ثورة العبيد … التي لم تقع

في ٦ سبتمبر ١٨٤١م، أصدر أحمد باي الأول في تونس أمرًا يقضي بمنع الاتجار في الرقيق وبيعهم، ثم في ٢٣ جانفي ١٨٤٦م، أصدر الأمر المتعلق بإبطال الرق ضمن رسالة شهيرة وجهها إلى مشايخ تونس ومفتييها. ويهمنا أن نبدأ هنا بإثبات جملة من التعليقات على تلك الرسالة من «ولي الأمر» إلى «العلماء» تُعْلمهم بمنع الرق وعزم الدولة على فرضه بالقانون.

وسوف يقودنا في ذلك الافتراض التالي: أن إرادة الثورة «ما بعد الإيديولوجية»، التي حرَّكَت الشعوب العربية «ما بعد الدكتاتورية» منذ مطلع ٢٠١١م، لم تتخطَّ براديغم ثورات العبيد الراسخ الجذور في تاريخ الشأن السياسي في دولة الملة إلا بشكل عرضي، ولا سيما في «حالة استثنائية إلى حد الآن»، هي الحالة التونسية «الراهنة». وتتميَّز ثورة العبيد بكونها فوقية وخارجية وأقلية. ومن ثَم لا تملك برنامجًا أخلاقيًّا ومدنيًّا صارمًا عن ذاتها المستقبلية، على الرغم من كل كمية الصدق التي تحركها. ومغزى الرجوع التأويلي إلى رسالة منع الرق «التونسية» التي صدرت في أربعينيات القرن التاسع عشر ما قبل الكولونيالي، أنها يمكن أن تؤدي دور خيط إشكالي مناسب للاستفهام حول معنى تجارب الثورة ما بعد الكولونيالية، وبخاصة فيما يتعلق بالحالة «الاستثنائية» التونسية.

رب تعليقات سوف تكون كما يلي:
  • (أ)

    أن رسالة منع الرق لم تُوجَّه إلى «الشعب» أو «الرعية»، بل إلى «المشايخ والمفتيين».

    قال: «الحمد لله حفظكم الله تعالى ورعاكم ونوَّر هداكم الفضلاء الأعيان الأخيار العلماء الكمل هداة الأمة ومصابيح العلى أحبابنا الشيخ سي محمد بيرم شيخ الإسلام والشيخ سي إبراهيم الرياحي باش مفتي المالكية والمفتيين الشيخ سي … إلخ.»

    وهذا المقام يطرح سؤالًا خاصًّا: لماذا لم توجه إلى المعنيين بها مباشرة؟ ولماذا لا يُستشار «موضوع» السلطة، بل يُعامل بوصفه «الغائب» الذي يجب «تحريره»، ولكن من «خارج» أو من «فوق»؟ ثم لو كان «العلماء» كما وُصفوا «هداة الأمة ومصابيح العلى» لكانوا دعوا من أنفسهم إلى تحرير العبيد ومنع العبودية. لكنهم لم يفعلوا. بل هم أنفسهم يظهرون في الصورة باعتبارهم «موضوعًا» للسلطة، موضوعًا من نوع آخَر أو على مستوى آخَر من الانفعال: إنهم مدعوون إلى «إعلام» غير مسبوق بمنع الرق عن نمط من «الناس». إذَن، هداة الأمة كانوا في حاجة إلى «هداية» من نوع آخَر؛ و«مصابيح العلى» كانوا في حاجة إلى «تنوير» من مستوى مغاير.

  • (ب)
    أن ضمير المتكلم في الرسالة هو «النحن» الكبرى التي توقعها الدولة في كل العصور دون أي تدقيق آخر. هناك دومًا نحن معلومة للناس/للمحكومين، وربما من فرط كونها غير محتاجة لأي تعيين إضافي. ضمير أي سلطة هو غائب في صيغة النحن أو نحن في صيغة الغائب. وهي لا تحتاج لأكثر من ذلك كي تكون مؤذية أو ناجعة. قال: «وبعد، فإنه ثبت عندنا ثبوتًا لا ريب فيه أن …» «نحن» الدولة لا تنفصل عن دعوى «إنية» تفرض نفسها على «متقبل» بلا أي مناعة سردية ضد الرسالة الموجهة إليه.
  • (جـ)

    أن «سبب» منع الرق المباشر ليس «حق» البشر في الحرية، بل معاناة العبيد من سوء المعاملة. سوء المعاملة كسلوك غير موفق في معاملة «العبيد». وهم يُعرفون هنا بوصفهم أولئك الذين «لا يقدرون على شيء». حيث تُفهم «القدرة» باعتبارها قدرة ما بعد دينية أو «قانونية»، وحيث إن المحكومين لا يملكون من القدرة إلا ما تمنحه إياهم الدولة. وكل قدرة من نوع آخَر هي بمثابة العجز.

    ولذلك فإن تدخل الدولة هنا ليس دستوريًّا، بل سياسي. إنها تحمي مجموعة من العبيد محتاجة «في هذا العصر» إلى حماية قانونية ولا تعترف بحق مجموعة من البشر في الحرية. هي لا تحرِّر بل تحمي. وكل مَن يحتاج إلى حماية لا تعترف به هو قاصر أخلاقيًّا. وذلك هو وضع العبيد. والتدليل على «العصر» مهم جدًّا: ليس المقصود هو «العصر الحديث» كما ينظر إلى ذاته (وهذه خيبة أمل في هذا النص الشهير) بل العصر الحديث بوصفه عصر الفشل في «إحسان ملكية» العبيد: لا يتعلَّق الأمر بالالتحاق بأوروبا في ترسيخ «حقوق الإنسان» بل القصد هو تلافي نقص تقني في تدبير سياسة العبيد. ثمة تقنيات «ملكية» للناس لم تعُد ناجعة، وينبغي تغييرها. قال: «فإنه ثبت عندنا ثبوتًا لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هؤلاء السودان الذين لا يقدرون على شيء …»
  • (د)
    أنه يمكن تعليل هذه الدعوة الرسمية إلى تحرير العبيد بالرجوع إلى الوضع «الخلافي» لمسألة الرق في الفقه الإسلامي. هنا يتحوَّل رجل الدولة إلى فقيه حتى يستطيع أن يبرِّر قراره بمنع الرق. قال: «على ما في أصل صحة ملكهم من الكلام بين العلماء إذ لم يثبت وجهه …» هذا الشطر من الرسالة خطير جدًّا: لقد وضع الإصبع على مصدر أي اجتهاد في المستقبل: إن الخلاف بين «العلماء» هو السياق المناسب لتبرير أي تشريع جديد. وهو درس منهجي رفيع: لا يمكن إدخال أي تجديد جذري في مخيال أو نمط تفكير أو قيم شعب من الشعوب إلا بواسطة الخلاف بين علمائه. ولذلك فكل خلاف من هذا النوع هو حمال وعود منهجية وإشكالية لا يمكن حصرها. كل خلاف هو بركة ميتافيزيقية، وليس مجرد خصومة مذهبية. لكن الخلاف بين العلماء ليس متاحًا في كل الثقافات: وحدها الثقافات العالمة القوية المشرعة لذاتها العميقة والقادرة على التفكير الكوني بإمكانها ويجوز لها أن تنتج علماء مختلفين أو قادرين على الاختلاف وأن تجرب الخلاف العميق والمبارك بين العلماء.
  • (هـ)

    أن «الإيمان» ليس شرطًا كافيًا للتحرر: فرغم أن العبيد «مسلمون» إلا أن ذلك لا يضمن لهم حقًّا طبيعيًّا في الحرية. قال: «وقد أشرق بنظرهم صبح الإيمان منذ أزمان …» وهذا يُلقي ضوءًا خاصًّا على علاقة الدين بالحرية: إن الدين لا يفرض الحرية بل يدعو إليها دون تعريض ماهيته إلى الخطر. وذلك يعني أنه لا يعول على القوانين في تحرير الناس بقدر ما يعول على مبادرتهم الخاصة نحو التحرُّر. إن الدين فرداني تمامًا في مسألة الحرية وإنْ كان جماعويًّا تمامًا في مسألة الهوية. وهكذا فإن إيمان الناس لا يضمن لهم حصولهم على الحرية المدنية. لا يشرع الدين أي وضع مدني جديد، بل هو يمكنه أن يقبل بأي وضع مدني قائم وبأن يتكيَّف مع نظام قيمه العميقة. وهذا يقودنا إلى التساؤل الحاد التالي: إلى أي مدًى يمكن التعويل على الدين في تحقيق الثورة؟ هل يجوز للدين بما هو كذلك أن يكون ثوريًّا؟ ولأن الإيمان ليس شرطًا كافيًا للاستحقاق الحرية المدنية فإن الدين يظل غريبًا عن الفكرة الحديثة عن الثورة.

  • (و)
    أن صاحب الدولة في هذه الرسالة لا يعترف بحق الناس في الحرية بل هو يذكر «علماء الأمة» بأن العبيد المؤمنين هم «إخوة» الأحرار المؤمنين، وبالتالي إن «ملك الأخ» هو مناف لما «أوصى» به «سيد المرسلين» من «الرحمة بالعالمين». قال: «وإن مَن يملك أخاه على المنهج الشرعي الذي أوصى به سيد المرسلين آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة حتى إن مَن شريعته التي أتى بها رحمة العالمين عتق العبد على سيده بالإضرار وتشوف الشارع إلى الحرية …»

    نلاحظ أولًا أن العبد هو «أخ» في العبودة (كونه «عبدًا» من «عباد» الله) وإنْ كان يعاني من وضع العبودية (كونه عبدًا مملوكًا لغيره). هو أخ وليس شريكًا أو رفيقًا أو صديقًا. وواضح أن التوحيديين مختلفون هنا عن الوثنيين من العرب أو الفرس أو الروم أو اليونان: إنه الاختلاف بين أخلاق «الأخوة» (الإبراهيمية) وآداب «الصداقة» (اللاتوحيدية). ربما لم تظهر الأديان، أي لم يظهر «المنهج الشرعي» بين البشر إلا من أجل اختراع نمط معيَّن وما فوق عائلي من الأخوة. وهكذا فإن الاسترقاق هو هدم أخلاقي جذري لمنزلة الأخوة الدينية. ثم نلاحظ أن وثيقة النقاش حول تحرير العبيد هي «وصية» وليست «مبدأً» عقليًّا أو حكمة أو دليلًا. الوصية لا تفكر. بل تأمر أو تذكر. ولذلك فإن المدونة الدينية هي تُستدعى هنا باعتبارها علامة وليس باعتبارها دليلًا حرًّا ومستقلًّا بنفسه. لا توجد معقولية دينية حول حرية الإنسان. لا يوجد دين يمكنه أن يذهب في الاعتراف بحرية الناس إلى النهاية. هناك «حدود» ما، وإلا فإنه توجد «حدود» ما. وهنا نفهم دلالة التواطؤ في لفظة «الحد» بين معنى «التخوم» ومعنى «العقوبات». العقاب الديني هو نهاية النقاش مع حرية غير لائقة أو غير متأدبة. وعلينا أن نسأل: أي معنًى لحرية متأدبة؟ لكن ما تُبقيه الرسالة غامضًا هو وجه الصلة بين «عتق العبد» و«تشوف الشارع إلى الحرية». والسؤال هو: لماذا أجل الدين معركة الحرية إلى أجل غير مسمى؟ لماذا لم يفرض منزلة الحرية كحق طبيعي، وتركها مفتوحة أمام اجتهاد الحكام والفقهاء؟ أم إن الحرية منزلة ما بعد دينية أصلًا؟

  • (ز)
    أن تحرير العبيد هو رأيٌ بادرَ إليه صاحب الدولة بنفسه، وليس مطلبًا وجوديًّا أو مدنيًّا للعبيد من المؤمنين أو من المحكومين. قال: «فاقتضى نظرنا والحالة هذه رفقًا بأولئك المساكين في دنياهم وبمالكيهم في أخراهم أن نمنع الناس من هذا المباح المختلف فيه والحالة هذه خشية وقوعهم في المحرم المحقق المجمع عليه وضد إضرارهم بإخوانهم الذين جعلهم الله تحت أيديهم» ما «اقتضاه نظر» الحاكم هو رأي وليس حقًّا. وحدها إذَن دولة تفكر يمكنها أو يجوز لها أن تحرر الناس من العبودية. هل يعني ذلك أن الدولة السائدة عندئذٍ، دولة الملة، أو دولة «هداة الأمة» لم تكُن تفكر أو لم تكُن تجرؤ على التفكير بالقدر الذي يؤهلها لمراجعة مبدأ الحرية الإنسانية في ظل حكمها؟

    يبدو أن باي تونس قد تجرَّأ سنة ١٨٤١م على التفكير بنفسه لأول مرة، نعني على امتشاق مبدأ التنوير الحديث من دون رجوع قسري إلى الفقهاء. لكن أملنا سرعان ما يخيب من نوعية التبرير الأخلاقي أو القانوني الذي أسَّس عليه موقفه: لم يكُن منع الرق أو منع بيع العبيد موقفًا تنويريًّا، بل كان فقط «رفقًا بأولئك المساكين في دنياهم وبمالكيهم في أخراهم». من العجيب أن الدولة تتصرَّف هنا وكأنها هيئة أخلاقية خيرية «ترفق» بالمملوكين باعتبارهم «مساكين» بالمعنى الدنيوي؛ ولكن خاصة بوصفها هيئة لاهوتية عُليا «ترفق» بالمالكين باعتبارهم «مساكين» من نوع آخَر، نعني مساكين بالمعنى «الأخروي».

    الدولة كمؤسسة «رفق بالمساكين»: هذا هو السقف المعياري للحرية في أفق دول الاستبداد الشرقي، دولة الملة أو الجماعة الروحية. العبد أخ أو مسكين. وفي الحالتين هو يعاني من هشاشة أنطولوجية أصلية، هشاشة «المخلوق» (المدعو إلى السجود لإله شخصي متعالٍ) وهشاشة «المرءوس» (المأمور بطاعة «أولي الأمر» تحت فتاوى أو وصايا «هداة الأمة»). وإذا كان يجب على الدولة أن تحمي «مساكينها» من الرق الدنيوي، فكيف يحق لها أن ترفق بهم في «أخراهم»؟ وفق أي تبرير أخلاقي أو معياري يجوز لأي دولة أن تزعم حق التصرف في خلاص المؤمنين في الآخرة؟ وأن تقدم ذلك بوصفه نوعًا من «الرفق» بهم؟ تخفي كل دولة طمعًا مرعبًا في امتلاك حق أخروي في التصرف في معنى المستقبل لدى محكوميها. وذلك مهما حاولت إخفاء ذلك بخطابات الحرية. وليست الدولة الدينية غير الحالة القصوى من دولة الآخرة.

  • (ﺣ)
    أن منع الرق لم يكُن إبطالًا لأي أصل من الشرع المتفق عليه، بل كان إمكانًا فقهيًّا جائزًا في صلب النهج الشرعي لكنه لم يتم استغلاله. قال: «اقتضى نظرنا … أن نمنع الناس من هذا المباح المختلف فيه والحالة هذه خشية وقوعهم في المحرم المحقق المجمع عليه وضد إضرارهم بإخوانهم الذين جعلهم الله تحت أيديهم» … هنا نعثر على التعريف الفقهي الدقيق لمفهوم «الرق» في ظل التشريع الذي كانت تقوم عليه دولة الملة: الرق «مباح مختلف فيه». وعلينا أن نسأل: لماذا كان الرق مباحًا أصلًا في ظل المنهج الشرعي؟ طبعًا، كان الرق عادة شرقية ووثنية قديمة. والاستبداد الشرقي يفترض أن جزءًا واسعًا من المحكومين يجب أن تكون لهم منزلة «العبد». لكن الأمر المثير هو أن الدين التوحيدي قد جاء يدعو إلى أو يقيم دعوته على منع العبودية على نحو غريب جدًّا أو في شكل مفارقة تدعو إلى التفكير: لقد تم تعويض منزلة «العبد» (الوثني، جمع عبيد) بمنزلة «العبد» (الديني أو المؤمن، جمع عباد). هذا النقل المعياري من منزلة «العبودية» إلى منزلة «العبودة» كان نقلًا أخلاقيًّا ولم يكُن نقلًا قانونيًّا: لا زال يمكن استعباد «العبيد» في ظل الدولة الدينية، وإنْ كان هذا المباح «مختلفًا فيه». نرى كيف أن الاختلاف هو دومًا السياق الوحيد الذي يسمح بالاجتهاد في نطق دولة الملة. وهنا علينا أن نسجل هذا المعطى المزعج: أن الاجتهاد ينحصر غالبا في دائرة «المباح المختلف فيه» ولا يتعدَّاه إلى أي نزعة كونية حقيقية. ومن ثَم يظل الاجتهاد أداة فقهية قاصرة من حيث القدرة على تجديد سياق التفكير في الحرية في فق الملة. وعلينا أن نقول: لا يوجد اجتهاد كلي في أفق الملة. وإلا فهو سيؤدي إلى هدم أحد أركان الدين من حيث لا يُحتسب.
    ولذلك فإن منع الرق قد تم تنزيله في نطاق أخلاق المسئولية تجاه المحكومين، المالكين لغيرهم، وليس في نطاق حق العبيد في الحرية. قال: «خشية وقوعهم في المحرم المحقق المجمع عليه وضد إضرارهم بإخوانهم الذين جعلهم الله تحت أيديهم» ينتاب الرسالة هنا شيء من الغموض: ما هو هذا الشيء «المحرم المحقق المجمع عليه»؟ طبعًا، ليس هو الرق. فقد رأينا أن الرق هو «المباح المختلف فيه». يبدو لنا أن المحرم المجمع عليه ليس شيئًا آخَر سوى بيع الأحرار، وكأنهم عبيد. وبعبارة واحدة: استعباد الأحرار. وهذا محرم لأنه بمثابة «الشرك» بالله: نعني مشاركة الله في ملك الأحرار. وعلينا أن نسأل: أليس ملك الأحرار هو أيضًا ضرب من «الشرك» بالدولة؟
  • (ط)
    أن منطق الدولة لم يكُن غائبًا عن رسالة تحرير العبيد. إن «المصلحة السياسية» تقتضي منع بيع العبيد ومن ثَم أن منع الرق هو منع بعض «المحكومين» من مشاركة الدولة في «حكم» بعض المحكومين الآخرين. تريد الدولة أن تجمع جملة كمية الحرية المتاحة في ظلها تحت رمز سلطوي واحد هو الدولة. بوجه ما لم يكُن تحرير العبيد من أجل إنسانيتهم، بل رغبة من الدولة في احتكار مساحة الحرية، نعني كل مساحة السلطة على الآخرين. وبغياب «العبد» يتم تسطيح كل مساحة الحكم وإعادة رسمها على منوال: الحاكم/المحكوم دون أي تمايُز آخَر. أجل، كان ذلك بشكل غير مباشر خطوة عملاقة نحو بلورة معنى «المواطنة» الحديث. لكن نمط التبرير الأخلاقي أو القانوني أو السياسي كان مختلفًا. قال: «وعندنا في ذلك مصلحة سياسية منها عدم إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملتهم فعيَّنَّا عدولًا بسيدي محرز وسيدي منصور والزاوية البكرية يكتبون لكل من أتى مستجيرًا حجة في حكمنا له بالعتق على سيده وتُرفع إلينا لنختمها.»
    لم تكُن مصلحة سياسية متعلقة بحق العبيد في الحرية الطبيعية أو في المساواة مع الآخرين، بل غرضها هو «عدم إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملتهم». يتعلَّق الأمر في النهاية بطبيعة «الحرم» الذي يلجأ إليه المظلوم: هل يلجأ إلى حرم الدولة أم إلى «حرم ولاة غير ملتهم»؟ الحرم هو هنا منطقة الحماية الممنوعة التي يلجأ إليها المهدور دمه بحثًا عن ملاذ لشخصه. هنا نفهم معنى «الاستجارة»: ربما هي أولًا طلب العبد للحماية من سيد يرفض حريته. لكن معنى آخر أكثر خطورة أخذ يتشكَّل: إنه معنى الاستنجاد بالدولة باعتبارها «حرمًا» للحريات، يتعالى على أي نمط آخَر من السلطة في دولة الملة، من قبيل سلطة «السيد» الآيلة إلى الانقراض. وبالقضاء على سلطة «السيد» يقع إبطال أي تراتب في ماهية السلطة، والدخول في التصور الحديث للسلطة القائم على المحايثة. ما وقع هو الشروع في تفكيك مفهوم «الحرم» وذلك بإحالته على الدولة باعتبارها الجهة الوحيدة التي تحتكر مساحة المحرم التي تحت سلطتها؛ ومن ثَم تحتكر «كتابة» الهوية الجديدة للعبد: نعني أولًا «حجة الحكم بالعتق على سيده»، وثانيًا، سلطة «الختم» أو التوقيع تحت الحرية الحديثة. في ظل الدولة الحديثة لا يوجد إلا ختم أو توقيع واحد ينبغي فرضه على جميع المحكومين. ومنع الرق لم يكُن تحريرًا للعبيد بمجردهم، بل إعادة رسم لخارطة السلطة الحديثة، حيث يقع تعطيل أي نمط من «السيادة» يقع خارج سلطة الدولة. وعلى الرغم من أن صاحب الرسالة قد احتجَّ بالخشية على العبيد من «إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملتهم»، فإن مشكل منع الرق لم يكُن ينبع من أي نزاع لاهوتي مع الملل الأخرى. بل كان يصدر عن «مصلحة سياسية» هي تحييد دور الأديان في ترتيب منزلة المحكوم الحر تحت الدولة. كان الهدف هو تحييد الدين، ليس إلا. ومن ثَم تم استعمال اللجوء إلى «حرم ولاة الملل الأخرى» كوسيلة ردع لاهوتي من أجل إثبات حجة سياسية تنبع من منطق الدولة الحديثة: هي فصل المواطنة عن الانتماء الديني.
  • (ي)
    أن تحرير العبيد قد أخذ شكل «تكليف» رسمي وفوقي للمشايخ بتطبيقه دون أي مشاركة في صنعه أو أي صلاحية لمناقشة التعليل القانوني أو الأخلاقي الذي اقتضاه. قال: «وأنتم حرسكم الله إذا أتى لأحدكم المملوك مستجيرًا من سيده واتصلت بكم نازلة في ملك على عبد وجهوا العبد إلينا …»

    هذا مقطع طريف يكشف عن منزلة الحرية في أفق دولة المسلمين: إنها في ماهيتها حرية العبد، وليست حرية السيد. ومن ثَم يكشف عن مفهوم الدولة: هي دولة تحمي العبيد من الأسياد. هذا التصور «الحمائي» للسلطة يجعلها سلطة في أعماقها ارتكاسية وعقابية، ولا تعد محكوميها بأي اقتدار إثباتي للذات. الدولة هي الجهة التي «يُوجه» إليها العبد الذي رفع «نازلة» ضد سيده بقصد التحرُّر منه. يبدو الأمر وكأن الأسياد أو الأحرار ليسوا في حاجة إلى دولة. أو أن الدولة هي من اختراع الفقراء أو قامت من أجلهم. هذا الخداع الأخلاقي ينتهي إلى تصوير الدولة وكأنها «ملجأ» العبيد المستجيرين من أسيادهم. وفي المقابل تبدو الحرية وكأنها نوع من الاستجارة من سلطة غير شرعية ومن حماية المملوك من مالكه. وحدهم المالكون أحرار. أما المملوكون (لأي سبب كان) فهم يظلون في حاجة إلى حماية الدولة كحيوانات قاصرة عن الحرية الطبيعية. لذلك أكد صاحب الرسالة على «تحذير» صارم للمشايخ والمفتين من أي تهاون «رسمي» في حماية حرية العبد من ملكية سيده. لكن الحماية الفقهية للحرية من التملك لئن كان في ظاهره مكسبًا قانونيًّا رائعًا، فهو في حقيقته أمارة سيئة على طبيعة التغيير المنشود؛ فهو تغيير لوضع الحرية المدنية ولكن من خارج منطقها الذاتي.

    قال: «وحذارِ من أن يتمكن له مالكه لأن حرمكم يأوي مَن الْتَجأ إليه في فك رقبته من ملك ترجح عدم صحته ولا نحكم به لمدعيه في هذا العصر واجتناب المباح خشية الوقوع في المحرم من الشريعة لا سيما إذا انضم لذلك أمر اقتضته المصلحة فيلزم حمل الناس عليه …»

    تبدو هذه الفقرة جامعة لكل عناصر الإشكال الذي شغلنا هنا، ألا وهو: كيف يمكن تحويل الدولة إلى «حرم»؟ حرم يلجأ إليه المحكوم غير الحر كي «يفك رقبته من ملك» مالك له على غير وجه حق؟ يتم ذلك بالتأكيد على أن السلطة هي «حرم يأوي مَن الْتَجأ إليه»، السلطة بوصفها حرمًا (!) يتم هنا استثمار مزعج في معنى «الحرم» بشكل يستعير المكان (بيت الله الحرام) من أجل معاملة العبيد أو الطالبين لحريتهم باعتبارهم ضربًا من «الحريم» المدني (الجواري أو المحظيات السلطانية)، على نحو ينتهي إلى غرض أكبر هو إرساء جهاز «التحريم» وبسطه كحدود داخلية للسلطة. العبد حرمة (ولا ضر إن كانت مؤنثة أو مذكرة) لها أن تطلب اللجوء إلى سلطة الدولة من أجل الانعتاق. لكن هذا التخريج «الحرمي» للسلطة ينتهي إلى الكشف عن رأيه العميق من مسألة الحرية في أفق دولة الملة: معاملة الحرية وكأنها حرمة، أي صيغة قصور أخلاقي يحتاج إلى «حرم» يلتجئ إليه لحمايته.

    ومن المفيد أن نصف طريقة تلخيص التبرير المقدم لمنع الرق: فقد جاء فقهيًّا (ملك ترجح عدم صحته) وتاريخيًّا (لا نحكم به لمدعيه في هذا العصر) واجتهاديًّا (اجتناب المباح خشية الوقوع في المحرم من الشريعة) وسياسيًّا (أمر اقتضته المصلحة) وقانونيًّا (يلزم حمل الناس عليه)، لكن كل ذلك — أي كل خطة الدولة — قد ظلَّ محتاجًا إلى تبرير كبير من مستوى آخَر: هو التبرير الديني باعتبار مصدر السلطة الأخير في أفق دولة الملة. قال: «والله يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كريمًا. والسلام من الفقير إلى ربه تعالى عبد المشير أحمد باشا باي وفقه الله تعالى آمين …»

    ونلاحظ على ذلك ما يلي: أن الدولة لا تزال في حاجة إلى أفق ديني يمنع أي مؤسسة فقهية من المزايدة عليها في العلاقة بالله، أي في استعمال جهاز «هدي الأمة»، نعني نمط السيطرة على مستقبل الجموع، وأن الخطاب الموجه للمؤمنين يأخذ دومًا نمط «التبشير»، وأن مقولة «العمل الصالح» يمكن في آخر الأمر أن تهدم أي حركة مدنية محايثة، وأن الأجر الحقيقي ليس دنيويًّا، وبالتالي ليس تاريخيًّا، وأن الحاكم هو أيضًا «فقير إلى ربه» مثل جميع الفقراء.

كل التعليقات التي وردت هنا على رسالة منع الرق هي تمارين تجريبية غير مباشرة على معنى الثورة التي تحوَّلت منذ الانتخابات التي سيطر عليها الإسلاميون في تونس ومصر إلى ورشة مزعجة على تحرير الحرية ما بعد الدكتاتورية من غير المؤمنين بها. كل مساوئ تحرير العبيد التي وردت في رسالة منع الرق يمكن استكشافها في ثورات «الربيع العربي» باعتبارها ثورات عبيد افتراضية، فشلت في الوقوع رغم كل الصدق الذي صاحبها. ومن المفارقة أن الانتخابات التي فاز فيها سلفيون ورجال دين هي قد كانت المحك الأخير لتجريب فكرة الثورة: سرقة الثورة الحديثة بالنيابة الدينية — وليس البرلمانية — على الشعوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤