في الترجمة الإنجازية
من أجل ذلك فإن ترجمة النصوص الفلسفية هي «أفعال» لغوية ذات طابع «إنجازي» قوي، وليست جملة من الإجراءات التقنية (الحرية أو التأويلية) من أجل «نقل» محتويات «صائبة» بإطلاق، ويكون علينا أن نبحث لها عن «تبيئة» ملائمة دون إدخال أي «تغيير» قد يؤدي إلى إفساد طبيعتها «الثقافية». كل لفظة يتم اختيارها من قِبل المترجم هي «فعل» إنجازي أكثر خطرًا من مجرد «مطابقة» المعنى «المقصود» في النص-المصدر. ذلك بأن اللغة لا تعبِّر عما يوجد خارج أفقها، نعني خارج «عالم الحياة» الذي نشأت داخله وبمقتضاه. ولذلك بدلًا من إعداد تصنيفات عن الترجمات الفلسفية تؤدي إلى «الحكم» النقدي على هذه الترجمة أو تلك باعتبارها ترجمة «سيئة» (في معنى أنها «غير وفية» لمضامين النص الأصلي لأن بها أخطاءً في «مطابقة» مقصود الكاتب) أو ترجمة «تخريبية» (في معنى أنها تُدخل إلى فضائنا العمومي معلومات أو نظريات فاسدة أو باطلة أو خطيرة على صلاحية مصادر أنفسنا … إلخ)، يجدر بنا، متى كنا نصبو إلى إصلاح العقل في ثقافتنا، أن نناقش الترجمات من زاوية الفعل اللغوي الذي قامت به. فمجموع ترجمات النصوص الفلسفي التي تمَّت إلى حد الآن هي مجموعة من الأعمال اللغوية في مجتمعاتنا، وليس فقط في معارض الكتاب. لا «حرية» الترجمات ولا «خطرها» على العقائد هي مقاييس صالحة لتقويم مفيد لأهمية هذه الترجمة الفلسفية أو تلك.
بعض التراجم يراهن على تحويل لغتنا العربية إلى صدى صوري للغة اليونانية أو اللغة الألمانية؛ والبعض الآخَر يراهن على رد جميع اللغات الفلسفية من يونانية أو لاتينية أو ألمانية إلى صدى تداولي للغتنا العربية. في المرَّة الأولى، صار العسرُ والتقعُّر اللفظي واعتياص المعاني شرطًا أوليًّا للطابع الفلسفي في ترجمة ما، وفي المرة الأخرى، صارت ثوابت الملة ومعتقدات الأمة مقياسًا كونيًّا لدلالة أي نمط من الحقيقة وصلاحية أي نوع من التعبير. هذان الموقفان هما رائجان جدًّا لدينا، هذا يعول على البلاغة من أجل إنتاج نص «وفي» لمقاصد «أصلية»، وهذا يعول على الفقه من أجل حماية الأمة من الدخيل «الكوني». والحال أن الترجمة لم تعُد تتعلَّق لا بنقل «ماهية» أصلية للمعاني ولا بتأصيل «وافد» أو «دخيل» كوني على لغتنا «الخاصة».
من الخطأ المراهنة على لغتنا العربية الكلاسيكية، كما نعثر عليها في معاجم اللغويين وكتب النحاة والبلاغيين أو حتى كما نجدها تعمل في نصوص شعرائنا وأدبائنا أو فلاسفتنا ومتكلمينا القدامى، أي كما كتبوا وقالوا في نطاق براديغم العلوم القديم وفي أفق الرؤى الدينية للإنسان (الإنسان-المخلوق) وللعالم (العالم-الآية أو العالم المسحور). ذلك بأن نصوص هؤلاء، مثل منطوقاتهم ومصطلحاتهم، هي أفعال لغوية تنتمي سلفًا وحصرًا إلى عالم حياة لم يعُد موجودًا، ولا معنى لها إلا بالنسبة إلى الجماعة اللغوية التي كانت تقصدها أو تعبِّر عنها. أما في أفق العالم الحديث والمجتمعات الحديثة، عالم الإنسان-الذات، والعالم-المنزوع السحر أو العالم-الموضوع، فإن استعمال اللغة هو فعل اجتماعي من نوع غير مسبوق. ومن ثَم فإن مَن يترجم نصًّا فلسفيًّا هو «يفعل» فعلًا لغويًّا من نوع إنجازي لم يعهده القدماء ولا أسلافنا.
وإن أهم سمة في أفعالنا اللغوية الحديثة هي كونها نصوص تنتمي إلى الاستعمال العمومي للعقل، وليس ممكنة إلا بالنظر إلى فضاء عمومي مكرس. ولأن طيف القرَّاء (الذين يرتادون الفضاء العمومي) قد صار واسعًا بشكل يُثير الدوار، بل وصار «كرويًّا» (أي يشمل الكرة الأرضية أو «معولمًا») فإن مَن يترجم هو يعرف سلفًا أنه لا يكلم قارئًا «معزولًا» داخل لغة واحدة وثقافة واحدة مغلقة. بل هو يعرف أن ترجمته هي عملٌ لغوي موازٍ لجملة أعمال لغوية أخرى موازية، وأن اللغة العربية التي يستعملها هي قوة قولية أو كلامية موازية لقوى أخرى، متاحة وقابلة للاستعمال عند نفس القارئ أو نفس المجتمع. لقد مررنا مع العصور الحديثة من مجتمعات أحادية اللغة تقريبًا إلى مجتمعات متعددة اللغة بشكل رسمي أو صريح. ومن ثَم فإن الترجمة بعامة لم تعُد مجرد نقل من لغة مصدر إلى لغة هدف، بل صارت سلوكًا اجتماعيًّا، تواصليًّا ونقديًّا، يقوم على أعمال ترجمية أساسية. إن الفرد المعاصر هو مترجم أساسي بامتياز. هو «يفعل» ذلك في أغلب حياته اليومية، لأنه يعيش داخل «عالم حياة» متعدد اللغات ومتعدد الثقافات. وقلما يقضي يومه داخل حدود لغة واحدة. وكل لفظة يستعملها هي توجد سلفًا خارج معناها اللغوي وصارت تعمل داخل حقل تداولي قاهر. ومن ثَم كل فهم لها إنما يتطلب التعرف على هوية العمل اللغوي الذي تعبر عنه، نعني ماذا تنتج من الأفعال أو من مفاعيل التأثير على القراء أو السامعين.
ولأن اختراع لغة خاصة هو محال بالنسبة إلى أي مترجم، فإن عمله يقوم دومًا على استفادة ذكية ومتلطفة من الشقوق التي توجد في بنى اللغة التي نستعملها. هناك دومًا شقوق نحوية وبلاغية تجعل كل لغة على استعداد تداولي لكي تقول ما عبرت عنه لغةٌ أخرى في عالم حياة آخَر. طبعًا، يمكن تأسيس ذلك على كونية الدماغ البشري أو وحدة النوع الإنساني … إلخ. لكن الترجمة الإنجازية الناجحة هي عمل فريد من نوعه، ولا يتكرَّر حتى داخل اللغة الواحدة من نفس اللغة. ولذلك علينا أن نكون مستعدين لتقبل ترجمات مثيرة للدهشة أو حتى مقوضة لأجزاء بالية من فهمنا لأنفسنا أو لتصوُّرنا للعالم من حولنا. وذلك أن كل ترجمة تراهن أو تبني طرافتها أو مشروعيتها على إعادة العالم إلينا كما هو، هي ترجمة سيئة. وكل مَن يعول على استرداد المعاني الأجنبية بواسطة معانٍ تداولية محلية، هو مترجم رديء أو محتال ميتافيزيقي. لأن الترجمة تحريرٌ للغات كما هي تحرير للمجتمعات. وكل تحرير يعتمد على نفس مصادر النفس كما هي، هو يعتمد على نفس خطط الخطاب الذي أنتجها، ومن ثَم هو يسقط في نفس رؤية العالم التي يعمل على التحرُّر منها. لا يمكن انتظار ترجمة جيدة من لغة مستغلقة على بناها الخاصة، لا تقبل بأي تضحية أو بأي شكل من الضيافة القوية. وإن المنتظر من كل ترجمة جديدة أن تقول للغتنا: أنتِ لم تعودي وحدك منذ الآن. وأن كل استعمال لك من أجل قول ما سبق أن عبرت عنه لغة أجنبية هو في ظاهره نوع من الكرم، إلا أنه في واقع الحال هو عملك الخاص، طريقتك الإنجازية في اختراع عالم الحياة الذي يخصك.
إن الترجمة عمل «أدبي» بالمعنى الرفيع: اختراع نصوص لم يكتبها أحد في اللغة-الهدف، وتنصيب عوالم معنى وعادات فهم وسلوكات حجاج … لم يعرف أهل تلك اللغة من قبل. وكل ذلك بناءً على «وعد» بالحقيقة. الترجمة الإنجازية: وعودٌ ونداءاتٌ وتحايا … إلخ، هي لا «تصف» الأعيان، بل «تنشئ» مواقف وفضاءات وحدودًا جديدة. ولذلك فإن ترجمة نص فلسفي هي مثل اقتباس مطول من لغة أخرى؛ وأهم ما فيه هو «الفعل» الإنجازي: تأثيره في فهم الناس لأنفسهم أو لعالم الحياة الخاص بهم، وليس مضمونه الدلالي (الحرفي أو التأويلي). إن الترجمة آلة أشباح، تنتج نسخًا حية، فاعلة، واعدة … في عالَم حياة آخر. وحين نقرأ أحدهم وهو يكتب: «يقول هيدغر: …»، فهذا يعني أننا مدعوون إلى أن نقرأ شيئًا من قبيل: «أنا أعدكم بأن هيدغر قد قال …». ليس لدينا هنا أكثر من «الوعد». إلا أن الوعد هو فعل إنجازي لا يقوى عليه أي فعل وصفي. شأن كل ترجمة، حتى المنعوت بالسوء والرداءة، أن تصنع عالَمًا غير مسبوق من النسيج اللغوي، ولكن أيضًا عالَمًا من القراء والمترجمين الجيدين والسيئين … والترجمة الفلسفية الناجحة هي التي تفلح في خلق استعمال عمومي أو مسرح عمومي لمعان لم تظهر من قبل في أفقنا. وبذلك فإن الترجمة هي آلة بدء نموذجية للشعوب، آلة مبادأة محضة، آلة تجديد فظيعة. ونجاح المترجم يتمثل في أن يقنع القارئ بأن شيئًا ما يتم التعبير عنه لأول مرة. وإذا كان الأدب يعمل على اختراع عالم يومي جديد، فإن الترجمة الفكرية بعامة، على خلاف ما نظن، هي تفعل نفس الشيء: إنها تعمل على إرساء مفردات وأفعال لغوية جديدة في لغتنا من حيث هي بنية عالم الحياة الذي نسكنه. إن الترجمة لا تقدم العالم كما «هو» بل كما يمكننا أن «نفعله». بهذا المعنى هي إنجازية، وليس تقنية. ليس للنصوص ذوات قائمة بنفسها. بل لا وجود لها إلا في علاقتنا بها. تتكرَّر الترجمات كما تكرر أفعال الجسد الواحد. هي تتفاضل من حيث قوتها الإنجازية. والترجمة اليوم هي أكبر نموذج للعمل الاجتماعي: كل حركاتنا اليومية أنواع من الترجمة أي من ضيافة المعاني والتعابير والتفاهمات والعوالم اليومية. كل ذلك هو بحق ترجمة «فلسفية»، وليس مجرد «نقل» لنصوص الفلاسفة. والسؤال هو: كيف «نطلق» أو بالأحرى «نطلق» أثرًا فلسفيًّا أو أدبيًّا من عقال «لغة» بعينها و«نعد» به كل اللغات الأخرى دونما استثناء. وذلك، حسب عبارة الفقهاء الرشيقة، «إنشاءً»، أي بقرار منفرد من أحد الطرفين (المترجم بمعزل عن رأي المؤلف الأصلي، وهو غائب أو أجنبي أو غريب لا يفهم لغتنا أو ميت عادةً …) ومن دون أسباب واضحة، مع تحمل كل التبعات والأضرار الروحية والرمزية المترتبة عن ذلك القرار. إن الترجمة الفلسفية اليوم إنجازية أو لا تكون: نوع من الطلاق إنشاءً الذي ينفرد به نص كي يفارق لغة أصلية ويتزوَّج بلغة «أخرى».