لحم الأسماء … أو هل نحن مجرد استعارات منسية؟

ما الذي يميز أسماء «الإنسان» من لغة إلى لغة؟ وهل إن هذا التمييز في التسمية اعتباطي أم ينمُّ عن رؤية خاصة للنفس في أفق كل شعب؟ كل شعب ينظر إلى نفسه في مرآة لا تُعوَّض ولا يمكن كسرها. إنما فقط يمكن صقلها أكثر أو أقل من نفسها. هل ثمة معنى خاص للفرق بين anthropos في اليونانية وhomo في اللاتينية وman في الإنجليزية وMensch في الألمانية و«آدم» في العبرية و«إنسان» أو «بشر» في العربية …؟
  • (١)
    «الكائن الذي ينظر إلى فوق»، كذا هو معنى anthropos في اليوناني. واللفظة اليونانية مكونة من مقاطع جذرية: an (الذي يعني «نحو الأعلى») وtrôpaô (الذي يعني «يلتفت» أو «يدور») وops (الذي يتضمن معنى «النظر»). وهو ما يعطينا لفظة an-thrôp-os، «الكائن الذي يشيح بنظره إلى أعلى». لكنَّ جذورًا أخرى تضيف لي معنى «أنثروبوس» معنى «الذكورة» andros تعني الرجل الذكر. وôpos تدل على معنى «المنظر» و«الوجه» الذي نراه. ومن ثَم يكون معنى الإنسان اليوناني هو: «من يبدو في منظره كأنه إنسان». والملاحظ أن أفلاطون في محاضرة كراتيل قد اعتمد على هذه الجذور الغامضة لتخريج معنى الإنسان من اسمه أو من مقاطع اسمه المتباينة: فقد رأى أن anthrôpos لفظة مكونة من: (أ) an (إلى أعلى)؛ و(ب) athréô (فحص ونظر في)؛ و(ج) opôpe (رأى) — وبالتالي فإن الإنسان هو «مَن يفحص عن الموجودات أو مَن يبحث فيما رآه في الأعلى» (أو بالأفق الأعلى) أو «الذي ينظر إلى أعلى» بحثًا عن شيء ما.

    عوَّل اليونان إذَن على «المنظر» أو «المرأى» لتعريف الإنسان. ليس الإنسان عندهم من «وجه» الإنسان. الوجه تشكيل بصري لكائن لا يمكن الاقتراب منه أكثر. ثمة سطح بشري هو الإنسان، وما عدا ذلك هو شيء غامض لا يُعرف: كينونة ما، حيوان ما، «آخر» ما، «بربري» ما، … لكن ما يزعج في التسمية اليونانية أنها لم تمنعهم من تسمية الغريب «بربريًّا»: أي مَن لا يتكلم اليونانية. وجه بلا كلام يوناني لا يكفي كي يكون إنسانًا.

  • (٢)
    الأرضي أو ابن الأرض humus, homo كذا فهم اللاتين القدامى معنى «الإنسانية»: هو الشيء الأرضي أو ابن الأرض hêmo. لكن جذرًا آخَر يعود بنا إلى hûmîlis الذي يعني «الوضيع» ولكن أيضًا «المتواضع». ومن المفيد أن نعرف أن اللاتين كانوا يطلقون لفظة hômo على «النباتات» أيضًا. تلك التي تكون «قريبة من الأرض»، «ابنة الأرض» أو «أرضية». ولأن أيًّا كان يحق له أن يدَّعي أنه ابن الأرض فقد تم الانزلاق إلى اسم المفعول hŏmĭnem أي «هو» أو «أي كان» بعامة (on بالفرنسية). الأرض كوسيلة تعميم لأصل الإنسان: كل الناس سواسية لأنهم أبناء الأرض. كل تسمية أخرى هي حيف في حقهم، إذ تخلف الفروق والمراتب. بقي أن نسأل: لماذا تميل اللغات الغربية إلى تسمية الشاذ الجنسي homo؟ هل كل إنسان هو شاذ بوجه من الوجوه؟
    علينا أن نميز هنا بين homo في اللاتينية وhomo, ομο في اليوناني: في اللاتيني هي تدل على «ابن الأرض» أو «القريب من الأرض»، أما في اليوناني فتعني فقط «نفسه» أو «مثله». الشاذ الجنسي هو «مثليٌّ» بالمعنى اليوناني، أي يميل إلى شخص من «نفس الجنس»، وليس «إنسانًا» في معنى «الأرضي» أو «ابن الأرض» بالمعنى اللاتيني. إلا أنه علينا أن نسأل: كيف تقول اللغات الغربية في نفس الوقت «ابن الأرض» و«المثلي» بلفظة واحدة؟ ألا تعني أمومة الأرض نفس الجنس؟
  • (٣)

    «الكائن الذي ينسى ويأنس» — «حامل البشرى على وجهه» — نحن عند العرب «إنسيون»، هكذا أجدر بنا أن نفهم أصل المقالة التي بدأتها لغتنا قبل أي تفاوض معنا حول الإنسان. يقول ابن منظور: «الإنسان: معروف، وقوله: أقل بنو الإنسان، حين عمدتُمُ … إلى مَن يثير الجن، وهي هجود.»

    يعني بالإنسان آدم. لكن الخلط بين «الآدمي» (العبري) و«الإنسي» (العربي) ليس ضروريًّا. إنها إحدى نتائج الانضواء الأخلاقي تحت رابطة التوحيد الإبراهيمي، على أسماء الإنسان لدينا. ذلك يعني أن الفرق بين «آدم» (التوحيدي) و«إنسان» (الوثني الذي ينسى) هو فرق يضرب بجذوره إلى وقت سحيق في تدبير أنفسنا. وعلى الرغم من أن لغتنا حاولت استدراك ذلك بإقامة لفظ مناسب لمعنى «الآدمي» العبري، ونعني لفظة «البشر» من «البشرة أي ظاهر الجلد»، في نحو من المرادفة بين «الأدمة» و«البشرة»، بحيث إن الآدمي هو البشري؛ ومنه بشرة الأرض أي ما ظهر من نباتها، والمباشرة ملامسة الجلد، رغم ذلك فإن مصطلح «الإنسان» لم يضمحل، بل كان حاضرًا في النص القرآني، وهو النص الأكبر للغة الضاد، حيث وضعت أسرار كينونتها كلها، بشكل مثير. والأغلب الأعم أن لفظة «إنسان» في الكتاب هي لفظة مستاء منها، منقودة، قلِقة، مجادلة، هلوهة، كنودة، «كافرة» … وهذا وضع استثنائي حاسم، رهانه العميق هو تحويل الحيوان البشري من «إنسان» (كائن نساء، أو كائن لا يرى إلا «نفسه» = إنسان العين) إلى «آدم». وذلك في عمقه إشارة متلطفة إلى حركة الانتقال من نطاق «وثني» (حيث الإنسان هو حيوان إنسانيته) إلى أفق «توحيدي» (حيث يقف «آدم» باعتباره الكائن المكرم بعبودته). «العبودة» وليس «العبودية» هي سمة الآدميين، الذين هم «عباد» وليسوا «عبيدًا» لأحد.

    في وقت ما يبدو علينا أن نختار بين «آدم» وبين «البشر»، بين التعلق بمرتبة «المخلوق» الذي ليس له من فضل روحي سوى كونه «من تراب»، نعني ليس له من فضل سوى «تواضعه» الأنطولوجي الرائع أمام خالقه الغائب، وبين هيئة «البشير» الذي يتميز بلون بشرته، حيث إن جلده هو العلامة الميتافيزيقية الاستثنائية على نمط وجوده ككائن مدعو إلى فهم معنى كينونته في العالم بوصفه نوعًا من «البشرى»، أي وعدًا بجمالٍ ما مهما كان شكله. وبمعنى ما علينا أن نرقب في أنفسنا قدرتنا على المرور من مجرد آدم إلى بشر؛ إذ يتميَّز البشري بأنه يملك القدرة على أن «يبشر» أي أن يكشف عما تحت جلده. ويفرق العرب بين «البشرة» (الجانب الذي يلي اللحم) و«الأدمة» (الجانب الذي ينبت عليه الشعر)، ومن ذلك تفريقه بين «لين الأدمة» وبين «خشونة البشرة». والعرب تقول عن أحدهم إنه «رجل مُؤْدمٌ مُبْشرٌ»، أي قد جمع لينًا وشدة في المعرفة بالأمور.

    ما ينبغي أن نحتفظ به هنا هو أن البشرية هي قدرة على «الإبشار» أي على إظهار بشرة الأشياء، أي لونها ورقتها، ولذلك فإن ما يفرق بين بشري وبشري هو ظاهر جلد الإنسان، وليس شيئًا آخَر. ولذلك لا معنى لبشري «متنقب»، أي بلا بشرة نراها عنه، ونميزه بها. وكل المعاني الأخرى متأتية من هذه القدرة العجيبة على «الإبشار»: نعني معاني «البشارة» و«التبشير» (بالخير والشر) و«المباشرة» (في معنى الجماع، ولكن أيضًا في معنى مباشرة الأمور الصعاب) و«الاستبشار» و«البشرى» و«التباشير» و«المبشرات» (الرياح تبشر بالغيث). قال ابن منظور: «وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومن هذا قولهم: فلان يلقاني بِبِشْرٍ، أي بوجه منبسط.»

    بذلك تعود كل مساحة الإنسان إلى قدرته على «البِشْر» أي إلى ملكة الاستبشار لديه. ونعني بذلك ملَكة «الأنس» و«المؤانسة». وهكذا ليس الإنسان إنسانًا إلا بقَدر ما يكون «مأنوسًا» أي كائنًا تعلو التباشير وجهه إذا رآنا أو متى رأيناه. والإنسانية هي بذلك تبادل الأنس، نعني تبادل بشرى الكينونة في العالم بوصفه هبة لا نظير لها. وهكذا يمكننا أن نرتِّب الأمر على هذا النحو: ثمة درجات في كينونتنا من مجرد «آدم» (ترابي) إلى «إنسي» (يؤانسنا ولا يوحشنا) إلى «بشر» (نستبشر حينما نراه). ليس ثمة أي تضارب بين مرتبة وأخرى، بل فقط تضافر روحي بين درجات مختلفة من لحن واحد هو مقام الإنسانية.

    ولكن كيف يستطيع كائن بهذا الدرجات المتعددة في «نفسه» أن يتصالح مع ذاته؟ أو ألا يبث حالة من الاستيحاش مع غيره؟ يبدو أن أصل الدواء هنا هو «النسيان». جاء في لسان ابن منظور: «إنما سُمي الإنسان إنسانًا لأنه عُهد له فنسي … وإذا كان الإنسان في الأصل إنسيان، فهو إفعلان من النسيان» أو هو «في الأصل إنسيان، وهو فعليان من الأنس.» ما يخطر هنا هو أن بين الأنس والنسيان صلة قوية: لا يمكن للحيوان البشري أن «يأنس» من دون قدرة على «النسيان». أو ربما يكون الأنس هو نوع من النسيان، ذاك الذي يجعل اللقاء مع «الناس» ممكنًا. وبهذا المعنى فإن «الناس» هو اسم نسيان، نعني اسم جمع، حيث لا نتذكر أحدًا. النسيان هو ضرب من تخفيف ثقل الكينونة من وحشة الأغيار والأغراب والأجانب. والنسيان نوع من التخفُّف من غرابة الغرباء وأجنبية الأجانب. ومن دون قدرة على نسيان التفاصيل والاختلافات والغيريات، لا يمكن لأحد أن يأنس إلى أحد.

    ونحن نجد أن الإنسانية لا تعني أكثر من تمرين النفس على نسيان وحشة الناس، الآخرين، والتدرب على الاستئناس بهم والأنس معهم، وذلك بتكثير كل علامات الاستبشار بهم من خلال تباشير الوجه ومباشرة اللقاء «الجلدي»، أي «الجسدي»، وبعبارة الفيلسوف الفرنسي مرلوبونتي، اللقاء «اللحمي» معهم. إن البشر هم لحم العالم أو جلدته الأخلاقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤