مديح الشعوب وهجاء الثورات … تمارين في ما بعد الدولة-الأمة
وعلى الرغم من صخب الثوريين «العرب» ومن تتالي نظريات «الثورة» في أفقهم الثقافي منذ خمسينيات القرن الماضي، فإن أكبر إساءة فلسفية حصلت تجاه عقولنا هي الخلط المزمن بين حروب التحرير «الوطني» للشعوب وفكرة الثورة الحديثة في أفق الأفراد/المواطنين. ما عاشته أوروبا في ثوراتها الإنجليزية والأمريكية والفرنسية … إلخ، كان شيئًا مختلفًا تمامًا عن كل مؤلفات العرب المعاصرين عن الثورة، حيث تم البناء الإيديولوجي للدولة باعتبارها أداة الثورة أو شكلها الأساسي. ويمكن أن نزعم أن كل حقبة دول الاستقلال قد كانت حقبة ثورية بلا ثورة. ونعني بذلك أنها كانت حقبة الدولة الهووية، تلك التي استولت على حدث «الاستقلال»، ذلك الوعد ما-بعد الكولونيالي بحرية الشعوب غير الغربية، وحولته إلى جهاز هوية من نوع محدَّد تمامًا: الهوية «القومية» أو «الأمة». أول سرقة فلسفية وقعت في أفق الفكر العربي المعاصر هي سرقة الدولة من جيل الاستقلال، وتحويلها إلى معمل إيديولوجي للهوية. وإلى عهد قريب كان الخلط الرسمي بين الهوية والدولة، ومن ثَم بين الدولة والثورة، لياقة وطنية لا مناص منها.
وحين أتى الإسلاميون، أولًا في شكل حركة «إخوانية»، سرية ومضادة للدولة الحديثة، ثم راهنًا في شكل شركاء «انتخابيين» في إدارة مرحلة «ما بعد الثورة» الراهنة، هم لم يضيفوا إلى المشهد الأخلاقي لأنفسنا المعاصرة أي مفهوم فلسفي يُذكر. لقد اصطدموا أولًا مع نوع «جديد» من المقدسات غير الدينية للمواطن الحديث: حقوقه المدنية وحياته الخاصة وفردانيته واستقلاله الفكري وقيمه الجمالية وحرية ضميره … إلخ، وأعادوا الاستيلاء على فكرة «الاستقلال الوطني» بواسطة نفس خطة الخلط الرسمية بين الدولة والهوية، مع تغيير مضمونها الانفعالي: من الأمة القومية إلى الأمة الدينية. وأخيرًا، امتصاص فكرة «الثورة» واختصارها في جهاز «الدولة» باعتباره حقل السلطة الوجودية للشعب/الأمة الدينية.
هل تغير معنى «الشعب»؟ وكيف عاش العرب ذلك التمييز الذي أقرَّه هوبز وفلاسفة الدولة الحديثة بين «الشعب» (مادة القانون الحديث) و«الجمهور» (مادة اللاهوت السياسي)؟
ينبغي التساؤل عن «الذات» التي «ثارت» وكانت وراء هذه «الأحداث» التي سُميت من «خارج» منطقها الخاص «ثورات الربيع العربي»؟ من المعلوم أن عبارة «الربيع العربي» قد نُسجت على منوال «ربيع الشعوب» أو «ربيع الثورات» التي عرفتها أوروبا في سنة ١٨٤٨م، ومن المعلوم أيضًا أنها كانت ثورات «مقموعة»، وإنْ كانت قد أدَّت في بعض منها على الأقل إلى توحيد ألمانيا مثلًا سنة ١٨٧١م. نحن نتحدَّث في حقيقة الأمر عن «ثورات» مقموعة أو فاشلة. وعلينا أن نسأل: لأي سبب تم اختيار نموذج الثورات الفاشلة أو المقموعة لتوصيف ما حصل في أفق العرب في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين؟ أليس في هذه التسمية نوع من اليأس المفهومي من هذه الشعوب التي لم تثبت جدارتها في إنجاز ما وعدت به حركات التحرير الوطني: أي إنجاز دولة التقدم والديمقراطية؟ ثم فيمَ يكمن وجه الشبه بين شعوب أوروبا الثائرة سنة ١٨٤٨م دون تحقيق أي ثورة ناجحة (في إيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا والمجر ورومانيا وبولونيا …)، وبين شعوب «الربيع العربي» (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا …)، التي ما زالت مُصرَّة على أن ما قامت به هو «ثورة» حقيقية وليس «ربيع ثورات» فاشل؟
إن ما أُطلق عليه اسم «ثورات الربيع العربي» هي أحداث وقعت وتقع «ما بعد الدولة الأمة»، وليس في أوروبا القرن التاسع عشر، حيث لا تزال «الشعوب» تثور باسم المشاعر القومية. وهذا وضع فلسفي بكر، وليس فسحة إيديولوجية للتعبئة الهووية. وهو وضع بكر في معنى مفهومي أيضًا. وثمة شكوى فلسفية متواترة من عدم توفر أدوات التحليل المناسبة أو من الراهنية المزعجة التي تمنع التفكير الفلسفي من الاشتغال البعيد المدى. وهذا في الحقيقة ليس خاصية فلسفية في معنى «الربيع العربي» بل في كل أحداث هاتين العشريتين الأوليين من القرن الواحد والعشرين. قرن «الما-بعد».
وإنه من المثير للاستغراب أن عديد الفلاسفة الغربيين المعاصرين، من قبيل آلان باديو وسلافوي جيجيك وأنطونيو نغري، لم يفهموا ما حدث لنا، ووقفت تعليقاتهم على «ثورات الربيع العربي» عند محاكاة مترددة وملتبسة للنماذج الأوروبية عن «الثورة».
يقول، مثلًا، آلان باديو: «مَن لا يرى، بالفعل، أن الانتفاضات في العالم العربي هي قريبة جدًّا، شكلًا ومضمونًا، من الانتفاضات التي حصلت في العالم الأوروبي حوالي سنة ١٨٤٨م؟ في الحالتين، يتعلق الأمر بإسقاط صروح استبدادية تم إرساؤها و/أو صيانتها بثمن باهض من طرف الحلف المقدس للقوى الكبرى. وفي الحالتين، كان هذا الحلف المقدس — الدول الملكية في ١٨٤٨م و«الديمقراطيات» في ٢٠١١م — يتخذ هدفًا له أن يفرض بشكل كوني السلطة غير المحدودة للأوليغارشيات المالية. وفي الحالتين، كان هذا الهدف هو ضبط حالة استقرار مانعة للثورات بشكل نهائي، تكون، بالفعل، نحوًا من «نهاية التاريخ».»
بقي أن علينا الإقرار بأن هدف باديو ليس نقد هذه الثورات أو التهجُّم الأخلاقي عليها. ومن الممكن جدًّا أن نقرأ كلامه عن «الانتفاضات» وليس عن «الثورات» باعتباره تأصيلًا فلسفيًّا لنوع جديد وغير مسبوق من «الأحداث السياسية» في زمن العولمة أو ما بعد الدولة الأمة. هذا النوع من قلب الحكم هو «انتفاضة» أو «هيجان» وليس «ثورة» في معنى نظري وتاريخي منهجي وبسيط، ألا وهو أنه لا يتطابق مع فكرة الثورة الأوروبية. ليس أكثر. لكن عدم المطابقة يمكن أن يكون أهم ما ينطوي عليه هذا الذي «حدث» خارج فكرة الثورة الحديثة، من طرافة وخطورة فلسفية.
يقول باديو: «مكان: مثلًا، ميدان التحرير. المجموعات المعارضة — شباب بلا شهادات وطلبة، عمال ومثقفون، دينيون ولائكيون — يتوحدون من أجل النضال سوية. الهدف: قلب السلطة. ولكن من دون برنامج: الهيجان لا ينتظر أن «نعطيه» شيئًا ما (الخبز، الحقوق)، بل هو يفتح إمكانات غير مسبوقة. وفي كبريائه، يعتقد الغرب أنه يلبي «مطلب» الديمقراطية. لكن الهيجان لا يطالب، بل يؤسس. هو يخترع واقعه الخاص. هو خلاق.»
والدرس الفلسفي هنا هو أنه بدلًا من هجاء مواقف الفلاسفة الغربيين من ثورات العرب، على العرب أن يتفلسفوا من الجهة التي تركها الغرب لهم، نعني من جهة عجزه عن مساعدتهم فلسفيًّا. ومن المهم أن نقرَّ بأن مَن لا يساعدنا في معنى أنه يكتفي بالتنبيه على عدم مطابقة ما يقع لنا مع فكرة الثورة الحديثة، هو أكثر نبلًا فلسفيًّا من أي مساعدة أداتية، فاقدة الأهلية أو أخلاقية أو جمالية. ويبدو لنا أن هذا العتاب الفلسفي يمكن أن نتوجَّه به إلى محاولات فلاسفة كثر من قبيل نغري وجيجيك وشومسكي.
وبهذا المعنى، فإن نصيحة نغري الفلسفية هي ليست موجهة إلا إلى «المناضل اليساري» ما بعد الماركسي، والذي يعتبر أن العولمة وليس الدولة الأمة هي الإطار الجديد للنضال. وتتمثل هذه النصيحة في «استعمال» القوى الجديدة التي أفرزتها «الانتفاضة» في تونس من أجل «مشروع المشترك» العالمي والمعولم. وفجأةً تبدو ثورات الربيع العربي حدثًا جانبيًّا ومحليًّا على المناضلين ضد العولمة أن يستعملوه أداتيًّا لصالح قضية أكبر. وهي في آخِر المطاف قضية «الغرب».
ولا يبدو أن جيجيك يختلف عن نغري إلا في نبرته الخطابية ومفرداته.
يقول سلافوي جيجيك: «ما يحدث في مصر هو الدليل الأقصى على أن الفكرة الكلبية القاضية بأن الشعوب المسلمة تفضل الدكتاتورية والأصولية الدينية على الديمقراطية هي خاطئة تمامًا. وما حدث في تونس، وما يحدث الآن في مصر، هو على وجه التحديد، هو الثورة الكونية من أجل الكرامة وحقوق الإنسان والعدالة الاقتصادية. إنها النزعة الكونية وقد أخذت طريقها!»
ومن الغريب أن نعوم شومسكي لا يختلف كثيرًا عن زملائه الغربيين وإن كان أشدهم صراحة «نقدية» إزاء مواقف الغرب من ثورات الربيع العربي. فهو ما فتئ ينبِّه إلى أن عواصم الغرب لا يهمها من تلك الثورات إلا أن «تستوعبها» وتحولها من «ثورات شعوب» إلى «مجرد ثورات بلاطات» وخاصة العمل على «إعادة إرساء وضعية مطابقة تقريبًا للوضعية السابقة». وخاصة أن الغرب هو مرعوب من إمكانية ظهور ديمقراطيات عربية لا تدين له بشيء في شرعية سلطتها أو في استقلالها الاقتصادي. وأن الإسلام الراديكالي لا يقلق الغرب بقدر ما يقلقه ظهور دول علمانية وديمقراطية مستقلة.
قال شومسكي: «إن التهديد الحقيقي هو الاستقلال. وإن الولايات المتحدة وحلفاءها قد ساندوا الإسلاميين الراديكاليين بشكل منتظم، وفي بعض الأحيان من أجل إزالة خطر نزعة قومية لائكية».
بَيْد أن أهم ما ينبغي الاحتفاظ به من مقالات شومسكي عن ثورات الربيع العربي هو وعيه الصريح بأن ما وقع هو «غير قابل للمقارنة مع أي شيء آخر». وخاصة أن العنوان الأكبر لهذه الثورات، وهو ما يخيف الغرب فعلًا، هو تحقيق «الاستقلال» بجميع معانيه. وتكمن المساعدة الفلسفية هنا في أمرَين: من جهة، «أصالة» لا جدال فيها في هذه الثورات؛ ومن جهة، أن العنوان الأخلاقي الأكبر فيها هو «الاستقلال». بَيْد أن هذا التعليق لا يرتقي إلى رتبة التأسيس النظري لما وقع، ولا إلى رتبة التأويل الفلسفي الذي يمكن أن يساعدنا من الداخل على التفكير في مستقبلنا. مكاسب نقدية وأخلاقية تبقى أداتية وغير مستعدة للتعرف على «هوية» تلك الأصالة المشار إليها، ولا هي قادرة على فهم دلالة ذلك «الاستقلال» غير الغربي وعن الغرب في آنٍ.
علينا أن نذكر بأن فلاسفة الغرب قد الْتَقوا بالإسلام في سياقات شتَّى، من كانط إلى نيتشه، ومن هيغل إلى فوكو ودريدا، ومن فيبر إلى هابرماس. وهو يملكون تراثًا تأويليًّا وتاريخيًّا ضخمًا حوله. لكنهم حينما وقعت «ثورات الربيع العربي» سارع المتفلسفة والمثقفون عندهم إلى تسميتها بشكل «أوروبي»، ولم يكلفوا أنفسهم أي جهد للإنصات إلى النبرة «العربية» أو «الإسلامية» للحدث. لا جدال في أن الاسم له دور استراتيجي وتأويلي حاسم. وصار من الممكن أن نزعم أن هذه التسمية قد ألحقت ضررًا تأويليًّا جسيمًا بالثورات العربية الراهنة. بل صار عائقًا إيبستيمولوجيا يَحُول دون فهمها. وعلينا أن نسأل: لماذا؟
نحن نفترض أن ما وقع في أفق العرب منذ ٢٠١١م هو ثورة بالمعنى الأصيل، وأكثر من ذلك، هو ثورة في معنى غير مسبوق. ولا نستطيع أن ننظر إلى الارتباك الفلسفي الفاضح التي ترجرج تحت تعليقات الفلاسفة الغربيين من قبيل باديو ونغري وجيجيك على «ثورات الربيع العربي» إلا على أنه أمارة مؤكدة على الطابع الاستثنائي لهذه الثورات وعدم تطابقها مع أي نموذج جاهز عن فكرة الثورة في تقليد الفلسفة الغربية.
نحن نحتفظ فقط بإشارة هابرماس إلى ضرورة الإقرار بأن العولمة قد وضعت مفهوم الدولة-الأمة في وضع «ما بعد-سيادي» وبالتالي فتحت الطريق أمام ظهور «ترسيمة ما بعد قومية» للوجود السياسي للشعوب. وإنه بهذا المعنى الدقيق يمكننا أن نتأوَّل الثورات العربية باعتبارها «ترسيمة ما بعد قومية» لشكل الدولة، قرأها العرب الحاليون أنفسهم باعتبارها شكلًا «ما بعد-دكتاتوري» من الحكم.
صحيح أن دخول الإسلاميين في تونس أو في مصر على ركح الأحداث ما بعد الهووية قد خلق وضعًا جديدًا: الاستيلاء الانتخابي على الثورات ما بعد القومية وتحويلها إلى مشروع بناء مشترك سياسي من نوع آخَر. وإن الخلط الإسلاموي المتعمد بين «المدني» و«العلماني» إنما يسير في نفس الخطة: إعادة صياغة هووية للثورة وربطها بحركة «تأصيلية» سابقة عليها تجد في المفهوم الديني «للأمة» سندها المعياري العميق. وفجأةً دخل المثقفون والساسة في نقاشات مريبة تستثمر في الخلط المتعمد بين الحرية والهوية، بين النضال والجهاد، بين الدولة والأمة. والحال أنه آنَ الأوان لإعادة النقاش الفكري حول الثورات العربية إلى إطارها الفلسفي الصارم: أنها ثورات «ما بعد الدولة-الأمة» في ماهيتها، ولا يمكن ولا يجوز أبدًا لأي مفكر أو منظِّر أو مؤرخ أن يسرقها من أصحابها باسم أي نوع من الصلاحية أو المشروعية أو الأصالة.
يتعلَّق الأمر فلسفيًّا بثورات حرية ولا يمكن تحويلها إلى ثورات انتماء إلا بمغالطة. لقد تمَّ فجأةً تحويل ثورات الحرية إلى نزاعات هووية حول حرمة المقدسات أو حدود الحياة الخاصة أو الإلحاد الشخصي … إلخ. كان القصد هو إفراغها من بُعدها المدني «ما بعد القومي» و«ما بعد الدكتاتوري» واختزالها في معادلة مزيفة عن رسالة «الأمة». صحيح أن المثقف الهووي للدولة الأمة (في العصر الدكتاتوري والتعبئة الهووية للشعوب) قد انتهى، وتحوَّل في بعض الساحات إلى مهرج سياسي، لكن تعويضه بالمثقف الإسلاموي لما بعد الدولة-الأمة كان كارثة أخلاقية أفرغت هذه الثورات من طاقتها التحرُّرية وحوَّلَتها إلى محاكاة سيئة وغير مباشرة لنموذج الحكم الهووي الذي تم إسقاطه.
ما أدى إلى اندلاع الثورات العربية ليس الهواجس الدينية. بل فشل الحاكم الهووي (حاكم الدولة-الأمة) في التعويل على النموذج الإيديولوجي (الخلط بين المواطنة والهوية وبين الدولة و«الثورة القومية») في تأجيل معارك الحرية المدنية. وكان الجميع (من يسار وليبراليين) يُراهن على نجاح هذه الثورات وعلى إمكانية مرور العرب إلى طور آخَر من تاريخ أنفسهم. وفجأةً وقع انزلاق استراتيجي في حصاد نتائج واستحقاقات الثورة: من ثورة مدنية هي قد تحوَّلَت إلى ثورة هووية. وقد نجح ذلك إلى حد خطير بسبب المحاكاة السيئة بين نموذج الدولة-الأمة القومية الذي لا يزال تحت الرماد، وبين نموذج الدولة –الدينية الذي أخذ يطل برأسه من وراء الأحداث. وهي في جوهرها محاكاة هووية: نفس مفهوم «الأمة» يعود إلى الاشتغال بمضمون أوسَع وأكثر جرأةً على التعولم. وبكلمة واحدة: كانت دعوى «الأمة» أكبر من أفق الدولة القومية، ولذلك حين زاحمها الإسلاميون (الإخوانيون ثم الجهاديون) على ذلك الأفق «الأممي»، وجدوا أنفسهم أقدَر منها على بسط صلاحية هذا المفهوم لما يتوفَّر عليه الدين الإسلامي خاصة من قيم أو أفكار أو انفعالات «العالمية». ومن عالمية الدين تم الانتقال بسلاسة مريبة نحو «التعولم» أي مجاراة العولمة والاستثمار «الهووي» فيها بشكل أداتي بحت، دون أي اعتناق حقيقي للنزعة «الكونية» التي تنطوي عليها أو تأتَّت منها.
بهذا المعنى يمكن الحديث عن سرقة أخلاقية أو هووية ﻟ «حدث» الثورة (ما بعد الدكتاتورية) وتحويلها بسرعة معولمة إلى «مشكلة إسلامية». مع أن هذه «المشكلة الإسلامية» (أو الإرهاب) إنما تُعاني منها كلُّ الدول الكبرى المعاصرة ولا علاقة لها بالثورات العربية منذ ٢٠١١م. والنتيجة المزعجة هي تحول «الثورات» إلى «اضطرابات» أو «حروب» أهلية، تعيشها شعوب في طور الانتقال من العصر الدكتاتوري إلى مرحلة مدنية ما بعد-دكتاتورية. والمثقف ما بعد الدكتاتوري لم يعُد يجوز له الانخراط في أي نزاع هووي أكان قوميًّا أو دينيًّا أو إيديولوجيًّا. وذلك أن الوضع الآن هو «فوضى» حريات، أو «اضطرابات» و«حروب» اعتراف ما بعد هووية، لا نجد لها أي سند فكري قوي إلا على صعيد براغماتي فقط.
ارتدَّت الثورات إلى «أحداث» وليس إلى عمليات انتقال ديمقراطية. وإن المعجم المستعمل لفهمها هو في الغالب معجم (إيديولوجي) سابق عليها. نفس تصنيفات العصر الإيديولوجي عادت إلى الخدمة. والحال أن تلك الثورات لم تقع تحت اسم الدولة-الأمة ولا هي حروب تحرير. ولا معنى للاستقلال القومي أو الديني في أفقها. ربما يرى البعض هشاشتها في كونها ثورات بلا أبوة قومية مناسبة. لكن السؤال الفلسفي الأجدر بالطرح إنما هو هذا: إلى أي مدى تستطيع هذه الثورات ما بعد الدكتاتورية أن تنفتح على مستقبل مدني من نوع جديد؟ وخاصة لشعوب مثقلة أيما إثقال بالأعباء الهووية طويلة الأمد؟ وربما يسأل أحدنا: هل أساءت هذه الشعوب طرح مسألة الانتقال إلى ما بعد نطاق الدولة-الأمة؟ هل تعجَّلَت في خوض معارك الحرية المدنية، والحال أنها لم تُشفَ من معارك الهوية؟
والسؤال المقابل هو: هل يمكن فعلًا مساعدة «ثورة» من خارجها؟ من أفق «ثورات» أخرى؟ صحيح أننا اليوم قد صِرنا نتكلَّم أكثر من لغة حول أنفسنا. ولكن هل يعني ذلك أننا في حاجة إلى «مساعدة» فلسفية من الغرب حتى نفهم أنفسنا الجديدة؟
علينا أن نستحضر هنا قولًا مقابلًا يعود إلى مصدر إلهام دريدا الدائم، نعني هيدغر. قال في مقابلة نُشرت بعد موته، مع مجلة دير شبيغل الألمانية، في سنة ١٩٦٦م، حين سُئل هل يمكن «مساعدة أوروبا» من طرف ثقافات «الشرق» في السيطرة على الماهية التدميرية للتكنولوجيا:
هذا الموقف الفلسفي ينطبق بشدة على علاقتنا بأية «مساعدة» فلسفية تأتي من فلاسفة الغرب حول تأويل الثورات العربية منذ ٢٠١١م. لا يمكن لأي جهة فلسفية غريبة عن تراثنا العميق أن تفسر معنى ما حدث لنا إلى حد الآن.
ويبدو أن الحاجة إلى المساعدة المفهومية متأتية من الإحساس المزعج بأننا لا نتوفر على المفهومات المناسبة للتفكير في ما «حدث». لكن واقع الأمر هو أن فلاسفة الغرب أنفسهم لم يتوفروا على هذا النوع من المفاهيم المناسبة حينما اصطدموا فجأةً أو حين فاجأتهم «أحداث أيلول ٢٠٠١م». ومَن يقرأ نصوص دريدا وهابرماس وبودريار وسلوتردايك وغيرهم حول «الإرهاب» يتفطَّن بجهد يسير إلى غموضة شديدة في طروحاتهم وخاصة إلى عوز مفهومي فظيع منعَهَم من مساعدة فهمهم لأنفسهم من الداخل.
ولو أخذنا في الحسبان أفضلهم وأكثرهم جاهزية للتفكير في هذا الذي «لا يمكن التفكير فيه»، ونعني بالطبع جاك دريدا، نحن نعثر على هذا الإقرار الفلسفي الموجع.
ثمة ما يشبه «الحدث العاري» (حسب عبارة دريدا عن الإرهاب) يواجهنا دون أن نراه. ونسأل: كيف يمكننا التفكير في حدث «عار»، عارٍ من جميع الأقنعة المفهومية التي كرَّسها العصر الإيديولوجي للدولة-الأمة. وحين يغيب «المفهوم» نحن نحصل بشكل رسمي ومزعج على «حدث». لكن باب الأسئلة لا ينبغي أن يُغلق حول أنفسنا الجديدة: هل أنتج «الربيع» ما بعد الدكتاتوري «فكرة» جديدة حول أنفسنا؟ هل يحق للشعوب أن تدخل في مرحلة «تجريبية» من حياتها بعد كل أنواع التأجيل الأخلاقي لإثبات نفسها بوسائلها الخاصة منذ ظهور الدين التوحيدي في أفقها؟ ثورات الربيع العربي هي أيضًا حدث تأويلي أدَّى إلى إسقاط أفق مفهومي أو فلسفي بأكمله. إنه أفق المثقف القومي وفلسفته. أجل: إن الشعوب قد «تخلَّت» عن حكامها الهوويين، وصارت تفضل الدخول في المستقبل من دونهم، نعني من دون أجهزة «الزعامة» التي فرضوها لأجيال عديدة.
لكن ظهور الإسلاميين دفع بالتفكير في الثورة نحو جهة تبدو فيها أحداث الحاضر وكأنها أحداث في الماضي. وإن أكبر اعتداء أخلاقي أو فكري على هذه الثورات هو تجريدها من قدرتها على المستقبل. ولذلك فإن التناول الفلسفي المناسب لها هو ذاك الذي يكف عن التشريع الهووي لمعناها في مساحة ما يفهمه فقط. ومن ثَم هو ذاك الذي يتفرغ أيضًا لمساءلة ما لا يمكن فهمه بوصفه أكثر ما يدعونا إلى التفكير بإطلاق. وإن أكثر ما لا يمكن فهمه إلا أنه أكثر ما يدعونا إلى التفكير هو بالتحديد ذاك الذي يحدث دون أي هوية جاهزة عنه تسمح بضبط طبيعة العلاقة المعيارية معه.
نعم، ثمة خوف من التفكير في «اللاهوية» أخذ يظهر على السطح، وقد صارت سمة مميزة لمرحلة ما بعد الدولة-الأمة. لأول مرة في أفق العرب المعاصرين، الثورة لا تنتمي إلى الدولة. والشعوب لا تنتمي إلى الهوية. ودور الفلسفة هو هنا أن تحرر الأحداث غير المسبوقة من جملة المفاهيم السابقة عليها. أن تكشف عن لا-هويتها، وعما هو مزعج وغير مفهوم فيها. فربما كان ذلك هو ما هو مستقبلي فينا. على التفكير ألا يدمر الحدث وألا يعوضه بأي فرضية مهما كانت مريحة. فلطالما كانت التعبئة الإيديولوجية للحاكم الهووي تعول على المثقف «الإخصائي» للأحداث غير المسبوقة أو غير الهووية: وبعض التفكير لا يزال نوعًا من الإخصاء المنهجي والمفهومي للأحداث غير القابلة للفهم في نطاق الأدوات النظرية لحقبة الدولة-الأمة. على الفلسفة أن تترك الحدث يتدفَّق في وتيرته الخاصة دون فرض أي تسارع مفهومي عليه. ثمة شيء قادم في هذه الثورات، لكننا لا نراه: إنه «الإنسان» فقط. إلا أن الهوية أو دولة الهوية قد منعته إلى حدِّ الآن من الوصول إلينا. طبعًا، لا أحد يثور إلا داخل تاريخ أخلاقي طويل الأمد لغضبه. ربما أفضل ما فعلته الثورات بنا، كمعاصرين إجباريين لها، هو أنها قذفت بنا في قلب مستقبلنا، إلا أننا لا نزال نعول في التفكير فيها على وسائل الحاضر. ومعضلة الثورة أنها في كرة واحدة حدث (عارٍ) ووعد (بما لم يقَع). الأول صار بعدُ جزءًا من آلامنا العميقة؛ والثاني أفق تشكيلي ما فتئ يبتعد باستمرار. فإن الثورات الراهنة وعود رائعة بشيء لا يصل للأجيال الحالية. وسابقًا، قال درويش ذات قصيد: «طوبى لشيء لم يصل».
وقد تُرجم إلى الفرنسية تحت هذا العنوان اللافت: Après l’Etat-nation, Une nouvelle constellation politique, Fayard, 2000.