المراهقة الملحدة أو ماذا تبقَّى من الأب؟

«الإلحاد، قوة الفكر، ولكن إلى حدٍّ ما فقط.»

باسكال

«التعصُّب هو غولٌ أخطَر ألفَ مرَّة من الإلحاد الفلسفي.»

فولتير

ثمة ابتسامة صامتة — وليست كل ابتساماتنا تدعو إلى الصمت — سرعان ما تعرض لنا حينما يأخذ أحد «أبنائنا»، المراهقين «ما بعد المحدثين»، في امتشاق لغة الحرية «المتحرِّرة»، وليست كل حرية قادرة على التحرُّر من ذاتها، تلك التي نزعت قفاز الأدب الأبوي، والتي تزعم بأناقة جارحة أنها لا تؤمن بأي إله وأنها حرية «ملحدة» (!) وسبب الابتسام الذي لن يفارقك عندئذٍ هو طرافة هذا المشهد الأخلاقي الجديد مراهقة ملحدة. ولأن هؤلاء المراهقين هم قلَّموا يتوفرون على معرفة ميتافيزيقية أو دربة نقدية على الخوض في غمار مناقشة فلسفية أو لاهوتية أو حتى أخلاقية حول معنى الإلحاد بما هو كذلك، أو ثقافة الإلحاد أو وجاهته المعيارية، أو تجربة المعنى التي يمكن أن يصدر عنها، أو تاريخه النظري، أو نوع العقول التي ادَّعته، أو أنماطه وأشكاله في العالَم وأزماته ومجالاته وحدوده ومستقبله … إلخ، فإن المراهقة الملحدة ظاهرة تدعونا إلى إعادة التفكير في ماهية الدين ودلالته اليوم، أكثر ممَّا تفرض علينا معالجة تسلُّطية ضد ذنب لا يُغتفر.

حين يواجهك أحد أبنائك بدعوى الإلحاد فإن كل الوصفات اللاهوتية أو الفقهية أو الردود الشرعية عليه قد صارت فجأةً بلا أي جدوى؛ إنك لن تقيم الحد على مراهق هو لا يزال تحت مسئوليتك الأخلاقية والمادية. ثم مَن أنت حتى تقيم عليه الحد؟ باسم أيِّ سلطة؟ هل أنت أبوه الأخلاقي الوحيد؟ هو قطرة بشرية في كأس مجتمعه بأسره، وتكاد لا تمارس عليه أي سلطة حقيقية سوى بعض الأدب.

ما نشعر به إذَن هو أن معنى السلطة بعامة قد تغيَّرَ على نحو غير مسبوق، ولم يعُد يمكن التعويل على أي نوع من «التسلُّط» لحمل الشباب على العناية بذواتهم الجديدة بناءً على علاقة صحية بمصادر أنفسهم العميقة. فجأةً ارتجت كل ثوابت الأمة في عقولهم وفي مشاعرهم، ولم يعُد يمكن استعمال أي عنف أخلاقي أو تأويلي ضد إرادتهم الفظيعة بهشاشتها والتباسها.

أجل، قد يُقال إن المراهقة الملحدة هي موضة روحية تؤدي دورًا جماليًّا أكثر منها موقفًا عقديًّا ضد الدين بما هو كذلك. قد يكون في هذا بعض من الصدق، لكن الصادق ليس صحيحًا دائمًا. وذلك أن ادِّعاء الإلحاد من قِبَل الشباب لئن لم يكن نتيجة تأمُّل ميتافيزيقي في حقيقة الإله أو في معنى التعالي أو في تناهي الكيان الإنساني وهشاشته الوجودية، فإنه يُخفي في طياته تمرُّدًا أكيدًا على شبكة رمزية من السلطة، ليس التأثير الأبوي غير الهالة الظاهرة منها فحسب. إن ما يثور ضده المراهق الملحد هو شبكة طويلة الأمد من الأعمدة الروحية التي شكلت إلى حد الآن ليس فقط جملة تقنيات الرجاء العميقة لأنفسنا، بل بخاصة جملة الأشكال العامة للتذوُّت والتذويت التي بنينا عليها معنى «النفس» لدينا ومعنى «الهوية» البشرية ومعنى «الشخص» المفرد بعامة. ونعني بالتحديد شبكة السلطة التي تتألَّف من ثلاثية الأب/الحاكم/الإله، وذلك باعتبارها الخطاطة السرية لكل نوع من السلطة، أي من العلاقة العمودية بالبشر أو بالعالَم الذي يعيشون فيه.

كل تمرُّد أخلاقي، من جنس الإلحاد، هو بوجه أو بآخَر قلقٌ من وطأة شبكة الأب/الحاكم/الإله، باعتبارها سُلطة معيارية لم تعُد محتملة؛ ولذلك فإن كل أجهزة الأدب التي شكلت إلى حد الآن دلالة «النفس» في الفضاء الإنساني بعامة هي لم تكُن غالبًا سوى تمارين أخلاقية مريرة على إقناع الحيوان البشري منذ ولادته إلى وقت وفاته بأنه مدعوٌّ إلى أنماط تذوُّت مناسبة لطبيعته البشرية، هي تلك التي تكون كفيلة بتدريبه على التكيُّف المفيد مع شبكة السلطة التي لا «خارج» لها: شبكة الأب/الحاكم/الإله. وبأنه ليس يمكن أن يوجد «خارج» شبكة السلطة الأبوية والسياسية والدينية غير الأشباح أو المجانين أو الموتى. نعني لا يفلت من شبكة السلطة، سلطة الأب/الحاكم/الإله، إلا ما/مَن لم يوجد قطُّ، أو الذي جُن عقله أو الذي فارق الحياة. العدم والجنون والموت هي الحدود الميتافيزيقية التي ترسمها شبكة الأب/الحاكم/الإله، ضد أي عصيان أخلاقي من طرف الحيوان البشري ضد هيبتها.

وليس من الصدفة أن «الملحدين» في جميع الثقافات القديمة والحديثة هم أولئك الذين لا مكان لهم «داخل» شبكة الأب/الحاكم/الإله، التي تنظِّم أو تضبط الحالة الأخلاقية السوية للبشر بما هو «أشخاص»، أي كائنات «تشخص» أمام العين المراقبة، ومن ثَم تدخل في نطاق «المرئي» الخاص بالسلطة. الشخص هو المرئي بالنسبة إلى عين سُلطة ما. ما عدا ذلك هو لحم حيواني خارج السيطرة.

لذلك فالملحد هو الذي يريد أن «يلحد» شيئًا ميتًا؛ أي يُواريه التراب، وهذه «المواراة» هي عملية إخفاء للمرئي قصد تنصيب غير المرئي باعتباره هو المجال الأنسب للبشر البشري. الإلحاد هو عدول عن المرئي الذي تُعيِّنه السلطة وتنشره كشاشة أخلاقية أو معيارية وحيدة للتحديق نحو أنفسنا العميقة. ولذلك يبدو كل ما هو ملحد مائلًا ومعوجًا؛ يُقال: لَحَدَ السهمُ عن الهدف: أي عدل عنه، ولاحَدَ صاحبه: أي اعوجَّ كلٌّ منهما عن الآخَر. ولَحَدَ عن الدين: أي مالَ وحادَ؛ والْتَحدَ إلى فلان: الْتَجأَ، والمُلتحَد: المَلجَأ، لأن اللاجئ يَميل إليه. واللحود: المائل. ولا يختلف معنى الكفر عن معنى الإلحاد في دلالة الإخفاء والمواراة؛ كَفَرَ الشيءَ: ستَرَهُ وغطَّاه. والكُفران: ستر نعمة المُنعِم وسترها. والمُكفَّر: المُوثَّق في الحديد، كأنه مستور به. والمُتكفِّر: الداخلُ في السلاح.

ما تصبو إليه المراهقة الملحدة ليس «الكفر» أو «الشرك» بالمعنى الديني؛ فرؤية العالم التي تبرِّر هذا النوع من السيرة في الحياة قد تبخَّرَت منذ زمن طويل، بل ما تصبو إليه هو التحرُّر من نمط سائد من السلطة العميقة. التحرُّر بواسطة «الإلحاد» أي الإخفاء والتعتيم والستر المتعمد لشاشة السلطة التي يؤلفها الأب/الحاكم/الإله. لا يعني الإلحاد في ماهيته هنا غير عملية إخفاء أخلاقية واسعة النطاق لوجه الأب/الحاكم/الإله، التي تحملق في عين المراهق وتتأمر عليه من الداخل. إنه تمرُّد بصري على شاشة أخلاقية لم تعُد محتملة لنفوس من نوع جديد. يريد المراهق الملحد أن يلتجئ إلى الجزء غير المرئي من حياته، بحيث إن الإلحاد هو التمرُّد على سلطة المرئي، وامتشاق غير المرئي بالنسبة إلى بصر السلطة، باعتباره — هو أيضًا — شيئًا جديرًا بالنظر.

لذلك يبدو «الملحدون» الجدد رهطًا بشريًّا «غير مرئي» أو متمردًا على سلطة المرئي. لكن المفارقة هي أن هذا الإلحاد للمرئي بالنسبة إلى عين السلطة العميقة، إنما يقدِّم نفسه بوصفه عملية رفع للحجب عن حقيقة مؤلمة ومريرة، قامت سلطة الأب/الحاكم/الإله بطمسها من خلال جهاز رمزي طويل الأمد هو لغة التعالي: إن الأفق دنيوي دائمًا. وإنه لا يمكن ولا يحق لأي شيء أن يكون مقدَّسًا إلا إذا كان عموديًّا. والحال أن هذا هو ماهية السلطة بما هي كذلك. ومن ثَم فليس من هدف كبير لمعنى الإلحاد سوى إعادة الكينونة في العالم إلى العالم، إلى «العالم» كما «يعلم» للحيوانات البشرية، من دون أي مساحيق أبوية أو سياسية أو لاهوتية.

لا ترى السلطة غير نفسها. لذلك لا يكون البشري «شخصًا» إلا عندما ينجح في الظهور في مساحة المرئي الذي تضبطه وترعاه سلطة ما، وسلطة السلط العميقة هي سلطة الأب/الحاكم/الإله. ولذلك كل تمرُّد على هذه الشبكة السابقة على وجودنا هو ضرب من «المراهقة».

كل ما يفرض علينا علاقة سلطوية عمودية، مطلقة، ومتعالية، هو يفرض علينا حالة مراهقة أخلاقية واسعة النطاق. يُقال: المراهق هو الغلام الذي قد قارب الحُلُم. وصلَّى الصلاة مُراهِقًا: أي مُدانِيًا لفوات وقتها. المراهقة في المعنى الأول قد تعني ما عناه كانط في رسالة ما هو التنوير؟ بمعنى «القصور»: القصور الذي أذنبه الإنسان في حق نفسه. وفي المعنى الثاني المراهق هو المُدرِك لشيء كاد يتأخر عنه، والمراهقة عندئذٍ هي تعجيل واستدراك ولحاق. لكن المعاني الأصلية التي تسبق هذه الدلالات الاصطلاحية هي معاني متصلة بجملة من القبائح: رَهِق بمعنى ظَلم وكذبَ وسفُهَ، وأرهَقَهُ: حَمَلَه على ما لا يُطيق، والرَّهَق: هو الإثم والتهمة، ومنه «المرهق»: المتهم في دينه، ولكن أيضًا الموصوف بخفة العقل والجهل.

لا يلحد المراهق إلا لأنه بات يعرف أنه مرهق بألم رمزي أو أخلاقي يفوق ملكة التحمل البشرية على نحوٍ لا يُطاق. ليس الفرق بين الحيوان والبشر غير فن الاحتمال لما لا يُطاق. والخيط الرفيع بين الاحتمال البشري والتحمل الحيواني يكمن في هذا: لا يتحمل الحيوان ما يفوق قدرته على التحمل، لكن البشر قد يذهب في احتمال ما لا يُطاق إلى حدٍّ مُثير. وليست «البشرية» غير فن احتمال للأمر الذي لا يمكن لأي حيوان أن يتحمَّلَه. والأمر الذي لا يمكن لأي حيوان أن يتحمَّلَه ليس شيئًا آخَر سوى ظاهرة «السلطة». وخاصة التي تستطيع أن ترهن شخصيتنا العميقة في دورٍ ما. وبالتالي هي تملك سلَفًا حقَّ تدمير الهوية التي نستمد منها شكل تذوُّتنا. ما يتحمله الحيوان هو القوة، أما السلطة فهو يجهلها. وتلك معضلة الإنسان.

المراهق هو مَن أرهقه جسمه الحيوي، نعني كمية الحياة التي تطفح من حدود نفسه. لنقل: إن المراهقة هي نزاع حدودي بين الحياة والسلطة، بين البراءة الفظيعة للجسم، كما يتجسم في العالم، وبين التقنيات التسلُّطية للجسد، الجاهز للاستخدام. إن كل ما يدخل في منطقة السلطة التي تشكلها شبكة الأب/الحاكم/الإله، من شأنه أن يتحوَّل من جسم «حيوي» إلى جسد «هووي»، أي من طاقة إلى سلطة. ونحن بإزاء عملية تصنيع نسقي لجهاز المرئي الذي ترضاه سلطةٌ ما وبه تحول كل ما يسكن داخله إلى «شخص» أي إلى كائن صالح للشخوص المناسب في شاشة القيم السائدة، وبالتالي قابل للمراقبة والنظر.

ما يتمرَّد عليه المراهق هو إرادة المراقبة أو إرادة النظر التي تحرص كل سلطة على تنصيبها في وعي المنتمين إليها، بوصفهم أشخاصًا، أي كائنات مرئية، «إعلامية»، مرآوية، مشهدية، لا قيمة لها إلا بقدر ما تشخص في شاشة السلطة التي تدير شئون ما هو مرئي بعامة. وكل كينونة تبقى غير مرئية هي لا وجود لها.

تحرص كل سلطة عميقة على إبقاء كل ركن من شخصية الشخص الخاضع لها في منطقة الظهور المناسبة لها، أي تحت المجهر المطلق، عين الأب، وعين الحاكم، وعين الإله، وإن أقصى ما تريده السلطة العميقة هو إبقاء كل تفاصيل اليوم للشخص البشري تحت المجهر العمودي للعين الكلية، حتى تلك المناطق التي يظن الشخص الحديث أنها جزء من هويته الخاصة أو تدخل في باب الأجزاء الحميمة من نفسه وجسمه. لكن ما يكتشفه كل مراهق مذعورًا كأنما لسعته عقرب الحياة، هو أن شبكة الأب/الحاكم/الإله، لا تعترف أبدًا بأي منطقة حميمة لا في أعماق النفس ولا في خبايا الجسد. ولذلك فإن المراهقة الملحدة ليست تمرُّدًا على هذا التصرف المشط أو ذاك من طرف ما، بل هي انتفاضة أخلاقية ووجودية فظيعة ضد شبكة السلطة العميقة التي تتحكَّم بصمت أحيانًا كثيرة، ولكن بقوة، في تقنيات الذات الأكثر حميمية للشخص البشري. يشعر المراهق أن ثمة مناطق حميمية في نفسه وفي جسمه، لا يحق لأي سلطة مهما كان نبلها ومهما كانت جلالتها، أن تتدخل فيها أو أن تشرع لها. والقصد هو أن على الأب بعامة، أن يقف عند باب المرئي العائلي، ولا يحق له أن يخترق حدود الأدب «الأبوي»، لكن حدود الأبوة ليست بريئة ولا بديهية أبدًا: إن الأب وكل أنواع الأب الأخرى، الأب/الدولة، أو الأب/السماوات، يتميز في كل الثقافات الكبرى، بأنه عبارة عن ذلك الكائن الذي أعطى لنفسه الحق المتعالي في أن يخترق حواجز الأدب البشري، وأن يُعيد تشكيل ماهية الحيوان الذي فينا، دونما خجل أنطولوجي أو تفاوض أخلاقي يُذكر. هذا النوع الأصلي من الأبوة، هذا الأقنوم الأخلاقي السحيق القدم، وهذا النمط من السلطة العميقة الطويل الأمد، في تاريخ أنفسنا، هو الذي يقضُّ مضجع الشباب ما بعد الحديث، وهو السبب العميق في نزعة الإلحاد التي وجد فيها تنفيسًا جماليًّا عن فراغ كينونته في العالم من أي مشروع حرية مناسب لقدرته ما «بعد الأبوية» على الحياة.

من أجل ذلك، فإن مَن يتمرَّد على هذه السلطة الأبوية العميقة، هو يزعزع شاشة القيم التي فرضَتْها وحوَّلَتها إلى نموذج للعيش في العالم. ولذلك فإن الإلحاد هو تمرُّد أخلاقي «شخصي» على إرادة «النظر» الأبوية بعامة: تمرُّد يُشوِّش ما هو شاخص بفضل السلطة، من أجل إثارة غبار الحياة عليه، وتحويله إلى قيمة «غير شخصية» لأحد.

كل تمرُّد على سلطة عمودية هو إذَن في وضع مراهقة مضاعفة: إنه يتمرَّد عليها لأنها لا تريد أن تعترف بحقه في أن يكون ما يريد. إنها ترفض سلفًا أي إمكانية لأن يلحق بها، أو يدرك كُنهها، أو الدخول في أي قرابة ندية معها. السلطة ليست صديقة أو أختًا لأحد. المراهق هو المحكوم عليه سلفًا من طرف سلطةٍ ما بأنه لن يلحق أبدًا بالأفق الذي ينتمي إليه. أفق الأب أو أفق الحكم أو أفق الإله هي بالضرورة آفاق مؤسَّسة على التعالي اللامشروط والذي لا يقبل أي نوع من المحايثة. ومن ثَم لا وجود لسلطة أفقية، أي تقبل التقاسم بين الأنداد. ولذلك فما يُقلِق المراهق ما بعد الحديث هو أنه لا يعثر على الندية أو المساواة المعيارية السعيدة مع ما يحبه، إنه يبحث عن نوع من التماهي العميق مع الأشياء التي يُدعى إلى احترامها أو إلى تقديسها أو التعلُّق بها. وهو ما لا يعثر عليه صراحة وبشكل مؤلم في شبكة الأب/الحاكم/الإله.

ما لا تفهمه ثقافة الكهول — وسلطة الأب/الحاكم/الإله، هي الجهاز الرمزي الأعلى للكهولة في السلَّم الخُلقي لشعب أو مجتمع أو عصر ما — هو أن المراهق ما بعد الحديث قد بات كائنًا حرًّا بطريقة غير مسبوقة: إنه يملك حرية فارغة متحرِّرة من كل أنواع الخضوع التقليدية، وذلك ليس بفضل ثورة سياسية أو قوة خلقية، بل بفضل استعمال جمالي غير مسبوق للتكنولوجيا الفائقة. إن الفضاءات الرقمية أو الافتراضية قد مكَّنَت الشباب من مساحات تحرُّر لا مثيل لها في أي جيل سابق: تحرُّر الحواس وتحرُّر المخيلة وتحرُّر الصورة وتحرُّر اللغة، وبالتالي تحرُّر الجسم الحي من الجسد الخلقي الجاهز للسكن.

إن القصد هو أن الإلحاد هو حركة طوبيقية، تشكيلية، تريد إخفاء وتغطية نوع من الكينونة بادعاء نوع آخَر منها. ولذلك ليس الملحد كائنًا فضائيًّا، سقط من فوهة السماء، وصار غريبًا عنا. بل هو ابن الجماعة الروحية التي ينتمي إليها. إنه لحظة الرفض داخلها، الرفض اليائس من أي رحمة قد تأتي من شبكة السلطة العمودية السارية المفعول في كل شِبر من هُويته العميقة: شبكة الأب/الحاكم/الإله. ولأن هذه الشبكة من شأنها أن تبسط سيادة مطلقة، لا ناهية، غير قابلة للاستلاب ولا للانقسام، فإن أي تفاوُض معها سيكون تفاوضًا حول نوع الطاعة التي ستفرضها فحسب. إن نوع التفاوض الوحيد الممكن داخل شبكة السلطة العميقة على أنفسنا هو تفاوض حول شروط تحويل الخضوع إلى طاعة مشرفة. بَيْد أن هذا النوع من التفاوض حول تحسين شروط الانتماء إلى أفق أنفسنا العميقة هو بالتحديد ما طفق المراهقون ما بعد المحدثين يرفضونه ويمجُّونه مجًّا.

إن ما وقع من ثورات تحت مسمى هجين من قبيل «الربيع العربي» لم يكُن غريبًا عن ظاهرة المراهقة الملحدة التي نبحث في دلالتها هنا. لم تَثُر الشعوب بضميرها الكهل، ولا بشيخوختها الأخلاقية. لم تكُن الثورة من عمل الأحزاب الرسمية، سلطة ومعارضة. فهذه الهيئات الرمزية قد يئِسَت منذ وقت طويل من أي إمكانية للثورة بالمعنى التاريخي الكبير. وذلك أن الدولة/الأمة الحديثة، والتي اخترعت أجهزة السيادة والحكم والهوية والمواطنة والسكان والتمثيل السياسي والإدارة والإقليم والحدود … إلخ؛ هي قد بذلت وسعها في اختراع مخلوق هووي طويل الأمد، يسكن جسدًا مطيعًا ويفكر بذهنية جاهزة وقابلة للمراقبة والتحكم بواسطة التعليم والإعلام والأمن. ومن ثَم إن إمكانية الثورة على الدولة القومية ما بعد الاستقلال قد تلاشت شيئًا فشيئًا في أفق الجيل المعاصر لنشأتها.

بَيْد أن الجديد هو جيل آخَر تمامًا: جيل بلا انتماء هووي جاهز. إنه لا ينتمي أصلًا لا إلى الأمة (بالمعنى الحديث) ولا إلى الملة (بالمعنى الديني). جيل لا ينتمي إلا إلى جسمه الحيوي وأدوات بقائه التكنولوجية الفائقة: طاقته الشبابية المندفعة نحو استعمالات تقنية جدًّا للحياة وللقدرة على الحياة، والتي طمعت الدولة الأمة في تطويعها واستعمالها استعمالًا «جماليًّا» لصالحها. حيث كان ديدن الدولة/الأمة الحديثة بعد فشل وعود الاستقلال بالتنمية والديمقراطية، هو إلهاء فئة الشباب إلهاءً جماليًّا وتكنولوجيًّا عن دورها الذي اكتشفته الحركات اليسارية في العالم: دور الثورة على نمط الإنتاج وشكل السلطة تحت الدولة الليبرالية الحديثة. وتحوَّلَت الثقافة إلى عملية إلهاء نسقي للشباب يقطعهم عن نموذج الشاب الثوري الذي نشرته الحركات اليسارية، والاستعاضة عنه بنموذج الشاب/المراهق، طويل الأمد، الذي تدعوه الدولة الهووية إلى مواصلة ألعاب طفولته بطرق أخرى.

هذا الاختزال الجمالي للشباب في مراهقة بلا أفق، هو الذي خلق، على الضد من نوايا الدولة/الأمة، جيلًا من المراهقين القادرين على الرفض الأخلاقي الواسع النطاق. ومن هنا جاءت موضة الإلحاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤