شعوب تنتصر … ومجتمعات تنجح
ما الفرق بين أن ننتصر وأن ننجح في أفق ما بعد أخلاقي؟ يبدو أننا آخِر الشعوب التي لا تزال تعول على فكرة «النصر» وعلى توفير جرعة كافية من «الانتصارات» حتى تنتمي إلى «ذاتها» العميقة دون إزعاج يُذكر. وإذا كان من مكر خاص بالدول فهو هذا: أن تهتدي إلى نوع الانتظار الذي يبني عليه شعب ما وعيه بنفسه. وأكبر وأخطر أنواع الانتظار التي تؤرِّق شعوبنا هو انتظار نصر ما، انتصار ما على «عدو» ما. لكن ما يثير الخاطر هنا هو أن شعوبنا لا تغير أعداءها بسهولة، بل تميل غالبًا إلى الإبقاء على نفس الأعداء، وذلك يعني أن دور العدو عندها لا ينبغي العبث به؛ إذ له عواقب وخيمة على دور الصديق في قلبها.
بَيْد أن هذا السيناريو الذي ظلَّ يتحكَّم في فكرة النصر وطريقة وعينا بالحاجة المريرة إلى تحقيق نوع ما من النصر، وبالتالي لاحتمال نوع مقابل من العداوة والصداقة، هو سيناريو محلي جدًّا، وربما ينتمي إلى حقبة روحية أو ثقافية مرَّت منذ عهد. وإذا كنا ما زلنا نصرُّ على تقديم الحاجة إلى النصر على الحاجة إلى النجاح فهذا ينم عن قلق خاص أصبحنا لا نراه؛ إذ إن ما يميز النصر عن النجاح هو كونه يقترن دومًا أو يدين بوجوده دومًا بشعور عميق بالهوية: أي بالأنانة التي تريد أن تفرض تصورًا ما لنفسها، أي تريد أن تحتفظ بمرآة انتماء لا تريد تبديلها أبدًا لأسباب قاهرة تتعلَّق بصحتها الروحية.
كل الشعوب التي لا تزال تعول على فكرة النصر هي شعوب هووية، ولم تطرح بعدُ على نفسها أن «تنجح» في اختراع ذاتها مرَّة أخرى.
وهنا يتبيَّن لنا الخيط الفاصل بين معنى النصر ومعنى النجاح: إن الغرب مؤلف من شعوب تحوَّلت إلى مجتمعات، ومن ثَم هو قد حقَّق الانتقال المنشود من شعوب تريد أن تنتصر إلى مجتمعات تريد أن تنجح. ويجدر بنا أن نأخذ الفرق بين «الشعب» و«المجتمع» مأخذًا جديًّا: نعم، لقد أقامت الحداثة السياسية تصوُّرها للسيادة على المفهوم القانوني للشعب، وذلك حتى تميزه تمييزًا نهائيًّا عن المعنى اللاهوتي الوسيط للجمهور أو العامة الدينية. وكان هوبز قد أرَّخ لذلك صراحة: إن الدولة الحديثة هي دولة الانتقال الحقوقي من حكم الجمهور (جمهور الملة) إلى حكم الشعب (شعب الدولة). لكن ما وقع بعد تصدُّع مفهوم الدولة-الأمة راهنًا، هو انخراط الغرب، ولا سيما بعد نتائج الحرب العالمية الثانية، ونهاية العصر الكلياني، في إرساء «مجتمعات» حيث يصبح الاهتمام بنموذج العيش أهم من شروط المواطنة. ولأول مرَّة يصبح ترتيب العلاقة بين الحياة الخاصة (القائمة على فكرة الخير) والحياة العمومية (القائمة على فكرة العدل) هو محور التفكير السياسي، وليس قضية السيادة أو مسألة المواطنة، كما ظلَّ الحال من هوبز إلى الوضعانية الحقوقية المعاصرة (كلسان وفلاسفة القانون إلى حد ١٩٤٥م). ومن المهم أن ننبه إلى أن إثارة قضية «حقوق الإنسان» منذ ثمانينيات القرن الماضي لم تكُن مشكلًا «حديثًا»، نعني متعلقًا بقضايا الدولة-الأمة، مثل الفكرة القانونية للشعب أو مبدأ السيادة أو تعريف المواطنة. بل إن حقوق الإنسان هي قضية «مجتمعات» وليس قضية «شعوب». إنها مسألة تتعلَّق بنموذج العيش، وليس بحقوق المواطنة. والخلط بين طرح «إتيقي» لحقوق الإنسان وطرح «قانوني» لحقوق المواطنة، هو خلط مريب تحرص كل دولة على الاستفادة المعيارية منه.
وحدها مجتمعات تريد أن «تنجح» يجوز لها أن تطرح قضية حقوق الإنسان طرحًا أخلاقيًّا يكون محوره هو نموذج العيش الذي يجعل حياة الناس «قابلة للحياة». أما الشعوب التي تريد أن تبقى في نطاق تقاليد «النصر»، فهي لا تستطيع أن تفهم قضية حقوق الإنسان إلا فهمًا هوويًّا؛ حيث يجري الدفاع عن مرآة انتماء جاهزة ومتقادمة، وحيث تكون الهوية أهم من الإنسان.
ومع ذلك فإن انخراط الغرب في «مجتمعات» ما بعد الحداثة قد غيَّر عميقًا من طبيعة الحاجة إلى النصر، بل بلغ به التطور الروحي ما بعد الهووي (ما بعد القومي) لسكانه إلى حد الاستعاضة عن الشعور الهووي بالنصر بالإحساس الحيوي بالنجاح. لم يعُد ضروريًّا لأحد أن يقرن نجاحه الشخصي بالنصر الهووي للشعب الذي «ينتمي» إليه. بل إن معنى «الانتماء» قد تغيَّر رأسًا على عقب: لم يعُد الشخص ينتمي إلى أمة أو شعب، بل إلى نموذج عيش. وما كان يخفيه «المواطن» الحديث تحت جنبَيه، أي صورة «الفرد» الأناني، الليبرالي الخجول من حياته الخاصة، تحت ضغط الانتماء الهووي إلى الدولة-الأمة، الباحثة دومًا عن طريقة وطنية لتحقيق «النصر» على شعب آخَر، هذا المخفي قد ظهر إلى العلن دونما وجل يُذكر، بل بوحشية أخلاقية غير مسبوقة، حيث صار الدفاع عن الحياة الخاصة هو محور أي نوع من العيش المشترك مع الآخَرين. وفجأةً تم المرور من حقبة «المواطن»/العضو الهووي في شعب الدولة-الأمة، إلى حقبة «الإنسان»/الشخص الحي الذي يعيش وفق نموذج مجتمعي لا يريد تبديلها.
ومن شعوب تريد أن تنتصر، حتى ولو كلفها ذلك أن تعلي من شأن «التضحية» بالنفس، كشرط أخلاقي لاستحقاق هوية ما، تم المرور إلى مجتمعات تريد أن تنجح، حتى ولو كلفها ذلك أن تدافع علنًا ليس فقط عن قداسة الحياة الخاصة، وعن قدسية نموذج العيش الذي يميز مجتمعات بعينها، بل وأيضًا عن ضرورة التنصل الأخلاقي من أي مرآة انتماء كبيرة أو جماعوية، من أجل الاكتفاء بهويات ثقافية مؤقتة وزائلة وعرضية وهجينة، لن يكون لها من مبرر سوى فعاليتها الإنجازية، أي تحقيق قدر مطلوب ومناسب وصحي من الحياة القابلة للحياة.
وما يقع في «الغرب» لم يعُد غربيًّا إلا مجازًا، إن جل أصقاع الإنسانية قد تفطنت إلى سر التفوق «الغربي» عليها: إنه سر أخلاقي، ونعني بذلك الجرأة على الانتقال من الهاجس الهووي لتحقيق النصر على عدو أساسي أو أصلي، إلى الحاجة الحيوية للنجاح، كبرنامج صحي للسعادة في أفق الإنسان. بهذا المعنى تحوَّل النقاش حول السعادة وطرق تحقيقها إلى مشكل شخصي كوني. في كل سياق ثقافي، يدخل الناس في نقاش مفتوح وغير متكلف ويومي حول حظ الناس من السعادة، وذلك مهما كانت الفروق الهووية بينهم. وبدلًا من سؤال كانط: هل نحن جديرون بالسعادة؟ انخرط الإنسان ما بعد الحديث في سؤال أكثر تواضُعًا لكنه أكثر نفاذًا: كيف ننجح في أن نكون سعداء؟ شعوب النصر لا تعرف وعدًا آخَر بالسعادة غير نصر هووي، بلا أي توقيع شخصي. أما مجتمعات النجاح فهي لا تعرف طريقة أخرى لتحقيق السعادة غير نجاح شخصي، لا يحتاج المرء معه إلى أي تبرير هووي، ولكن علينا أن نسأل في آخر المطاف: أين نحن من هذه القضية؟ أم إن المجتمعات لم تعُد تستشير الشعوب في تحقيق أحلامها؟