ما هي أوروبا؟ … أو في نماذج الانتماء

متى أصبحت أوروبا «مشكلًا فلسفيًّا»؟ يبدو أن كانط هو أول من دشن فعلًا نوع الاستشكال الذي قاد إلى فكرة أوروبا أو «الإنسانية الأوروبية» كما ضبطها هوسرل. ويبدو أنه التقط هذا الخيط الفلسفي عندما أخذ الأوروبيون، وخاصة الألمان، في التساؤل وفي البحث عن إجابة عن السؤال: «ما هو التنوير؟» (١٧٨٤م). ربما كانت إجابة كانط على النحو التالي: «ما هي أوروبا؟» إنها إنسانية التنوير. وعلى الرغم من ظهور فلاسفة لا يؤمنون بأوروبية الفلسفة بل بغربيتها، بل بأنها «تاريخ العالم» على أفواه الأوروبيين، مثل هيغل وشيلنغ، وبعد ذلك هيدغر أو دريدا، فإن فلاسفة حاسمين بقدر ما هم مختلفون (من قبيل نيتشه وهوسرل وباتوشكا وفوكو وريكور وهابرماس) ظلوا يكنون للسؤال عن أوروبا كل الاحترام الفلسفي المناسب. ومنذ نيتشه تخصيصًا ظل السؤال «ما معنى أن تكون أوروبيًّا جيدًا؟» جزءًا استراتيجيًّا من أي «جنيالوجيا للأخلاق» الأوروبية (١٨٨٧م) وسؤالًا مناسبًا تمامًا للمتفلسفة. وهو قد بنى صلاحية أو أحقية هذا السؤال على ملاحظة رشيقة بقدر ما هي مزعجة: لماذا «يتأورب» الهنود ولا «يتهند» الأوروبيون؟ وكان أكبر إيلام فلسفي لروح حرة مثل نيتشه أن تنزلق أوروبا في ضرب من «البوذية» الجديدة. وهو يتأول هذا المنزلق بأنه جزء عميق من العدمية الأوروبية.

ما هي «أوروبا الفلاسفة» إذَن؟ تبدو لنا الإجابة عن هذا السؤال ممكنة على الأقل من خلال الأسئلة الفلسفية التالية: هل هي نوع مخصوص من معنى «الإنسانية» المأزومة (هوسرل) أم «هوية سردية» عليها الدخول في تمارين عامة في آداب الصفح عن نفسها (ريكور) أم هي دستور تواصلي قابل للكوننة (هابرماس ٢٠١٢م) أم هي مجرد سوق عجوز لرأس المال النيوليبرالي (فوكو)؟ أم هي جهاز تلفظ استعماري آن الأوان لترييفه provincializing كما دعا إلى ذلك أحد مفكري الهند (ديباش شكرابارتي ٢٠٠٧م)؟ ثم عندئذٍ: أي معنى للانفصال عنها؟ كما فعلت بريطانيا راهنًا؟
لنذكر بأن رأس الأمر في كتاب هوسرل أزمة العلوم الأوروبية والذي حرر ما بين ١٩٣٤ و١٩٣٧م، هو أن أزمة أوروبا هي أزمة «معنى»: لقد فقد العلم الأوروبي غايته telos ودلالته بالنسبة إلى الحياة، بعد أن انطلق منذ عصر النهضة يبحث عن تأسيس لاستقلالية الإنسانية الأوروبية بناء على تصور جديد للفلسفة، ألا وهو أن الفلسفة ليس لها من هدف آخَر سوى «الكفاح من أجل معنى الإنسان». لكن «عالم الحياة» الذي عملت الفلسفة الأوروبية على اختراعه لم يعُد قابلًا للعيش. ثمة تنافر في صلب معنى الحياة الحديثة نفسها: لقد نسيت العلوم الموضوعية أنها هي نفسها تشكيلات «ذاتية» من عالم معيش بعينه. إن العلم الأوروبي قد نسي عالم الحياة الذي أنتجه. وحسب أحد تلاميذ هوسرل المميزين والذين أخذوا على عاتقهم هذا النوع من الطرح لأزمة العلوم الأوروبية، هو الفيلسوف التشيكي جان باتوشكا، وفي كتاب يحمل عنوانًا لافتًا هو أفلاطون وأوروبا (١٩٧٣م)، فإن أوروبا تعودت أن تولد من «التدمير الخلاق». بعد تدمير المدينة اليونانية وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية صارت فكرة أوروبا ممكنة في العصور الوسطى. وكل من يحمل هذه الذاكرة المخصوصة هو أوروبي. أوروبا ككيان هي اكتشاف قروسطي. وحسب باتوشكا فإن «العناية بالنفس epimeleia tes psyches» التي اخترعها أفلاطون هي الفكرة التي اخترعت أوروبا. والمسيحية لم تفعل غير تكريس هذا الاختراع الأخلاقي وحولته إلى مقدس.

علينا أن نتساءل الآن: إذا كانت أزمة الإنسانية الأوروبية حسب هوسرل هي أزمة معنى فإلى أي مدى يمكن للفلاسفة اللاحقين، والذين يعتبرون هذا التشخيص لحظة حاسمة في تاريخ التساؤل حول مفهوم أوروبا، ونعني خاصة هنا فوكو وباتوشكا وريكور وهابرماس وآلان باديو، أن يفلحوا في حل أزمة المعنى بواسطة نماذج تأويلية تخطت سؤال فلسفة الذات المتعالية عن المعنى (أي تجاوزت براديغم الوعي) وامتشقت أدوات تفكير واستشكال من نوع أركيولوجي (فوكو) أو سردي (ريكور) أو تواصلي (هابرماس)؟

في سنة ١٩٧٩م ألقى فوكو درسًا مثيرًا حول «النيوليبرالية». وفيه هو يقيم تمييزًا فاصلًا بين الليبرالية الكلاسيكية، والتي تدور حول هذا السؤال: «كيف يمكن، داخل مجتمع سياسي معين، أن نقتطع أو نهيِّئ فضاءً حرًّا يكون هو فضاء السوق»، وبين النيوليبرالية، قائلًا: «إن مشكل النيوليبرالية هو على الضد من ذلك، أن نعرف كيف يمكننا أن نعدل الاستخدام العالمي للسلطة السياسية على أساس مبادئ اقتصاد السوق.» ما هو جديد، وهو ما انخرطت فيها أوروبا الموحدة، هو تعديل استعمال السلطة على أساس السوق وليس العكس. كانت الدولة هي التي تخلق السوق، أما الآن فإن السوق هي التي صارت تخلق الدولة. لا شرعية لدولة بلا سوق تشرع لها. في هذا السياق أتى فوكو إلى تشخيصه المؤلم لدلالة «سياسة الحياة» التي انتهجتها دول أوروبا: إن صرف كل الاهتمام إلى الصحة ونمط الحياة لسكانها يؤدي إلى إعلان مبدأ أخلاقياتي كلبي: «عش واترك الآخرين يموتون (!)». ذلك ما دعا البعض إلى استعمال فوكو راهنًا لتأويل موقف بعض الدولة الأوروبية من أزمة اللاجئين. مجتمعات السوق لا تستطيع أن تستقبل اللاجئين، أي المواطنين من دون سوق.

في سنة ١٩٩٢م طرح ريكور سؤالًا طريفًا حول أوروبا المستقبل قائلًا: «أي خُلُق éthos جديد لأوروبا؟»، مقدمًا له في صيغة الخوف. وخوف ريكور ينطلق من أن الرغبة في الذهاب بأوروبا إلى نطاق يتجاوز الشكل الدستوري الذي انبنت عليه «الدولة الأمة» هو موقف لا يخلو من أخطار. ورغم ذلك يستحسن ريكور مصطلح «ما بعد القومي»، وإنْ كان يحصره في أن الأمر يتعلَّق بوضعية غير مسبوقة ومن ثَم بتشريع مؤسسات على غير مثال سبق. إن الأمر عنده لا يتعدى «الخيال السياسي». وحسب رأيته هو لا يخرج عن النموذج المعروف دائمًا أي المزاوجة بين «الهوية» و«الغيرية» في وعي الشعوب. وينحصر دور الفلسفة في اقتراح «نماذج إدماج» بين المفهومين. وفي هذا الإطار يقترح ريكور ثلاثة نماذج: (أ) نموذج الترجمة. (ب) نموذج تبادل أشكال الذاكرة. وأخيرًا (ج) نموذج الصفح.

تبدو أوروبا لأول وهلة حسب بول ريكور فضاءً واسعًا للترجمة. كل ما هو أوروبي هو متعدد اللسان. وهو تعدد يراه ريكور ليس فقط لا يمكن تجاوزه بل هو أمر مرغوب فيه في مواجهة أي تهديد بعدم قابلية التواصل بين الشعوب. أوروبا هي «اللغة» التي لا تُقال إلا عبر «الألسنة» القومية لكل شعب على حدة. وحسب ريكور لا توجد إمكانيات كونية إلا فيما هو متمايز. أوروبا هي إمكانية ترجمة. ولكن ما معنى أن نترجم عندئذٍ؟ أن نترجم لا يعني فقط أن ننقل من لسان شعب إلى لسان شعب آخَر. بل بالأساس أن نقبل بوجود شيء من قبيل «مبدأ القابلية الكونية للترجمة». نموذج الترجمة المنشود حسب ريكور ليس نموذج القديس أغسطينوس (نموذج التنقيب عن المصريات) بل نموذج فون هومبولدت المتواضع: «أن نرفع عبقرية لساننا إلى مستوى عبقرية اللسان الأجنبي». وبعبارة أخلاقية: «يتعلَّق الأمر بأن نسكن عند الآخَر، من أجل أن نقوده إلى بيتنا بصفته ضيفًا مدعوًّا».

وراء نموذج الترجمة يستشرف ريكور نموذجًا آخَر سماه نموذج «تبادل الذاكرة». الترجمة التي تنقلنا إلى الفضاء الروحي للآخَر تلقي بنا في فضاء ذاكرته. إن الضيافة الكونية بواسطة الترجمة تنقلب هنا إلى ضيافة ذاكرة، أي ضيافة أعراف ومعايير ومعتقدات وقناعات هي التي تشكل «هوية ثقافة ما». أوروبا هي نمط من تبادل الذاكرة بواسطة الهويات. ينبه ريكور إلى أن الذاكرة ليست مجرد ملكة نفسانية. بل ما يركز عليه فيها هو وظيفة «السرد»، أي تلك القدرة لدى شعب ما على حفظ ما هو فردي أو جماعي بواسطة قصص نوعية من خلالها نحن ننجح في كل مرة في تفصيل وتشكيل زمانيتنا الخاصة. وبهذا المعنى فإن أوروبا هي «الهوية السردية» لجملة من الشعوب التي تؤخذ هنا كمجموعة متميزة من الشخوص الروائية. مما يعني أن أوروبا هي بمثابة «حبكة» سردية بفضلها يمكن لشعوب معينة أن تؤمن الوحدة الزمانية لقصة أساسية من خلالها يحكي الناس تاريخ أنفسهم وأحداث التاريخ الذي يعيشونه في نفس الوقت. أوروبا حسب ريكور هوية سردية متحركة. هي «تاريخ محكي» بطرق مختلفة لأن تاريخ النفس يأخذ في الحسبان تاريخ الغير. ومن ثمة تتكون تواريخ أو قصص من درجة ثانية. وحسب ريكور لا يتعلق الأمر بأن نعيش ما عاشه الآخر، بل فقط أن نتبادل الذاكرة معه. أوروبا هي مجال للاعتراف بذاكرة الآخر بواسطة السرد. ما يهدد أوروبا هو الهويات المغلقة والمتحجرة. تلك التي تتم حراستها بواسطة الذاكرة الجماعية التي لا تعرف من سند سردي سوى «الأحداث التأسيسية» المثبتة بلا رجعة. ولذلك يقترح ريكور أن يكون «الإيتوس أو الخُلق الأوروبي» المنشود عبارة عن مجهود من أجل «قراءة متعددة» للنفس أي ضربًا من «حكاية القصة بطريق أخرى» تعوض «الشفقة التاريخية» بملكة «التنافس بين السرديات». وليس من سند مناسب لهذه المهمة مثل «تبادل الذاكرات الثقافية». وهو يقوم على الرغبة في «التقاسم الرمزي والمجل لعمليات استذكار الأحداث المؤسسة للثقافات القومية الأخرى كما لذاكرات الأقليات أو الطوائف الدينية الأقلية». وليس ذلك لمجرد التقاسم بل لمساعدة الشعوب بعضها بعضًا على تحرير الحياة داخلها من سلطة «التراث» الذي فقد القدرة على الانتماء إلينا. وذلك لفائدة التراث الذي ما زال حيًّا. يقول ريكور: «إن المستقبل الذي لم يتحقَّق في الماضي هو يمثل على الأرجح الجزء الأكثر ثراءً من تراث ما». أوروبا فضاء من أجل هدف سردي نبيل: تحرير مستقبل الماضي بواسطة تبادل الذاكرة. تحرير كل تلك الوعود التي لم يستطع الماضي أن يفي بها.

في هذا الصدد يقحم ريكور نموذجه الثالث في تصور خُلق المستقبل الأوروبي، نموذج الصفح. لا يمكن التحرُّر من الجزء المسيء من الماضي إلا بأن نعيد حكايته بطريقة مغايرة. وذلك يعني من خلال خلق هوية سردية جديدة. وحسب ريكور فإن «الصفح هو شكل مخصوص في مراجعة الماضي، وعبره، مراجعة الهوية السردية الخاصة بكل فرد». لكن الشرط هنا هو أن تكون «مراجعة في الجمع» وليس فقط في المفرد. ومن ثَم فإن الصفح هو «مراجعة متبادلة» يكون تحرير وعود الماضي التي لم يتم الإيفاء بها هي ثمرتها العليا. وأهم نقطة يقف عندها ريكور هنا هي تلك المتعلقة بما يسمى «جروح» الماضي: إن تبادل الذاكرة ينبغي أن يتم على مستوى «الآلام» وليس فقط على مستوى الاحتفاء ﺑ «الأحداث الكبرى». وهذه الآلام أو العذابات لها دور خطير في تشكيل التاريخ: إلى جانب الهويات السردية وإلى جانب تضافر تواريخ الذاكرة، تمثل آلام الآخَرين محورًا حاسمًا في بلورة فضاء انتماء جديد في أوروبا. يقول ريكور: «إن إحدى السماء الكبرى في تاريخ أوروبا هو الحجم الهائل من العذابات التي تعرضت لها الدول … في الماضي. إن تاريخ أوروبا تاريخٌ قاسٍ: حروب أديان، حروب غزو، حروب إبادة، إخضاع الأقليات العرقية، طرد أو استعباد الأقليات الدينية …» وحسب ريكور لا مخرج من هذا «الكابوس» الأوروبي إلا من خلال: مراجعة السرديات الهووية والتضافر مع سرديات الغير، وأخيرًا «فهم آلام الآخرين في الماضي والحاضر». بهذا المعنى ليس الصفح مبادلة مع أي مقابل، إنه حسب ريكور ضرب من «الهبة». الصفح أعلى من الترجمة وأخطر من تبادل الذاكرة. الصفح يتجاوز الأخلاق. ويقترح ريكور أن يضعه في باب نوع من «شعرية الحياة الخلقية» مع أخذ «الشعرية» في معنييها القديمين: «الإبداع» على مستوى الفعل و«الإنشاد» على مستوى التعبير. الصفح أقرب إلى «اقتصاد روحي» منه إلى أي مقايضة. شأن الصفح أن «يكسر قانون عدم قابلية الزمان للارتداد»، ليس بإعادة ما مضى بل بتغيير دلالته بالنسبة إلينا. هذا النوع من شعرية الحياة يرفع هنا «ثقل الشعوب بالذنب» عن ضمائر الناس: إنه لا يلغي «الدين» تجاهنا أو تجاه الغير ولكن «يرفع مشقة الدين». ما هو مطلوب من شعوب أوروبا حسب ريكور هو أن تنخرط في «تبادل للذاكرات المجروحة»، وبالتالي أن «تتخيل آلام الآخرين» وأن تعيش ذلك كنوع من الصفح. ولكن مع تنبيهين كبيرين: أولًا عدم الخلط بين الصفح والنسيان، قال: «لا نستطيع أن نصفح إلا حيث لا يوجد نسيان». وثانيًا أن نحترم فترة الصبر التي يحتاجها طلب الصفح. قال: «ثمة زمن لما لا يمكن الصفح عنه، وثمة زمن للصفح. إن الصفح يتطلب صبرًا طويلًا». مساهمة ريكور في اقتراح خُلق جديد لأوروبا هي: (أ) أن الترجمة هي شرط الكونية بين اللغات. (ب) أن السرديات المتقاطعة وحدها تفتح الذاكرات على بعضها. (ج) أن الصفح هو الطريقة الوحيدة لكسر الدين والنسيان وفتح المجال نحو الاعتراف والعدل تجاه آلام الآخرين. بذلك كله، فقط، تكون أوروبا قد حصلت على ما يشبه الخُلق المناسب للمستقبل.

لا يبدو أنه من اليسير أن ينفصل شعبٌ ما عن ذاكرته كما لا يمكن أن ينفصل عن لغته أو عن أخلاقه العميقة. ولذلك يبدو انفصال بريطانيا راهنًا (٢٠١٦م)، مثلًا، مجرد تمثيلية حديثة بين أعضاء العائلة السردية الواحدة، أمام غير الغربيين. يتم البحث في الواقع عن «حبكة» جديدة للقصة نفسها. إنها معركة حدود بين الدول، لكنها لا فاعلية لها على مستوى الهويات السردية للشعوب. ولأن كل معارك الحدود معارك خاسرة ومصطنعة، فإن الشعوب تظل تنتظر الفرصة دومًا لإعادة الانتماء إلى بعضها البعض بلا أي خجل سردي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤