقب أسود. إنه تاريخ ميلاد مَن لن تراهم أبدًا … يكبرون تحت عينَيك المُتعبَتين بالانتظار. اليُتم أيضًا ثقب أسود. ولأول مرة، صار لدينا شبابٌ يترك أيتامًا من نوع خاص. أيها الموت، كيف صِرتَ لا تخجل من الأطفال إلى هذا الحد؟ صغار يُيتِّمون صغارًا. وتتداخل البسمات بين الوجوه الغائبة، كأن الزمن يعتذر عن الطرفين، وينسحب. الزمن أيضًا ثقب أسود. ونحن لا نمل من الدخول فيه بكل ما أوتينا من القدرة على المكان. وحين يضيق المكان، يصبح كلٌّ منا شعبًا برأسه. لكن الشعب أيضًا ثقب أسود. ولا سيما حين تراه صباحًا مساءً يطرق على باب عصرٍ تلفَّت عنَّا إلى الأمم القادمة دون استئذان. وتعرف في آخِر الأمر والعمر أنك كنت فقط تربِّي في قلبك دخانًا من البشر اسمه «الأمة» أو «الوطن». يا لهذه «الأمة» التي لا تملك من القلب غير أنها تشبه «الأم» التي تكتري أرحامها لمَن يدفع أكثر!
ولذلك نحن نكتري الوطن إلى وقت غير معلوم. عليك أن تدفع ثمن الرَّحِم الذي يحملك. وكل رحم هو أيضًا ثقب أسود، وهو سوف يحولِّك سريعًا إلى متسوغ نسقي لأمكنة تتعدَّد دون أن تنجح في صنع وطن مريح لجسدك المتعب من كل أنواع الوطن.
الدولة أيضًا ثقب أسود. وإزعاج الحكومة صار اختصاصًا لمَن وُلدوا بعد أعمارهم. كل حرية لها عمر خاص. لكن أجيال التحرُّر عاشت بعد انتصاراتها التاريخية، وصارت عبئًا على ذاكرتها. أنت مثلًا تزعج الدولة بآلة حادة اسمها حرية التعبير. لكنَّ فنَّ إزعاج الحكومات هو فن جسدي بامتياز: بالنهود التي لا تعرِّي شيئًا، أو بالوقوف ضد عقارب الساعة أو بالجلوس (السيت-إنْ) في أمكنة لا تتسع لنفسها، أو بالصفوف البشرية أو بالأقمصة التي تقول أكثر من حامليها، أو بالحجاب الذي لا يحجب شيئًا، أو بالنقاب الذي يرانا ولا نراه، أو بالصراخ بلا صوت خاص، أو بالجوع كتقنية تعبير منسية.
قال لي صديقي: أنا ضابط حالة مدنية بعد الثورة، مهمتي (وليس مهنتي) تسجيل الولادات والوفيات وعقود الزواج (وليس النكاح). وإنَّ تعامل الدولة مع هذه المهمة على أنها عمل تطوعي هو ذو دلالة فاحشة: هل الحياة عمل تطوعي إلى هذا الحد؟ وهل الموت عمل تطوعي؟ هل الزواج اليوم عمل تطوعي؟
لم يبقَ تحت سقف الدولة غير المواطن اليومي. وهو غير مُعَد تمامًا لمثل هذا الحرفة؛ أن يبيت تحت سقف رمزي تجاوَزَ سماءه بكثير.
هل علينا أن نتحوَّل إلى ثقوب سوداء حتى ننجو من العاصفة القادمة؟ أليس السواد هو آخِر ما تتمنَّاه كل الألوان؟ أثقب نارك أيها الواقف على حدود الوطن، ولا تبتئس. أنت ألَمٌ مؤقَّت لكل الذين سيُولَدون منك. وكل ما ستقوله عن نفسك سوف يُحسب عليك كنوع من الانتظار. وأنت ستنتظر طويلًا قبل أن تصبح وطن نفسك.