آلام وثنية … أو القراءة والحرية
لا نعرف قدر كتاب حقًّا إلا حين يُقرأ في وضعية قصوى، في حالة الأسر أو السجن أو الاحتجاز. حينها يمكننا أن نسأل أنفسنا: ما الكتاب الذي يستحق أن نحمله معنا لو قُدر لنا أن نهرب من مكان ما إلى لا مكان، ليس فقط من مدينة إلى جبل ما أو نهر ما أو صحراء ما، بل من كوكب الأرض نفسه. وعندئذٍ نكتشف أن كثيرًا من الكتب لن تخطر على بالك أبدًا. لكن بعضها سرعان ما يخطر في البال، ويصبح جزءًا من ذاتك التي ستهرب بها. وهكذا نعثر على مقياس عجيب للتمييز بين الكتب التي تستحق القراءة وتلك التي لا تستحق الذكر، فقط لأنها لن تخطر ببالك يوم الفرار أو تحت الحجز: هو مقياس الوضعيات القصوى، تلك التي تجعلك تميِّز كتبًا عن جميع الكتب الأخرى، باعتباره يستحق من نفسه أن يصبح جزءًا من قدرك. ليس ثمة شكل واحد لهذا النوع من التميز الذي يمكن أن يتمتَّع به كتاب دون آخَر. مثلًا: ما يستحق أن نحمله معنا إلى القمر، يومًا ما. ولكن قبل ذلك: ما يمكننا قراءته في السجن، حيث تكون القراءة التمرين الأخير والقليل على اختيار شيء ما بحرية. وما بإمكانه أن يجعل سفرنا الأخير مشوبًا بمعنًى ما. أو ما ينطوي على لذة النص التي لا يمكن مقاومتها، والتي تستطيع من ثمة أن تقهر أي نوع آخَر من ملال الكينونة أو من كآبة الإهمال. أو ما يسارع الحاكم الجديد إلى حرقه باعتباره وثيقة على حرية لا تُحتمل أو إلى منعه من النشر لأنه يفتح نوافذ للروح تؤدي في النهاية إلى تحطيم نوع ما من الجدران.
تتميز الأحقاب وكذلك الدول وحتى الآلهة بالعلاقة التي تحتملها مع الكتاب: لا يتعلَّق الأمر فقط بكتابتها أو بإنزالها أو بطبعها. بل خاصة بسياسة المعنى التي تجعل استعمالها العمومي ممكنًا أو موجهًا أو ممنوعًا. وربما آنَ الأوان لكي نتساءل قليلًا وإنْ بصوت خافت: لماذا تنزع الإنسانية منذ بداية التاريخ الذي نعرفه إلى حصر المكتوب في كتاب واحد والرفع من شأنه وإقامة الأسوار الأخلاقية والسياسية من حوله؟ ليس عبارة «المقدس» غير الهالة العُليا من هذا النوع من السلوك الاستثنائي إزاء كتاب بعينه. هناك أنواع أخرى من تقديس الكتاب لا علاقة لها بالمقدسات الدينية التي ألفناها. كل كتاب ينطوي في سره على طمع شرس في قداسة ما وينتظر من قرائه نمطًا معيَّنًا من التبجيل. لكم عوَّلنا إلى حد الآن على ربط كتاب ما بالمقدس حتى ننجح في عزله عن بقية الكتب وتحويله إلى أيقونة روحية بلا مثيل. ثم أنقذنا الموقف بعد ذلك باللجوء إلى فرضية العلمنة: أن الكتاب الحديث، الإيديولوجي مثلًا أو العلمي أو القانوني … هو صيغة معلمنة من الكتاب المقدس التقليدي. ولذلك فإنه أمكن لنا أن نؤكد أن حاجة الإنسانية إلى تقديس الكتب أو إجلال المكتوب لا تزال سارية بكل حدة. لا يزال يُعاقب الناس باسم كتاب ما، ويقيمون شرعية حكمهم باسم كتاب ما، وينالون التخليد الكبير باسم كتاب ما. وذلك علاوةً على أن الكتب المقدسة التقليدية لا تزال تستقطب العباد والساجدين على قدم وساق.
لكن هذا التنصيب العلماني لقيمة الكتاب الحديث هو جزء فقط من الإشكال الذي يهمنا، وليس بالأفق المناسب لتخريجه. كل مَن يقدِّر أن مشكل الكتاب يتلخَّص في الانتقال من كتاب مقدس بالمعنى الديني إلى كتاب مقدس بالمعنى العلماني، هو يحصر الإشكال في نقاش محلي، خاص بمعجم واحد هو معجم العلاقة بين الدين والحداثة مأخوذة هنا باعتبارها علمنة حادة للقيم اليهودية-المسيحية. والحال أن ما يقع للكتاب في أي مكان من الكوكب هو أعمق وأشمل من أن يتم حصره بشكل «غربي» أو «حداثي» في النزاع (الأوروبي) بين الدين والعلمنة. إن قدر الكتاب هو الذي تغير، وهذا حدث روحي لا علاقة له بأي نزع للسحر عن العالم (فيبر) أو بسيرورة العلمنة. وثمَّة مجتمعات كبرى مثل الصين أو الهند لا يمكن فهم ما يقع فيها من خلال فرضية العلمنة.
العلاقة مع الكتاب هي علاقة مع القدرة البشرية على اختراع المعنى ورسم آفاق جديدة لأنفسنا. وكل ما يمكن وضعه على بساط ورقي أو افتراضي اليوم هو نوع من الكتابة، ما زلنا نقرؤه باعتباره كتابًا أو يشبه أن يكون كتابًا. طبعًا، هناك مَن يردُّ كل هذا إلى الفعل التواصلي الذي لا مردَّ له بين البشر. لكن الكتاب ليس جهاز تواصُل بالضرورة. فهذا الترف التواصلي هو مرحلة متقدمة جدًّا من الاستعمال العمومي للعقل. لكنَّ شعوبًا كبيرة لا تزال خارج شرط التواصل. ومع ذلك هي تعول على الكتاب بكل حدة.
لماذا نكتب؟ وهل ثمة علاقة مع قارئ ما؟ أم أن فعل الكتابة نفسه هو الأثر الوحيد لنفسه؟ وأن ما عدا الكتاب لا يوجد لا كاتب ولا قارئ، بل فقط مساحة الكتاب المفتوحة دومًا كحالة حرية لا مثيل لها؟
لنتجرأ على هذا التعريف الهش: الكتاب هو مساحة قراءة مفتوحة على الدوام أمام حالات حرية لا حصر لها. وحدهم الأحرار بوجه من الوجوه بإمكانهم الإمساك بكتاب ما، دونما خجل وجودي أو اجتماعي من أي سلطة مهما كان نوعها. نحن نقرأ حالة الحرية التي ينجح كتابٌ ما دون غيره في ابتكارها من أجلنا، دون أي قصد مُسبَق. دون أي ربط ضروري بمسألة المقدس أو بعلمنته أو دنيوته، وهذه مراهقة فلسفية مغرية، يجدر بنا راهنًا أن ننظر إلى العلاقة بالكتابة من زاوية الكتاب نفسه باعتباره احتمال حرية لم نجربه من قبلُ. كل كتاب هو حالة حرية غير مسبوقة بالنسبة إلينا أو سبقنا إلى تجريبها كاتب ما. وأفضل ما في أي كاتب هو أن يخرج سريعًا من كتابه، وأن يتركه وحيدًا. ولذلك فكل كتاب هو بوجه ما قدرة على الوحدة تحوَّلَت إلى حرية جذرية لتجريب أفق من آفاق أنفسنا لم ندخله من قبلُ.
لا يعني ذلك أن الأحرار وحدهم يحق لهم كتابة الكتب أو من حقهم قراءتها. إن الكتاب لا يُبالي بنا. وفي خضم لا مبالاته الأصلية هو قابل للقراءة من طرف أي كان. لكن قابلية القراءة هنا ليست انفعالًا أو خضوعًا أو هشاشة ما. مَن يقرأ يفعل بحرية نادرة. ومَن يقرأ لا يخضع لأي سلطة. ومن يقرأ يمد كينونته بمدد روحي وميتافيزيقي لا نظير له. وحده كتاب يمكن أن يعيدك إلى نفسك. إلا أنه بالتأكيد لن يفرض عليك نفسًا ليست لك. ولذلك فالتأثر بكتاب ما ليس خطأ الكاتب ولا ذنب الكتاب. بل هو إمكانية انفعال أصلية في القارئ، وعليه أن يتحمَّل مسئوليته اللعينة على ما ينبثق من جوارح القراءة التي تجرأ عليها.
التأثر هو انفعال نحمله في أنفسنا ثم نُلقي به على الكتاب حتى نستطيع التخلُّص من براءته. كل الكتب بريئة من قارئيها. بل إن الكاتب ليس مسئولًا عن كل ما جاء في كتابه إلا عرضًا: إن الكاتب هو تربة معنًى أو شبكة صيد للعالم من أجل انفعال ما أو جرح ما. ومَن يشعر أنه غير معنيٍّ أو يقع خارج منطقة الصيد المفتوحة فيمكنه ويحق له أن يُلقي بالكتاب جانبًا ولا يقرأه. صحيح أنه تمَّت محاكمات كتَّاب بسبب كتبهم. لكن ما وقع حقًّا ليس محاكمة الكاتب بل محاكمة الكتاب. لكن المحاكم، أكانت دينية أو علمانية، هي تخجل من الإقرار بهذا الموقف الوثني. ما وقع دومًا هو محاكمة الأفكار بوصفها مسئولة عن خطر ما، خطر عميق يهدِّد شرعية الحديث عن أنفسنا على هذا النحو أو ذاك. ثم فجأةً يُلقى كل ذلك في وجه الكاتب ليس باعتباره مذنبًا بل على وجه الدقة بوصفه الجهة الوحيدة التي «يمكن» معاقبتها. تعلم محاكمة الكتب أنها لا تزيدها إلا شهرة وانتشارًا، وتعلم أن مقاومة الأفكار لا تزيدها إلا إغراءً وإغواءً. ومن ثَم لن يبقى إلا الكاتب باعتباره لحم الكتاب الذي لا يزال يمكن أن نغرز في نسيجه الهش كل مشاعر الحسد الميتافيزيقي للكتاب، هذا الكائن الحر الذي يتصيد إمكانية حرقه كي يزداد فرحًا ومرحًا بنفسه.
إن حرق كتاب ما — وهو ما اقترفته الدول عند اليونان والرومان والعرب والأوروبيين — هو توثين غير مباشر لعنوانه. وعلى الأغلب لا توجد قراءة أخيرة لأي كتاب، فإن بعض الكتب بقيت حية في شكل عناوين أو شذرات أو جمل مأثورة فحسب. ولكن ذلك لم يقلِّل من ضراوتها على الروح.
وبعض الكتب كُتب في السجن أو في الأسر، فهل إن ذلك دليل على سجن الكتاب أو أسره؟ يحتفظ الكتاب بحريته في أي وضع وفي أي زمان. وإن هذا هو سر السخرية من أي خلط سلطوي جبان بين الكاتب والكتاب. وكثيرًا ما يدفع كتاب حياتهم بسبب أو من أجل كتب لم تعُد جزءًا من ذواتهم اللاحقة. ولذلك طالما لم نعترف لأي شخص بأن من حقه أن يغير من نفسه أو من جنسه أو من هويته أو من دينه أو من عمره أو من بلاده … طالما نحرص على تجميعه في «جوهر» واحد، لا يقبل المراجعة، أو ﮐ «مخلوق» واحد لا حق له في إعادة اختراع ذاته العميقة، فإن إمكانية معاقبة الكاتب على كتابه سوف تظل جزءًا لا يتجزأ من تصوُّرنا للكتاب: الكتاب كفعل شخصي يجب نسبته أو إسناده إلى أحد.
إن قراءة الكتاب غير مفصولة أبدًا عن ضرورة تحرير الكتاب من الكاتب. الكاتب بوصفه حجة سلطة أو بوصفه جهة مسئولة عن نوع من الحرية. نحن لا نقرأ فعلًا كتابًا ما إلا بقدر ما نتحرَّر من شبح كاتبه. موت المؤلف ليس استعارة. إنه حدث روحي حاسم في قدر كتاب ما. وبقدر ما يصبح قادرًا على الاستقلال عن مؤلفه، يدخل الكتاب في دائرة خلوده الخاص. وهو بهذا المعنى خلود وثني صرف.
من أجل ذلك فإن التمييز العرقي بين الكتب، أو التمييز الديني أو الإيديولوجي أو القانوني … هو في واقع الأمر لا يُضيف لها شيئًا. إنه يبقى نحوًا من الضجيج الثقافي خارج أفقها. تنتصب جميع الكتب، حتى تلك التي لم تُكتب بعد، في علاقة تصالح ومساواة جذرية ولا مشروطة، كأزهار الحقل، تحت مطر واحد. الكتب أرحم ببعضها من البشر وأرحم ببعضها مما نظن. إن الكتب لا تتفاضل بالتقادم؛ كما أن الجدة ليست عذرًا مناسبًا لكتاب ما حتى يستحق القراءة. ولذلك فإن فضل القارئ لا يُقاس بمدى ولائه لكتاب ما أو لكاتب ما مهما كان مكرسًا، بل بمدى قدرته على تحرير أكثر ما يمكن من الكتب من كتابها، وإطلاقها في سماء الإنسانية.
ولكن هل هذا مصير كل الكتب؟ ألا توجد كتب سيئة حيث تكون قراءتها نوعًا من الحِمية المؤكدة؟ ألم يقُل كاتب عريق مثل أناطول فرانس: «الكتاب هو أفيون الغرب»؟ طبعًا من السهل أن نسخر من هكذا جرأة أو صراحة جارحة باستدعاء أحد جهابذة أدب التسكين والطمأنة في الغرب المعاصر، من وزن فيكتور هيغو، فيسعفنا بقولة مرعبة بمتانتها: «كل إنسان هو كتاب حيث إن مَن يكتب هو الله نفسه.» مَن يستطيع الآن أن يتجرَّأ على هجاء هذا النوع من الكتب: الكتاب/الإنسان؟ قال غاندي: «أي كتاب أفضل يمكن أن يوجد مثل كتاب الإنسانية». لكن الإنسانية اليوم ليس في أفضل أحوالها. وبعض الناس جملٌ متعثِّرة وخط رديء جدًّا.
لن يبقى أمامنا إلا ضربة نرد واحدة ووحيدة: إن الفرق بين الكتب لا يكمن في الكاتب أو في اللغة أو في المضمون الأخلاقي. بل فقط في جمال الكتابة أو في سوء الكتابة. يقول أسكار وايلد: «أن نقول عن كتاب إنه أخلاقي أو لا أخلاقي، هو شيء بلا معنًى. الكتاب إما أنه مكتوب بشكل جيد أو أنه مكتوب بشكل سيئ.» هل نحن في آخِر المطاف نوع من الرسائل المشفرة إلى مجهول؟ أم إن كل مشاكلنا، مهما كانت مزعجة أو مؤلمة، هي مجرد صعوبات أسلوبية في التعبير عن أنفسنا؟
ما زال الكثير من الناس ينتظر كتابه. كتابه الأخير. أو الأول. وكان ستيفان ملارميه يقول: «إن العالم قد خُلق من أجل أن يُفضي إلى كتاب جميل.» لكن الجمال ليس أقرب الأشياء إلى البراءة دومًا. «الجمال وعد بالسعادة» هكذا خطر لكاتب مثل ستوندال. وقد تمثَّل نيتشه وأدورنو بهكذا قولة نزقة. ومع ذلك فإن الجمال لا يعِدُ إلا بالسعادة. بل قد يكون أمارة غير مفهومة على كارثة. وفي حال الكتاب، فإن الكتابة الجميلة ما تلبث أن تبدو مثارًا للقبح في نظر كل العيون الحولاء والرمداء والعمشاء والعوراء قال جورج باطاي: «كل كتاب هو أيضًا وبنفس القدر مجموع أشكال سوء الفهم التي كان سببًا فيها.»
مَن يكتب عليه أن يُقدِّر قبلُ مجموعَ أنواع الإساءة التي ستنشأ بسببه. كل سوء فهم هو إساءة حدثت بسبب قراءة ما. ومَن يقرأ يعرِّض نفسه عمدًا ليس إلى تأثير هذا الكاتب أو ذاك، بل إلى فوهة الغموض أو الحيرة التي ينجح كتاب جيد في اختراعها في أفق شعب ما. هي فوهة مفتوحة من الجهتَين، لأن النار التي تشتعل فيها المرَّة تلو المرَّة تصدر من الجحيم النائم في هوائها. ولا أحد يمكنه أن يحدِّد سلفًا قراءه. بل هم زوار من ذاكرة أخرى لا يراها. زوار يقرءون ما كتبوا بأيد أناس آخَرين. لا تكون القراءة مُمكِنة إلا لأن ما هو مكتوب ليس غريبًا عنا، بل هو ينتمي إلينا إلى حد اللعنة. تلك التي نحملها جميعا دون أن نكون كتَّابًا. لعنة اللغة الواحدة النائمة في كل ما نقول. ليس لغة هذا الشعب أو ذاك، بل لغة النوع الإنساني كبرنامج أخلاقي مُغلَق إلى حد الآن. ويبدو أن أكثر الآثار تعبيرًا عن تجاعيده في كل العصور ليس شيئًا آخَر سوى الكتاب. الكتاب هو مقبرة الإنسانية. إلا أن الكاتب الجيد هو الذي يقدم تلك المقبرة في شكل حديقة، صماء ومنصتة كقلب إله قديم. قال مارسال بروست: «أي كتاب هو مقبرة كبيرة، حيث إننا على أغلب القبور، لم نعُد نستطيع قراءة الأسماء الممحوَّة.»
الكاتب الجيد هو الذي مات أغلبُ الكتَّاب الذين يكتب بأيديهم. هو مَن تحرَّر من الداخل من شبح كل تلك الأسماء التي تخيم عليه ما إنْ يأخذ في استعادة اليد القديمة التي استعملوها في كتابتهم. وحدها يدٌ حُرَّة من كل تلك الأيدي التي كان يمكن أن تكون هنا معنا حين نكتب، وحدها يد من المستقبل، والمستقبل هو الوعد الوحيد بالسعادة في أفق كاتب جيد، يمكنها أن تحرِّرنا من قراءة العابرين.