أيها الجسد الشرقي … من أنت؟
حين كان الحاكم الهووي جاثمًا على رقاب الشعوب قبل ٢٠١١م كنا نظن أن إهانة الجسد البشري أو تعذيبه في السجون أو حتى اغتصابه أمام عائلته هي أقصى ما كان ممكنًا التعرض له من مصائب أخلاقية على حرمة النفس في أفق ثقافتنا. لكن ما أخذ يحدث راهنًا من انتهاكات غير مسبوقة للجسد البشري في الشرق قد صار مدعاة لمرثية ميتافيزيقية من نوع جديد. يا لهذه الأجساد كيف صارت نهبًا حيوانيًّا لكل حامل سلاح: لقد غير القاتل من ملامحه، ولم يعُد يلبس زي الدول. وفي اللحظة التي تزعزعت فيه هيبة الدولة وانقلبت إلى كيس من الإهانات التي ينثرها «أيٌّ كان» على الفلان اليومي في هذه القطعة من العالم الحالي دون أي توجس من عقاب ما، حصل تغير مريع في منزلة الجسد: إنه مساحة القتل المتبقية لأي مجرم نسقي مهما كان صوته أو لونه أو علمه أو من يشرع له. نعم، انحسر وجه الدولة وتحول إلى غيمة أخلاقية بلا رأس، وعوضها نوع طارف من المجرمين النسقيين: أي حامل سلاح هو دولة برأسه، ويمكنه متى شاء أن يهاجم أي حدود أخلاقية لأجسادنا.
نحن أول جيل نقف على حدود الدول. ونحن أول «مواطنين» بالمعنى الحرفي لهذه اللفظة بالعربية الحديثة: «نواطن» البلد الذي نسكنه دون أي ادعاءات إضافية. طبعًا، هناك فرق بين الوطن والاحتلال. هذا ما كنا نظن أنه وضع مدني أو أخلاقي لا رجعة فيه. وكانت الأجساد تنعم بتطمينات سياسية رسمية حول حرمتها. ومن ثَم كان الفرق بين دولة الهوية وبين دولة الاحتلال، أي بين الوطن والأرض بمجردها، كان فرقًا واضحًا بشكل مزعج. لكن ما وقع للدولة العربية الراهنة هو زعزعة غير مسبوقة لحدودها الأخلاقية معنا: نحن أول جيل سوف يعيش في ظل دول لا «تحكمه» فعلا بل تعايشه دون قدرة حقيقية على حماية نوع السيادة الذي قامت عليه. ولأنه من دون سيادة ليس ثمة دولة، كذلك من دون حماية للأجساد اليومية لن يكون هناك «مدنيون» بالمعنى الحديث. لا توجد الدولة إلا بقدر ما توفره من أمان أخلاقي لأجسادنا بوصفنا كائنات مدنية بحتة. لكن تزعزع قدرة الدولة على حمايتنا حولها إلى جار أخلاقي من دون أي وعود حقيقية بالحياة.
- المثال ١: تحت دولة الاحتلال يطالب الفلسطينيون بأن يستردون أجساد أبنائهم الذين قُتلوا برصاص المحتل «كاملة الأعضاء». أي مصيبة جديدة تواجه الجسد الفلسطيني: إنه لم يعُد جسدًا «محتلًّا» فقط، بل صار غنيمة عضوية لأطباء الاحتلال. دولة تقتل الناس من أجل الاستيلاء على أعضائهم ومن ثَم تحويلهم إلى أدوات عضوية لأجساد أخرى. من يقاوم المحتل صار عرضة إلى انتهاك ميتافيزيقي لأعضائه. كف الجسد الفلسطيني عن أن يكون «عدوًّا» دينيًّا أو قوميًّا لليهود وتحول إلى ثروة أو طريدة أخلاقية للجنود/الأطباء. صار الجسد المحتل أكثر من موضوعة عادية للكراهية القومية. إنه انقلب إلى صيد عضوي أغلى مما كان. وهكذا يتم لأول مرة ربط خبيث بين الحرية والأعضاء: إذا ما قاومت الاحتلال سوف تُقتل، ولكن ليس لأنك عدو خطير بل لأنك صيدٌ عضويٌ ثمين. لم يعُد هدف القتل هو إلحاق الموت بالعدو، بل رد جسده إلى حالته العضوية وتحويله إلى مادة طبية للاستثمار الحيوي. هذه ربما كان أول حروب المستقبل: حروب تُخاض بهدف الاستيلاء الطبي على أعضاء العدو بوصفه ثروة حيوية. وفجأة ينكشف لنا أن العداوة مع الآخر البشري هي مجرد مزحة سياسية لجيل من الناس. في الحقيقة ما دام العدو هو جسد عضوي من فصيلة الحيوان الذي ننتمي إليها فهو ليس عدوًّا إلا بشكل عرضي نعني بشكل سياسي. إن قرابته البيولوجية معنا هي أكثر استراتيجية من عداوته الأخلاقية. هل هناك «تطبيع» ما مع أعضائنا لا تسمح به السياسة؟ ربما. لكن ما هو مؤكد لنا هو أن الاحتلال قد غير من ماهيته: لقد خرج من فصيلة القمع الاستيطاني أو «الكولونيالي»، وانتقل إلى خانة الاستيلاء العضوي أو الطبي على أجسادنا. وهذا مدعاة إلى تأملات أخلاقية أو معيارية من نوع جديد.
- المثال ٢: يتسلل الجسد «التكفيري» إلى وسط الجموع داخل شوارع دمشق أو القاهرة أو عدن — ولا ضر في اسم المكان لأن هذا الجسد الجديد لا وطن له حصرًا — وينفجر. كان العدو سابقًا ينصب كمينًا لأجساد أخرى لكنه لا ينسى جسده في المكان. أما هذه المرة فإن الإرهابي يفجر جسده بنفسه. ولا أحد يجزم بأنه مات هناك. إنه يترك جسده ويحمل «نفسه» إلى مكان من نوع آخر: «جنة» افتراضية لفصيلة من الحيوانات الأخلاقية المنفصلة عن بقية «البشر». وعلينا أن نسأل: ماذا حل بنا حتى صارت أجسادنا تهمة أو كمينًا لأجساد أخرى ليس ثمة ما يفصلنا عنها سوى نوع الادعاءات الأخلاقية حول أنفسنا. في أيلول ٢٠٠١م كان الجسد-الكمين ضد الآخر الديني، ومن ثَم كان يواصل خوض معركة لاهوتية بين الإبراهيميين أو بين عائلتين إبراهيميتين. لكن الجسد التكفيري الذي أخذ يفجر نفسه في وطنه وبين أهله هو جسد من نوع جديد: إنه لا يحارب ضد دين آخَر. ومن ثَم هو لا يواصل تأويلًا قديمًا لأنفسنا. الجسد التكفيري جسد «ما-بعد-حديث» تمامًا: هو لا «يستشهد» من أجل نشر كلمة الله الإبراهيمي لأنها منتشرة منذ آلاف السنين لدى شعوب بأكملها، وهو لا «يضحي» من أجل الوطن، مثل الجسد العلماني للدولة الأمة منذ القرن التاسع عشر، لأنه لا يؤمن بالدولة المدنية أصلًا كشكل مناسب للحياة، بل هو فقط: ينصب استعمالًا عدميًّا للجسد يبدو أنه هو دستور الأجساد بعد انهيار الدول في شكلها الحالي. ولو وضعنا كل ادعاءات الجسد التكفيري حول نفسه بين قوسين لوجدنا أنفسنا أمام حقيقة مرعبة وعارية من أي غطاء أخلاقي: إن قتل الأجساد البشرية هو تقنية البقاء الوحيدة لشكل عدمي وتكنولوجي من السلطة لم يُعرف من قبل. لا يوجد أي مجال للنقاش الأخلاقي مع جسد تكفيري. التكفير يضع مساحة الحوار بين البشر خارج المدار، ويبدأ فجأة في تنفيذ عدمية نشطة وآلية وباردة لا تحتوي على أي مضمون أخلاقي مباشر. ما نجح فيه الجسد التكفيري هو الكشف عن الوجه العدمي من جسد الحيوانات البشرية في المستقبل: أكل الجار كطعام أخلاقي من أجل تبرير الحياة. كل التفكيريين عائلة أخلاقية واحدة: تفكر بالإنسان الحالي لأنه موجود غير مبرر.
- المثال ٣: كومة من النعال الآدمية يتم تجميعها في أحد شوارع بغداد بعد تفجير انتحاري. طبعًا، نحن لا نرى الأجساد هنا. لقد وقع انتشالها قبل ذلك بقليل. لكن النعال تحمل آثار الدماء، وترنو سريعًا إلى أناس عاديين تمامًا، وبالمعنى الدقيق إلى فقراء مروا من هناك. يمرُّ الفقراء وتبقى نعالهم تشهد على موتهم المجاني. حين تتفرس في النعال كنص هيرغليفي، تكتشف للتو أن الأمر لا يعدو أن يكون كومة من النعال اليومية لأناس يوميين لا يتمتعون بأية علامات أرستقراطية أو أية قيمة استثنائية سوى كونهم من فصيلة البشر. وأنهم قُتلوا بسبب ذلك فقط. هذا الموت اليومي هو علامة على نوع جديد من إبادة البشر: ليس من أجل أكلهم، كما فعلت بعض القبائل البدائية، وليس من أجل الاستفادة من أعضائهم كما فعلت إسرائيل الحديثة، بل من أجل إلحاق أكثر ما يمكن من القتل الآدمي في صفوفهم. ماذا وقع على وجه الدقة هو: فقراء انتحاريون فجروا أنفسهم بنية قتل أكثر ما يمكن من الفقراء. ما يضيفه المشهد هو أن مهنة الدولة قد صارت واضحة من فرط تكررها: تنظيف الشوارع من الأجساد المقتولة مجانًا. طبعًا هذا يعني رسم الحدود بين شوارع عادية وشوارع مرَّ بها الانتحاريون. لكن رسم الحدود قد صار هذه المرة خاليًا من أي سلطة أو قدرة على السيادة. إنه عمل بلدي يتمثل في انتشال البقايا الآدمية وإفراغ المشهد اليومي للمدينة من آثار الموت. وكأن الدولة قد تحولت إلى متفرج لا يصل إلا بعد الأوان. متفرج كسول يكتفي بكنس الشوارع من آثار حرب لم يكُن مستعدًّا لخوضها، بل فُرضت عليها في وقت إضافي من عمرها التاريخي. هل على الدول أن تعتذر عن هذا الكم من القتل البشري؟ أم إن الدولة نفسها بضاعة تاريخية من الماضي؟ ومن ثَم أن تجميع كومة من نعال الموتى هو لا يدخل في شئونها الدستورية؟