سياسات الشهادة
(١) تاريخ المفهوم
لا يبدو أن الفلاسفة اليونان قد عرفوا معنى الشهادة. بل فقط المعنى
المدني ﻟ «شاهد». ونحن نعثر في كتاب الخطابة (المقالة ١، الفصل ١٥) لأرسطو على إيضاح فلسفي
مفصل للمعنى المدني ﻟ «الشهادة»: إنها شهادة بواسطة الخطاب، حتى ولو
كان الشاهد غائبًا. وحده ما يُقال يمكن أن يمثل شهادة في موقف خطابي داخل
دولة المواطنة المدنية. لم يكُن اليونان يعرفون معنًى آخَر للشهادة غير
المعنى الخطابي. إن الكلمات الصحيحة وحدها يمكن أن تجعل من متكلم ما
«شاهدًا» يؤخذ بما يقول في محكمة ما. ويميز أرسطو بين «شهود قدماء» (مثل
الشعراء والعرافين الذين يؤخذ بأقوالهم في أي مشاورة بين المواطنين)
و«شهود جدد» (مثل الأشخاص المعروفين الذين أصدروا أحكامًا وصار الناس
يأخذون بها في نقاشاتهم حول مسائل مشابهة). لكن حدود الشاهد واضحة بحدة
لدى أرسطو: لا يقول الشاهد أكثر أو أقل من أن أمرًا ما قد حدث أو لم
يحدث، وُجد أم لم يوجد. لا تنطوي الشهادة على أي تقدير لما وقع، أكان
عادلًا أم غير عادل، مثلًا. إلا أن الشهود القدماء أكثر تصديقًا لأنهم
ينطقون عن النواميس غير المكتوبة للطبيعة. كان اليوناني يشهد على عدالة
أبدية بالتعبير عن قوانين غير مكتوبة، وهو غائب. بين الشهادة والغياب
علاقة مثيرة في دلالة الشاهد اليوناني. وهو أمر يبدو أن المعنى الشرقي
أو التوحيدي للشهادة سوف يقلبه رأسًا على عقب: إن «الشاهد» كما تتداوله
الأناجيل هو حاضر أو لا يكون. الحضور هو شرط
الشهادة martyrium في معنى
témoignage أو
witness أو
Bezeugung على ظهور المسيح، على أنه
كان هنا، بين البشر، أنه مرَّ من هنا. وأنه كان «الحقيقة»، أي إنه
«تجلى» للناس، ومات من أجل دفع ديون خطاياهم. وربما أمكننا بناء
الافتراض التالي: إن التحول من الشاهد اليوناني إلى الشاهد المسيحي هو
انتقال مثير من نموذج الغياب أو الحكمة غير المكتوبة إلى نموذج الحضور أو
التجلي التاريخي: من الشهادة المدنية إلى الشهادة الدينية. وهذا يعني
أن الأناجيل المسيحية لم تعرف غير معنى «الشاهد» (اليوناني)، ولم تطرح
مفهوم «الشهيد» (ما بعد اليوناني) إلا في وقت لاحق، أي في نطاق ما بعد
إنجيلي أو كنسي.
إنه علينا أن ننتظر القرن الثاني الميلادي حتى يتشكل معنى
«الشهادة» الذي نقصده، عندما ظهر المفهوم المسيحي المكرس ﻟ «الشهيد»: ذلك
الذي يقبل الموت من أجل إيمانه الديني، في نحو من «التضحية» القصوى
بنفسه. ومن ثَم كان يسمى «شهيد الإيمان» أو «المعترف» بالمعنى الكنسي.
وحين جاء الإسلام تبنى المفهوم المسيحي لكنه أدخل عليه تعديلًا حاسمًا:
إن الشهيد لا يقبل فقط أن يضحي بنفسه سلبًا بل إيجابًا، وهو بهذا
المعنى أول شهيد حركي أو فاعل في تاريخ الشهادة. وذلك أن الشهيد
المسيحي يظل شاهدًا منفعلًا على موته الخاص.
وإن من يفحص مصطلح «الشهادة» يكتشف أن بعض اللغات فقط، ونخص
بالذكر اليونانية والعربية، هي قد عرفت طريقًا متميزًا نحو بلورة مفهوم
«الشهادة»: نعني هذا الانتقال الغامض من دور «الشاهد» إلى موقف «الشهيد».
واللفظة المستعملة اليوم في اللغات الغربية الحديثة من فرنسية وإنجليزية
وألمانية هي من جذر يوناني قديم: mártus، وهو لا يعني
أكثر من معنى «الشاهد»، وليس له دلالة «الشهيد» التوحيدية.
أجل، كان موت سقراط إعدامًا أصدرته محكمة ضد حكيم متهم بأنه يجدف
على آلهة المدينة ويفسد الشباب. وعلينا أن نسأل: لماذا لم يكُن سقراط
شهيدًا؟ مع الإشارة إلى أن محاورة أفلاطون «مرافعة سقراط» قد كانت خالية
تمامًا من الشهود. كان سقراط الشاهد الوحيد في مرافعته على نفسه. ومع ذلك
لم يكُن موته شهادة بالمعنى التوحيدي. كان الشاهد اليوناني خارج أفق
المعنى الذي اخترعه التوحيديون حين غيروا من طبيعة دور الموت: حولوه من
موت وثني، أمام نوع مدني من الشهود، إلى موت «ديني» يقدم عليه «مؤمن»
يستعمل موته الخاص، أي التضحية القصوى بحياته، بوصفه أداة للتعالي
«الأخروي» على سلطة دنيوية باسم ملكوت عالَم آخَر.
ومن سخرية الأسماء أن المسيحيين قد عرفوا في أواخر القرن الثالث
نوعًا آخَر من الأفلاطونيين (وعدد أربعة): أحدهم «القديس أفلاطون الشهيد»،
القديس الذي رفض التخلي عن الإيمان المسيحي قائلًا قبل حرقه حيًّا: «إن
حياتي هي المسيح، وموتي من أجله هي عندي الفوز.»
(٢) الفلاسفة والانتحار
علينا أن نسأل: ما الفرق بين «الشهادة» وبين «الانتحار»؟ بين أن
«يستشهد» أحدهم وبين أن «يقتل نفسه»؟ أليس الأمر يتعلَّق في الحالتَين
باستعمال «خاص» للجسد؟ أو باستعمال «خاص» للموت الشخصي بوصفه ثروة
أخلاقية للتبذير؟
على خلاف الشهادة، لم يكُن الانتحار غريبًا عن الفلاسفة: لقد طرح
أفلاطون (في محاورة الفيدون) مسألة
الانتحار، ونبه إلى أنه من دون إشارة من الآلهة يكون الانتحار خطأً.
لكن فيلسوف رواقيًّا مثل هيجزياس (وُلد حوالي ٢٩٠ق.م.) قد بنى تعاليمه
الأخلاقية على فضيلة «الانتحار» بناءً على أن السعادة مستحيلة وأن
الموت أفضل من الحياة، وقد نُفي ومُنعت كتبه، حتى سُمي «بيسيتانتوس»
Peisithanatos أي «المحرض على
الموت». ولذلك فإنه مع الفلسفة الحديثة (أي الفلسفة التي قامت على مصادر
ذاتية مسيحية) صار السؤال «الفلسفي» عن الشهادة ممكنًا وبالتحديد في نزاع
تأويلي صامت أو معلمن مع مسألة الانتحار. درسُ الحداثة يقع في مفترق
الطرق بين التفكير اليوناني في الانتحار كأحد عناصر ثقافة المجد الوثنية
وبين التكريس المسيحي لصورة الشهيد القديس. من هنا كان الخيار واضحًا:
بين البحث الإنسانوي في درس الانتحار لدى القدماء (مونتاني: «مَن يعلم
الناس كيف يموتون، يعلمهم كيف يحيون»)؛ وبين ثقافة الحياة التي ترفض
التقليد الأخلاقي الرواقي في الانتحار (ديكارت: وحدها الفلسفة الزائفة
تعلمنا أن الحياة سيئة. لا يوجد أي سبب وجيه لقتل أنفسنا). وهكذا صار
الطريق نحو تنزيل حر لمفهوم الشهادة ممكنًا، إما كما هو معطى في التجربة
المسيحية (ليبنتز: الشهيد مثل البربري، هو يستعمل عقله في حالة خطر أو
فوضى قصوى، حالة خطر استثنائية، ولذلك فالشهيد مثل البربري هو وحده يكشف
«عما يستطيعه العقل البشري»)، وإما في صيغة حرة ما بعد-مسيحية بل
مدنية ومناضلة (سبينوزا: «مسرح الشهداء» يظهر في الفصل الأخير من كتاب
رسالة في اللاهوت والسياسة. لكن
شهداء سبينوزا ليسوا شهداء الدين. هم شهداء الاضطهاد، وهو ما يحدث
للمواطنين المضطهدين، وليس للمؤمنين بسبب إيمانهم بما هو كذلك. ولذلك ليس
هناك مضمون «حقيقي» للشهادة، بل ما يهم الفلسفة هو مفعول «الحرية» الذي
ينتج الشهداء. وأهمية الشهداء هي في دفع الشعوب إلى الشعور بالسخط، أي
بالغضب العميق والموجب والإثباتي، الغضب الذي لم يعُد انفعالًا حزينًا.
ونموذج سبينوزا هو: شهادة من دون آخرة. شهادة على نمط روماني، أي وثني.
وشعارها هو الموت من أجل قضية عادلة). لكن اهتزاز مشروع الحداثة — أي
بناء ذاتية إنسانية جديدة على أساس التنوير في كل المجالات — قد دفع
بالفكر المعاصر الذي امتهن «نقد الحداثة» (منذ شوبنهاور وخاصة
ماركس، نيتشه، فرويد، هيدغر) إلى إعادة النظر بشكل جذري في أي استعمال
عمومي أو أخلاقي لصورة «الشهيد» الديني أو العلماني جميعًا. وبعبارة حادة
لفيلسوف عدمي مثل شوبنهاور: «إن الشهادة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن
أن تجعل أحدهم مشهورًا من دون أي مهارة»، وذلك أن الاستشهاد ليس سرًّا
دينيًّا: ففي المستشفيات الحديثة لا يكف الجراحون عن إنتاج «الشهداء»،
ومن نوع غير ديني تمامًا. وفي هذا السياق ما بعد الحديث (أي ما بعد
المسيحي) أسقط الفلاسفة المعاصرون الفاصل الأخلاقي بين الشهادة والانتحار
(نيتشه: فكرة الانتحار عزاء كبير) هي تساعد على السلوان من ليلة سيئة.
طبعًا ذلك لا يعني أن تتحول الفلسفة إلى شرطي ضد إرادة الانتحار لدى أي
كان. قال نيتشه في إنساني، مفرط في إنسانيته: «يوجد قانون يسمح لنا بأن نمنع إنسانًا ما من الحياة، ولكن
لا يوجد أي قانون يسمح لنا بأن نمنعه من الموت: سوف يكون ذلك مجرد قسوة
لا غير.» لا يحق لنا أن نمنع أحدًا من الانتحار. لكن ذلك لا يعني أن
علينا تقريظ الشهادة: الشهداء ليسوا دليلًا على حقيقة قضية ما، بل لا يوجد
شهيد له علاقة فعلية بمسألة الحقيقة (المسيح
الدجال).
(٣) الدين والشهادة
إذا كانت المسيحية هي التي دشنت علاقة الشهادة بالموت، فإن
الإسلام هو الذي حول تلك العلاقة الإنجيلية بين الشهادة والموت من
انفعال تبشيري إلى إرادة اقتدار جبارة. ربما يستمد الدين التوحيدي
أمارته الفارقة من قدرته المهولة على تدجين واقعة الموت، وذلك بتحويل
الموت من حادث إلى حدث: من صدمة تتم داخل الجسد البشري إلى حدث روحي
يجري في أفق النفس المخلوقة المترنحة بين أصابع الرحمان، أحد الأسماء
العليا للإله/الشخص في إطار الأديان العالمية الثلاثة الكبرى. ليس الدين
غير لعبة لغوية لتحويل واقعة الموت إلى مفعول سردي يوشك أن يتم من
دوننا. وفي هذا السياق علينا أن نطرح مشكلة تحريم «الانتحار» نعني «قتل
النفس» كما تقول اللغات الغربية، مثل اللاتينية
(suicidium، المكون من لفظي
sui، أي «النفس»،
وcaedere، أي «القتل») أو الألمانية
(إماتة النفس Selbsttötung أو قتل
النفس Selbsmord أو حتى الموت
الحر Freitod). الانتحار محرم
دينيًّا لأنه يعيد للجسد البشري ملكية الموت الخاص بأي شخص. والحال
أن الدين التوحيدي هو مقايضة أو معاهدة ميتافيزيقية بين الخالق
والمخلوق: أن يعطي المخلوق «موته» في مقابل الوعد ﺑ «حياة» أخرى. ولذلك
فكل مَن يقتل «نفسه» يستعيد ملكية «موته» ويتخلى عن مبدأ المقايضة وعن
تلك المعاهدة الأخروية مع الخالق. لا معنى لديانة بدون آخِرة. إنها سوف
تكون مجرد جبن ميتافيزيقي أمام الحياة. ودون أي انتصار أخلاقي على
الموت. إن الخطورة القصوى لإرادة الانتحار إنما تتمثَّل في إرادة تحرير
الموت من أي سردية أخروية حول دلالته. وذلك يعني إرادة استعادة
الملكية الأخلاقية للموت الخاص باعتباره شأنًا «خاصًّا» بلا رجعة. إن أخطر
ما في معنى الانتحار هو أنه «موت حر» كما يقول اللفظ الألماني الرشيق
المذكور آنفًا.
ذلك ما يجعل التوحيديين نمطًا بشريًّا متميزًا تمامًا، متميزًا بموته
الخاص. ويمكن لنا تعريفهم أنثروبولوجيًّا بأنهم الشعوب التي تحرم
الانتحار وتستعيض عنه بتجربة الشهادة. الشهادة اختراع أخلاقي خاص
بالتوحيديين، أي بأولئك الذين خلصوا الموت من أي بعد تراجيدي، وأخرجوه
من أفق الإنسان. في واقع الأمر، التوحيديون بلا قدر. ولهذا هم «مؤمنون»:
إن لهم إلهًا خالقًا. وليس ميثولوجيا أساسية. الشهيد المسيحي-الإسلامي
ليس أوديبًا في شيء: إنه لا يفقأ عينَيه حتى لا يرى نكاح المحارم الذي
اقترفه، أو يقتل نفسه مثلما فعلت أم أوديب. بل يريد أن يقف على مستوى
غير تراجيدي وبالتالي غير يوناني تمامًا: هو يدجن موته من أجل الشهادة
على حياة من مستوًى آخَر.
لذلك ليس في الدلالة «الدينية» (واليونان لم يكُن لهم «دين» بل فقط
«ثيولوجيا» أي قصص آلهة) للشهادة أي علاقة بنيوية بالموت. الشهادة ليست
انتحارًا. هي ليست قتلًا للنفس. وربما يمكننا أن نجازف بهذا التعريف: إن
الشهادة ليست «قتل النفس» بل «قتل الجسد» كتعريف خاص بالتوحيديين يميزهم
عن التعريف الغربي أو الحديث لمفهوم «الانتحار». كان اليونان ينتحرون في
«أجسادهم»، لأن الجسد
sôma عندهم
سجن
sôma أو
قبر
sêma.
١ أما التوحيديون فهم «يستشهدون» في «نفوسهم» لأن «النفس»
عندهم «نفسٌ» أو «نفخ» إلهي. وهذا يُعد أكبر اختلاف أخلاقي عن الأمم
القديمة: تم تحريم الانتحار وتبخيسه من أجل بناء جهاز أخلاقي جديد
للموت: إنه الاستشهاد.
ومن الواضح أنه لا يمكن أن نفهم معنى الانتحار لدى اليونان من دون
ربطه بتصور معين لسياسة الأجساد. تصور يقوم على أنه استعمال
«الفانين» لكمية الحياة التي بحوزتهم. إنهم لا يملكون موتهم. بل فقط
قدرته الفانية على الحياة. ولذلك هم كانوا وثنيين سعداء. وحده الوثني
السعيد يمكنه أن ينتحر. ويأخذ ذلك بوصفه شرفًا يُباهي به مواطني مدينته.
وفي هذا السياق تحدث اليونان عن «الشهادة» باعتبارها موقف «الشهود»
القادرين على الفعل في «لوغوس» المدينة بالغياب. الشاهد اليوناني جزء من
خطاب وثني يصر على تدبير الحياة، أي على سياسة الأجساد الحرة من أي
آخرة. كان لليونان «شهود» وثنيون، ولم يكُن لديهم «شهداء» بالمعنى
المسيحي. بل هم: لم يكونوا مؤهلين للشهادة كتجربة أخلاقية غير تراجيدية.
وكان المسيحيون الأوائل يشعرون بأنهم بتجربة الشهادة هم يملكون تميزًا
أخلاقيًّا على «الأمم» الأخرى، وبخاصة عن اليونان والرومان
الوثنيين.
(٤) سياسات الشهادة
حين ينجح المؤمن التوحيدي في الفصل بين الانتحار والشهادة، أي بين
قتل النفس وقتل الجسد، هو ينجح بشكل فظيع في تحويل موته الخاص إلى قصة
تتجاوزه بشكل جذري. ثمة عنصر سردي أساسي في أي إقدام على الاستشهاد.
ويبدو أن المسيحيين قد كان في نيتهم تعويض التراجيديا اليونانية بقصص
الإبراهيميين، ومن ثم تنصيب جهاز تحويل أخلاقي غير مسبوق ينقل المفاهيم
من الدلالات الوثنية إلى المعاني الدينية. وهو ما وقع مع مصطلح
μάρτυς/mártus اليوناني: من
«الشاهد» المدني إلى «الشهيد» الديني، ومن خطاب وثني حول تدبير الحياة
إلى قصص إبراهيمي حول سيرة الموت الخاص. كان ثمة ما يشبه العلمنة
المقلوبة أو «التمسيح»: ترجمة ما هو وثني في دلالة دينية غير مسبوقة
لأنها تنقل المصطلحات من أفق اليونان إلى أفق الإبراهيميين. وهذا ما وقع
مع مصطلح «مارتوس». ويمكننا أن نعتمد هنا على التمييز الذي أجراه هيغل
بين «العلامة» و«الرمز»، وتوقف عنده جاك دريدا في كتابه هوامش الفلسفة، حتى نفهم طبيعة هذا الانزياح:
لقد تم نقل «الشاهد» من نطاق «العلامة» (الاعتباطية) على شيء آخَر غريب
عنها إلى موقع «الرمز» الذي لا يحق له أن ينفصل فيه الرمز عن المرموز.
وكانت اليونانية القديمة تقول الرمز
«sumbolon
(σύμβολον)» في معنى الجمع معًا
syn معًا،
وballein ألقى: الرمز «يلقي»
بكينونتين «معًا»؛ ولا ينفصل «الشهيد» (جسد المؤمن) عن «شهادته» (الفعل
بواسطة موته الخاص أو بواسطة «اللا-جسد»). وإن الشاهد اليوناني الذي
ضبط معناه أرسطو في كتاب الخطابة هو
علامة، وتعمل بالغياب، وهي مشكل مرتبط بنوع مكرس من سياسة الذاكرة؛ لكن
الشهيد التوحيدي رمز، ولا يمكنه أن يجرب شهادته إلا بالحاضر وفي
الحاضر، وهو مرتبط في وظيفته بنوع مفتوح من الوعي بالزمان الخاص بسردية
تتجاوزنا. من هنا يظهر دور جديد للجسد: إنه أداة هيروغليفية لكتابة
«النفس» المؤمنة، أي النفس التي لم تعُد تنتمي إلى هذا العالم. الشهادة
التوحيدية نوع من الكتابة بالجسد، ولكن على ظهر النفس. لم يعُد أي دور
وثني للجسد المؤمن، إذ تم تخليصه نهائيًّا من أي بُعد تراجيدي. إنه لم
يعُد قدرًا. وحين تنتهي معركة الفانين مع القدر، تبدأ معارك المؤمنين مع
المصير: مصير النفوس بعد الموت. ولذلك يبدو جسد المؤمن بمثابة عائق دنيوي
أو وسيلة غير مناسبة للخلاص. وعلى المؤمن الحقيقي أن ينتقل إلى طور
أخلاقي يقع ما بعد الجسد: إنه الشهادة.
ما هو رمزي في الشهادة هو أن قتل الجسد لا ينفصل عن قتل النفس.
ولذلك نحن نشاهد حدثا مضاعفًا: استعمالًا للموت الخاص باعتباره وسيلة
جسدية للشهادة على نوع مخصوص من «التجلي» الإلهي على الأرض، مسطح
الفانين. ما يشهد عليه الشهيد ليس موته. إن موته نوع جديد من المسرح
الذي لم يعرفه اليونان: مسرح حيث يموت الممثلون بالفعل، وليس ركحيًّا
فقط. ليس هناك «ركح للتمثيل» في ديانات التوحيد، بل فقط «عالم الشهادة».
هذا الانزياح جعل المسيحيين يُماهون بين «الشهادة» و«الاعتراف» بأنهم
«مسيحيون» رغم الاضطهاد المميت: إن الشهادة قد كانت منذ أول أمرها
سياسة «مشهدية» أو «مرآوية»: سياسة «المرئي»
(
visibilité) أو سياسة «الترائي» أمام
العالم الذي لم يرَ بعدُ، كما يشرح ذلك الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان لوك
ماريون (في كتابه
لا تراه حتى تؤمن به. الكلمة
والصمت، باريس، ٢٠١٠م)
٢ انطلاقًا من كتابات القديس المسيحي المسمى «جاستن مارتر
Justin Martyr» أي «جاستن الشهيد»
(١٠٠-١٦٥ب.م.) الذي قُتل مع تلاميذه.
ولذلك فإن مجيء الإسلام باعتباره «آخر» طور من الدين التوحيدي قد
جذر مفهوم «الشهادة» في جملة المعاني السابقة (الشاهد اليوناني على
نواميس مدينته، الشاهد الإنجيلي على تجلي الرب، الشهيد المسيحي من أجل
إيمانه الذي يجب إظهاره للعالم) ودفع به إلى أقصى احتمال ميتافيزيقي له:
إنتاج الموت وتبادله مع العدو الوثني. وفجأة تم بناء أكبر آلة موت
أخلاقي عرفها الشرق الأوسط القديم. إنه «موت الشهادة» باعتباره اختيارًا
أخلاقيًّا أو حالة استثناء أخلاقي لا نظير له. ويمكننا أن نلاحظ هنا أن
الشهيد الإسلامي لا «يكمل» الشهيد المسيحي، الشهيد-المنفعل أمام موته،
في شيء، بل هو، على ما يبدو، يتجرأ على استعادة أو تملك طريقة الوثنيين
في تمجيد المقتول من أجل قضية كبرى، ونعني بالتحديد أخلاق الفتوة التي
عرفها العرب. ذلك أن الإسلام له سيرة أخلاقية مستقلة أو مختلفة عن سيرة
المسيحية: إنه ليس دين «شهداء» مرآويين أو شهداء «رهبانيين»، بل شهداء
«جهاديين»: يجاهدون عدوًّا وثنيًّا بطرق يفهمها الوثنيون ويخافونها، لأنها
جزء من طقوسهم في الموت. ما غيره الإسلام هو سياسة الموت التي يفترضها
كل استعمال بشري لجهاز الشهادة: من الموت المنفعل تم الانتقال إلى
الموت الفاعل، أو الموت المجاهد. ومن سياسة «الاعتراف» بالإيمان إلى حد
الموت، تم المرور إلى سياسة «الجهاد» ضد العدو إلى حد القتل. ولذلك
فالمجاهدون الحقيقيون لا يموتون، بل يقتلون ويُقتلون.
(٥) مستقبل الشهيد
تحت مفعول الحداثة الذي حول العقائد المسيحية أو التوحيدية إلى قيم
علمانية، تم استدعاء مصطلح «الشهيد» إلى أدوار جديدة: فصار «شهيد الوطن»
مثلًا، أو «شهيد الحرية» أو «شهيد الكرامة» أو «شهيد الإبادة العرقية» أو
«شهيد الثورة» … يعني «الضحية» البريئة التي لم تكُن تستحق أن تُقتل.
ثمة انقلاب مزعج في هذا المعنى الجديد: صار ينبغي على المقتول أن يكون
«بريئًا» من موته الخاص حتى يستحق صفة الشهيد. وصرنا في أزمنة الدولة
العلمانية نشترط البراءة أو عدم سابقية الإضمار والترصد كي نسمي قتيلًا
ما باسم الشهيد. لقد خرج الشهيد من أفق الشهادة الدينية وصِرنا أمام
الشهادة عن غير قصد «أخروي». بل صار من غير المخجل أبدًا أن نتحدَّث عن
شهداء «علمانيين» أو شهداء العالم الدنيوي: شهداء الدولة الأمنية الحديثة
وشهداء الحركات اليسارية وشهداء المجتمع المدني … بالإضافة إلى شهداء
العلم والطب والدفاع عن «الأرض» يومًا ما ضد «الفضائيين».
والسؤال هو: إلى أي حد يحق «لنا» (نحن من «غير» الشهداء) أن نسمح
بتحويل الشهادة إلى موضوع نقاش عمومي؟ نعني: إلى «موقف» أخلاقي ومدني
ضروري للمواطنة؟ هل يمكننا فعلًا أن ندافع عن «المواطن-الشهيد»؟ ومن ثَم
أن نعلم أبناء الدولة «الديمقراطية» المنشودة أن الشهادة أحد تمارين
المواطنة «الجيدة»؟ ألا نمارس بذلك أي اعتداء أخلاقي على أبناء
المستقبل؟ أو أي تحريف أخلاقي لهوية الأطفال «ما بعد الدينيين» و«ما بعد
العلمانيين» للحياة في المستقبل؟ لماذا لا تكون المواطنة الجيدة بديلًا
عن الشهادة؟ أليس ذلك علامة على عجز الدولة الحديثة من جهة كونها لم
تستغنِ أو لم تستطع الاستغناء عن جهاز الشهادة من أجل تبرير بقاء هذا
«الإله الدنيوي» أو «الإله الفاني» حسب عبارة رائعة سكها توماس هوبس في
كتابه التنيِّين لوصف الدولة لم تفقد
أي شذرة من بريقها؟
يبدو أن أكبر تحريف لقيمة المواطن التي يستحقها أيٌّ كان هو أن
نرسم أفقها ما بين الجثة والشهيد: بين أن يُقتل وأن يتحول إلى رمز. لم
تظهر الأديان من أجل إنتاج الشهداء أو بناء دولة-الشهيد؛ بل من أجل تدبير
مصلحة النوع. وكل دولة تنسى الفرق الأخلاقي بين الحياة والموت تنقلب إلى
جحيم وثني. ولا مستقبل لآداب الشهادة إلا البراءة: وحده البريء شهيد،
إنه يشهد على موته لأنه ليس جزء منه، بل فُرض عليه فرضًا. أما من
يحول الشهادة إلى أداة كلبية لبقاء الدول أو لأي مؤسسة سلطة تتعالى
على عقول مواطنيها وتستعمل نفوسهم بوصفها علفًا سياسيًّا، فهو يخلط خلطًا
خبيثًا بين ثقافة الموت وثقافة الحياة.
… إذَن، لنترك الكلمة للشعراء:
«شكرًا لكم …
شكرًا لكم.
فحبيبتي قُتلت … وصار بوسعكم
أن تشربوا كأسًا على قبر الشهيدَة
وقصيدتي اغتيلت …
وهل من أمةٍ في الأرض
— إلا نحنُ — تغتال القصيدَة؟»
(نزار قباني، قصيدة
بلقيس)