مديح الشعوب وهجاء الثورات … تمارين في ما بعد الدولة-الأمة

منذ أن فصل هوبز بين مفهومي «الجمهور»١ و«الشعب»٢ صار الفاصل بين القرون الوسطى والدولة الحديثة واضحًا؛ إنه الفاصل المعياري بين الملة والمجتمع المدني. لكن «المعياري» في ثقافة ما ليس واضحًا إلى هذا الحد، فكثيرًا ما يؤخذ باعتباره مجرد «قيمة» هووية من خلق شعب دون آخَر. وحين أخذت «الثورات» الحديثة في الحدوث بشكل «ما-بعد-» قروسطي، ظهر الْتِباس من نوع غير مسبوق في الوعي التاريخي بالدولة: هل هي جهاز «قانون طبيعي» يمكن أن نؤسِّسه «معياريًّا»، أي بناءً على «سيادة» محضة، عقلية، لا تنقسم وغير قابلة للاستلاب، لأنها صادرة من «إرادة شعب» بعينه، وإما أنها لا تعدو أن تكون «وسيلة» للسلطة على جمهور أو جموع من الأجسام الطيعة، كما وصفها فوكو في المراقبة والمعاقبة، وبالتالي هي في سرها لا يمكن أن تنفصل عن «القيمة» الهووية التي يكنها شعب ما لمَن يحكمه.
لكن الأكثر إثارة من زاوية العرب المعاصرين وطبيعة علاقتهم بالدولة الحديثة، هو الظهور المفاجئ ﻟ «مقدسات» من نوع جديد، مقدسات «غير دينية» على وجه التحديد من قبيل: حرمة القانون، هيبة الدولة، التوقيع الدموي للعلم، قداسة الوطن، سيادة الشعب، الحياة العمومية، الحياة الخاصة، حرية المواطن، حقوق الإنسان … إلخ. ما وقع في الحقيقة هو تنصيب حقل قداسة جديد لا يختلف في ماهيته عن عقلية التقديس الدينية التي بنت عليها القرون الوسطى شكل الدولة. وعلى خلاف فهم واسع النطاق لمصطلح الدولة العلمانية، فإن «العلمانية»، كما بين ذلك بشكل رشيق الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، في كتابه العصر العلماني، تُقال على معانٍ عديدة: معنى فراغ الساحة العمومية من الدين، ثم معنى الفصل بين الدين والدولة، وأخيرًا معنى مستحدث، ألا وهو معنى أن نقول إننا نعيش في عصر علماني، وبالتخصيص من حيث «شروط الإيمان» الجديدة التي فرضتها نماذج العيش الحديثة. ما وقع في أفق العرب منذ أقل من قرن، أي منذ ظهور «الدولة الحديثة» على أراضيهم، هو الدخول في «عصر علماني» دون أي نوع من التحضير الأخلاقي أو الوجودي لذواتهم الجديدة.

وعلى الرغم من صخب الثوريين «العرب» ومن تتالي نظريات «الثورة» في أفقهم الثقافي منذ خمسينيات القرن الماضي، فإن أكبر إساءة فلسفية حصلت تجاه عقولنا هي الخلط المزمن بين حروب التحرير «الوطني» للشعوب وفكرة الثورة الحديثة في أفق الأفراد/المواطنين. ما عاشته أوروبا في ثوراتها الإنجليزية والأمريكية والفرنسية … إلخ، كان شيئًا مختلفًا تمامًا عن كل مؤلفات العرب المعاصرين عن الثورة، حيث تم البناء الإيديولوجي للدولة باعتبارها أداة الثورة أو شكلها الأساسي. ويمكن أن نزعم أن كل حقبة دول الاستقلال قد كانت حقبة ثورية بلا ثورة. ونعني بذلك أنها كانت حقبة الدولة الهووية، تلك التي استولت على حدث «الاستقلال»، ذلك الوعد ما-بعد الكولونيالي بحرية الشعوب غير الغربية، وحولته إلى جهاز هوية من نوع محدَّد تمامًا: الهوية «القومية» أو «الأمة». أول سرقة فلسفية وقعت في أفق الفكر العربي المعاصر هي سرقة الدولة من جيل الاستقلال، وتحويلها إلى معمل إيديولوجي للهوية. وإلى عهد قريب كان الخلط الرسمي بين الهوية والدولة، ومن ثَم بين الدولة والثورة، لياقة وطنية لا مناص منها.

وحين أتى الإسلاميون، أولًا في شكل حركة «إخوانية»، سرية ومضادة للدولة الحديثة، ثم راهنًا في شكل شركاء «انتخابيين» في إدارة مرحلة «ما بعد الثورة» الراهنة، هم لم يضيفوا إلى المشهد الأخلاقي لأنفسنا المعاصرة أي مفهوم فلسفي يُذكر. لقد اصطدموا أولًا مع نوع «جديد» من المقدسات غير الدينية للمواطن الحديث: حقوقه المدنية وحياته الخاصة وفردانيته واستقلاله الفكري وقيمه الجمالية وحرية ضميره … إلخ، وأعادوا الاستيلاء على فكرة «الاستقلال الوطني» بواسطة نفس خطة الخلط الرسمية بين الدولة والهوية، مع تغيير مضمونها الانفعالي: من الأمة القومية إلى الأمة الدينية. وأخيرًا، امتصاص فكرة «الثورة» واختصارها في جهاز «الدولة» باعتباره حقل السلطة الوجودية للشعب/الأمة الدينية.

هل تغير معنى «الشعب»؟ وكيف عاش العرب ذلك التمييز الذي أقرَّه هوبز وفلاسفة الدولة الحديثة بين «الشعب» (مادة القانون الحديث) و«الجمهور» (مادة اللاهوت السياسي)؟

ينبغي التساؤل عن «الذات» التي «ثارت» وكانت وراء هذه «الأحداث» التي سُميت من «خارج» منطقها الخاص «ثورات الربيع العربي»؟ من المعلوم أن عبارة «الربيع العربي» قد نُسجت على منوال «ربيع الشعوب» أو «ربيع الثورات» التي عرفتها أوروبا في سنة ١٨٤٨م، ومن المعلوم أيضًا أنها كانت ثورات «مقموعة»، وإنْ كانت قد أدَّت في بعض منها على الأقل إلى توحيد ألمانيا مثلًا سنة ١٨٧١م. نحن نتحدَّث في حقيقة الأمر عن «ثورات» مقموعة أو فاشلة. وعلينا أن نسأل: لأي سبب تم اختيار نموذج الثورات الفاشلة أو المقموعة لتوصيف ما حصل في أفق العرب في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين؟ أليس في هذه التسمية نوع من اليأس المفهومي من هذه الشعوب التي لم تثبت جدارتها في إنجاز ما وعدت به حركات التحرير الوطني: أي إنجاز دولة التقدم والديمقراطية؟ ثم فيمَ يكمن وجه الشبه بين شعوب أوروبا الثائرة سنة ١٨٤٨م دون تحقيق أي ثورة ناجحة (في إيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا والمجر ورومانيا وبولونيا …)، وبين شعوب «الربيع العربي» (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا …)، التي ما زالت مُصرَّة على أن ما قامت به هو «ثورة» حقيقية وليس «ربيع ثورات» فاشل؟

ثمة فرق مثير بين «ربيع الشعوب» أو «ربيع الثورات» الأوروبي سنة ١٨٤٨م وبين «ثورات الربيع العربي» سنة ٢٠١١م، من شأنه أن يجعل هذه الاستعارة أو التسمية من «خارج» أو بشكل «ما-بعد-تاريخي» مهزلة فلسفية: إن ما وقع في أوروبا في سنة ١٨٤٨م هو جزء لا يتجزأ من تاريخ مفهوم الدولة-الأمة، دولة الهوية الوطنية. حيث إن مطالب «ربيع الشعوب» إنما كانت تدور في جوهرها حول هذه العناصر: مبدأ السيادة القومية، وإرادة الوحدة الوطنية، والاستقلال الوطني، وخلق دولة قومية، وتقرير المصير. وإذا كانت لا تخلو من استحقاقات ليبرالية، من قبيل المساواة بين المواطنين والحق في الاقتراع الحر والكوني … إلخ، فإن الجهاز المعياري لتبرير هذه الاستحقاقات إنما كان جهازًا هوويًّا بامتياز: إنه يتخذ من «ماهية» شعب بعينه (ألمانيا الكبرى، إيطاليا الموحدة …) أصلًا «رومانسيًّا» للدولة، وذلك بناءً على خلط نسقي بين «الموطن» (Heimat, patrie) وبين «الوطن» (nation)، بين «المواطنة» وبين «الوعي القومي» … إلخ.
أما «ثورات الربيع العربي» فهي من جنس آخَر تمامًا. إنها بالأساس ثورات ما-بعد الدولة/الأمة بامتياز. وكان الفيلسوف الألماني الكبير يورغن هابرماس٣ قد أرَّخ بشكل مبكر لحدث فلسفي حاسم في تاريخ مفهوم الدولة الحديثة: أن سيادة الدولة-الأمة قد تزعزعت بشكل واسع النطاق بسبب حصول العولمة. ووصل إلى أن «الوحدة الأوروبية» لم تنجح في خلق «مواطنة» موحدة وإنما فقط في إرساء «تشكيلة من الأسواق ما بين-الحكومية». ورأى أن الحل لا يمكن أن يكون في فرض «دولة عالمية» تفرض القانون الدولي وحقوق الإنسان والديمقراطية … إلخ، بل فقط في تطوير «مجتمع مدني عالمي» هدفه البعيد هو إرساء «ديمقراطية كسمو-سياسية»، أي قائمة على نوع من «المواطنة العالمية».

إن ما أُطلق عليه اسم «ثورات الربيع العربي» هي أحداث وقعت وتقع «ما بعد الدولة الأمة»، وليس في أوروبا القرن التاسع عشر، حيث لا تزال «الشعوب» تثور باسم المشاعر القومية. وهذا وضع فلسفي بكر، وليس فسحة إيديولوجية للتعبئة الهووية. وهو وضع بكر في معنى مفهومي أيضًا. وثمة شكوى فلسفية متواترة من عدم توفر أدوات التحليل المناسبة أو من الراهنية المزعجة التي تمنع التفكير الفلسفي من الاشتغال البعيد المدى. وهذا في الحقيقة ليس خاصية فلسفية في معنى «الربيع العربي» بل في كل أحداث هاتين العشريتين الأوليين من القرن الواحد والعشرين. قرن «الما-بعد».

وإنه من المثير للاستغراب أن عديد الفلاسفة الغربيين المعاصرين، من قبيل آلان باديو وسلافوي جيجيك وأنطونيو نغري، لم يفهموا ما حدث لنا، ووقفت تعليقاتهم على «ثورات الربيع العربي» عند محاكاة مترددة وملتبسة للنماذج الأوروبية عن «الثورة».

يقول، مثلًا، آلان باديو: «مَن لا يرى، بالفعل، أن الانتفاضات في العالم العربي هي قريبة جدًّا، شكلًا ومضمونًا، من الانتفاضات التي حصلت في العالم الأوروبي حوالي سنة ١٨٤٨م؟ في الحالتين، يتعلق الأمر بإسقاط صروح استبدادية تم إرساؤها و/أو صيانتها بثمن باهض من طرف الحلف المقدس للقوى الكبرى. وفي الحالتين، كان هذا الحلف المقدس — الدول الملكية في ١٨٤٨م و«الديمقراطيات» في ٢٠١١م — يتخذ هدفًا له أن يفرض بشكل كوني السلطة غير المحدودة للأوليغارشيات المالية. وفي الحالتين، كان هذا الهدف هو ضبط حالة استقرار مانعة للثورات بشكل نهائي، تكون، بالفعل، نحوًا من «نهاية التاريخ».»

ماذا يفيدنا هذا القول الفلسفي في فهم ما وقع تحت اسم «ثورات الربيع العربي»؟ علينا أن نركز على مصطلح «الانتفاضات» soulèvements: هو يعني حركة تمرد واسعة ضد معتدٍ أو ظالم أو مضطهد. وفي موضع آخَر من كتابه يقظة التاريخ٤ يسمي باديو ما وقع باسم «الفتنة» أو «القلاقل» émeutes، أي حركة هيجان واسعة، عفوية وغير منظمة، تقف عند مجرد تجمع ضخم تختلط فيه الأصوات والصراخات والهتافات والاصطدامات. وفي تقدير باديو أن ما وقع هو «اضطرابات» تنطوي على «وعود» لم تصبح بعدُ «ثورة». وبالطبع لا يقصد بذلك سوى القالب المفهومي الذي ترسخ عن فكرة الثورة منذ كانط. وعلى الرغم من أن باديو يصوغ السؤال بالطريقة المناسبة، قائلًا: «هل نحن معاصرون لحدث سياسي ذي مدى كوني وقع في مكان مخصوص، هو العالم العربي؟»، فإن إجابته جاءت مخيِّبة للآمال.

بقي أن علينا الإقرار بأن هدف باديو ليس نقد هذه الثورات أو التهجُّم الأخلاقي عليها. ومن الممكن جدًّا أن نقرأ كلامه عن «الانتفاضات» وليس عن «الثورات» باعتباره تأصيلًا فلسفيًّا لنوع جديد وغير مسبوق من «الأحداث السياسية» في زمن العولمة أو ما بعد الدولة الأمة. هذا النوع من قلب الحكم هو «انتفاضة» أو «هيجان» وليس «ثورة» في معنى نظري وتاريخي منهجي وبسيط، ألا وهو أنه لا يتطابق مع فكرة الثورة الأوروبية. ليس أكثر. لكن عدم المطابقة يمكن أن يكون أهم ما ينطوي عليه هذا الذي «حدث» خارج فكرة الثورة الحديثة، من طرافة وخطورة فلسفية.

يقول باديو: «مكان: مثلًا، ميدان التحرير. المجموعات المعارضة — شباب بلا شهادات وطلبة، عمال ومثقفون، دينيون ولائكيون — يتوحدون من أجل النضال سوية. الهدف: قلب السلطة. ولكن من دون برنامج: الهيجان لا ينتظر أن «نعطيه» شيئًا ما (الخبز، الحقوق)، بل هو يفتح إمكانات غير مسبوقة. وفي كبريائه، يعتقد الغرب أنه يلبي «مطلب» الديمقراطية. لكن الهيجان لا يطالب، بل يؤسس. هو يخترع واقعه الخاص. هو خلاق.»

والدرس الفلسفي هنا هو أنه بدلًا من هجاء مواقف الفلاسفة الغربيين من ثورات العرب، على العرب أن يتفلسفوا من الجهة التي تركها الغرب لهم، نعني من جهة عجزه عن مساعدتهم فلسفيًّا. ومن المهم أن نقرَّ بأن مَن لا يساعدنا في معنى أنه يكتفي بالتنبيه على عدم مطابقة ما يقع لنا مع فكرة الثورة الحديثة، هو أكثر نبلًا فلسفيًّا من أي مساعدة أداتية، فاقدة الأهلية أو أخلاقية أو جمالية. ويبدو لنا أن هذا العتاب الفلسفي يمكن أن نتوجَّه به إلى محاولات فلاسفة كثر من قبيل نغري وجيجيك وشومسكي.

يقول نغري في رسالة عن تونس بعث بها إلى صديق (طالب سابق له قبل عشرين سنة): «إن الانتفاضة قد خلقت قوى جديدة: كيف يمكن استعمالها؟ عزيزي أ.، إنه فقط على ما هو مشترك وعلى تدبير المشترك إنما يرتكز منذ الآن مستقبل جيلك ومستقبل أبنائك. بلا شك، إن الكارثة التي ورثتموها لن تسقط في ضربة واحدة، فما إن تمحي غيوم الانتفاضة، حتى تصبح أولوياتكم أن تفكروا وأن تقرروا حول كل ذلك. لكن جهاز حكومة مؤسسة constituant لا يمكن أن يتعلق إلا بما هو مشترك. لا تتركوا مشروع المشترك (هذا أيضًا هو من مهامك، أيها الرفيق أ.) إلى الإسلاميين. فإنما تحت راية بروباغندا مزيفة هو قد قاموا بعدُ بتطوير نشاطاتهم.»
لا يختلف نغري، فيلسوف الإمبراطورية، ما بعد الماركسي، في توصيفه لماهية الثورة التي تجرأت عليها الشعوب العربية، عن زميله الشيوعي باديو: إن الأمر يتعلق بضرب من «الانتفاضة» insurrection وليس بالثورة. ومع ذلك هو يقر بأن «قوى جديدة» قد نجمت عن هذه الانتفاضة. والسؤال هو: كيف «استعمالها»؟ علينا أن نرى إلى ما في مصطلح «الاستعمال» من طابع أداتي وخارجي. يفترض نغري أن «المناضل» هنا هو الذي يعرف «كيف يستعمل» القوى الجديدة التي أفرزتها هذه «الانتفاضة». وهذا يعني أمرين على الأقل: من جهة أولى، أنها حدث لا يملك تأويله في ذاته أو من داخله؛ ومن جهة أخرى، أنها أنتجت قوى جديدة بلا «مشروع». وهكذا يتمثل الفهم الفلسفي للثورة التونسية هنا، الذي يقترحه نغري على «الرفيق»/الصديق غير الغربي، في مساعدة مفهومية صريحة، هي فلسفة السلطة التأسيسية التي تقوم على «مشروع المشترك». ومن المفيد أن نعرف هنا أن نغري يميز بين ثنائية «العمومي/الخاص» public/privé، الليبرالية، وبين ثنائية «المشترك/المفرد» commun/singulier، التي هي الصيغة النظرية المناسبة حسب رأيه للتفكير في العيش معًا تحت ضغط الإمبراطورية المعولمة. كل مناضل هو «مفرد» عليه أن يناضل من أجل إرساء «مشترك حر» وتأسيسي، وذلك في مقابل الفرد الليبرالي الذي لا يؤمن بما هو عمومي إلا بقدر ما يؤمن له ويحمي له حقوقه وحياته الخاصة.

وبهذا المعنى، فإن نصيحة نغري الفلسفية هي ليست موجهة إلا إلى «المناضل اليساري» ما بعد الماركسي، والذي يعتبر أن العولمة وليس الدولة الأمة هي الإطار الجديد للنضال. وتتمثل هذه النصيحة في «استعمال» القوى الجديدة التي أفرزتها «الانتفاضة» في تونس من أجل «مشروع المشترك» العالمي والمعولم. وفجأةً تبدو ثورات الربيع العربي حدثًا جانبيًّا ومحليًّا على المناضلين ضد العولمة أن يستعملوه أداتيًّا لصالح قضية أكبر. وهي في آخِر المطاف قضية «الغرب».

ولا يبدو أن جيجيك يختلف عن نغري إلا في نبرته الخطابية ومفرداته.

يقول سلافوي جيجيك: «ما يحدث في مصر هو الدليل الأقصى على أن الفكرة الكلبية القاضية بأن الشعوب المسلمة تفضل الدكتاتورية والأصولية الدينية على الديمقراطية هي خاطئة تمامًا. وما حدث في تونس، وما يحدث الآن في مصر، هو على وجه التحديد، هو الثورة الكونية من أجل الكرامة وحقوق الإنسان والعدالة الاقتصادية. إنها النزعة الكونية وقد أخذت طريقها!»

قد ينمُّ هذا القول عن اهتمام فلاسفة الغرب بما يحدث في أفق شعوبنا. وهذا ربما كان مكسبًا فلسفيًّا بحد ذاته. ومع ذلك فهذا النوع من الأقوال لا يعدو أن يكون تعليقًا معولمًا عما يحدث خارج «العالم» كما سطرته الفلسفة الغربية تحت لافتة عصر التنوير أو حدث الأنوار. والمفهوم المركزي في هذه التنويرية لبقية الشعوب هو النزعة «الكونية». ولكن مَن قال إن الكوني كما قدمته فلسفة الأنوار هو نوع «الكلي» الوحيد المناسب لجميع الشعوب، ولا سيما في لحظات «الثورة» على نمط الاستبداد الخاص بها؟ ما يريد جيجيك قوله هو أن «ثورات الربيع العربي» هي من الناحية الفلسفية لا يمكن التفكير فيها أو لا يمكن فهمها إلا في داخل معجم الفلسفة السياسية الغربية منذ كانط: «الثورة الكونية من أجل الكرامة وحقوق الإنسان والعدالة الاقتصادية». هذا التأويل الكونوي universaliste ليس بريئًا في شيء، بل هو جزء لا يتجزأ من تصور العلاقة الغربية مع الشعوب «غير الغربية»، وبالتالي مع ما «يحدث» في أفقها. لا يجد جيجيك، وهو مفكر ذو شطحات تخريبية وتفكيكية رائعة، أي حرج يُذكر في أن يعتنق النزعة الكونية وينقلب فجأةً من مناضل ماركسي ما بعد حديث إلى مفكر أنواري وأوروبي حداثوي تقليدي. وعلينا أن نتساءل: لماذا يفترض جيجيك أن «ثورات الربيع العربي» يجب أن تأخذ «طريقها نحو النزعة الكونية»؟ لماذا يفترض ضمنًا وصمتًا أن البُعد الكوني كما ضبطه الغرب هو الأفق الأخلاقي الوحيد لأي ثورة سياسية يقوم بها شعب غير غربي؟
بقي أن علينا أن نقر بأن قصد جيجيك ليس عدائيًّا في شيء، بل فقط هو لا يملك أي عدة مفهومية أخرى لتقييم ما وقع خارج الغرب. ورغم كل شيء ثمة مكسب أخلاقي مهم تنطوي عليه كتابات جيجيك حول الثورات العربية، ألا وهو جرأته على فضح «نفاق» الغرب في تعامله مع هذه الثورات،٥ وخاصة وعيه بأن العولمة هي مسئولة بشكل حاد عن المآل الأصولي للدول الإسلامية. قال: «قبل ثلاثين عامًا، كانت أفغانستان إحدى أكثر الدول علمنة في العالم الإسلامي. وإنه فقط بدخولها في السياسة المعولمة هي قد صارت دولة أصولية.»

ومن الغريب أن نعوم شومسكي لا يختلف كثيرًا عن زملائه الغربيين وإن كان أشدهم صراحة «نقدية» إزاء مواقف الغرب من ثورات الربيع العربي. فهو ما فتئ ينبِّه إلى أن عواصم الغرب لا يهمها من تلك الثورات إلا أن «تستوعبها» وتحولها من «ثورات شعوب» إلى «مجرد ثورات بلاطات» وخاصة العمل على «إعادة إرساء وضعية مطابقة تقريبًا للوضعية السابقة». وخاصة أن الغرب هو مرعوب من إمكانية ظهور ديمقراطيات عربية لا تدين له بشيء في شرعية سلطتها أو في استقلالها الاقتصادي. وأن الإسلام الراديكالي لا يقلق الغرب بقدر ما يقلقه ظهور دول علمانية وديمقراطية مستقلة.

قال شومسكي: «إن التهديد الحقيقي هو الاستقلال. وإن الولايات المتحدة وحلفاءها قد ساندوا الإسلاميين الراديكاليين بشكل منتظم، وفي بعض الأحيان من أجل إزالة خطر نزعة قومية لائكية».

بَيْد أن أهم ما ينبغي الاحتفاظ به من مقالات شومسكي عن ثورات الربيع العربي هو وعيه الصريح بأن ما وقع هو «غير قابل للمقارنة مع أي شيء آخر». وخاصة أن العنوان الأكبر لهذه الثورات، وهو ما يخيف الغرب فعلًا، هو تحقيق «الاستقلال» بجميع معانيه. وتكمن المساعدة الفلسفية هنا في أمرَين: من جهة، «أصالة» لا جدال فيها في هذه الثورات؛ ومن جهة، أن العنوان الأخلاقي الأكبر فيها هو «الاستقلال». بَيْد أن هذا التعليق لا يرتقي إلى رتبة التأسيس النظري لما وقع، ولا إلى رتبة التأويل الفلسفي الذي يمكن أن يساعدنا من الداخل على التفكير في مستقبلنا. مكاسب نقدية وأخلاقية تبقى أداتية وغير مستعدة للتعرف على «هوية» تلك الأصالة المشار إليها، ولا هي قادرة على فهم دلالة ذلك «الاستقلال» غير الغربي وعن الغرب في آنٍ.

علينا أن نذكر بأن فلاسفة الغرب قد الْتَقوا بالإسلام في سياقات شتَّى، من كانط إلى نيتشه، ومن هيغل إلى فوكو ودريدا، ومن فيبر إلى هابرماس. وهو يملكون تراثًا تأويليًّا وتاريخيًّا ضخمًا حوله. لكنهم حينما وقعت «ثورات الربيع العربي» سارع المتفلسفة والمثقفون عندهم إلى تسميتها بشكل «أوروبي»، ولم يكلفوا أنفسهم أي جهد للإنصات إلى النبرة «العربية» أو «الإسلامية» للحدث. لا جدال في أن الاسم له دور استراتيجي وتأويلي حاسم. وصار من الممكن أن نزعم أن هذه التسمية قد ألحقت ضررًا تأويليًّا جسيمًا بالثورات العربية الراهنة. بل صار عائقًا إيبستيمولوجيا يَحُول دون فهمها. وعلينا أن نسأل: لماذا؟

حين سقط جدار برلين في نوفمبر ١٩٨٩م، «جدار الفضيحة» من جهة «العالم الحر»، و«جدار الحماية من الفاشية»، من الجهة الأخرى، انطلقت كل أنواع نزاع الاعتراف من عقالها، أو هكذا يبدو. وكان فرنسيس فوكوياما، الباحث في الليبرالية الجديدة، قد اقتنص تلك اللحظة التأملية الفارقة أولًا في مقال طريف أخذ عنوانا مرآويًّا هو «نهاية التاريخ؟»، ظهر في مجلة المصلحة القومية في صيف ١٩٨٩م،٦ ثم في كتاب ذاع صِيته منذ ١٩٩٢م تحت عنوان نهاية التاريخ والإنسان الأخير،٧ محاولًا تجميعها في استنتاج كبير يشبه السرقة الميتافيزيقية: أن صراع الإيديولوجيات قد انتهى وأن الإجماع قد حصل حول الديمقراطية الليبرالية باعتبارها هي نهاية التاريخ. وما على بقية الشعوب سوى التخلي عن ثقافاتها غير القادرة على تأمين مسارات الاعتراف اللازمة لأفرادها، والالتحاق بركب العالم الحر الذي أخذ طريقه نحو مستقبل الإنسانية.
لا شك أن فوكوياما قد غيَّر رأيه فيما بعد.٨ لأن «ما بعد» فترة المحافظين الجدد لم تكُن ديمقراطية جدًّا،٩ ولأن فكرة «سقوط أمريكا»١٠ نفسها أصبحت واردة، ولأنه لم يعُد يمكن تجنُّب السؤال عن «مستقبل التاريخ» الغربي، عما إذا كانت الديمقراطية الليبرالية قادرة على النجاة هي بدورها من أزمتها الخاصة …١١ إلخ.
لكن ما يهمنا نحن في هذا البحث هو إقامة السؤال التالي: ما الذي حدث في بنية العالم المعاصر بحيث استجدَّ ثورانُ الشعوب في وجه الدولة-الأمة، تلك التي تمخَّضَت عن فرضية حروب التحرير أو عن الاستقلال ما بعد الكولونيالي، وفرض نفسه كأفق لتجارب المعنى التي يستحق أن يعيشها أفراد «ما بعد جدار برلين»؟ هل هو فشل وعود الشيوعية؟ أم هي ما سمَّاه نيتشه ذات مرة «غريزة الحرية» وهو ما يعني صراحة في مصطلحه «إرادة الاقتدار»١٢ الثاوية في كل نموذج عيش؟ كيف انقلبت نهاية القرن العشرين المبكرة من بشارة فوكوياما بحاجة الشعوب (غير الغربية) إلى خوض نزاعات الاعتراف بذاتها، إلى إعلان بن لادن الحرب الدينية على الحداثة الغربية؟ ألَا يشكِّل الدين هو بدوره ضربًا من نزاع الاعتراف، وبالتالي أفقًا مناسبًا للثورات الراهنة؟ أم إن الأديان لا يجوز لها من ذات نفسها أن تؤدي إلا إلى نزاعات اعتراف بلا ذات؟

نحن نفترض أن ما وقع في أفق العرب منذ ٢٠١١م هو ثورة بالمعنى الأصيل، وأكثر من ذلك، هو ثورة في معنى غير مسبوق. ولا نستطيع أن ننظر إلى الارتباك الفلسفي الفاضح التي ترجرج تحت تعليقات الفلاسفة الغربيين من قبيل باديو ونغري وجيجيك على «ثورات الربيع العربي» إلا على أنه أمارة مؤكدة على الطابع الاستثنائي لهذه الثورات وعدم تطابقها مع أي نموذج جاهز عن فكرة الثورة في تقليد الفلسفة الغربية.

نحن نحتفظ فقط بإشارة هابرماس إلى ضرورة الإقرار بأن العولمة قد وضعت مفهوم الدولة-الأمة في وضع «ما بعد-سيادي» وبالتالي فتحت الطريق أمام ظهور «ترسيمة ما بعد قومية» للوجود السياسي للشعوب. وإنه بهذا المعنى الدقيق يمكننا أن نتأوَّل الثورات العربية باعتبارها «ترسيمة ما بعد قومية» لشكل الدولة، قرأها العرب الحاليون أنفسهم باعتبارها شكلًا «ما بعد-دكتاتوري» من الحكم.

صحيح أن دخول الإسلاميين في تونس أو في مصر على ركح الأحداث ما بعد الهووية قد خلق وضعًا جديدًا: الاستيلاء الانتخابي على الثورات ما بعد القومية وتحويلها إلى مشروع بناء مشترك سياسي من نوع آخَر. وإن الخلط الإسلاموي المتعمد بين «المدني» و«العلماني» إنما يسير في نفس الخطة: إعادة صياغة هووية للثورة وربطها بحركة «تأصيلية» سابقة عليها تجد في المفهوم الديني «للأمة» سندها المعياري العميق. وفجأةً دخل المثقفون والساسة في نقاشات مريبة تستثمر في الخلط المتعمد بين الحرية والهوية، بين النضال والجهاد، بين الدولة والأمة. والحال أنه آنَ الأوان لإعادة النقاش الفكري حول الثورات العربية إلى إطارها الفلسفي الصارم: أنها ثورات «ما بعد الدولة-الأمة» في ماهيتها، ولا يمكن ولا يجوز أبدًا لأي مفكر أو منظِّر أو مؤرخ أن يسرقها من أصحابها باسم أي نوع من الصلاحية أو المشروعية أو الأصالة.

يتعلَّق الأمر فلسفيًّا بثورات حرية ولا يمكن تحويلها إلى ثورات انتماء إلا بمغالطة. لقد تمَّ فجأةً تحويل ثورات الحرية إلى نزاعات هووية حول حرمة المقدسات أو حدود الحياة الخاصة أو الإلحاد الشخصي … إلخ. كان القصد هو إفراغها من بُعدها المدني «ما بعد القومي» و«ما بعد الدكتاتوري» واختزالها في معادلة مزيفة عن رسالة «الأمة». صحيح أن المثقف الهووي للدولة الأمة (في العصر الدكتاتوري والتعبئة الهووية للشعوب) قد انتهى، وتحوَّل في بعض الساحات إلى مهرج سياسي، لكن تعويضه بالمثقف الإسلاموي لما بعد الدولة-الأمة كان كارثة أخلاقية أفرغت هذه الثورات من طاقتها التحرُّرية وحوَّلَتها إلى محاكاة سيئة وغير مباشرة لنموذج الحكم الهووي الذي تم إسقاطه.

ما أدى إلى اندلاع الثورات العربية ليس الهواجس الدينية. بل فشل الحاكم الهووي (حاكم الدولة-الأمة) في التعويل على النموذج الإيديولوجي (الخلط بين المواطنة والهوية وبين الدولة و«الثورة القومية») في تأجيل معارك الحرية المدنية. وكان الجميع (من يسار وليبراليين) يُراهن على نجاح هذه الثورات وعلى إمكانية مرور العرب إلى طور آخَر من تاريخ أنفسهم. وفجأةً وقع انزلاق استراتيجي في حصاد نتائج واستحقاقات الثورة: من ثورة مدنية هي قد تحوَّلَت إلى ثورة هووية. وقد نجح ذلك إلى حد خطير بسبب المحاكاة السيئة بين نموذج الدولة-الأمة القومية الذي لا يزال تحت الرماد، وبين نموذج الدولة –الدينية الذي أخذ يطل برأسه من وراء الأحداث. وهي في جوهرها محاكاة هووية: نفس مفهوم «الأمة» يعود إلى الاشتغال بمضمون أوسَع وأكثر جرأةً على التعولم. وبكلمة واحدة: كانت دعوى «الأمة» أكبر من أفق الدولة القومية، ولذلك حين زاحمها الإسلاميون (الإخوانيون ثم الجهاديون) على ذلك الأفق «الأممي»، وجدوا أنفسهم أقدَر منها على بسط صلاحية هذا المفهوم لما يتوفَّر عليه الدين الإسلامي خاصة من قيم أو أفكار أو انفعالات «العالمية». ومن عالمية الدين تم الانتقال بسلاسة مريبة نحو «التعولم» أي مجاراة العولمة والاستثمار «الهووي» فيها بشكل أداتي بحت، دون أي اعتناق حقيقي للنزعة «الكونية» التي تنطوي عليها أو تأتَّت منها.

بهذا المعنى يمكن الحديث عن سرقة أخلاقية أو هووية ﻟ «حدث» الثورة (ما بعد الدكتاتورية) وتحويلها بسرعة معولمة إلى «مشكلة إسلامية». مع أن هذه «المشكلة الإسلامية» (أو الإرهاب) إنما تُعاني منها كلُّ الدول الكبرى المعاصرة ولا علاقة لها بالثورات العربية منذ ٢٠١١م. والنتيجة المزعجة هي تحول «الثورات» إلى «اضطرابات» أو «حروب» أهلية، تعيشها شعوب في طور الانتقال من العصر الدكتاتوري إلى مرحلة مدنية ما بعد-دكتاتورية. والمثقف ما بعد الدكتاتوري لم يعُد يجوز له الانخراط في أي نزاع هووي أكان قوميًّا أو دينيًّا أو إيديولوجيًّا. وذلك أن الوضع الآن هو «فوضى» حريات، أو «اضطرابات» و«حروب» اعتراف ما بعد هووية، لا نجد لها أي سند فكري قوي إلا على صعيد براغماتي فقط.

ارتدَّت الثورات إلى «أحداث» وليس إلى عمليات انتقال ديمقراطية. وإن المعجم المستعمل لفهمها هو في الغالب معجم (إيديولوجي) سابق عليها. نفس تصنيفات العصر الإيديولوجي عادت إلى الخدمة. والحال أن تلك الثورات لم تقع تحت اسم الدولة-الأمة ولا هي حروب تحرير. ولا معنى للاستقلال القومي أو الديني في أفقها. ربما يرى البعض هشاشتها في كونها ثورات بلا أبوة قومية مناسبة. لكن السؤال الفلسفي الأجدر بالطرح إنما هو هذا: إلى أي مدى تستطيع هذه الثورات ما بعد الدكتاتورية أن تنفتح على مستقبل مدني من نوع جديد؟ وخاصة لشعوب مثقلة أيما إثقال بالأعباء الهووية طويلة الأمد؟ وربما يسأل أحدنا: هل أساءت هذه الشعوب طرح مسألة الانتقال إلى ما بعد نطاق الدولة-الأمة؟ هل تعجَّلَت في خوض معارك الحرية المدنية، والحال أنها لم تُشفَ من معارك الهوية؟

قال دريدا في مساق حوار عن الإرهاب بعد ٢٠٠١م: «ينبغي مساعدة ما يُدعى الإسلام، وما يُدعى «العرب»، على تجاوز هذه النزعات الدغمائية العنيفة. يجب مساعدة أولئك الذين يكافحون ببطولة في هذا الاتجاه نحو الداخل. يمكن أن يعني ذلك السياسة بالمعنى الضيق للعبارة، بقدر ما يعني ذلك تأويل القرآن.»١٣

والسؤال المقابل هو: هل يمكن فعلًا مساعدة «ثورة» من خارجها؟ من أفق «ثورات» أخرى؟ صحيح أننا اليوم قد صِرنا نتكلَّم أكثر من لغة حول أنفسنا. ولكن هل يعني ذلك أننا في حاجة إلى «مساعدة» فلسفية من الغرب حتى نفهم أنفسنا الجديدة؟

علينا أن نستحضر هنا قولًا مقابلًا يعود إلى مصدر إلهام دريدا الدائم، نعني هيدغر. قال في مقابلة نُشرت بعد موته، مع مجلة دير شبيغل الألمانية، في سنة ١٩٦٦م، حين سُئل هل يمكن «مساعدة أوروبا» من طرف ثقافات «الشرق» في السيطرة على الماهية التدميرية للتكنولوجيا:

«أنا على قناعة من أن تغييرًا ما لا يمكن أن يتهيَّأ إلا من نفس الموقع من العالم الذي منه صدر العالم التكنولوجي الحديث. لا يمكن أن يأتي هذا التغيير من اعتناق بوذية الزان أو تجارب شرقية أخرى من العالم. إن مساعدة التراث الأوروبي وحدوث تملُّك جديد لهذا التراث هما ضروريان من أجل حصول تغيير في ماهية التفكير. لكن التفكير لن يحصل فيه أي تحوُّل عميق إلا بواسطة تفكير له نفس الأصل ونفس القدر.»

هذا الموقف الفلسفي ينطبق بشدة على علاقتنا بأية «مساعدة» فلسفية تأتي من فلاسفة الغرب حول تأويل الثورات العربية منذ ٢٠١١م. لا يمكن لأي جهة فلسفية غريبة عن تراثنا العميق أن تفسر معنى ما حدث لنا إلى حد الآن.

ويبدو أن الحاجة إلى المساعدة المفهومية متأتية من الإحساس المزعج بأننا لا نتوفر على المفهومات المناسبة للتفكير في ما «حدث». لكن واقع الأمر هو أن فلاسفة الغرب أنفسهم لم يتوفروا على هذا النوع من المفاهيم المناسبة حينما اصطدموا فجأةً أو حين فاجأتهم «أحداث أيلول ٢٠٠١م». ومَن يقرأ نصوص دريدا وهابرماس وبودريار وسلوتردايك وغيرهم حول «الإرهاب» يتفطَّن بجهد يسير إلى غموضة شديدة في طروحاتهم وخاصة إلى عوز مفهومي فظيع منعَهَم من مساعدة فهمهم لأنفسهم من الداخل.

ولو أخذنا في الحسبان أفضلهم وأكثرهم جاهزية للتفكير في هذا الذي «لا يمكن التفكير فيه»، ونعني بالطبع جاك دريدا، نحن نعثر على هذا الإقرار الفلسفي الموجع.

قال: «يبدو لي أن محنة الحدث، أو ما هو في صميم المحنة، أو ما ينفتح على التجربة ويقاومها، في آنٍ معًا، هو شكل من عدم القدرة على فهم ما يحدث. الحدث هو ما يأتي، وبمجيئه يقوم بمفاجأتي، بمفاجأة الفهم وتعليقه: فالحدث هو أولًا ما لا أفهمه أولًا. وبشكل أفضل أقول: الحدث أولًا ما لا أفهمه. إنه يتألف مما لا أفهمه. وما لا أفهمه هو أنني لا أفهم أولًا حقيقة عدم فهمي. هذه هي الحدود الداخلية والخارجية، في آنٍ، التي أحاول تأكيدها هنا: على الرغم من أن تجربة الحدث … تستدعي منَّا حركة تملُّك (أي: فهم واعتراف ومطابقة ووصف وتحديد ومعرفة وتسمية وتأويل، انطلاقًا من أفق التوقع … إلخ)، فإنه لا يوجد حدث جدير بهذا الاسم، إلا حيث يسقط  échoue هذا التملك فوق حدٍّ ما. فوق حد بلا جبهة وبلا مواجهة، حد لا يصطدم به عدم الفهم مجابهةً؛ إذ ليس له جبهة صلبة: إنه يفرُّ، يظل مراوغًا، مفتوحًا، ملتبسًا، غير قابل للتحديد. من هنا يكون عدم القدرة على التملك، عدم التوقع، المفاجأة المطلقة، عدم الفهم، خطر سوء الفهم، جدة عدم التوقع، الفرادة الخالصة، وغياب الأفق.»١٤
كل مواصفات «الحدث» الذي فكر به هيدغر وشرحه دريدا هنا إنما هي متوفرة في «حدث» الثورات العربية منذ ٢٠١١م: هي تجربة، وليست نظرية جاهزة حول مستقبلنا. وهي تفرض علينا وضعًا مزدوجًا ومفارقيًّا: أن ننفتح على أفقها وأن نقاومها في نفس الوقت. الانفتاح يعني تحت قلم هيدغر ودريدا نمط التفكير الذي يفكك كينونة «الحدث» بحيث يعثر على الشفرة الفاصلة بين ما نقوله عنه وما يقوله لنا بشكل مسكوت عنه أو لا مفكر فيه. وهو حدثٌ عدمُ فهمه جزء من ماهيته. وعدم الفهم هنا لا يمكننا تحديده إلا من خلال تمييز كالذي اقترَحَه فرويد في مستقبل وهم، بين الوهم والخطأ: إن الثورة وهمٌ لكنها ليست خطأً. وبهذا المعنى فالثوار «يفشلون» ولكنهم لا «يخطئون» (!). ليس عدم فهم الثورة مشكلًا؛ بل كوننا لا نفهم «عدم فهمنا لها» هو نكتة الإشكال التي أثارها دريدا. وهذا النوع من التخريج الفلسفي من شأنه أن يضع كل تأويليات المعنى الدارجة في الفلسفة الغربية موضع سؤال. والأغلب أن ثمة مسحة صوفية تصاحب كل حديث عن الثورة. وهو ما يبرز كبديل مزعج عن غياب المفاهيم المناسبة. والثورة تستدعي منا حركة «تملك» نظري لوقائعها؛ لكن الاطلاع على الوقائع لا يُغني في شيء عندما نطرح أسئلة الفهم وخاصة عدم الفهم كموقف إيجابي وعنيد في قصة أنفسنا الجديدة، وليس كمجرد خطأ منهجي. وهنا نصل إلى بيت القصيد في تحليل دريدا: لا يُسمى «حدثًا» إلا ما فشلنا في تملكه، دون أن نواجهه حقًّا. لا يطرح حدث الثورة مشكلًا سوسيولوجيًّا يمكننا أن نجتهد في دراسته والسيطرة عليه من خلال الإحصاءات والاستبيانات. هو لا يواجهنا لأنه لا يرانا. إن حدث الثورة ملتفت نحو المستقبل. ونحن في أكثر الأحوال نحاصره من ناحية التغييرات التي فرضها على نمط علاقتنا بأنفسنا الجديدة، أي بعد تخلخل نموذج الدولة الأمة. «عدم القدرة على التملك، عدم التوقع، المفاجأة المطلقة، عدم الفهم، خطر سوء الفهم، جدة عدم التوقُّع، الفرادة الخالصة، وغياب الأفق» كل هذه السمات الفينومينولوجية التي تؤثِّث «معنى» الحدث هي في الحقيقة لا تقدم لنا «مفهومًا» عن الثورة، بل فقط طريقة مناسبة في سرده وتحويله إلى «هوية قصصية» جديدة لأنفسنا المعاصرة.

ثمة ما يشبه «الحدث العاري» (حسب عبارة دريدا عن الإرهاب) يواجهنا دون أن نراه. ونسأل: كيف يمكننا التفكير في حدث «عار»، عارٍ من جميع الأقنعة المفهومية التي كرَّسها العصر الإيديولوجي للدولة-الأمة. وحين يغيب «المفهوم» نحن نحصل بشكل رسمي ومزعج على «حدث». لكن باب الأسئلة لا ينبغي أن يُغلق حول أنفسنا الجديدة: هل أنتج «الربيع» ما بعد الدكتاتوري «فكرة» جديدة حول أنفسنا؟ هل يحق للشعوب أن تدخل في مرحلة «تجريبية» من حياتها بعد كل أنواع التأجيل الأخلاقي لإثبات نفسها بوسائلها الخاصة منذ ظهور الدين التوحيدي في أفقها؟ ثورات الربيع العربي هي أيضًا حدث تأويلي أدَّى إلى إسقاط أفق مفهومي أو فلسفي بأكمله. إنه أفق المثقف القومي وفلسفته. أجل: إن الشعوب قد «تخلَّت» عن حكامها الهوويين، وصارت تفضل الدخول في المستقبل من دونهم، نعني من دون أجهزة «الزعامة» التي فرضوها لأجيال عديدة.

لكن ظهور الإسلاميين دفع بالتفكير في الثورة نحو جهة تبدو فيها أحداث الحاضر وكأنها أحداث في الماضي. وإن أكبر اعتداء أخلاقي أو فكري على هذه الثورات هو تجريدها من قدرتها على المستقبل. ولذلك فإن التناول الفلسفي المناسب لها هو ذاك الذي يكف عن التشريع الهووي لمعناها في مساحة ما يفهمه فقط. ومن ثَم هو ذاك الذي يتفرغ أيضًا لمساءلة ما لا يمكن فهمه بوصفه أكثر ما يدعونا إلى التفكير بإطلاق. وإن أكثر ما لا يمكن فهمه إلا أنه أكثر ما يدعونا إلى التفكير هو بالتحديد ذاك الذي يحدث دون أي هوية جاهزة عنه تسمح بضبط طبيعة العلاقة المعيارية معه.

نعم، ثمة خوف من التفكير في «اللاهوية» أخذ يظهر على السطح، وقد صارت سمة مميزة لمرحلة ما بعد الدولة-الأمة. لأول مرة في أفق العرب المعاصرين، الثورة لا تنتمي إلى الدولة. والشعوب لا تنتمي إلى الهوية. ودور الفلسفة هو هنا أن تحرر الأحداث غير المسبوقة من جملة المفاهيم السابقة عليها. أن تكشف عن لا-هويتها، وعما هو مزعج وغير مفهوم فيها. فربما كان ذلك هو ما هو مستقبلي فينا. على التفكير ألا يدمر الحدث وألا يعوضه بأي فرضية مهما كانت مريحة. فلطالما كانت التعبئة الإيديولوجية للحاكم الهووي تعول على المثقف «الإخصائي» للأحداث غير المسبوقة أو غير الهووية: وبعض التفكير لا يزال نوعًا من الإخصاء المنهجي والمفهومي للأحداث غير القابلة للفهم في نطاق الأدوات النظرية لحقبة الدولة-الأمة. على الفلسفة أن تترك الحدث يتدفَّق في وتيرته الخاصة دون فرض أي تسارع مفهومي عليه. ثمة شيء قادم في هذه الثورات، لكننا لا نراه: إنه «الإنسان» فقط. إلا أن الهوية أو دولة الهوية قد منعته إلى حدِّ الآن من الوصول إلينا. طبعًا، لا أحد يثور إلا داخل تاريخ أخلاقي طويل الأمد لغضبه. ربما أفضل ما فعلته الثورات بنا، كمعاصرين إجباريين لها، هو أنها قذفت بنا في قلب مستقبلنا، إلا أننا لا نزال نعول في التفكير فيها على وسائل الحاضر. ومعضلة الثورة أنها في كرة واحدة حدث (عارٍ) ووعد (بما لم يقَع). الأول صار بعدُ جزءًا من آلامنا العميقة؛ والثاني أفق تشكيلي ما فتئ يبتعد باستمرار. فإن الثورات الراهنة وعود رائعة بشيء لا يصل للأجيال الحالية. وسابقًا، قال درويش ذات قصيد: «طوبى لشيء لم يصل».

١  multitude.
٢  peuple.
٣  J. Habermas, Die postnationale Konstellation, Politische Essays, Frankfurt am Main 1998.
وقد تُرجم إلى الفرنسية تحت هذا العنوان اللافت: Après l’Etat-nation, Une nouvelle constellation politique, Fayard, 2000.
٤  Alain Badiou, Le réveil de l’Histoire, Editions lignes, 2001.
٥  Zizek, Slavoi, “L’hypocrisie de l’Occident quand les peuples arabes se soulèvent,” Libération, 03/02/2011.
٦  F. Fukuyama, “The End of History?”, in: The National Interest, Summer 1989.
٧  F. Fukuyama, The End of History and the Last Man, Free Press, 1992.
٨  F. Fukuyama, “Why shouldn’t change my mind ?”, Los Angeles Times, April 9, 2006.
٩  F. Fukuyama, “After neo-conservatism,” The New York Times Magazine, February 19, 2006.
١٠  F. Fukuyama, “The Fall of America, Inc.,” Newsweek, October 13, 2008.
١١  F. Fukuyama, “The Future of History. Can Liberal Democracy Survive the Decline of the Middle Class?’’, in: Foreign Affairs, January/February 2012.
١٢  نيتشه، في جنيالوجيا الأخلاق. ترجمة فتحي المسكيني (تونس: المركز الوطني للترجمة، ٢٠١٠م).
١٣  جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب. حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا. ترجمة وتقديم خلدون النبواني (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٣م) ص١٨٤.
١٤  جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب. حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا. نفس المصدر، ص١٥٣-١٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤