موجز ميتافيزيقي من الأرض … نشرة أخبار لأطفال افتراضيين

لا ريب أن ظهور الشاشات والقنوات في كل بقعة من الأرض هو مكسب رمزي رائع للإنسانية الحالية، إنسانية الزمن الافتراضي والفضاء الرقمي، حيث صار السفر في أفق الأرض يشبه لعبة أخلاقية فذة لإلهاء الشعوب عن اليومي. ولا جدال في أن تكنولوجيا الاتصال قد لخَّصَت وعينا بالزمن في شكل تسارعات بديعة لإدراك مجموعة من الحيوات في عمر واحد.

إلا أنه لا أحد ينكر أن الشاشات والقنوات هي ساحة القتل بامتياز، والتي لا تعادلها أية ساحة دمار أخرى على الأرض. كيف تحول عصر الصورة إلى عصر التصوير الفني الرائع لمشاهد القتل؟ وكيف صارت نشرات الأخبار أكبر مناسبة ميتافيزيقية لإعلام بقية الإنسانية وبكل اللغات أن عدد القتلى قد بلغ إلى هذا الرقم أو ذاك؟ ما هو الدرس الأخلاقي الاستثنائي لخبر القتل؟ هل تم اختراع القنوات المرئية من أجل توثيق أكبر ما يمكن من صور الموتى من أجل حفظ ذاكرة النوع الإنساني في المستقبل؟

تبدو الإنسانية الحالية مذعورة من موتها. فهي أكثر أنواع البشر ذهابا إلى الأطباء. ويبدو الجسم المعاصر جسمًا طبيًّا بامتياز. ولم يسبق أن وُضع اللحم البشري تحت مجهر التحاليل والتصاوير مثلما يقع اليوم. وقلما يوجد شخص مهما كان عمره لم يخضع إلى فحص طبي أو لم يأخذ دواءً علميًّا. ومع ذلك، فإن أكثر الأخبار تواترًا بين الناس هو خبر الموت وعدد القتلى. بل إن قنوات الأخبار في كل البلدان قد تحوَّلَت إلى ضروب نسقية من أيام القيامة تجري على مدار الساعة. كيف نفكر في هذه المفارقة: إن أكثر العصور تقدُّمًا طبيًّا هو أيضًا أكثر العصور حديثًا عن الموت التكنولوجي؟

لقد تم تغيير ماهية الموت وتم تحويله بشكل نسقي إلى قتل. شعوب بكاملها مجهزة ومهيأة من أجل القتل. ويكفي أن تنفلت جرذومة من معقلها في أحد المخابر حتى تتحول قطعة واسعة من هذه القارة أو تلك إلى مسرح للموت النسقي. ويكفي أن تندلع حرب، مهما كان نوعها، حتى تتحوَّل الأجسام البشرية إلى مواد اشتعال عضوية للقتل. وقلما نسأل: لماذا تحول الجزء الرسمي من خبر العالم إلى خبر عن الموت وعن عدد القتلى؟

يشبه هذا السؤال أن يكون إنكاريًّا. إن القصد هو بالفظاظة اللازمة: لماذا لم تتحوَّل أخبار الولادات إلى أخبار ميتافيزيقية رسمية للإنسانية الحالية؟ كأن نسمع مثلًا في نشرة أخبار هذه القناة العالمية أو تلك: إن عدد المولودين هذا اليوم على الأرض هو بمعدل أربع ولادات في الثانية (كما كان الحال مثلًا في سنة ٢٠١٤م)؟ ألا يكون ذلك خبرًا ميتافيزيقيًّا سارًّا؟ وأحسن وقعًا من أية أخبار صحيحة وموثقة بالصورة والصوت عن عدد القتلى؟ لماذا لا يكون خبر ولادة طفلة في ركن من الأرض أنبل من كل أخبار الدول؟ ولماذا لا يكون ضحك طفل يركض وراء كرته في شاطئ قارة أكثر وعدًا بالسعادة من أي خطاب رسمي حول عدد الموتى؟

أجل، لطالما أرخت الشعوب القديمة بموتاها. موت الإمبراطور الفلاني أو الملك الفلاني، كان يُعتبر حدًّا تاريخيًّا عن عصر آخَر. لكن ولادة الأنبياء كانت خبرًا تنبني عليه كل أنواع المستقبل. ولا ننسَ أن تاريخ الحداثة يحرص على تسمية نفسه تاريخًا «ميلاديًّا» (!). كيف نفسِّر تاريخيًّا ميلاديًّا ليس له من موضوع مفضل سوى تجارب الموت وعدد القتلى؟

ما ينبغي التساؤل حوله هو: ما طبيعة الدرس الأخلاقي الذي يكمن وراء اعتبار خبر القتل في الأصقاع المختلفة من العالم أولوية إعلامية على مستوى الإنسانية؟

من المؤكد أن الإنسانيات السابقة لم تكُن أبدًا على هذا المستوى من الذاكرة حول عدد القتلى في يوم واحد. ويبدو أن انزلاقًا منهجيًّا وقع من حق المعلومة فيما يتعلق بوضع الحريات في بلد ما، وبين نشر المعلومة مهما كانت طبيعتها، ولا سيما حين تكون مثيرة ومرعبة. لا يجب أبدًا التراجع عن حق المواطن العالمي الحالي في معرفة وضع الحريات حول البشر في أي مكان، من أجل أن ذلك هو جزء لا يتجزأ من معركة حقوق الإنسان بما هو إنسان، نعني من معركة الديمقراطية، حتى ولو كان ذلك في صيغة فقيرة أو هشة أو مترددة أو حتى شبه مستحيلة. لكن نشر المعلومة المرعبة، معلومة القتل أو الموت التكنولوجي، لا علاقة له بحق المعرفة، بل هو جزء من سياسة واسعة النطاق للتحكم في مؤسسة الموت في أفق الإنسانية الحالية. كل الدول تعول على قنواتها كي تسرب أقدارًا وجُرعًا معيَّنة من أخبار الموت حتى يبقى الحيوان البشري تحت شروط التحفز الاصطناعي للمواطنة الحديثة: مواطنة الهوية الموجهة عن بُعد.

لقد لاحظ ريكور بأسف شديد أن خبر الولادة ليس شأنًا مألوفًا عند الفلاسفة. إن أكثر ما يؤرقهم هو واقعة الموت. بل تحولت فلسفات بأكملها إلى مراثي أخلاقية واسعة النطاق للوجود الإنساني. وعلينا أن نسأل: لماذا؟ ما فائدة كل الفكر المعاصر لو نظرنا إليه من زاوية كمية الحزن أو حجم الفاجعة التي ولدها في أفقنا؟ يبرر ريكور اهتمام الفلاسفة بالموت بأن «التهديدات الأكثر فظاعة إنما تأتينا من أمامنا»، أي من الآتي. وبهذا المعنى تبدو ولادتنا خبرًا سلميًّا أكثر من اللازم. إذ «لأنها قد مضت، فهي لا تهددنا». إن مولدنا هو ماضٍ لم يعد يهدِّدنا. بلا ريب، ما يقع عند الولادة يتحوَّل إلى قدر أو إلى تهمة. إن ختان فرويد أو دريدا هو معطى بيوغرافي لطالما حيرهما. كان نوعًا من التوقيع الذي لا يمكن محوه.

لكن ريكور يعترض بأن انقضاء الولادة يجعل منها حدثًا مليئًا بانتماءات عدة تُلقي بظلالها على حريتي. ولأنه لا وجود لأي تجربة ذاتية لولادتي، لا أحد يمكنه أن يعيد تجربة ولادته بنفسه، فهي من شأن الأطباء.

هنا بالتحديد نفهم مغزى تلفُّت الفلاسفة عن الولادة: إنها خبر بلا ذات. ومن هنا قد نعثر على خيط تأويلي لسبب انخراط كل قنوات العالم في تغطية محمومة لمشاهد الدمار وأخبار القتلى: إن المولودين للتو لا يمكن أن يمثلوا أنفسهم. إنه ضمير الغائب الذي عليه أن يعيش فترة غياب حضوري قسري. ولأنه غياب غائب، أي غياب من لا يمكنه أن يحضر إلا وقد أصبح شخصًا آخَر، فإن ولادته إلى العالم لن تصبح خبرًا رسميًّا أبدًا.

قال سموال بيكيت: «لقد تخلَّيت قبل أن أولد، لم يكُن الأمر ممكنًا على نحو آخَر، ومع ذلك كان لا بد أن يحدث هذا، كان هو، وأنا قد كنت داخله، إنني أرى الأمر على هذا النحو، إنه هو الذي صرخ، وهو الذي رأى النور … ولم يكُن الأمر ممكنًا على نحو آخَر.»

نحن نولد داخل حياة أناس آخَرين. وولدنا دومًا على نحو غائب. والضمير الذي نحمله عثرنا عليه ونحن نمضي نحو جهة أنفسنا، دون أن نمتلكها. وهذا ما يجعلنا عُرضة لأكبر قدر ممكن من الغياب. من أجل ذلك يبدو لنا أن الحضور المكثف لأخبار القتل وثقافة الموت بشكل رسمي ومكرس ويومي هو نوع غريب من الثأر الميتافيزيقي من الولادة التي لا تتكلم عن نفسها أبدًا. نحن الكهول أو الشيوخ، بإلحاحنا المرضي على معرف أخبار القتلى على مدار الساعة، نحن نثأر من ولادتنا التي لم تتكلَّم بعد، ولم تصبح خبرًا رسميًّا للإنسانية إلى حد الآن.

لنقل: فلسفيًّا، يشبه أن يكون ذلك نوعًا مرعبًا من انتظار الولادة، الولادة كما ارتأت إلى حنا أرندت: الولادة بوصفها معجزة.

قالت، في معرض كلام لها عن الوعد والغفران: «إن المعجزة التي تنقذ العالم، وميدان الشئون الإنسانية، من الدمار العادي، «الطبيعي»، هو في النهاية واقعة الولادة، التي في تربتها تتجذر أنطولوجيًّا ملكة الفعل. وبعبارة أخرى: إنه مولدُ بشرٍ جُدد، كونهم يبدءون من جديد، الفعل الذي هم قادرون عليه بمجرد حق الولادة. وحدها التجربة التامة لهذه القدرة بإمكانها أن تمنح الشئون الإنسانية قدرًا من الإيمان ومن الرجاء، من هاتين الخاصيتين الجوهريتين للوجود، اللتين جهلهما العصر القديم اليوناني جهلًا كاملًا.»

تبدو ولادة، أي كان بمثابة وعدٍ بغفران معيَّن. كل طفل يأتي إلى العالم كي يغفر خطأً ما، هو لم يقترفه. إنه ليس شيئًا آخَر سوى خطأ التناهي: أن الحياة أخت الموت. وأننا كائنات زمانية بلا أي نوع من الأبدية. ما عدا ذلك ينبغي اختراعه. لذلك تعتبر أرندت أن الولادة هي معجزة: إنها تأتي بعد ملايين المرات من أجل إنقاذ العالم. ولأن العالم هو بطبعه كائن محتاج إلى إنقاذ، فإن قدرة البشر على الإنجاب هي السلام الميتافيزيقي الذي بإمكانه هو وحده أن يزود عالم البشر بما يجعله ممكنًا: الإيمان بنفسه، والرجاء في عالم آخَر. ولن نكفَّ عن التساؤل أبدًا: ماذا يولد فينا أو معنا، حين يولد الجسد؟ ربما كانت آلام الولادة نوعًا لطيفًا من الوداع مع شيء آخَر: مستوى من الكينونة لم نعُد نحتمله. وحسب دريدا فإن «ولادة الجسد» تشبه أن تكون نهاية أسطورة ما. وعلينا أن نسأل: لماذا اختارت «النفس» جسمًا بشريًّا وليس جسمًا حيوانيًّا؟ ثمة تكريمٌ ما لاختيار «الإنسانية» يتجدَّد مع كل مولود. كل طفل هو تجديد للعهد مع اختيار الإنسانية دون سائر الموجودات.

كيف يسعنا أن نفهم عندئذٍ سكوت أخبار العالم عن المولودين الجدد إلا عرضًا، أي عندما يخرقون إحدى قواعد الطبيعة التي نعرفها. إن حدوث الحياة قد تحول هو نفسه إلى خبر عرضي، طالما هو يقع حسب القواعد المرتقبة، أي من دون أن يخرق أية عادة من عادات النوع البشري في التناسل والتكاثر. ولكن لماذا نفسد كل الأخبار السارة بولادة عدد هائل من البشر في كل يوم بأخبار نسقية عن موت الآخرين؟

يبدو أن ولادة الإنسان ليس حدثًا داخل العالم بل داخل نفسه. وذلك يعني أننا لا نستطيع أن نحول أحدهم إلى خبر إلا بموته أو بقتله. ربما علينا أن نقول ضد هيدغر معين، أن الإنسان ليس الكائن الذي يكون «الهناك» التي تخصُّه، أي نمط انفتاح العالم الذي وجد نفسه مُلقًى داخله بلا تبرير سابق أو واضح. بل الإنسان هو قدرة على الحياة.

يقول ميشال هنري، الفيلسوف الفرنسي المعاصر: «لا يوجد أي منفذ ممكن إلى حياة الحياة عند ظهور عالم ما.»

إن العالم هو ما يجعل الحياة تتحوَّل إلى خبر عرضي. هو الوعاء الذي يستولي على آلاف الحيوات كي يحولها إلى أخبار. لكن الحياة ما فتئت تنتفض ككتلة من العواطف المحضة: عواطف المتعة والألم بوصفهما مقامَي أو نبرتَي «العيش» كموقف من العالم. العالم هو نمط وجودنا خارج أنفسنا. أما الحياة فهي شكل أنفسنا. لا يمكن للحياة أن تكون مجرَّد خبر عن العالم. أن تكون مرآة عن العالم. فإن كل ما هو مرئي هو جزء من العالم.

وحسب هنري فالإنسان ليس «كائنًا» داخل العالم، بل هو «حي» قادر على الحياة. وكل طفل يأتي هو لا يأتي إلى العالم بل إلى الحياة. العالم ليس أفقًا مناسبًا لفهم أنفسنا: إن حياتنا هي شعور بأننا نحن أنفسنا، ولسنا أناسًا آخَرين. هذا الشعور هو ما يخرجنا من العالم ويضعنا في قلب الحياة.

من أجل ذلك تبدو أخبار القتل بمثابة تعليقات عرضية على ذاتنا العميقة، وليس ممارسة رسمية لانتمائنا الإنساني. وحدها أخبار الولادة يمكن أن تعيد الناس إلى الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤