عنصرية الجنس

من المثير أن لفظة «عنصر» تُستعمل في معنيين متقابلين: أصغر مكون في كل ما أو مركب ما هو ذرة من ذراته أو مفرد من مفرادته. لكن العنصر يعني أيضًا المجال أو الميدان الذي يشمل مجموعة متعددة من الأشياء هو بمثابة الفضاء الجامع لها. ولذلك فإن مصطلح «العنصرية» في معناه السائد، أي ممارسة أو تقنين تمييز غير عادل تجاه كائن مختلف عنا، إنما يكتنفه غموضٌ عنيد ليس من السهل ترويضه. فما معنى أن يكون أحدهم «عنصريًّا»؟ نقول «أحدهم» لأن العنصري هو عادةً الآخر أو الغائب أو المجهول أو الصامت أو المتهم أو العدو. ولكن حين نتذكر أن «العنصرية» هو مصطلح تم استحداثه في فصاحتنا المعاصرة كي يقابل في اللغات الغربية الحديثة ألفاظًا تحيل كلها على معنى «العرق» أو «الجنس» (racisme, racism, Rassismus)، فإننا سوف نتساءل للتو: بأيِّ معنًى أمكنَ للمترجمين أن يصطلحوا على ترادف ما بين «العنصر» و«العرق» أو «الجنس»؟ والحال أن «العرق» لا يمكن أن يكون في المفرد؟ والحال أن الجنس لا يمكن أن يكون «ملكية خاصة»؟ بل لنسأل: هل الجنس عنصري؟ وبأي معنى؟

يُقال الجنس على معانٍ شتَّى. جنس المولود أو المعنى البيولوجي لأن يكون جسمك هو أنت: نعني ذكرًا أو أنثى على الصعيد الحيواني؛ وجنس قوم أو شعب ما، نعني النسب العائلي أو السلالي الذي يفرق ساكنًا لأرضٍ ما عن غيره من السكان. كأن يكون المرء عربيًّا أو يونانيًّا، مثلًا. لكن معاني الجنس لا تتوقف عند هاتين الدلالتين الواضحتين جدًّا، الدلالة البيولوجية، دلالة التفريق الجنسي بين الذكر والأنثى، والدلالة الجنيالوجية، دلالة التمييز بين الأنساب والسلالات الحصرية. ونعني على الخصوص هذا النوع الآخر من التساؤلات: بأي معنًى يكون إنسانٌ ما «رجلًا» أو «امرأة» في مجتمع ما؟ وهل يستوفي معنى «الرجل» كونه «ذكرًا»؟ وهل يستوفي معنى «المرأة» كونها «أنثى»؟ وبعبارة أخرى: ما هو مصدر الدلالات المجنوسة من قبيل «الرجولية» و«النسوية» التي لا يخلو منها أي تصور هووي لأنفسنا؟

تأخذ هذه الأسئلة الحفرية خطورة استثنائية حين يُعاد طرحها على أرضية ملتبسة ومعتاصة مثل أرضية التفكير في معنى العنصرية. ونحن سوف نحاول تجميع الأمر في هذا النوع من الاستفسارات الخاصة: هل يمكن تبرير العنصرية على أساس «الجنس» في أحد معانيه المشار إليها؟ مثلًا: أن يكون أحدهم عنصريًّا لأنه ذكر؟ أو لأنه أنثى؟ لأنه رجل؟ أو لأنه امرأة؟ أو لأنه من سلالة كذا والسلالة تقتضي من نفسها أن …؟ هل يحق لأحدهم أن يكون عنصريًّا لأنه «رجل أبيض» أو لأنه «إنسان أسود»؟ وبعبارة قصوى: هل يجوز لأحدهم أن يقع في العنصرية فقط لأنه … بشر أو بشري؟

لنقل بشكل مؤقت: لا يمكن أن توجد عنصرية بين البشر إلا لكونهم بشرًا. وليس لأي سبب آخَر. ونعني بذلك أن العنصرية هي ضرب من سياسة الجنس البشري تجاه نفسه. نحن لا نحتقر أبدًا إلا ما يشبهنا أو هو من جنسنا. الجماد والنبات والحيوان هي كائنات توجد خارج إمكانية العنصرية؛ إذ تشترط كل عنصرية نوعًا ما من العلاقة الأفقية مع الضحية. نعني نوعًا من التساوي الوجودي أمام المصير أو أمام الهشاشة الوجدانية للحيوان البشري. كل مَن يمارس موقفًا عنصريًّا على شخص ما هو لا يفعل سوى أن يبتزه ابتزازًا ميتافيزيقيًّا: نعني يستعمل طبيعته البشرية نفسها كرهينة أخلاقية ضده. ما هو «عنصري» في طبيعة أو في هوية شخص ما، هو ما هو نهائي أو أصلي أو كوني في تكوينه الأخلاقي. ونعني بذلك: ما لا يمكن التفاوض حول دلالته. وما لا يمكن التخلي عنه لأنه داخل في مصادر أنفسنا العميقة. ولذلك حين يعترض الرجل الأبيض على سواد الرجل الملون، هو لا يفرض عليه معاملة سيئة فقط. بل هو يهدِّد شروط إمكان هويته العميقة أو ماهية جنسه. هو يريد أن يرفض إنسانيته بما هي كذلك. وحين يهين الرجل المرأة فقط لأنها «مرأة» فهو لا يُسيء إليها سلوكيًّا، بل هو يهدد نمط كيانها، وبشكل مخصوص تمامًا هو: يتجرأ على معاملة أقصى ما فيها من الهوية أو الانتماء إلى ذاتها، باعتباره أبخس أو أفظع ما تتحلى به من الناحية الوجودية: أنوثتها، أو تصورها لذاتها كأنثى.

هذا هو نواة العنصرية: أن تأخذ أفضل ما في هوية أو غاية كائن ما، ما به يتصور ذاته أو ما به يشكل نمط وعيه بنفسه، وتستعمله وكأنه يمكن أن يكون أداة لإهانة ماهيته. العنصرية هي استعمال أداتي أو إجرائي لهويات الناس، ومعاملتها وكأنها عبء أخلاقي يمكن أو يحق لنا التخلُّص منه.

لكن تبرير أي عنصرية لا يمكن أن يكون شخصيًّا. العنصرية ليست موقفًا شخصيًّا من أحد. إنها إمكانية أخلاقية عميقة في وعي الجنس البشري، ألا وهي إمكانية احتقار نفسه من الداخل؛ إذ لا تكون العنصرية مؤلمة أو هدَّامة إلا متى تعلَّقَت بمصادر أنفسنا العميقة، وليس بهذا السلوك أو ذاك. مصادر أنفسنا من قبيل: الذكورة والأنوثة والسلالة واللغة والدين والانتماء … وبكلمة واحدة كل ما يدخل في تشكيل الهوية الشخصية العميقة لفرد أو لشعب ما. العنصرية لا تهاجم ما هو شخصي، بل ما هو هووي. نعني هي تهاجم ما يجعل انتماءنا الشخصي ممكنًا؛ إذ لا أحد يملك ذكورته كأنه هو مَن اختلقها. كذا أيضًا لا يحق لأي أنثى أن تدافع عن أنوثتها كملكية أخلاقية خاصة. ولا يجوز لأحد أن ينافح عن قوميته وكأنها ذنب شخصي أو فخر استثنائي لشخصه. ولذلك أيضًا ليس من المشروع لأحد أن يحتكر دينه أو معتقده ويخوض حربًا لفرضه على الناس وكأن هذا الدين أو هذا المعتقد أو هذا الإله هو من اختراعه أو هو الوصي الوحيد والأخير على مصيره.

لا يمكن لأحد أن يخترع «عنصرًا» وجوديًّا يفصله عن بقية الإنسانية. أن يخترع «جنسًا» لجسمه أو «إلهًا» لإيمانه أو «شعبًا» لانتمائه أو «لغة» لكلامه … حتى يحق له من بعد ذلك أن يدافع عنه ضد «عنصرية» معادية. إن ما هو شخصي فينا هو أضعف انفعالاتنا. لكن ما هو هووي (الجنس والجسد والدين واللغة والقومية والنوع الاجتماعي …) هو داخل في مصادر أنفسنا، ولذلك هو لا يقبل التفاوض حوله مع أحد. لكن العنصرية لا تتعلق إلا بهذه المنطقة الخطيرة والممنوعة من أنفسنا: مساحة الوعي بذاتنا كتجربة لحمية لأنفسنا.

من أجل ذلك فإن مقاومة العنصرية سوف تظل مجرد تعليق خارجي على مفهومها العميق ما دمنا نظنُّ أن القضاء على العنصرية هو عملية إجرائية أو قانونية ضد نمط من السلوكات يمكن التخلُّص منها بالتحسيس الأخلاقي أو بالردع القانوني أو بالعنف السياسي. ليست العنصرية مجرد سلوك غير عادل ضد آخر ضعيف أو ليس في وضع وجودي أو سياسي أو ثقافي يسمح له بالمقاومة. العنصرية ضد المرأة لا تدخل أبدًا في سوء المعاملة. والعنصرية ضد الرجل ليست ترفًا نسويًّا. والعنصرية ضد الأجنبي ليست نقصًا في أخلاق الضيافة. والعنصرية ضد المخالف لنا في الملة ليست درجة لا تُحتمل من عدم التسامح. بل العنصرية هي سياسة الجنس البشري ضد تصور معين لذاته. وكل حرب على العنصرية يجب أن تكون أولًا وأخيرًا ضد تصوُّر معيَّن لأنفسنا العميقة، نعني ضد تصور معين لفكرة الإنسانية فينا. لا يتوجه العنصري بعنصريته ضد عدو محدد، مهما كان محددًا في رأيه، بل ضد فكرة ما عن الإنسانية. ولذلك فإن إصلاح فكرة الإنسانية في ثقافة أو في مجتمع ما هو العلاج الأنسب لدرء شبح العنصرية وحملها على الرحيل خارج أفق الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤