«أنا شارلي» … أو السخط بلا توقيع
ويمكننا أن نصف أي شعار سياسي بأنه استعمال انفعالات شعب أو مجموعة شعوب بوصفها جهازًا خطابيًّا مستقلًّا بنفسه يُغني الحكام عن أي حاجة إلى نقاش عمومي حول صلاحية سياسة ما. ولأن الشعوب لا توجد إلا في الجمع، ليس ثمة شعب خاص أو في المفرد، فإن الدولة لا تتكلَّم إلا في شكل شعارات. وهذا يعني أن الشعار ليس مجرد وسيلة اضطرارية لمخاطبة الجموع التي لا تفقه منطق الدولة، بل الشعارات هي وسيلة تفكير بدلًا عن الشعوب. كل من يخاطبك في شكل شعارات هو يفكر بدلًا عنك. ولو وضعنا في الحسبان شعار التنوير الأوروبي: «تجرأ على استعمال عقلك»، فإن «الشعارات» الحديثة، والتي خلقها عصر الأنوار نفسه في أفق الدولة الحديثة (أكانت ليبرالية أو غير ليبرالية)، هي قد اختُرعت من أجل تعويض العناوين الهووية التقليدية للشعوب قبل عصر التنوير: الدفاع عن المسيحية، نشر الإسلام … بدلًا من «نشر كلمة الله» أو «العيش من أجل الصليب» … صار الفرد المعاصر مدعوًّا إلى «حب العمل» و«احترام القانون» و«التضحية من أجل الوطن» … إلخ. كل شعارات الدولة الحديثة هي شعارات «دنيوية» أو علمانية. وهي بالمعنى الدقيق: صرخة حرب مبطنة ضد «عدو خارجي» مفترض. لم تعُد الشعارات السياسية تحيل على أي مضمون خلاصي إلا مجازًا. حتى الشعارات التي تتحدث عن الشهداء أو عن الدين أو عن السعادة الأخروية هي شعارات «حديثة» أي تخاطب سامعًا دنيويًّا بحتًا، يتم استعمال انفعالاته ضمن مجموعة أفعال كلامية معينة يعتمد عليها الفاعلون من أجل إحداث تأثير قولي مدروس ومقصود لذاته، مقياسه الوحيد هو النجاعة التاريخية. هل نحن ناجعون تاريخيًّا؟ لا إجابة عن هذا السؤال إلا في صيغة الرجاء. ولذلك فإن منطق الدولة يتحول من خلال شعاراته إلى مؤسسة رجاء عملاقة تنخرط فيها الشعوب من حيث لا تدري، لكنها لا تدافع عنها طويلًا. وما وقع منذ ٢٠١١م يشير إلى مرحلة جديدة من الشعارات: إنها شعارات ما بعد الدولة الوطنية، وهذا «الما بعد» ليس له مضمون جاهز. وليس حكرًا على أحد.
يمكن الافتراض بأن أحداث أيلول ٢٠٠١م هي لحظة اختراع الأب الأكبر لكل شعارات القرن الواحد والعشرين: نعني «مقاومة الإرهاب». ولأن الإرهاب عدو «مخيالي» وغير مرئي وذو ملامح تشكيلية، فإن كل بقية العالم قد كفَّت عن أن تكون «دولًا» وتحوَّلَت إلى مساحات رخوة لنشر سلطة إمبراطورية بلا حدود قومية، يبرِّرها شعار واحد وأحد هو مقاومة الإرهاب، العدو النائم في أي خطاب أو هوية أو قلب بشري. لكن ما وقع منذ ٢٠١١م في العالم العربي هو تكذيب ميتافيزيقي لنبوءة الإمبراطورية: صحيح أن شعار العولمة قد انتصر على سيادة الدولة-الأمة التي انحسرت وتحولت من حدود قومية للمواطن إلى حدود إجرائية للإنسان/اللاجئ، وهو التعريف الجديد للفرد بلا دولة أو سقطت دولته القومية- لكن الخصم غير المنتظر في وجه الإمبراطورية ما بعد القومية لم يعُد الدولة الأمة التي فقدت قوتها التاريخية، بل الشعوب التي نجحت في التحول السريع بواسطة «الثورات» أو «الانتفاضات» أو «الحروب الأهلية» … إلى مساحات لنوع غير مسبوق من الاحتجاج: الاحتجاج على العصر الهووي للدولة، والذي كان يحمل شعارات الدولة الليبرالية الغربية (من قبيل هوية قومية، سيادة وطنية، تراث حضاري، تعليم عصري، تقدم أخلاقي، تحديث تقني، رخاء اجتماعي، تمثيل نيابي، انتخاب حر …)
لو أخذنا أمثلة عن الشعارات الراهنة، نعني التي أخذت تشكل ملامح «صرخة الحرب» في القرن الواحد والعشرين، لوقفنا على تغير مثير في ماهية الشعار. وأهم ميزة جديدة هي أنه شعار لم يعد له مضمون أخلاقي أو ديني أو سياسي من نوع «رجائي» أو معياري أو هووي أو أيديولوجي. لقد دخل الشعار في باب «التسويق» الجماهيري الذي لا مضمون له. كل جملة أو علامة أو سؤال أو ادعاء أو شبه حكمة أو شبه مثل سائر … يمكن أن يؤدي دور الشعار، لكن نجاحه ليس من طبيعة أخلاقية أو علمية. بل هو مجرد مفعول بصري أو انفعالي أو تخييلي سرعان ما ينقلب إلى آلية انفعال بلا ملامح لأنه ذو طبيعة إجرائية بحتة. وهذا الجانب لا يتوضَّح حقًّا إلا متى قارناه بشعارات القرن العشرين: شعارات حروب التحرير الوطني (ضد الاستعمار) ولكن أيضًا شعارات بناء الدولة الأمة الحديثة (شعارات الاستقلال القومي). كانت شعارات ذات مضمون معياري تدافع عنه شعوب بأكملها، لأنه يشكِّل بالنسبة إليها أفقًا هوويًّا جوهريًّا. وهذان النوعان من الشعارات أدَّيا أيضًا وبشكل قاهر إلى نزعات عنصرية فظيعة.
لا نناقش هنا المقومات الخطابية للشعار: هو يجب أن يكون دومًا «شيئًا» (قولًا، صورة، رسمًا، علامة، لونًا، شكلًا …) تشكيليًّا، شعريًّا، مثيرًا، لا يخلو من حدة، غامضًا من دون إلغاز، له ذاكرة عميقة، خاطفًا، حلو السماع، يسير الترديد، ينطوي على قدر من السجع أو الوزن أو التقابل، وله شخصية أدبية لا تنكرها العين أو الأذن …
لكن ما نناقشه هو مضمون الشعار: إن شعارات القرن الواحد والعشرين بلا مضمون هووي، بلا حدود قومية أو دينية، ذات آفاق إنسانية رحبة، عابرة للثقافات واللغات والشعوب.