أومبيرتو إيكو أو السخرية ما بعد الحديثة
لو تخيَّلنا مثلًا أننا أصبحنا «كوكبيين» أو «فضائيين» وأننا صرنا نتحدث عن وجود الإنسانية التي نعرفها على الأرض في صيغة الماضي، إذَن لتغيَّرَ أفق الخطاب إلى درجة أننا سوف نتعامل مع عامل «الحماقة» وكأنه معطى ثقافي أو تمييز ميتافيزيقي لنوع من المخلوقات التي تشبهنا دون أن تتماهى معنا. من أجل قيس مسافة الحماقة على كوكب الأرض لا بد من أناس يتحدثون انطلاقًا من المستقبل الكوكبي وليس البشري. ويفتتح إيكو كتابه بجملة من المراسلات بين سكان كوكبيين على مدى مجرتنا تتحدَّث عن شئون حياة تقع خارج مدار عقولنا الحديثة وتحكم علينا سلفًا بنوع من الحماقة ما بعد الإنسانية. كوكبيون «توالدوا عذريًّا» (ص١٥) «متساوون أمام الرحم العظيم بغض النظر عن شكلهم أو عدد حراشفهم أو أذرعهم أو حالتهم الفيزيائية (صلبة كانت أم سائلة أم غازية)» (ص١٦). الكوكبي لا يتزوج مثلنا، والمساواة بين الكوكبيين ليست عمودية. وتعطيل علاقة الزواج تخرج الكوكبي من أفق البشر، وتجعله كائنا معفى من قصص التكوين التوراتية، والتي أعطت شكلًا أخلاقيًّا مخصوصًا لمعنى الذات الذي نعرفه. والمساواة بين الكوكبيين ليست أمام الأب أو الملك أو الإله، بل أمام الرحم العظيم، أمام الكون. إنها مساواة أمام الإمكان، وليس أمام صورة ما عن أنفسنا. بغض النظر عن الشكل (البشري) أو عدد الحراشف (العضوية) أو حالة المادة (الفيزيائية) هناك نوع من الانتماء الكوكبي الفارغ من الأحكام المسبقة حول من نكون. ولذلك فإن الحروب بين الكوكبيين هي حروب بحتة أي ينبغي أن تكون خالية من أي ذاكرة حزينة. اعتقد الكوكبيون جميعًا «أنه فأل خير أن تدين السيطرة على الكون [بوجودها] لشعوب سبق وتعرضت في كوكبها الخاص لأشكال قاسية من التمييز العنصري» (ص١٧). مفهوم السيطرة على الكون اخترعته شعوب مجروحة بشكل أصلي، في تصورها العميق لهويتها. وعليها أن تتحلى بقدر من القساوة الأساسية حتى تطمئن على مستقبلها الكوكبي. وحسب تحليل الكوكبيين في القرون التي تلت وجود الإنسانية على الأرض، تبين أن ما وقع للبشر في القرن العشرين إنما «يُعزى بالضبط إلى المغالاة في السلام» (ص١٩). لكن ما هو مزعج بالنسبة إلى الكوكبيين هو كونهم يعيشون في «كواكب متحدة تعاني من حقيقة كونها كيانًا دوليًّا بلا حدود، وبالتالي بلا أعداء محتملين، محكومًا عليه بالسلام الدائم» (ص٢٢). لكن السلام قد حول الكون إلى جملة من «الملاعب الفضائية» حيث تغير معنى الموت وتحولت آداب العداوة التي تصاحبه. إن نمط الكينونة في المجرة هو «مواجهة دموية»، «مدعومة بالصداقة وروح التعاون والاستهانة بالمخاطر»، لا مثيل لها في تاريخ الإنسانية حيث إن «شبانا من كل الأعراق والمراتب الاجتماعية يموتون والابتسامة تعلو شفاههم، دون أي حقد على «العدو» الذي يُعرف كصديق وكأخ أوقعته القرعة، لأتفه الأسباب، ليقاتل في معسكر الخصم» (ص٢٣).
إن الكتابة الساخرة تشبه العودة المفاجئة من مراسلات العالم الكوكبي إلى تحليل الحماقة اليومية للبشر. حيث يوجد بشر عليهم أن يتقنوا فنونًا شتى من المهارات الحمقاء حتى يسعدوا بوجودهم على الأرض. مثلًا أن يتعلموا «كيفية السفر مع سلْمون» (ص٤٩)، حيث تكتشف أن حاسب ثلاجات النزل هي تقنية إعلامية جدًّا لبرمجة «الاستهلاك البشري» دون أن يعلم المعني بالأمر أن تفريغ الثلاجة لوضع أي شيء شخصي هو بمثابة استهلاك قانوني له، ومن ثَم أن الأكل ليس عملًا جسديًّا. أو «كيفية إسقاط حقيبة ذات عجلات» (ص٥٢)، حيث إن تطور شكل الحقائب وجودتها هو في الحقيقة يدين بنفسه إلى حماقة الإنسان العادي: الذي عليه أن يجرب أخطاء «المصانع العالمية الفائقة» وأن «يدفع الأموال لقاء أخطاء مصممي الحقائب» (ص٥٣)، ومن ثَم إن جودة التقنية هي حماقة تم إصلاحها بأخطاء بشرية. أو «كيفية تناول الطعام في الطائرة» (ص٥٥) حيث يكون عليك أن تتناول «بازلاء لا يمكن الإمساك بها»، لا سيما «عندما ينصح القبطان الركاب بربط الأحزمة» (ص٥٦)، حيث يسخر المكان من الزمان ويتحول السفر إلى تمرين على الإعاقة. أو «كيفية استعمال تلك الفناجين الرديئة» (ص٥٨) في النزل، حيث يكون عليك أن تتعلم كيف تشرب قهوة اللافاسا «في إناء ذي منقار عريض جدًّا، طراز البجع المشوه، وغطاء كثير الحركة، مدروس بحيث ينزلق فورًا إلى الأسفل، حالما نميل الإناء» (ص٥٩)، وحيث تسخر الضيافة من نفسها ولا يمكنك إيجاد تفسير لهذا المأزق إلا إذا استطعت تجنيد مدرسة ماربورغ حيث صوت هيدغر لا يزال مسموعًا. أو «كيفية استخدام سائق سيارة أجرة» (ص٦٠)، حيث ينبغي عليك أن تضع مصيرك بين يدَي سائق غريب يركض بك في شوارع بلا أسماء نحو وجهة لا تعرفها. أو «كيفية تجاوز الجمارك» (ص٦٤)، حيث يمكن لأحدهم أن يزعم أنه «ألقى قنبلتين أو ثلاثًا على القطارات السريعة لغايات إيديولوجية وأن يعتبر نفسه سجينًا سياسيًّا، وفي الحال يخصصون له غرفة شخصية في مركز الرفاهية في الفندق الكبير لجزر بوروميه» (ص٦٦)، ومن ثَم إن السلامة هي مفهوم سياسي، وليس تصريحًا على الشرف. أو «كيفية السفر بالقطارات الأمريكية» (ص٦٦)، حيث تقدم لك «صورة لما يمكن أن تكون عليه الأرض بعد حرب نووية» (ص٦٧) وكيف أن الشعار الأخير بالنسبة إلى الليبراليين ليس تأخر القطارات الساعات الطوال بل «ضرورة أن يكون الأمر صحيحًا من الناحية السياسية (لا ينبغي للغة أن تعرف بالفوارق)» (ص٦٨) بين الأغنياء والفقراء، ومن ثَم إن المساواة الليبرالية هي تقنية احترام بحتة وليس مقابلًا مناسبًا للمواطنة. أو «كيفية استبدال رخصة قيادة مسروقة» (ص٨٥)، حيث تكتشف فجأة أنك غير موجود في سجلات بلادك المعتمدة أو أن عليك أن تبذل جهودًا وإثباتات ضخمة ومعقدة كي تعثر على ورقة نحيلة في أرشيف ما يثبت أنك أنت وليس شخصًا آخر. أو «كيفية القيام بجرد لموجودات» (ص٩٣)، حيث تكتشف أن البيروقراطية تقتضي أن يؤدي جرد الأموال المنقولة إلى سجن مدير مؤسسة جامعية بسبب التصرف في اعتمادات مخصصة لورق المراحيض. أو «كيفية قول الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة» (ص٩٩)، حيث تشبه إرشادات الحياة إرشادات عبوة صيدلانية في باب مضادات الاستطباب والتي تفيد بأن المستحضر قد يسبب عند البعض كل الأمراض التي تعرفها، بحيث يتحول اقتناؤها إلى مجازفة تشبه تجريب الموت. أو «كيفية وضع نقط وقوف» (ص١٠٨)، حيث تتعلَّم الفرق بين الكاتب و«اللاكاتب»: إن «الكاتب هو ذلك الذي قرَّر أن يوصل اللغة إلى ما وراء حدودها» (نفسه)، ولذلك هو يضع النقط حيث يتنفس النص. أما اللاكاتب فيضعها حيث يقطع الجملة إلى أنفاس متنافرة، إذْ يقف وكأنه يطلب الإذن: «كان هائجًا … مثل ثور» (نفسه). «يكتب الكاتب لنظرائه، بينما اللاكاتب يكتب لخادمته أو لرئيس دائرته، وهو يخشى (غالبًا) ألا يتفهم هؤلاء جسارته أو ألا يغفروها له، فيستخدم نقط الوقوف كإجازة مرور: إنه يريد القيام بالثورة، ولكن بإذن من المارشالية» (ص١٠٩). ومن ثَم ينطوي وضع النقط في نص ما على آداب حرية يندر أن يتحلى بها إلا الكاتب الحقيقي: إنه ذاك الذي لا يستلف حركته من أي نشيد رسمي.
كل هذه المهارات ما بعد الحديثة هي حمقاء لكنها تشكل نمط الكينونة الأساسي أو الرسمي بالنسبة إلى قدر هائل من الناس. وحين تريد أن تقنع أحدًا بأنك لا تبالي بكل هذه التدقيقات باعتبارها لا تشكل أية أهمية بالنسبة إلى رأيك في العالم أو في نفسك، هو إما سوف يخرجك من دائرة الحس السليم أو سوف يواصل سرد حكايته وكأنها جزء من هويتك. «ليس ذلك لأنه يسخر تمامًا من حقيقة كوني لا أبالي أبدًا، وإنما لأنه لا يدرك بأنه يمكن لشخص ما ألا يكترث أبدًا» (ص١٢٤-١٢٥). بين السخرية وعدم الاكتراث صلة ملتبسة: لا يمكن السخرية مما لا يكترث لنا.
ويفترض إيكو أننا دخلنا بذلك عصر «العيش في مجتمع الفرجة» (ص١٢٦). ومن أجل استجلاء هذا التحول المثير في نمط الحياة المعاصرة يتمثل إيكو بحالة حضارة شعب «البونغا» الذي يعيش في جزر سفالبارد (التي تقع في النرويج). يقول: «البونغا هم، تقريبًا، مثلنا، عدا أنهم ميالون بشكل غريب إلى شمولية الإعلام، ويجهلون فن الافتراض والمضمر» (ص١٢٦). لا يتكلَّم أحدهم إلا ويبدأ كلامه قائلًا: «انتباه، سأتكلم وسأستخدم كلمات»؛ يكتبون «بيت» على كل بيت، و«باب» على كل باب، وإذا تكلموا سموا الأشياء «هذه هي الطاولة وهذه هي الكراسي» (نفسه). إنهم «يعيشون في شعيرة المشهد، ولذلك هم يحيلون كل شيء مشهدًا، حتى المضمر» (ص١٢٨). حين يتم سحب المضمر من كلامنا تتحوَّل الأشياء إلى كائنات خرساء تحتاج في كل مرة إلى تذكيرها بنفسها. إن ثقافة المشهد تنفر من أي مضمر، ولذلك لا أحد يملك عمقًا يخصه. ولذلك فإن شعب البونغا يصفق في المآتم: «لئلا يشعروا بأنهم ظلال بين الظلال، ليتيقنوا بأنهم أحياء وحقيقيون» (ص١٢٩). الأسماء والحركات هي مشاهد أو كائنات مرآوية تحتاجها ثقافة طردت المضمر من أفقها وتحولت إلى سياسة سطوح معممة.
لا تعني السخرية من مجتمع الفرجة سخرية من شعب البونغا. بل القصد هو التأكيد على أنهم الجزء البريء من تحليل الحماقة الإنسانية. لا سيما وأن القوانين الحديثة قد صارت تقنن حق الناس في السخرية من بعضهم البعض. ويسأل إيكو متفلسفًا: «ما هو جوهر المسرح الهزلي في حضارة قررت أن تتأسس على احترام الاختلاف؟» (ص١٣٠). كان الأسلاف يتمتعون بامتياز هزلي صرنا نعتبره ينطوي على نظرة «دونية» للبشر: إنه «تقليدُ منبوذٍ مسالم» (نفسه)، كالسخرية من الكسيح أو الأعمى. كانت العاهة في جسد أحدهم أو في عقله تكفي لتحويله إلى جزء من نمط السخرية في مجتمع ما. لكن حق الاختلاف حرَّر الناس من عاهاتهم وأخرجهم من خانة الهزل. «من المستحيل خلق صورة كاريكاتورية للساذج، فذلك قد يكون مناهضًا للديمقراطية» (ص١٣١). بيد أن إيكو يذكرنا بحقيقة أخلاقية مثيرة: «أن المجموعات التي تشعر بأنها قوية هي التي تتجرأ، تقليديًّا، على الهزء من ذاتها» (نفسه). كيف نربط بشكل مناسب بين حق التسلية للبشرية المعاصرة وبين احترام الاختلاف؟ اقتراح إيكو هو: أن السخرية من الذات علامة على السلطة. ومن هنا حدث انقلاب عجيب في نموذج السخرية: إن الممثل الهزلي قد سرق شخصية المعتوه وحوَّلها إلى نجم سعيد «بإبراز عتهه الخاص» (ص١٣٢). إن المشكل هو شرعنة السخرية دون المساس بحق الاختلاف، نعني كيف نجمع جمعًا مشروعًا بين الديمقراطية والضحك؟ إن الحل يكمن في الفرجة أو في ثقافة المشهد: حين يتم تحويل الضحك إلى مشهد، يكف عن أن يسيء إلى أحد. ويعتقد إيكو أن بهجة الأبله هي وحدها التي تبرِّر الضحك منه بلا ندم. إن الأبله المتطوع هو الذي شرع لديمقراطية الضحك. وهكذا تم حفظ الحق في السخرية من أنفسنا بوصفه في قراره نوعًا محمودًا أو صحيًّا من الاختلاف.
تنبيه: كل الإحالات اللاحقة سوف ترد في صلب النص.