أيلان الكردي … أو الهجرة إلى الإنسانية
ثلاث سنوات كانت تكفي كي يتحول إلى «مهاجر» نحو أوروبا. هل يجوز حقًّا أن نتحدث عن طفل مهاجر؟ لكن جثمان أيلان الكردي، وهو مُلقًى على وجهه في رمل الشاطئ التركي الذي تركه وراءه، لا يدخر أي شيء من بشريته كي يشبه أي طفل آخَر على الأرض. هو إذَن «هاجر» وهو لا يملك أي مشروع روحي آخَر لنفسه غير إنسانيته. طفولته لم تشفع له. وهي على الأرجح امتياز جمالي على اليابسة فقط. ملقى وعينٌ واحدة تتراءى من وجهه. كأنه يواصل نومه دون أن يكترث بما حلَّ بكل المحيطين به. لكن الموت لا يكذب أبدًا. لقد انقلب فجأة إلى قصة نهائية، سوف تسكن قلوب أهله إلى أمد طويل. هل كان يدري أنه قد طوى بموته كل تاريخ الشرق الذي نعرفه. وعلى الرغم من أنه من «عين العرب» فقد كان بلا عرب تمامًا، ولذلك مات من دون أية نبوءة. انقلب مركب الهجرة بمَن فيه، وتحول البحر الجميل فجأةً إلى هوة خارج عالم الإنسان. سقط أيلان خارج الإنسان. وقد كان يبحث بين يدي أبويه عن مكان ما أبعد من قرية الموت التي فرَّ منها.
«أبي لا تمُت»، كانت آخِر كلمات أيلان. تخاف البراءة على الجدار الذي تحتمي به. لكن الأبرياء يموتون. إنهم أشهى طعام للموت، في كل العصور. كان يظن أن أقصى الكوارث هو موت أبيه. ولذلك حين كان أبوه يغرق في الأسفل كي يجعله طافيًا فوق سطح البحر، كان يخاف عليه من الموت. الموت يأتي من الأعماق دائمًا. وهو يحب دائمًا. الْتِهام الكبار. ولكن ما له غير من شهواته؟ وغير من مواقيته؟ كان الطفل محميًّا دومًا من الموت فقط بقلة ما لديه من العمر. الموت لا يشتهي الأطفال. إن لحمهم مُر المذاق. أو هكذا يبدو. لكن الموت الشرقي تعطل وعوضه نوع جديد تمامًا من الموت: إنه لا يعاف الأطفال، بل ربما يتشهى الْتِهامهم، ويترك الكبار يتعفنون من العمر.
لم يكُن الموت موافقًا على تأشيرة العبور. ولذلك أرجع الجميع إلى شاطئ الرحيل. «عبد الله» أبوه، كان لا يزال عبدًا. ولكن الخوف على مستقبل طفلَيه جعله يشتري هجرتهم ويرحل. شراء المستقبل من «المهربين» تحول إلى صناعة ثقيلة في الشرق. نحن نشهد أول تغيير للقِبلة على نحو غير مسبوق: شعور تغير هوياتها وتلقي بها في البحر. تهريب الهوية تحول إلى مهنة. والشعوب تدفع لأن الميت لا هوية له.
أيلان غير القِبلة في الشرق: انتهت الهجرة إلى الله، وبدأت الهجرة نحو الإنسانية.
على عبد الله الآن أن يحرس القبور. وكان يتشوَّف إلى بيت وثير في أوروبا. كيف نقيس المسافة بين البيت والقبر؟ إن الزمن هو أكذوبة الشرقيين. إن أعمارهم تعابير مجازية. تظل قلوبهم تنتظر يوم الرحيل نحو جهة ما لا يعرفونها بالضرورة. لكن الموت هو الشرطي الميتافيزيقي الذي يتدخل فجأة، ويقلب صفحة ما، يبدو أنها طالت أكثر من اللازم. إن ما طواه أيلان وهو ملقى على وجهه في الرمل هو صفحة الانتماء. لم يعُد ثمة ما ينتمي إليه الأطفال في المستقبل. إن حاضرنا قاعة انتظار رهيبة لما لا يحدث أبدًا: المستقبل.
كيف ننتمي إلى أمة أسست طرافتها الأخلاقية الخاصة على انتظار الآخرة؟ لماذا استأثر الموت بكل هذه الأدوار التأسيسية في تاريخنا العميق؟ يبيع الشرق لحمه دومًا إلى مهرب ما، لكن هذا المهرب لا يوجد بالضرورة خارجنا. نحن مهربون لأنفسنا منذ وقت طويل. كلما انتظرنا آخرة ما، وبنيْنا عليها شكل الحياة الذي يناسبنا، نحن نقيم مع الموت اتفاقًا مؤقتًا فحسب. إن الدولة لا تعدو أن تكون مجرد اتفاق مؤقت مع الموت. ليس ثمة ما يفضح الدول مثل الموت. إنه عريها الخاص. بيد أنه ليس ثمة ما يفضح هشاشة الموت مثل موت الأطفال. كل طفل هو تهمة أخلاقية واسعة النطاق ضد الدول. وخاصة دول الشرق، حيث يمكن أن تورث عرشًا لملك-طفل، لكنها لا تنظر في عيون الأطفال إلا نادرًا. ولذلك كان موت أيلان فضيحة سياسية بامتياز، على الرغم من أن عائلة أيلان برمتها هي عائلة خارج الدولة.
هل كان من الضروري أن ينقلب مركب في البحر حتى نقف على كل هشاشة الوجود الإنساني في الشرق؟ حتى نفهم أن الدولة الحديثة كانت وعدًا مزيفًا، وأن الآلهة قد تلفتت عن عالمنا لأننا لم نعُد جديرين باهتمامها؛ وأن الإنسان في أفقنا الأخلاقي هو أندر من أن نتفق حول ماهيته؛ وأن موت أي كان هو حدث لا يهم الدولة في شيء، وأن الهوية لم تعُد صالحة للسكن.
أوضح أيلان، وهو يحدِّق إلى الداخل كي لا يرانا، أنه لم يعُد هناك داخل. وأنه لم يبقَ سوى «الخارج». وعلينا أن نلتحق به بأسرع وقت ممكن. إن الإنسانية هي الخارج الوحيد الذي يمكن أن يُظل كل أولئك الذين اكتشفوا فجأةً أن سقف الدولة قد سقط من فوقهم. دول بلا سقف. أو سقوف سياسية فارغة من الدولة. هل كان ذلك ذنب «الثورات» ما بعد القومية؟ أم أن هذه الشعوب كانت بلا دولة منذ البداية؟ وأنه لم يسقط غير الاسم فقط؟ كل دولة لا تحمي الأطفال أو لا تنجح في توفير السقف الأخلاقي المناسب لأطفالها هي بلا مستقبل. وحين مات أيلان غارقًا في عرض البحر، طوى معه كل وعود دول الاستقلال الهووي، وفتح سجلًا جديدًا للانتماء.
هم يهاجرون بما تبقى منهم على أمل تسديد الفارق الأخلاقي باحتمالات الإنسانية في قلوب الشعوب الأخرى. وعلى الحقيقة هم أول جيل من «المهاجرين» الذين تحوَّلوا سريعًا وبشكل مكثف إلى «لاجئين». ذلك أن هذا اللاجئ ليس مهاجرًا. وحده من يبني سفره على العودة يمكنه أن يدعي الهجرة. لكن اللاجئ لا يسافر بل يرحل. اللاجئ بلا وطن، ولذلك هو لا يعود. في حين أن المهاجر هو يحتفظ دومًا بصورة العائد في قلبه. إن هذا اللاجئ هو من نوع جديد: إنه تجرَّأ على تغيير الانتماء. ومَن يغير الانتماء يغير أفق الهوية أو يخلعها. نحن أول جيل سنشهد أناسًا من أبناء جلدتنا مخلوعي الهوية. ولا أحد يتجرأ على لومهم أو على اتهامهم بالعمالة الأخلاقية لأي دولة «أخرى» أو «عدوة». لأول مرة تتخلخل الحدود القومية أو القانونية وندخل في هلامية الحدود بين الشعوب. وتتم مراجعة فكرة «العداوة» بشكل مخجل.
هذا التخلل في الحدود كان له أثر مريب على التسمية: تواصل القنوات «المحايدة» حديثها الشيق عن «الهجرة» و«المهاجرين»، وكأننا في فترة الدولة/الأمة، تلك التي تدعي أن أبناءها يمكن أن يهاجروا إلى البلدان المتقدمة من أجل لقمة العيش، ثم يعودون إلى استئناف بناء الوطن. والحال أن فكرة الهجرة انتهت، ونحن أمام ظاهرة مختلفة تمامًا: إنها ظاهرة كانت إلى وقتٍ ما حكرًا على الفلسطينيين، المظنونون عندئذٍ بأنهم آخِر الشعوب المحتلة من تاريخ التحرير الوطني في العالم الثالث، ونعني بالطبع ظاهرة «اللجوء» باعتباره كان عندئذٍ الحل الاضطراري للشعب الذي «لا أرض له» ومن ثمَّة لا دولة له. لكن مفهوم «اللجوء» انقلب فجأة إلى براديغم الحياة الخاص بالشعوب التي لا أرض أو لا دولة لها.
ولكن: كيف يمكن أن نصنف السوريين بأنهم لاجئون؟ شعب له أرض ودولة، وعلى الرغم من ذلك ارتقى فجأة إلى رتبة اللاجئ التي كانت إبان تاريخ الدولة/الأمة حكرًا على الفلسطينيين؟ ثم ماذا سنسمي فلسطينيي المخيمات في سوريا الآن؟ اللاجئون الذين تحولوا إلى براديغم لشعوب المستقبل؟ صدقت حنا أرندت حين قالت ذات مقال عن «اللاجئين»: «إن اللاجئين، وهم مطرودين من بلد إلى آخَر، إنما يمثلون طليعة شعوبهم، إذا ما احتفظوا بهويتهم.»
إن الخطأ في التسمية هو جزء من نهاية الهوية. لم تسقط الدول لدينا؛ لكنها صارت بلا موضوع. لأول مرَّة يحدث انفصال رسمي بين الأرض والدولة، بين الهوية وشكل الحياة. والموت هو حالة الاستثناء التي فضحت الجميع: دول مستعدة للتضحية بشعوبها، وشعوب مستعدة للتضحية بدولها. لم تنجح دول الهوية، دول الاستقلال «الوطني»، في توفير الجرعة الكافية من الانتماء إلى الإنسانية، فطفقت الشعوب تبحث عنها في مكان آخَر. لم تبقَ للشعوب سوى ذاكرتها، بل هناك من يحرص على إيذائها بكل ما أمكن، ولو كان ذلك بتكسير الأصنام مرة أخرى.
إذ ماذا يحمل اللاجئون معهم؟ سوى قليل من الذاكرة. ذاكرة مثقوبة بانتماء لم يعُد صالحًا للسكن. وحدها الذاكرة تواصل عملها بلا وطن وفيما أبعد من حدود الدولة التي باتت مستحيلة. الذاكرة هي الثروة الأخلاقية الأخيرة للاجئين-من-الوطن. «اللاجئون-من-الوطن» هم أول جيل من الفارين من الوطن. لا علاقة لهذا الأمر بلجوء الفلسطينيين سنة ١٩٤٨م أو بلجوء الأوروبيين إبان الحرب العالمية الثانية. كل ذلك تم تحت غطاء أو منطق الدولة/الأمة، حيث الوطن لا يزال وعدًا استراتيجيًّا للحرية.
كل مغامرة الدولة الهووية الحديثة (دول الاستقلال الوطني منذ القرن التاسع عشر) قامت على وعد الوطن وكل الترسانة الأخلاقية المصاحبة (الشعور الوطني، الهوية الوطنية، العلم الوطني … إلخ)؛ ولكن لأن وعد الوطن لا معنى له إذا هو لم يتحول في الأثناء إلى عقد «مواطنة» أساسية، فإن الشعوب انتهت إلى يأس استراتيجي من الدولة الهووية وقررت الفرار من الوطن. كنا نظن — ونحن تلاميذ مدارس الاستقلال الوطني — أن مصطلح «المواطنة» كان مجرد خطأ في الترجمة، وكان ينبغي الحديث عن «مدينية» أو «مدنية» (نسبة إلى المدينة/الدولة كما هو الحال في اللغات الأوروبية منذ اليونان) الساكن في وطنه أو المنتمي إلى وطنه. لكننا اكتشفنا هذه الأيام — أيام اللجوء الميتافيزيقي إلى أوروبا باعتبارها بلاد «الإنسانية»، فرارًا من «الوطن» — أن مصطلح «المواطن» تم اشتقاقه من «الوطن» قصدًا وعمدًا من طرف المثقف الهووي للدولة/الأمة: لأن دولة الاستقلال الهووي لم تكُن تحمل معها إلا وعود الهوية، ولكن بلا أي مواطنة حقيقية.
وحين اكتمل اليأس التاريخي من دول الاستقلال «الوطني»، المعرضة إعراضًا تامًّا عن عقد المواطنة، تحوَّلَت فجأةً شعوب بأكملها إلى كتل ما-بعد-تاريخية من «اللاجئين»، أي إلى «لا-مواطنين» أساسيين؛ إذ بات الفرار من الوطن اختيارًا أخلاقيًّا نهائيًّا. علينا ألا نقرأ فرار هذه الكتل البشرية من الموت باعتباره مشكلًا فردانيًّا بعد أن عرف الشرقيون تقاليد نزاع الاعتراف. وبعض الغربيين يستغرب من أن تكون هيئة بعض اللاجئين نظيفة وحسنة وحديثة. كأنه يجرم النظافة أو الجمال أو الحداثة أن تنتمي إلى اللاجئين. هل هو تناقض في الألفاظ أن يكون اللاجئ نظيفًا أو جميلًا أو حديثًا؟ ثمة خلط بين وضعية اللاجئ ووضعية الشحاذ. إن اللاجئ دفع ثمنًا باهظًا في بعض الأحيان من أجل أن يفرَّ من الوطن عندما تحول إلى مقبرة. ليس اللجوء استجداءً اجتماعيًّا ولا هو هجرة من أجل لقمة العيش. علينا أن نفرق جيدًا هنا بين العيش والحياة: ليس اللجوء مشكلًا اقتصاديًّا، بل هو مشكل سياسي. لقمة العيش لا علاقة لها بشكل الحياة.
لذلك نحن نشهد نوعًا جديدًا تمامًا من «اللجوء»: إنه لجوء بعد انهيار نموذج الدولة/الأمة، هو لجوء «معولم» أي افتراضي ولا-هووي بلا رجعة. ليس هناك محور وحلفاء، بل هناك فضاء حيوي غير قابل للسكن. وهنا نكتشف، ربما لأول مرة، أن الأرض لا تكفي كي يكون هناك وطن. وأن الهوية لا تكفي كي يكون هناك حياة. وأرض الوطن ليست مقدسة إذا ما تحوَّلت إلى مقبرة. فالموت ليس جارًا جيدًا لأحد. ومن ثَم على دول الهوية — السالفة والطارفة — أن تفهم آخر الأمر أن الوطن لا معنى له ولا قداسة له خارج رهان الحياة بما هي كذلك. إن الموتى لا وطن لهم. بل إن كل خطابات الهوية التي أسست عليها دول الاستقلال شرعيتها قد تحوَّلَت فجأة إلى بذاءة سياسية.
إن الوعد الوحيد لدولة المستقبل هو شكل الحياة. وأي تفاوض أخلاقي مع دولة المستقبل لا رهان له سوى الإنسانية. ربما البشرى السارة الوحيدة بعد فشل «الثورات» هو نهاية الهوية كأفق أخلاقي للانتماء. ولم يعُد بمستطاع أي دولة هووية أن تقنع الناس بالموت من أجلها إلا في شكل عناد خطابي بلا أية لياقة. ولكن أيضًا الوعي المزعج بأن الحرية لدينا لا تزال «غير حرة» إلى أمد غير معلوم. وفي انتظار «الحرية الحرة»، ينبغي أن تناضل الشعوب من أجل مجرد الحياة، أي من أجل الإنسانية القابلة للسكن. ليست كل الإنسانيات قابلة للسكن. بعضها حمل كاذب. واليوم أكثر من أي وقت مضى نحن نفهم حجم إساءة التنوير إلى هذه الشعوب التي اعتنقته على حين غفلة تاريخية، تحت مسميات «التحديث» الوطني: لقد قررت الشعوب أن تفر من دولة الهوية، نعني من أي جهاز تبرير هووي يقفز على حقها في الحياة. إن دولة الهوية، أكانت قومية أو دينية أو ليبرالية أو شيوعية … إلخ، لم تعُد مؤهلة تاريخيًّا لقيادة الشعوب نحو مستقبلها. إن الاستقلال الوحيد هو استقلال الحياة. إلا أن هذا المطلب الأخلاقي لا يزال غامضًا أو بلا مفهوم. ذلك بأن مثقفي الدولة/الأمة، أي المثقفين الهوويين، لا ينوون أبدًا ترك الشعوب تغير من أفقها، وتخترع نموذج الحياة الذي يناسبها.