داعش والغبراء أو نهاية الإسلام؟ … نص غضبي
هل ما يزال بيننا «نحن» من يفخر بالانتماء إلى أفق «الإسلام»؟ إلى «الله» الإسلامي؟ و«محمد» الإسلامي؟ و«القرآن» الإسلامي؟ أم أنه بعد أن «تداعشت» علينا الدنيا من كل حدب وصوب، لم يعُد لدينا أي هامش للاعتذار عن خطر هويتنا على الإنسانية؟ لماذا نشعر بخزي عميق غير مسبوق من كوننا ننتمي إلى هذه الإنسانية المخبولة بالتكبير؟ هل عرف أجدادنا مثل هذا الشعور بالندم على أنفسنا العميقة؟ وهذا العار الأعمى من ثقافة القتل العادي الموحش في عاديته التي تثوي تحت كلماتنا وصلواتنا دون أن نتفطن إلى ذلك منذ قرون؟ أم أننا نشهد أول استعمال تكنولوجي للقتل باسم الله أو باسم السلف الصالح؟
داحس والغبراء، حرب أم أسماء خيول؟ ولكن أيضًا داعش والغبراء: أسماء حرب ولكن هذه المرة بلا خيول. نحن أمة لم تعُد تتسابق على أي شيء. حتى الموت قد تحول إلى مجرد تمارين سلفية على القتل التكنولوجي، القتل للقتل. ومهما كانت الصدفة اللغوية غريبة أو بريئة إلى حد الفظاعة، فهي قد قالت كل شيء: نحن ننتقل من عصر داحس، حيث لا يزال لدينا ما نتسابق عليه، في أفق كينونة جبارة ومؤسسة ومرحة، إلى دهر مزيف وكئيب هو دهر داعش، حيث صارت الصلاة أداة قتل بلا أفق، لأنها صارت تجري خارج فكرة «الله» التي عرفناها إلى حد الآن. كيف يمكن لأحد أن يصلي منذ الآن خارج فكرة الله التقليدية؟ أي ضرب من المكر بإمكاننا أن نعول عليه حتى نعود إلى البيت الأخلاقي لأنفسنا الحديثة، الهشة، الزائلة، في آخر هذا المساء الإمبراطوري/الخليفي، البائس؟
وكلما تسمرت أعيننا أمام مشاهد الدماء القانية، في صورها الرقمية جدًّا، التي تتفجر من الأجسام الطرية للمحدثين، أو ركض البصر عاليًا كي يلمس الرءوس المقطوعة بعناية والمعلقة على سنان الحدائق الحديثة، حيث أخطأ الفل أو الريحان أن يطمع في أن يتطاول في النبات ذات يوم، كلما … شعرنا أننا نموت من الداخل أو أننا قُتل منا شيء ما هناك، في تلك البقاع التي ينهمر فيها المقدس القديم مع كل أنواع الرياح، وحيث تعبق الأرواح المثقلة بالآلهة في كل وهد أو جبل أو خلاء.
يا لهذا العار الميتافيزيقي! قطعان من البشر تُساق بحداء الإبل، إلى مسالخ لا-راهنة، حيث تُنزع الرءوس كما تُقطع العراجين الفاسدة من النخل الميت. هل فسدت فينا الحياة إلى هذا الحد؟ هل موتة الإله الإسلامي قد أوشكت على الالتحاق بموتة الإله المسيحي؟ هل دخلنا مرحلة أدبية جديدة من التأبين الميتافيزيقي لكل ما هو مقدس فينا؟ متى نخجل من كوننا نحن بهذا القدر؟ نساء تُباع وتُشترى خارج التاريخ؟ هل عاد الوحش القديم النائم في كل الثقافات القديمة إلى الظهور دون أن نعلم وباسمنا نحن فحسب دون جميع الأمم؟
يبدو أن ثقافة القتل الدينية لا يمكن أن يعادلها أي نظام آخر من الموت. صحيح أن القتل لا ماهية له. لأن الموت صناعة بلا انتماء. لكن رأس الأمر في القتل ليس المقتول بل عنوان القتل: نوع التشريع الذي يبرر القتل ويعلله من الداخل، وكأنه واجب أخلافي أو فضيلة وثنية. فماذا لو كان القتل نوعًا من الصلاة؟ أو الزكاة أو المناسك والطقوس والشعائر الرسمية لإنسانية واعية بنفسها؟ من السهل أن ننسب قيم القتل إلى هذا الإله أو ذاك. وقد يكون هذا هو الكسل الروحي العميق والفظيع في ثقافة شعب أو مجموعة من الشعوب: إله يبارك قتل البشر وتعذيبه وسبيه واغتصابه وتقطيع أوصاله والتمثيل بجثته، وكأن ذلك تمارين رائعة في الشهادة، كرقصة سريالية للقفز إلى العالم الآخر، عالم الحور والخمور العلوية. وماذا لو كان الله براء وبريئًا من كل ما يدور في خلدنا من السعي إلى مرضاته بواسطة القتل؟
وعلى ما في مشاهد القتل من الفظاعة، فإن ثقافة القتل أفظع من القتل وأشد فتنة على الناس. صحيح أن مشاهدة قطيع من البشر العراة ممددين على صحراء قبيحة، في الرقة السورية أو في أي مكان آخر من أرض الأنبياء، هو أمر مرعب ومخجل ومرفوض تمامًا، وخاصة هو فضيحة لنا أمام ضمير الإنسانية جمعاء، لكن ثقافة القتل التي أدَّت إليه وبرَّرَته، لا تزال قائمة وتتمتع باحترام ميتافيزيقي مريع. ومن الخبث الرخيص أن ندعي أن مقاومة داعش بإعانات الغرب أو حتى القضاء على دولتها هو الحل الناجع. إن داعش فكرة وليس عصابة: فكرة دينية وسياسية عميقة وراسخة في مخيالنا التاريخي السحيق القدم. وليس مجرد مجموعة إرهابية. إنها سياسة هوية، وليست احتلالًا. وإنها خطة روحية للاستيلاء على البشر الحديث وتحويله إلى رعية دينية بلا أي قدرة على المواطنة الحرة. إنها استراتيجية صريحة لتجريد الإنسانية من ملكاتها ومن حرمتها الأخلاقية والقانونية والوجودية وإعادتها إلى حيوانيتها السياسية. هي لا تقيم سيطرتها على نظام بيو-سياسي بالمعنى الحديث، وإن كان يبدو أنها منظمة ومصممة ومُحكمة إداريًّا. لكن ذلك مجرد مظهر فقط.
إن داعش هي التنفيذ الجذري لثقافة القتل التي تحتوي عليها سيرتنا الدينية العميقة. ولا يمكن لأحد أن ينكر أن عديد مشاهد القتل قد سبق وأن وصفها وصوَّرها الإخباريون والمؤرخون القدامى عند العرب. وكونها لا تنتمي إلى سنة الرسول نفسه فهذا لا يغير من طبيعة الإشكال شيئًا، ويبدو أن أحد أسباب وصولنا إلى عصر داعش هو سكوتنا النسقي عن ذلك الوجه الآخر من تاريخنا الروحي وتواطئنا الأخلاقي الطويل الأمد مع قصة أنفسنا القديمة، وهو خطأ ميتافيزيقي اقترفته الشعوب كما استثمره الحكام كأفظع ما يكون.
كيف يمكن لنا أن نتحرر من أي حاجة تاريخية إلى دواعش جديدة في أفقنا؟ أم إن الإسلام قد انتهى كأفق أخلاقي ومن ثمَّة لم يعُد يحق لأي مؤسسة أو هيئة دينية أن تشرع لذواتنا الحديثة وكأننا لا نزال في حاجة إلى هذا الانتماء العميق؟
لطالما دافعنا عن انتمائنا إلى أفق الإسلام كجملة رائعة من مصادر أنفسنا العميقة، ولكن النتيجة جاءت مخيبة للآمال بشكل غير مسبوق: إن وضع دولة الإسلام موضع التنفيذ لم يؤدِّ إلا إلى أسوأ أنواع الوجود السياسي منذ فجر التاريخ: سياسة القطيع البشري نحو المسلخة. وهذا هو ما يجري الآن. وكل مَن يواصل تبرير فكرة الإسلام من دون أن يجد مخرجًا أو تعليلًا أخلاقيًّا لهذا المأزق الميتافيزيقي المرعب حيث ألقت به داعش بكل إرادة وبكل هوية، هو لا يفعل سوى خداعنا أو خداع نفسه. وسواء كان المدافع حداثيًّا أو كان سلفيًّا، فهذا لا يغير من طبيعة المعضلة الداعشية شيئًا.
ربما، نحن الكتَّاب أو لنقل نحن «أهل الكتاب» بجميع أنواعنا لتوحيدية، لم يبقَ لدينا من الحكمة غير الغضب على أنفسنا العميقة. وكل نص منذ الآن هو نص غضبي أو لا يكون. وذلك يعني أنه لم يعُد يحتمل أي نوع من النقاش. لا أحد بإمكانه أن ينجو من الموت بواسطة الحجاج. الموت لا يجيد الاستدلال على الرعب. إنه يرعب فقط.