لماذا تركت الكتاب وحيدًا؟

نحن نشهد اليوم — على صعيد الإنسانية — إساءة غير مسبوقة للكتاب: لقد ظلَّت الكتب مهدَّدة طيلة تاريخ الإنسانية التي نعرفها بالحرق أو بالدفن أو بالإتلاف أو التخريق أو بالغسل أو الإغراق في الماء أو بالمنع، وظلَّ الكتَّاب بدورهم مهدَّدين بالقتل أو بالسجن أو بالجلد أو بالنفي أو حتى بالحرق بسبب كتبهم.

لكن الجديد هو من طبيعة أخرى: إن الكتاب قد أخذ يبدو بلا مستقبل.

ثمة شيء مثل «نهاية الكتاب» قد بدأ يعلو في أفق الأجيال الحالية.

ربما يظن البعض أن هذا هو ما ناضلَ من أجله دريدا والتفكيكيون: نهاية الكتاب والمرور إلى عصر الكتابة.

لكن الأمر أكثر تعقيدًا وأكثر خطورة.

إن سبب النهاية المرتقبة للكتاب ليس ما كان يتخوَّف منه الكتَّاب منذ أول أمرهم إلى اليوم: نعني قرار السلطان بإعدام الكتاب منذ اللحظة التي يتأكد فيها أنه صار خطرًا على نمط معيَّن من السلطة أو من الحقيقة.

ما أخذ يتسبَّب في نهاية الكتاب ليس الخطر الذي يمثله كتابٌ ما على حجة السلطة أو نظام الحقيقة السائد، بل هو أمر غامض ومُبهَم تمامًا لا تستطيع حتى الدول أو الأديان التقليدية أن تقرِّره.

إن الخطر الذي يهدِّد الكتاب اليوم لم يعُد ناجمًا عن الخطر العمومي للكتاب على أي سلطة أو حقيقة قائمة قد ينافسها في شرعيتها، بل هو مرتبط بقرار تكنولوجي وأخلاقي عميق وغير مفهوم حول مصير أو مستقبل الكتاب بما هو كذلك.

علينا أن نميز بشكل قاطع بين تقاليد حرق الكتب وبين مسألة نهاية الكتاب.

كل الأمم القديمة حرقت الكتب، حرق الصينيون تعاليم كونفيشيوس، وحرق اليونان كتب غورجياس وبروتاغوراس، وحرق الرومان مكتبة الإسكندرية، وحرق المسلمون كتب ابن رشد، وحرق التتار مكتبة بغداد وحرق الإسبان مكتبة قرطبة ومخطوطات المايا وأحرق النازيون كل الكتب «غير الألمانية» وأحرق الصينيون المحدثون كتب بوذا وأحرقت طالبان آلاف الكتب الحديثة وأحرقت «داعش» آلاف المخطوطات في الموصل منذ أشهر.

حرق الكتب يُسمى في لغات أوروبا autodafé، من اللاتينية actus fidei، وينبغي أن نتساءل ماذا يكون هذا «الفعل الإيماني» عندما يتمثَّل في إحراق الكتب.

يقول هنريش هاين (آخِر الشعراء الرومانسيين الألمان) في تراجيديا تحمل عنوان «المنصور»: «حيثما نحرق الكتب، ننتهي أيضًا بحرق البشر.»

لكن حرق الكتب وحتى حرق البشر هو ظاهرة تنتمي إلى الإنسانية التقليدية. وربما لا يخلو حرق الكتب اليوم، كما قامت به داعش، من شيء من الكوميديا ما بعد العلمانية. إن مصير الكتاب اليوم وراهنًا هو من طبيعة أخرى.

والسؤال المؤقَّت الذي ينبغي أن نطرحه هو منذ الآن: هل ما زالت الشعوب تحتاج إلى كتب بعامة؟ هل ثمَّة معنى اليوم وراهنًا لمواصلة الكتابة؟ أو للشروع في أي نوع من الكتابة؟ ونعني بالتحديد: مواصلة كتابة تُفضي بشكل أو بآخَر إلى إنتاج مزيد من الكتب بالمعنى المتعارَف عليه.

يقول دريدا: «إن كتابة كتاب ما هي نحوٌ من الختان الذاتي.»

الكتابة هي ضرب من الختان، ولكن لمَن؟ للكاتب؟ أم للكتاب؟

ما الذي ينبغي علينا أن نتخلَّص منه حتى نصبح مؤهلين للكتابة؟

منذ القرن السادس عشر والأزمنة الحديثة تحاول فك الارتباط بين «الكتابات المقدسة» المسيحية وبين «الكتاب بما هو كذلك»، بين «الكتب المقدسة» (في معنى ta biblia، المصطلح اليوناني الذي كان يُشير أول الأمر إلى «التوراة» ثم إلى جملة الكتب اليهودية والمسيحية معًا، وهو تسمية تُبيِّن أنها ظهرت حوالي ٣٨٨م، وانتقلت من الجمع إلى المفرد) وبين نوع جديد من الكتب تحول معه مصطلح «الكتاب» إلى «نص» لتمثيل حالات الأشياء في الكون والكينونة في العالَم بعامة.

وصحيح أن الحداثة قد دشَّنَت نوعًا جديدًا من العلاقة مع الكتاب. وكان كانط سنة ١٧٩٨م قد طرح السؤال: «ما هو الكتاب؟» ضمن مؤلفه «المبادئ الميتافيزيقية لنظرية القانون»، مختزلًا إياه في معنى الشيء المادي، في سياق سجال حول الملكية الأدبية وحول الكتب المقلَّدة في ألمانيا منذ ١٧٧٣م.

وفي الظاهر نحن أبعَد ما نكون عن رائحة الكتب المقدسة.

لكن هذا الانتقال من الكتاب إلى النص قد ظلَّ مرهقًا بمفارقة مثيرة: ألا وهي أن أسئلة المحدثين حول الطبيعة أو حول العالم أو حول المجتمع أو حتى حول أنفسهم قد ظلَّت أسئلة من طبيعة «كتابية».
يقول غاليلي سنة ١٦٢٣م، في كتابه «الفاحص» أو «المجرب» L’Essayeur: «إن الفلسفة مكتوبة في هذا الكتاب العظيم المفتوح أمامنا على الدوام (أنا أتكلم عن الكون)، لكننا لا نستطيع فهمه إذا نحن قبلُ لم نتعلَّم كيف نفهم اللغة ونعرف الحروف التي كُتب بها. إنه مكتوب بلغة رياضية والحروف مثلثات ودوائر وأشكال هندسية أخرى، من دونها من المحال أن نفهم كلمة. من دون هكذا وسائل، يظل المرء بلا هوادة في متاهة مظلمة.»

ما صرنا نسميه «أزمنة جديدة» منذئذٍ هو عبارة انتقال استراتيجي من عصر الكتب المقدسة إلى عصر الكتب العلمية بالمعنى الوضعي. من مسائل الآخِرة إلى أسئلة المستقبل. ومع ذلك فإن هذا الانتقال لم يغيِّر من طبيعة النموذج الكتابي شيئًا. إن مفردات الكتاب قد تغيَّرَت، لكن النموذج لم يتغير. ما زالت الإنسانية تعوِّل على الكتب لفتح طريقها في الكون.

قال Anatole France: «الكتاب هو أفيون الغرب.»

كيف نفهم اليوم هذا النحو من التذمُّر الميتافيزيقي؟

لا يتعلَّق الأمر بالكتاب نفسه كجسم مادي ورمزي محدَّد. بل إن مفهوم الكتاب لا يزال هو بنية أنماط الكينونة الأساسية: لا يزال كل شيء في أفق المحدثين مكتوبًا أو كتابًا أو بمثابة كتاب.

يقول Stéphane Mallarmé: «إن العالم مجعول من أجل أن يفضي إلى كتاب جميل.»

كيف يمكننا أن نميز هذه القولة الشعرية الحديثة عن قولة القديس أغسطينوس: «إن العالم كتابٌ والذين لا يسافرون لا يقرءون إلا صفحة واحدة»؟

يبدو أن الفرق الوحيد الذي يمكن أن نسجله بين التصورين للعلاقة مع الكتاب هو فقط هالة العلمنة التي تميز كلام المحدثين. نوع من الرطانة الأخلاقية ما بعد الدينية تميز المفهوم الحديث للكتاب عن مفهومه اللاهوتي.

يقول فكتور هوغو في التأملات: «كل إنسان هو كتاب حيث يكتب الله بنفسه.»
لا يفعل شاعر القرن التاسع عشر هنا غير الحد من وطأة علمنة الكتاب التي دشنها المحدثون. هو يحدُّ منها، وذلك بأن يواصل التصور الديني المسيحي من خلالها: الله ما يزال هو الكاتب حتى في نفس الإنسان الحديث الذي فك الارتباط مع الكنيسة. حتى خارج-الكتاب المقدس (ما يسميه دريدا le hors-livre) لا يزال نموذج الكتاب هو السياق المناسب لإعادة إدخال الكاتب التوحيدي إلى ماهية الإنسان: الله الذي خلق آدم على صورته.

هنا نفهم معنى كلمة نيتشه المرعبة: «إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي لم تستقر ماهيته بعد». نعني: الذي لا يمتلك كتابًا نهائيًّا حول نفسه، بل تُرك كما يقول «لوحًا نصف مكتوب» مثل بقية الحيوانات. وعليه أن يريد ماهيته أو طبيعته بنفسه، نعني أن يقبل آخر الأمر أن «الإنسان شيء ينبغي تجاوزه».

طبعًا لا تخلو الأزمنة الحديثة من إرادة استيلاء على ماهية الإنسان وتحريرها من التصور الكتابي. إلا أنها لم تفعل ذلك إلا بمواصلة التعويل الميتافيزيقي والأخلاقي على نموذج الكتاب التوحيدي.

يقول Montaigne: «أيها القارئ، أنا نفسي هو مادة كتابي».

وهو موقف يبلغ هالته العُليا في كلمة غاندي الإنسانوية: «إن التربية الحقيقية تتمثل في أن نستنبط أفضل ما في أنفسنا. وأي كتاب يمكن أن يكون أفضل من كتاب الإنسانية؟»

أجل، مع الحداثة صار الإنسان مادة كتابه، وصارت إنسانيته أفضل كتاب يمكن أن يحصل عليه يومًا ما. وكان لهذا التمشي نتيجته المنتظرة:

قال Lichtenberg: «كل كتاب هو مرآة. فإذا ما نظر فيه قردٌ، لن تظهر عندئذٍ صورةُ أحد الحواريين».
ما فعلته الحداثة بالكتاب هو بناء ما سُمي انطلاقًا من أحد كتب رورتي «الإنسان المرآوي» (l’homme spéculaire). العلاقة المرآوية بكل شيء: بأنفسنا، بالطبيعة من حولنا، وبالحقيقة.
لم يعُد الكتاب مصدرا؛ بل صار مرآة. وتمَّت ليس فقط «علمنة» الكتاب: أي صار قادرًا على التلفُّت إلى العالم، كما وصفه هيغل في «فينومينولوجيا الروح»، بل تمَّت «دنيوته» (profanation) في معنى إخراجه من المعبد بلا رجعة. ومن ثَم فتح المجال أي استعمال غير-كتابي له.
لا يزال الفرد الحديث، العدمي النشِط حسب تعبير نيتشه، يعول على الكتاب، باعتباره حدثًا لا يُشبه أي حدث آخَر. لا يزال يمكن لأحدهم أن يقول مثل Stendhal في «الأحمر والأسود»: «إن الكتاب الجميل هو حدث في حياتي». أو يقول مثل أمبيرتو إيكو المعاصر لنا: «نحن نعيش من أجل الكتب».

هل ابتعدنا عن قولة سيسرون: «مكان بلا كتب مثل جسم بلا نفس»؟

علينا أن نسأل هنا: ما هي طبيعة الحاجة الميتافيزيقية إلى الكتب؟ هل لأن الإنسان الحديث لم يتوفَّر بعدُ على طريقة أخرى لترسيخ ماهيته كما اعتقد نيتشه؟ أم لأن العقل البشري أو الجينوم البشري أو العنصر المادي للكون هو مهيكل سلفًا باعتباره نصًّا مشفَّرًا، وبالتالي باعتباره كتابًا نهائيًّا يسخر من كل محاولات الفانين لكتابة جملة جديدة واحدة في تاريخ الكون، كما أخذت تقول لنا العلوم الوراثية بطريقة فجة؟ هل ثمَّة من صِلة بين السؤال عن مستقبل المفهوم الإنساني للكتاب وبين السؤال عن مستقبل الطبيعة البشرية نفسها كنص وراثي مهدد بسوء الاستعمال الميتافيزيقي؟

يقول كافكا: «عديد الكتب هي بمثابة مفتاح لغرف مجهولة في قصر أنفسنا.»

علينا أن نقر أولًا بأنه بعد كل مغامرات الإنسان الحديث لمعرفة «نفسه»، أو ما يسميه «نفسه»، ما عثر عليه لم يكُن مختلفًا في شيء عن «النفس» الكتابية سوى في كونها شفرة معلمنة لنص وراثي مجهول. كان من المريح نسبته إلى الإله التوحيدي من خلال استعارة «الصورة» الإلهية لآدم. لكن الجديد ليس غريبًا عن البنية الكتابية: إن الجينوم البشري والحيواني بعامة هو أيضًا نص أو شفرة يمكن نسبتها إلى الكون.

بذلك كل الاعتراضات على الحداثة باعتبارها علمنة عنيفة لمجالات المقدس أو قطيعة أخلاقية مع الكتب المقدسة هي مجرد لعب لغوية (بعبارة فتغنشتاين) لجيل من الناس لئن كان غير ديني أو بعد ديني في قيمه، فهو على الصعيد الميتافيزيقي، أي على مستوى «شكل الحياة» التي يعد به، هو لا يزال حيوانًا كتابيًّا من الطراز الرفيع.

ما وقع هو أن «الإنسانية الأوروبية» (هكذا سمَّاها هوسرل) قد ابتكرت لنفسها نمطًا معلمنًا من نثر العالم وحولته إلى كتاب رقمي كوني فرضته على بقية الإنسانيات الأخرى غير الغربية تحت عنوان «الحداثة» كعملية استيلاء كتابية على العالم.

والسؤال هو: كيف نفهم منزلتنا داخل هذا الأفق الكتابي المعلمن للعالم الذي تحول اليوم إلى نص رقمي؟ وهل لدينا حظوظ ما في التحرُّر من الأقلمة الحديثة أو من الحداثة نفسها باعتبارها نزعة استيطان كتابية جذرية لأفق الشعوب التي صارت أكثر فأكثر غير قادرة على البقاء الميتافيزيقي؟ هل يحق لنا أن نعلن ما سمَّاه والتر ميغنولو «العصيان الإيبستيمولوجي» على ريطوريقا الحداثة الكتابية؟

ثمة فكرة تُنسب إلى فوكو مفادها «أن أي كتاب له في بعض الأحيان قدرٌ خاص، يخرج تمامًا عن سيطرة مؤلفه، حيث يتحول الكتاب إلى صندوق أدوات يستولي عليه أفراد أو حركات يسقطون عليه أطروحات لا توجد فيه ولكنهم يمنحونه في المقابل نجاعة «عملية» لا شك فيها.»

ثمَّة مسافة مزعجة بين المؤلف والكتاب: طبعًا، كانت شهرزاد تحكي حتى تدفع عنها الموت؛ الحكي كتقنية بقاء. لكن فوكو ينبهنا إلى أن الكتابة الحديثة تقوم غالبًا على موت المؤلف. على نوع من «التضحية» الرسمية بالمؤلف وذلك بتحويله إلى غائب سردي.

هل يتغيَّر الأمر عندما نفرق مثلما اقترح دولوز وغواتاري بين الكتاب-الشجرة، أي الكتاب الكلاسيكي إلى حد الآن، وبين الكتاب-الريزوم أو الكتاب-الجذمور، الكتاب الذي يتمدد كعشب وليس كجذع الشجرة، كتاب بلا أي ادعاء عمودي حول الحقيقة؟

لا يبدو لنا أن هذا التنويع الأسلوبي يمكن أن يغير من الطبيعة الكتابية أو الرقمية للكون. ربما لم يكن الكتاب-الشجرة غير تنويعة ترنسندنتالية على مستويات إدراكنا للكائن، مثله مثل الكتاب-الريزوم. نحن نقرأ الكون في درجات من القدرة البشرية على تشفيره أو فك شفرته، ومن ثَم أن الانتقال من الكتاب-الشجرة أو كتاب-الوحدة (مثل كل الكتب التقليدية، أكانت مقدسة أو غير مقدسة، أكانت ألفبائية أو تصويرية) إلى الكتاب-الريزوم أو كتاب-الكثرة ليس حدثًا ميتافيزيقيًّا مرعبًا كما قد نظن، بل هو تنويع أسلوبي على تقنيات فك شفرة العالم في تاريخ الحيوان البشري؛ إذ إن الواحد والكثير هو تعبيران أصليان عن ماهية الكائن منذ اليونان. وطبيعة عقولنا لا تسمح إلى حد الآن بالخروج عن هذا الأفق الرقمي والحروفي والتصويري للعالم، وبعبارة واحدة عن الأفق «المرآوي» لحالات الأشياء في الكون، حيث لا تزال العين هي البراديغم النظري لأي ترتيب مقدذس أو غير مقدس لمعنى الحقيقة.

ما وقع هو تحول رهيب في معنى «القراءة» لم نقف بعدُ على كل نتائجه الميتافيزيقية. يبدو لنا أن ماهية الكتابة لم تتغير. وأن قدر الكتاب لا يزال هو هو. إلا أن أسلوب قراءة الإنسان لنفسه أو لجسمه أو للمساحة الإنسانية أو للعالم من حوله هو الذي أصابه تحوُّل عميق.

قرأ العصفور الحب جمعه بمنقاره. القرآن بهذا المعنى هو نمط تجميع الكون في العلامات التي يمكن لبشري أن يلتقطها. بهذا المعنى شرح هيدغر معنى «لوغوس» في اليونانية القديمة. نحن بدأنا نقرأ الكائن بطريقة غير مسبوقة، لكن طريقة الكتابة لم تتغير، ما زالت تدور في النقاط والخطوط والأعداد والأشكال الحروف. ولذلك فالفضاء الافتراضي هو فضاء كتابي بامتياز. إنه ترجمة ميتافيزيقية من نوع جديد. لكنه لا يغير من الطبيعة الكتابية للمعنى. هو نقطة وخط وعدد وشكل وحرف. ما تغير هو السلوك الميتافيزيقي للحيوان البشري: لقد فك الارتباط بين الكتاب والموت، وحول المكتوب إلى مساحة لاستعمال أشكال الحياة من خلال لعب لغوية أو رقمية لا نهاية لها، لأنها كتب بلا آخرة، نعني لا تدين بوجودها إلى أي سردية حول الموت أو النهاية.

ولذلك لم يعُد للكتاب أي علاقة مفضلة مع العزلة أو الوحدة اللهم إلا ما سماه باولو كويلو «وحدة المنتصر»: ظلَّت الوحدة امتيازًا سرديًّا لأبطال الكتب القديمة؛ إذ كانت كلها تصف معارك أصلية حول أنفسنا العميقة. لكن الكتاب الخالي من الأبطال لا يحتاج لأنْ يكون متوحدًا، بل فقط لأن يكون متاحًا.

يقول إمبيرتو إيكو في رواية اسم الوردة: «إنك لن تقضي على الضحك عندما تقضي على الكتاب.»

الضحك هنا هو ما سماه دريدا le hors-livre: نحن نضحك دومًا خارج الكتاب. نحن خارجُ كل ما قيل إلى حد الآن عن أنفسنا بأفواه الآخرين. ودون أي مزاعم تفكيكية علينا أن نعترف بأن ما كان خارج الكتاب لم يكُن غير مكر ميتافيزيقي للكتاب نفسه. ويبدو أن هيدغر ثم غادمير قد ساعدانا على أن نقف أخيرًا على واقعة روحية يعرفها الكتابيون؛ أنه لا شيء يوجد خارج اللغة أي خارج النص. ومن ثم فإن تغيير حروف الكتابة لا يغير من طبيعة السلوك السميوطيقي للحيوان البشري شيئًا.
طبعًا علينا أن نحلم، كما يصر على ذلك دريدا، بإمكانية المرور مما يسميه الكتاب القديم le vieux livre ليس فقط إلى خارج الكتاب le hors-livre بل إلى ما يسميه الكتاب الآخر l’autre livre، أو الكتاب الآتي le livre à venir وفي الحقيقة دون أن يكون مستعدًّا للتسليم بأن الكتابة الافتراضية هي المقصود في العصور القادمة.

يقول دريدا: «أمام الكارثة التي تهدِّد الكتاب، يمكننا أن ننتظر أو أن نرجو أن «كتابًا آخَر» ينقذه أو يحول شكله، لكن هكذا كتاب لا يمكنه أن يكون إلا خارج-القانون، وأقرب ما يكون إلى المسخ المرعب.»

هل يتعلق الأمر بالرجوع إلى عصر الكلمة الحية أو الاستعارة الحية؟ بظهور حدودٍ جديدة للكتاب؟ بتوسيعٍ ما لأفق انتظاره؟ بنقل المكتوب من الأذن إلى العين؟ أم إن تصوُّرنا للكتاب أكان شجرة أم جذرًا، أكان خطيًّا أم تفكيكيًّا، هو تصور يرسم حدود كتاب آخَر لا نعرفه أو لا نراه، كتاب يكتبنا هو بدوره كنص وراثي كوني، ولا ينتظر منا سوى أن نقرأه بالوسائل التي توفرها طبيعة النوع الإنساني؟

إذا أخذنا باستعارة هيدغر عن أن «اللغة هي مسكن الكينونة»، أمكننا أن نقول إن الكتاب بالمعنى التقليدي لم يعُد يوفِّر طريقة مناسبة للسكن في العالم. طبعًا هذا القول ليس مريحًا.

قال لاكان ذات مرَّة ساخرًا: «بما أن هيدغر يدَّعي أن الإنسان يسكن اللغة فربما وجدنا بذلك حلًّا لأزمة السكن.»

لا تخلو هذه السخرية من وضع اليد على موضع الألم.

يقول أدورنو: «لا يحق للكاتب حتى أن يسكن كتابته.»

ما المطلوب إذَن؟ بعد إعلان موت المؤلف وإعلان نهاية الكتاب، لا يمكن أن يبقى من العلاقة بالمكتوب إلا أزمة السكن في العالم. وعن السؤال: «لماذا تركت الكتاب وحيدًا؟»، لا يمكن أن تكون الإجابة إلا من هذا القبيل: إن الوحيد في كل ذلك هو الإنسان، وليس الكتاب. لقد نقل الكتاب شفرته إلى الكون، وتخلى عنا لأول مرة، بعد أن أصبحنا كما كنا دومًا نصوصًا قديمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤