هل ينبغي الدفاع عن الدولة؟!
يبدو لنا أن قيمة الحرية وأن أفق التحرُّر إنما هي حالات معيارية تختلف من «مجتمع» إلى آخَر. وبما أننا لا نزال «شعبًا» ولم نصبح «مجتمعًا» بعد، أو نحن ما نزال مشروع مجتمع، فإن معركة الحرية عندنا لا تطرح نفسها بنفس الطريقة. يتحول شعب ما إلى مجتمع حين يبني مؤسسة ذاته بناءً حيويًّا اقتصاديًّا وقانونيًّا، على نحو وإلى حد يبلغ فيه إلى المعقولية الداخلية التي تعمل بمفردها. «بمفردها» أي من دون أن تنجح أية هواجس هووية في إرباكها أو تعطيلها من الداخل. إن كل المكاسب التفكيكية لجيل فوكو، تفكيك الذات والإله والمعرفة والسلطة والقانون والسيادة والحرية … هي ترف فكري لا يمكن أن يعني شعوبًا لم تصبح مجتمعات بعدُ. فحيثما يوجد نزاعات هووية لا يمكن أن تندلع معارك تفكيكية. ويبدو لي أنه من المراهقة الفلسفية أن نواصل نقد ماهية السلطة أو نقد ماهية العقل أو نقد الحداثة أو الذاتية … وكأننا «غربيون».
ولا يغرننا استعمال نفس التسميات: إن «حق الاختلاف» مثلًا، تحت قلم فوكو أو دريدا، ليس له نفس المعنى متى استعملناه نحن في ثقافة «مختلفة» بطبعها. نحن مختلفون أصلًا، في معنى أننا نوجد خارج حقل المحايثة «الحديث» حيث تم بسط سيادة الكوجيطو/الأنا أفكِّر الكلِّي على العالم، وبنى إنسانيته بنفسه ومفهوم سيادته وإرادة المعرفة المنتصرة و«موضع» الطبيعة من حوله، وأصبح ينتج تجارب المعنى ويتحكم في فكرة الإله في أفقه الأخلاقي … إلخ. ولذلك لا معنى للدعوة إلى «حق الاختلاف» إلا داخل تاريخ الهوهو، الهوبزي-الديكارتي، الذي شكل منظمة السلطة الحديثة ووضعها تحت سيادة الدولة-الأمة الحديثة، الذي لا يمكن مقاومته إلا بتفكيك إرادة الذات/المعرفة/السلطة التي قام عليها.
إن «الإرهاب»، أي الجرأة على استخدام القتل العمد كتقنية سيادة موجهة نحو هدف آخر غير سلطة الدولة، لا يمكن أن يطرح نفسه أمام مثقف فرنسي مثل فوكو. لا يوجد مفكر غربي يمكن أن يجد نفسه أمام ضرورة التفكير الفلسفي في ماهية الإرهاب، إلا عرضًا. وذلك لهذا السبب: كل ناقد جذري للعقل الغربي من داخله هو مفكر تفكيكي، أي يسعى إلى إرباك إرادة خطاب رسمية و«موجبة» هي تلك التي ظلَّت تعمل منذ أفلاطون تحت راية «الميتافيزيقا» أي خطة تفسير الموجودات والسيطرة عليها وفقًا لمبدأ العلة. وليست المجتمعات الغربية المعاصرة غير النتيجة المباشرة لتنفيذ هذا البرنامج الميتافيزيقي الكلي. وهذا الإرباك قد يأخذ أشكالًا تبدو لنا متباينة تمامًا. إلا أن «أفول الأصنام» (نيتشه) مثلها مثل «تحطيم الأنطولوجيا» (هيدغر) أو «الجدلية السالبة» (أدورنو) أو «أركيولوجيا المعرفة» (فوكو) أو «تفكيك النص» (دريدا) أو «نقد العقل الأداتي» (تقليد مدرسة فرنكفورت بمختلف أجيالها) أو «الفرازيولوجيا ما بعد الحديثة» (ليوتار) أو «التهكم الليبرالي» (رورتي) أو «تعرية الحياة» (أغمبن) … إلخ، كل هذه النقود الجذرية للبنى العميقة للمجتمع الغربي الحديث، هي لا تمس ما يحدث لنا، وليس من شأنها.
نحن نوجد خارج أفقهم. ولذلك هم لا يستطيعون مساعدتنا، إلا عرضًا، أو في شكل «بريكولاج» ميتافيزيقي. طبعًا، من المؤسف أمام النوع البشري، أننا لم نتميز في نادي الإنساني المعاصر إلا بظاهرة «الإرهاب». نحن— موضوعيًّا — «إرهابيون». وليس فقط من يحترف الإرهاب باعتباره خيارًا استراتيجيًّا في عقله أو جسده أو سلوكه اليومي. لا يحتاج أي واحد منا لأن يختار إرهابًا من النوع «الذاتي» حتى يتعرض لتبعات الإرهاب. شخص عادي من أصل عربي أو إسلامي، يعيش في بلد غربي (طبعًا هذا يمكن أن يحدث أيضًا في بعض المناطق من البلاد العربية نفسها)، هو مثار للشبهة الإرهابية، سلفًا. الاسم واللقب كافيان. فإذا أضفت لهما اللون واللغة واللباس، فأنت سخي جدًّا، سخاء قد يكلفك حياتك البسيطة، أيها الحيوان الهووي رغم أنفك.
لكن ما حدث لنا — ما حدث «لنا» وليس «لهم» كما يتكلم البعض — كما في «مجزرة الشعانبي» (وليس هذا اسم محل جزارة كما قد يبدو) في «رمضانات» تحولت إلى مواسم للشهداء وهذا لا يخلو من خطر طويل الأمد على استمرارها، هو شيء خرافي أو مستحيل من نمط جديد تمامًا. طبعًا، نحن نعيش داخل خرافة «النحن» السردية منذ وقت طويل. وهي بلا ريب ضرورية جدًّا لأي شعور بالإنسانية، إذ وحده الانتماء يمكن أن يجعل هوية ما ممكنة أو قابلة للعيش. وكفانا تفكيكًا من هذا الجانب. فنحن لسنا سوى ما يمكننا أن نحكيه عن أنفسنا العميقة. ولكن المستحيل الجديد أو غير المسبوق الذي ضربنا هو واقعة روحية لا يمكن لأي تحليل تفكيكي، أي يقوم على النقد الجذري، تنويريًّا كان أو ما بعد التنويري، أن يطال «نواته» العميقة. وفي الحقيقة، ليس لأنه عسير في معنى أنه معقد أو مركب من مستويات متعددة، وبالتالي يخضع لبنى عقلانية أو لادعاءات صلاحية متناقضة، كما تعود العقل الغربي أن يقول. بل فقط لأنه حدث يريد عمدًا أن يدمر حقل المحايثة الذي بنت عليه الدولة الحديثة معقوليتها، أي نمط سيادتها. الإرهاب ليس صعب التفسير أو مشكل الفهم، بل هو قرار عدمي.
مجموعة من الكائنات المفترسة/المدربة على القتل خارج سلم القيم المتعارف عليها داخل إمكانية «المجتمع» الذي نتدرب على بنائه منذ أكثر من نصف قرن، تنصب كمينًا بشريًّا لقتل بشر آخرين، كان من المفترض تكريمهم على قبول القيام بمهمة استثنائية في تقدير «المواطن» العادي، أي مهمة حماية «الوطن» من العدو الخارجي. كيف نفسر إرادة «القتل المحض» لدى شباب سهرت الدولة الحديثة بهذا القدر أو ذاك على صرف ميزانيات طائلة لإدخاله إلى المساحة المدنية «للعقل المحض»، نعني تعليمه وتربيته ومعالجته وإطعامه وتكوينه … حتى يمكن أن يصبح شخصًا بشريًّا قادرًا على اختيار مشروع موجب لذاته؟ هل نمط الحياة الحديثة مرعب إلى هذا الحد؟ إلى حد حمل السلاح والشروع في قتل الدولة نفسها؟ أجل، إن الإرهاب ليس عنفًا عاديًّا، بل هو نمط غريب من الرغبة الصريحة في «قتل الدولة»، وليس هذا الشخص أو ذاك.
طبعًا، يمكننا أن نفسر الإرهاب بطرق شتى. كل الطرق تؤدي إلى روما الجديدة: الفقر والجهل والخرافة والقهر والاستبداد والمؤامرة … كلها يمكن أن تؤدي إلى العنف المتمرد على سلطة الدولة. لكن الإرهاب ليس عنفًا. وبهذا المعنى من المغالطة إدراجه في خانة «المشاكل الاجتماعية». كل تحليل اجتماعي، مثله مثل كل نقد علماني أو سجال تنويري، هو يؤجل أي علاقة عميقة وحرة بالمشكل الذي يطرحه الإرهاب. إذ من الممكن جدًّا أن يكون الإرهابي معافى تمامًا من أي معاناة من الفقر أو الجهل أو الخرافة أو القهر أو الاستبداد أو المؤامرة. ومع ذلك، هو يختار طريق الإرهاب باعتباره بديلًا رسميًّا عن شرعية الدولة «الحديثة». إن المشكل إذَن يقع خارج أفق المجتمع الحديث، والإرهاب ليس مسألة عدم قدرة على التأقلم النفسي أو الاجتماعي مع نموذج العيش الحديث. بل يبدو أنه ينطلق من شيء آخَر.
لا يسعى الإرهابيون إلى أي تحسين في شروط الحياة الحديثة، من مواطنة وحقوق إنسان ونسبة المشاركة في الحكم واختيار الحكام بالاقتراع الحر والشخصي والتداول على السلطة … إنهم لا يعدون بأي مستقبل. بل هم ما لبثوا يكررون أن الهدف الأكبر هو النداء المجرد وغير التاريخي بضرورة «تطبيق الشريعة» أي «شرع الله»، وليس شرع البشر. وعلى ما ينطوي عليه هذا النداء — في عين المنصف — من مشروعية إيمانية، ترتبط بفضائل العدل والتقوى والكرامة الإنسانية … فإن تحويلها إلى برنامج حربي ضد الذات الحديثة بما هي كذلك هو بيت القصيد في هذا الإشكال. هذه «الماهية الحربية» للمؤمن هو أخطر مقطع أخلاقي في هذا التصنيف.
وهنا علينا التنبيه بقوة إلى أن هذا التأويل الحربي لماهية الإيمان ليس له من مرجع غير محاكاة ميتافيزيقية سيئة أو استعمال كلبي متعمد لنموذج السلف الصالح. بل لا نجازف إذا قلنا: ثمة نية مبيتة لتدمير فكرة الإسلام من الداخل، أي تدبير الأساس الأخلاقي العميق لرسالته إلى الإنسانية. ربما هي ليست نية مختارة بشكل «ذاتي» من قِبل الشباب «المغرر به»، «المخدر» (أو المفترض كذلك) بعذاب القبر وقصص الأنبياء وآثار السلف الصالح … ومع ذلك هي نية تعمل «موضوعيًّا» في كل العمليات الإرهابية: إنها عمليات قطع العلاقة الأخلاقية مع الناس وتهديدهم تهديدًا ميتافيزيقيًّا بإعدامهم كنعاج حديثة، متخمة بالعلف الحكومي الذي توفره الدولة الحديثة وتفرضه بواسطة «الطواغيت». وهذه النية في قطع العلاقة الأخلاقية مع بني وطنهم هو الركن المعياري الأكبر لقرار الإرهاب. ولذلك لا يبدو أن ارتكاب المثلات وانتهاك الحرمات — مثل التمثيل بالأعضاء البشرية الحميمة أو حرق الجثث أو الذبح أو خطاب التشفي أو شهوة الدماء أو قرم اللحم البشري …— هو تطبيق أمين للشريعة أو أخذ بوصية رسول الإسلام أو نزول عند نصيحة أحد الخلفاء الراشدين.
ربما علينا التمييز بين إرهاب الكبار والإرهاب القاصر، أي غير المسئول أخلاقيًّا عما يفعل. لكن الإرهاب القاصر يقتل أيضًا. ويريد بطريقة أو بأخرى هدم الدولة والوجود الحديث للمواطنة. ثمة ما يشبه الحمية على نوع معين من القيم البدائية للمعتقد، نعني الطوطمة المتعمدة لقيم إيمانية عادية. يبدو أن الإرهابيين «أشخاص» لم يتحملوا أعباء الاعتناء بذواتهم الحرة، لأن الحرية الذاتية القائمة على الاستقلال الأخلاقي والوجودي والميتافيزيقي الكامل، هي عبء لا يمكن احتماله. ثم يُغلف هذا العجز الوجودي عن العناية بالنفس بغلاف الأصالة المزيفة للانتماء أي غلاف الهوية القائمة على الارتباط الهيكلي بمقدس ديني يتم العمل على احتكاره وتحويله إلى حالة استثناء خاصة برهط مخصوص من الناس.
من أجل ذلك فإن أهم ركن في دعوى الإرهاب هو هدم الدولة باعتبارها حاجزًا أمام تطبيق الشريعة باعتبارها الجهاز الشرعي الوحيد الجدير بتحمل مهمة «العدل» في الأرض أو بين البشر. وإن عداوة الدولة هي التي تبرر عندهم «قتل» الأمنيين والجنود باعتبارهم «طواغيت» أي أوثانًا سياسية تستعملها الدولة «الدنيوية» من أجل القضاء على حلم «المؤمنين» بالحكم الشرعي.
بَيْد أنه علينا هنا أن نفرق بصرامة بين الدولة والحكم: إنهم لا يقتلون من أجل إقامة «دولة»، فهم لا يسمونها بهذا المصطلح إلا تجوُّزًا، بل لبسط نمط محدد من الحكم، وهو حكم لا علاقة له أيضًا بالمعنى الحديث للسيادة. تفترض السيادة دولة ذات إقليم وحدود وسكان ودستور، الحكم الإرهابي هو استعمال رسمي ومتعمد ومقنن للموت أو للقتل باعتباره وسيلة عقاب نهائية أو أخروية ﻟ «أعداء» باعتبارهم كفارًا افتراضيين. لا تحديد للعدو سوى كون هويته الاجتماعية ترتبط بجهاز «الدولة» الحديثة. ومن هنا، من الوهم الاطمئنان إلى أن مساحة العداوة سوف تنحصر دائمًا. في مساحة من يسمونهم باسم «الطواغيت»، أي الأمنيون والجنود. إن مساحة العداوة سوف تنسحب لا محالة على كل أنواع التواجد داخل الخارطة القانونية أو الاقتصادية أو المعنوية للدولة الحديثة. ومن ثم يمكن جدًّا أن يصبح «عمال الوظيفة العمومية» أو «رجال لأعمال» أو «لاعبو الفرق الرياضية» أو التلاميذ أو الطلبة … إلخ، في مرمى الإرهاب باعتبارهم الجنس الثاني من «الطواغيت»، وبالتالي يجب تصفيتهم.
من يدخل في صراع مع دولة ما هو يدخل في صراع مع كل مكونات تلك الدولة. ومن يظن أنه مستثنى من هذه المعادلة هو واهم. لا يمكن أن ينتصر الإرهاب على الدولة دون أن ينتصر على الشعب الذي تحكمه تلك الدولة. وبما أنه لا معنى لشعب «إرهابي»، كما تروج لذلك إسرائيل مثلًا، فإن معركة الإرهاب ليست أمنية ولا عسكرية، بل وجودية. فمن يهدم وجود الدولة يهدم كل إمكانيات الإنسان التي تعلقت باسمها. لن يكون هناك بعد هدم الدولة «مواطن» أو «شخص» أو «أنا» أو «ذات» أو «جسد خاص» أو «عضو» أو «زميل» أو «لاعب» أو «موظف» أو «أستاذ» أو «أمني» أو «جندي» … بل فقط «رعية» و«محكوم» و«تابع» و«مُوالٍ» و«مطيع» … أو في المقابل «كفار» و«زنادقة» و«روافض» و«خوارج» و«عصاة» و«فساق» و«زناة».
من المؤسف أن البعض منا يظن أنه يمكنه أن يجني بعض المكاسب السياسية من مجاراة الإرهاب أو التكتم عليه أو استعماله العمومي … لكن هذا العمى السياسي يمكن أن يؤدي إلى تدمير الدولة الحديثة برمتها، وعندئذٍ لن يجد هواة الإرهاب أو أحباؤه المساحة المدنية أو القانونية التي تحميهم من تغوله. لا يمكن تصور مصالحة أخلاقية بين حزب من الأحزاب التي تحمل مشروع الدولة الحديثة وبين حركات الإرهاب. اللهم إلا … أن يكون ذلك المشروع مجرد غطاء قانوني أو قناع زماني حتى يحين الوقت المحدد للانقضاض على ماهية الدولة الحديثة وتدميرها من الداخل، ومن ثم الشروع في إعادة «المواطنين» إلى بيت الطاعة الميتافيزيقية للاستبداد الشرقي، ولكن هذه المرة بوسائل قتل استثنائية، لم يعرفها «أسلافنا».