«العروبة» أو المصير بلا مستقبل
سوف يبقى «العرب»، لكن ذلك لن يكون دليلًا وجيهًا على مستقبل «العروبة». بذلك قد يجدر بالباحث راهنًا أن يميِّز بين السؤال عن «مصير» فكرة العروبة وبين التساؤل عن «مستقبل» العرب. والفصل بين المصير والمستقبل يمكن أن يساعدنا هنا على المضي بعض الخطوات المفكرة نحو تجربةِ معنًى جديدة حول أنفسنا القادمة، ماذا عساها تكون، يمكن لشعب من الشعوب أن يزعم أنه قد أعدَّ خطة مناسبة لمستقبله. لكن ذلك لن يكون كافيًا كي يتحكم في مصيره.
ومن المفيد هنا أن نتمثَّل بموقف شعب غير سامٍ وغير شرقي من فكرة المستقبل: لقد رفض شعب اسكتلندا في أيلول ٢٠١٤م أن ينفصل عن المملكة المتحدة بنسبة كافية (٥٥ بالمائة) كي نضطر إلى مراجعة معنى الهوية في أفق شعوب المستقبل. إن هواجس الهوية لا تكفي أو لم تعُد تكفي كي يطمئن شعب ما إلى دعوى تقرير المصير. صار يمكن لشعب ما أن يرفض الانفصال عن شعب آخَر، ويعتبر هذا الرفض موقفًا حكيمًا في مواجهة المستقبل. وهكذا فإن الاستفراد بالمصير باسم الهوية صار يمكن ألا يكون سببًا كافيًا للاستقلال الوطني بمعناه الحديث.
بين العرب والعروبة هناك فرق في المقام: معارك المصير لم تعُد مجدية. وصار علينا أن نواجه معارك المستقبل. معارك المصير هووية. لكن معارك المستقبل حيوية. ومن ثَم سوف يكون من الممكن جدًّا أن نرفض الاستقلال الهووي لأنه سوف يكون مجرد استقلال رمزي أو مجرد عن «عدو أجنبي» افتراضي. إن العداوة فكرة أو قيمة سياسية، وليست موقفًا أخلاقيًّا. ومن ثَم فإن مصير فكرة العروبة لن تقرِّره منذ الآن أية هواجس هووية، مهما كانت نبيلة أو مشروعة. وربما لأول مرَّة سوف ترجع العروبة إلى معناها الجذري: إننا نتكلم لغة محددة. وإن هذه اللغة هي المخزون الاستراتيجي للشعوب التي نتكلَّم باسمها راهنًا. وهي ربما لم يتبقَّ لها من مصادر ذاتها العميقة غير اللغة. وهذا معطًى تاريخي وميتافيزيقي لا يزال يتمتَّع بثراء وجودي وإنجازي مثير. أما جملة الإحداثيات الأخرى، من قبيل الدين والذاكرة والخارطة والقيم … إلخ، فقد تبيَّن أنها كلها قابلة للنقاش. إن العروبة تجربة لغوية جذرية، وليست مذهبًا سياسيًّا.
ما الذي سوف يتغيَّر إذَن حول فكرة العروبة؟
علينا أن نذكر هنا بأن الماضي هو الذي تغيَّر. لقد عاشت شعوبنا ماضيًا مزيفًا. ولذلك هي الآن بلا مستقبل. ونقصد بذلك كون الجيل الفارط، جيل «الاستقلال» السياسي عن «المستعمر»، قد عول أكثر من اللازم على فكرة «العروبة» كي يشكل «هوية» مناسبة لما سُمي عندئذٍ باسم «الأمة» (الذي هو «مفهوم» أوروبي لم يجد القوميون من حيلة لتبيئته مثل «اللفظ» القرآني «أمة»، من دون مراعاة لكل الأخطاء التأويلية التي تنجر عن هذا الانزياح) «العربية». وكل ذلك كان إرضاءً أو تأسيسًا لمشروع «الدولة القومية» أو «الدولة-الأمة» الأوروبية الحديثة في أفق شعوبنا، التي وجدت نفسها «معاصرة» رغم أنفها، ولكن بلا حداثة. هل كانت تلك مغالطة تأويلية مقصودة؟ حيث تم تعويض وعد «الدولة الحديثة» بهواجس «الهوية». وكان تعويضًا أخلاقيًّا مريحًا للحاكم «العربي» أو الذي صار «عروبيًّا» فجأةً. صار «عروبيًّا» نعني حول فكرة الاستقلال الهووي إلى ابتزاز مستمر لفكرة الدولة-الأمة، أفرغها من كل وعودها الإثباتية (الديمقراطية والتنمية)، وعوضها بنزاعات ارتكاسية (المعركة القومية). وفجأةً صارت الحداثة معركة هووية لشعوب عليها أن تظل مرابطة ضد «الغرب» (بصفته المستعمر السابق أو الإمبريالي الحاضر) بلا نهاية.
طبعًا، كان ثمة عذر كبير لا يقبل النقاش أو المراجعة استغله الحاكم العربي أيما استغلال: تحرير فلسطين. وبما أنه كان يعتقد في أعماقه أن هذه مهمة أجيال تتخطَّى أفق دولة الاستقلال أو معركة عالمية من معارك المستقبل أو هي جزء لا يتجزَّأ من توزيع السلطة في القانون الدولي بعد ١٩٤٥م، وهو غير جاهز للإيفاء بهذا النوع من المطالب ما بعد الدولة-الأمة، فهو قد حول معركة فلسطين إلى قميص ميتافيزيقي للتبرير الهووي للدولة الوطنية. ولا أحد يمكنه تقدير الخسائر التاريخية والسياسية التي مُني بها العرب من جراء نظام حكم عربي على أساس «هووي» يعرف سلفًا أنه غير قادر على الإيفاء بأي استحقاق «حيوي» للشعوب التي يحكمها.
ولأن الطبيعة تخشى الفراغ، فإن ظهور الإسلامين باعتبارهم دعاة معارك المصير لم يكُن غير طريقة ما بعد قومية لملء الفراغ الهووي الذي خلفه فشل الدولة-الأمة وسقوطها في النهاية. كان ذلك الفشل باديًا للعيان منذ البداية. وظهور الإسلاميين كان مبكرًا أيضًا. لكن لب المشكل لم يتغير: إن الإسلاميين قد جذروا معارك الهوية، ولم يستبدلوها. ما زال الحلم السياسي هوهو: دولة الهوية. هم لم يفعلوا غير تملك جهاز الهوية الذي اخترعته الدولة القومية الحديثة منذ القرن التاسع عشر الأوروبي، وحوَّلوه إلى أداة حرب هووية ضد شكل وجود الدولة الحديثة نفسها. لقد غيرت الهوية من ملابسها الدعوية. أما لب الانتماء فهو واحد: إنه الانتماء إلى الماضي الأساسي، الماضي التأسيسي لطبقة معيَّنة من ذاكرتنا العميقة، واستعماله كوسيلة ابتزاز ميتافيزيقي ضد إرادة الأجيال الجديدة.
ومرَّة أخرى يتم تأجيل الحلم السياسي الحديث: إقامة دولة القانون، وليس دولة الهوية. ودائمًا، باسم هواجس هووية جاهزة تفسد ماهية المشكل وتعوضه بمشكل تاريخي مزيَّف. لقد تم تأجيل المعارك المدنية، معارك المجتمع المدني الحديث (من مواطنة وحقوق طبيعية واستقلال ذاتي وتقدير للذات وحياة خاصة وحريات أساسية ومشاركة سياسية وقدرة على الاختيار والمحاسبة، في كنف دولة ديمقراطية وعادلة … إلخ) ووقع تعويضها بمعارك هووية لا تاريخية (حماية الانتماء العميق من الغزو الأجنبي، المعركة ضد المستعمر، الدفاع عن أصالتنا، تحقيق الاستقلال القومي، الإيمان بالقضية، بعث الأمة، العودة إلى الدين الحقيقي، تطبيق الشريعة، النهج على طريق السلف الصالح، الحاكمية، ردع المرتدين، مقاومة الكفار والعلمانيين … إلخ). ومن البراديغم الهووي انتقل العرب إلى البراديغم الدعوي، ومن دولة الهوية مروا إلى دولة الدعوة. لكن سياسة الحقيقة هي هي: استعمال الماضي العميق باعتباره الثروة الميتافيزيقية الوحيدة التي يمكن لشعوبنا أن تطمئن إليها أو تعول عليها.
نحن نقف راهنًا على عتبة «المستقبل» ولكن هذه المرَّة بلا «مصير». وفي آخِر نفق الهوية توجد الدعوة. وعلينا أن نتعلَّم منذ الآن أن الانتماء لم يعُد يشكِّل حجة كافية أو مناسبة على ما تريده الشعوب. ويبدو أن تغييرًا معياريًّا مرعبًا أقدمت عليه شعوبنا التي لا تزال «عربية» وإن لم تعُد «عروبية»: عاش الجيل السابق على الإعلان القومي والإسلامي الكبير وغير القابل للمراجعة: الهوية قبل الحرية. أما اليوم، وبعد أن تأكَّدَت هذه الشعوب من واقعة ميتافيزيقية غير مسبوقة، مفادها أن دولة الهوية كانت ادعاءً تاريخيًّا لجيل لم يكُن يملك الأدوات التاريخية المناسبة لسياسة الانتماء التي عول عليها، وعلى كل حال منذ مطلع ٢٠١١م، تغيَّرَت المعادلة وصارت تُصاغ هذه المرة على هذا النحو المقلوب والذي لا يزال غامضًا وبلا مضمون: الحرية قبل الهوية.
نعم، هناك نوع من العالَم لم يعُد ممكنًا. ونعني به العالم الذي عوض وعود الدولة الحديثة بالهواجس الهووية والأصول الدعوية. ولو أن هذا ما وقع فقط، لكان حدثًا جللًا، دولة الهوية ودولة الدعوة هما بمثابة الماضي الميتافيزيقي، وليس التاريخي فقط، للدولة المنشودة. وصار المشهد واضحًا أكثر من أي وقت مضى: كل مَن يواصل تعويض وعود الدولة المدنية بأي هواجس هووية أو بأية أصول دعوية، هو خصم لفكرة المستقبل في أفق شعوبنا، وبالتالي هو جزء لا يتجزَّأ من ماضيها العميق (المركب الهووي-الدعوي العاجز عن الدولة المدنية)، ذلك الذي تعمل أو عليها أن تعمل بكل السبل الإنسانية على تجاوزه من الداخل.
لا يمكن تغيير الماضي العميق إلا بمحبته على نحو آخَر، فالشعوب لا تقطع أبدًا مع ماضيها. لكنها تتحرَّر منه. وهي تفعل ذلك بالعمل على تحويله إلى طبقة أخلاقية داخلية تنهل منها، وليس إلى عدو سياسي. ولا يمكن التحرُّر من معارك الهوية أو معارك الدعوة إلا بإعادة تملُّك مساحة الانتماء وإعادة تملك مصادر أنفسنا العميقة بطريقة أخرى. أجل، لا القوميون ولا الإسلاميون يجوز لهم ادعاء ملكية ذاكرتنا التاريخية: لا القديمة (باسم الدين) ولا الجديدة (باسم القومية). الهوية القومية والدعوة الدينية هما مجرد أداتين سياسيتين لأجيال فشلت في الإيفاء بشروط بناء الدولة الحديثة. ولا يعني ذلك أننا ندافع هنا عن مشاريع الدولة الليبرالية، فإن هذه أيضًا، كما هو الحال في تونس أو في مصر، أداة سياسية لجيل هووي، انتهى إلى تحويل جهاز الدولة إلى دكتاتورية شخصية اختزلت هوية الشعب في هوية الحاكم، ولذلك بمجرد أن استعاد الشعب قدرته المحضة على الإرادة – «الشعب يريد»، فرَّ الحاكم أو تخلى عن الحكم. لكن خيبة الأمل في دولة الهوية، مثلها مثل الرعب الراهن من دولة الدعوة، هما درسان استراتيجيان جليلان في السؤال عن المستقبل.
لم يعُد من معنًى للمصير سوى فكرة المستقبل. وذلك يعني أن عروبة العرب لن تكون عند الأجيال الآتية معركة قومية ولا دعوة دينية. بل فقط مهمة مدنية. ما وراء الهوية وما وراء الدعوة، توجد الدولة. وهذا ما غفل عنه الجيل الهووي واستغله الجيل الدعوي، طمعًا في تأجيل ظهور الدولة المدنية إلى ما لا نهاية. لكن الشعوب تنتهي دومًا بقول كلمتها، نعني تنتهي دومًا بالعودة إلى استئناف الحياة، بعيدًا عن أحلام الهوويين وأوهام الدعويين. في المستقبل، لن تكون الدولة العادة مكرمة من أحد، أكان «زعيما» هوويًّا أو «شيخًا» دعويًّا. بل فقط نمط اقتدار شعب ما على تأسيس نمط العيش الذي يختاره بنفسه. ومتى اختار العرب شكل عروبتهم القادم بأنفسهم، لن يكون غير أفضل قدر من المستطاع المدني الذي بحوزتهم أو الذي يقدرون على تحقيقه.
ولذلك، على الرغم من كل التدمير الذي لحق بجهاز الدولة في أفق العرب اليوم، فإن الدولة المدنية، الحُرة والديمقراطية، دولة الحياة، هي الوعد التاريخي الوحيد الذي يستحق منا العمل على تحقيقه بشكل مشترك فيما أبعد من كل فواصل الهوية وفوارق الدعوة. ولذلك ليس على العرب أن يوقعوا أي توقيع هووي أو دعوي آخَر على مستقبلهم. وخاصة أن يفصلوا منذ الآن بين معارك المصير ومهمات المستقبل. إن المعيار الأخير لوجودهم هو منذ الآن قدرتهم الفذة على الحياة في عالم معولم بلا رجعة، وحيث لا ينتظر منهم هذا العالم غير التحدي الأخلاقي لشعوب المستقبل: كسب حرب المناعة الذاتية ضد كل المخاطر المحدقة بالأمل الإنساني المحض في الحياة.