مَن يقف في ظل الشاعر؟
بدوي ما بعد حديث … ينبش عن شعر الصعاليك في كل جملة أو مشهد أو
فجيعة، ويُعيد للشعوب اليومية أصالتها الخاصة كحالات سخط صامتة تنجح آخر
الأمر في العثور على الكلمة الجميلة المزعجة بوضوحها، دون أي تفاوض حول
مدى لياقتها العامة تجاه هذه السلطة أو تلك.
هكذا يبدو لك الصغير أولاد أحمد لأول وهلة: نبي مشاكس بلا وحي، يلقي
بحجر الشعر في البِركة الأخلاقية الراكدة في أي مكان من أنفسنا الحديثة،
تحت الدولة الأمنية وبعد سقوطها، من أجل غد لا يأتي.
جاء من قرية تقبع خلف الطرق الجمهورية نحو العاصمة. لا يدعي أكثر من
مصادر ذاتنا العميقة: آلام الوطن حين تُعاش بشكل شخصي جدًّا، وأوزار
الانتماء حين تثقل على فؤادنا المعاصر كحالة هوية لا شفاء منها إلا
بمحبتها على طريقة أخرى، نعني على طريقة الشعراء. كل ما في الصغير أولاد
أحمد شخصًا وشاعرًا وفقيدًا رائعًا … هو كونه لم يُخفِ أي طبقة من طبقات
أنفسنا الراهنة: فشل الدولة في أن تحبنا كما يليق بجروحنا المشتركة،
وفشلنا في مساعدة أنفسنا للانتصار عليها من الداخل، نواح القرية تحت جلده،
والوعود الزائفة لكل الذين أحبهم، بشرًا وجمادًا وحيوانًا. كان يشعر أن كل
من يفاوض الدولة الهووية ينتهي بالانتماء إليها. وكثير من الشعراء تحولوا
إلى ثوار حكوميين.
كل قصيد لديه هو «مسودة وطن» تنتظر أن تُقال مرة أخرى، وبلا رجعة.
وفي كل قصيد هو يحترس أن يفوت فرصة إعادة الشاعر إلى مكانه: أن ينصب عكاظ
قلبه في كل مكان وأن يرفع صوته أعلى من كل خطابات الألم المباح. قال: «وبمَ تكتب أنت؟»
قال: «بأصابع قدمي …»
١ هكذا هو الشاعر عنده: من حول الكتابة إلى مشي مرير نحو نفسه
الممكنة بلا رجعة، ولكن دون أن تحدث فيه أبدًا. من أجل ذلك يصر أولاد أحمد
على أن الشاعر «أنا أفقي»
٢ أو لا يكون: هو لا ينحني لأي سلطة عمودية مهما كانت مقدسة.
لكن عدم الانحناء ليس تجديفًا على أحد، بل هو فقط أدب البقاء واقفًا. قال:
«لم نستقم، على هذه الهيئة المتهالكة، لكي نكتب لهم شعرًا.»
٣ ليس الشعر عنده بضاعة لأحد. إنه كينونةُ نفسِه بلا أية لياقة
أخرى. ثمة صفقة خاسرة أراد أولاد أحمد أن ينتصر عليها: أن يُحول الشاعر
إلى موظف لمَن يستمع إليه. وهو يقر بأن «نكد النص» هو جزء من محنة
الشعراء: لا يُنعتون «شعراء» إلا بقدر ما يكتبون مقابل «جحيم»
٤ ما، هم فقط من يُدعون إلى الإقامة فيه. الشعر مقابل الجحيم،
هكذا تبدو الصفقة الخاسرة. لكن قدر الشاعر أن يقبل بها. إن «تخليده بعد
موته» هو جزء لا يتجزَّأ منها. ولذلك لا يعد الشاعر أولاد أحمد أولياء
الثقافة إلا «بنصوص نكدة راقية، تردهم رأسًا إلى حالات الكتابة الأولى
التي يستكثرونها علينا لأسباب أخلاقية تافهة.»
٥
من حق الشعر أن يكون نكدًا، ولكن بشرط أن يكون راقيًا. بهذا وحده هو
يجوز له أن يقف ما وراء الخير والشر. وفي نظر كل ما يقف ما وراء الخير
والشر تكون «الأسباب الأخلاقية» المستقرة لدى أهلها «تافهة»، كما تقول
العرب «طعامٌ تفِهٌ» أي لا طعم له أو بلا ذوق. حساسية الشاعر المزعجة هو
الاكتشاف المبكر لتفاهة حدود الخير والشر في قلوبنا. ومثل «تفاهة الشر»
التي أشارت إليها حنا أرندت يشير أولاد أحمد إلى تفاهة «الأسباب
الأخلاقية» التي يحتمي بها كل خطاب عن ذواتنا فقد القدرة على أن يتحول
إلى شعر. وكان أحد آلام أولاد أحمد أن بعض الشعر أكذوبة أكاديمية. محض
نشاز بين الصوت والجسد. ولذلك يبدو الشاعر السيئ عنده جملة أشلاء أخلاقية
«ملفقة من عدة أجساد.»
٦ على الشاعر الحقيقي أن يحسن «تأثيث جسده في اللحظة المناسبة».
٧
لا يملك الشاعر أية ضمانات أخرى أكثر من مزاجه. قال: «لذلك لم أتعلم
من قوانين الملكوت سوى تلك المتعلقة بحرية موتي.»
٨ حرية الموت أحد الثيمات الفظيعة تحت قلم أولاد أحمد. لا يكتب
الشاعر دون أية وصاية أخلاقية إلا بقدر ما يكون حرًّا إزاء موته. والشعر
هو مجرد «رفع معنويات»
٩ الموت في قلب ما. لذلك ينبهنا أولاد أحمد إلى أن الشعر لا
يُسمى، وأن القصيدة لا تحتوي على الشعر بالضرورة: لا تكون قصيدة ما شعرًا
حتى تشرب من «نفاية اللحظات المرعبة».
١٠ ماهية الشعر توجد خارجه، على مستوى آخَر من علاقتنا بأنفسنا:
على مستوى موتنا. وحده ما هو مرعب يحول أي كلام يومي إلى شعر.
لكن ما ترنو إليه هذه الفكرة هو أكثر هولًا. في أعماق كل شاعر يقين
ما بأنه يحمل شيئًا من طبيعة إلهية: إنه يحمل ماهية لغته. والشاعر غير
المدجن بجرعة أخلاقية مناسبة هو وحده يظل مقتنعًا كأعمق ما يكون بأن
الشعر هو الحالة الأولى والحالة الأخيرة مما يمكن أن يُقال في أفق أي
لغة. ومن ثَم فإن أديان الكتاب هي واصلت عمل الشعراء الشرقيين ولم تقطع
معه إلا في نقل الشعر إلى رتبة مدونة أخلاقية لحراسة نوع محدد من
الإقامة في العالم.
يتميز أولاد أحمد عن كثير من الشعراء لدينا بأنه أكثر وأخطر مَن دفع
بإمكانية أن يكون المرء «شاعرًا» إلى النهاية. لقد جازف بذلك ضد نفسه
الجسدية قبل أن يجازف بذلك ضد أي نوع آخر من السلطة، أكان دولة أو حزب
نضال أو دينًا. قال: «حكمة الشعر: موت الشاعر.»
١١ ليس هذا تنويعة خطابية على مسألة وجودية. بل هو مقام. إنه
مقام الشعر بما هو كذلك. ولذلك فإن شعر أولاد أحمد ليس شعرًا «وطنيًّا» إلا
عرضًا. إن ثيمة الوطن لديه هي نفسها ثيمة قلقة، مؤلمة، متحركة. قال: «لا
يكاد يُميتنا وطنٌ حتى يطالب الوطن اللاحق بضرورة بعثنا ليقتلنا — من جديد —
بما يلائم ساديته المحدثة! الوطن كذبة بالغة الخطورة.»
١٢ إن ما يزعجه دومًا هو وضعية الشاعر بما هو كذلك. الشاعر كنمط
بشري على حدة. وربما أكبر آلامه هو أنه صدق وأمن بقدر الشعراء كمعطى
ميتافيزيقي لا حياد عنه، ولا حتى بالموت. ولذلك هو يتردد صراحة بادعاء
الشعر. قال: «أبدًا …! لم يحدث أن ادعى أحدٌ منا أنه شاعر … لم نلجأ
إلى تسمية أنفسنا حتى نتبين جنس كتاباتنا بل كنا نكتب لغايات مُبهَمة
تُحرِّكها دوافع لا تقل إبهامًا عن أي وضوح غير متفق على وضوحه.»
١٣
ما كان أولاد أحمد يحرص على تسميته باسمه هو أن الشعر نوع من الكتابة
لا يحتاج إلى ادعاءات الشعراء. لا يكفي أن تُسمى شاعرًا حتى تقول الشعر. ما
يجعل كتابةً ما شعرًا هي أن تخالط إمكانية الموت على نحو يسخر من المفهوم
الحديث للوطن: ليس الوطن ما نموت من أجله، بل ما يجعل موتنا خاصًّا بنا بلا
رجعة. ولذلك يبدو الوطن «كذبة بالغة الخطورة». فرق حاد يوجد بين الكذب
كسلوك رسمي للذوات الاستعراضية التي هي أجهزة النجاح الأخلاقي للشعراء في
أفق الدولة؛ وبين أي كذبة نموذجية من حجم الوطن. إن ما هو حاسم في وصف
الوطن بأنه كذبة بالغة الخطورة هو الخطر وليس الكذب. إن الخطر هو قوت
الشعر. وثمة «غايات مبهمة» للكتابة ينبغي العناية بها كأجمل ما يكون.
إنها ما يضع الشاعر الحقيقي على علاقة بخطره الخاص. وخطره أن يمتلك في كل
مرة فرصة نادرة واستثنائية للهرب «إلى ما تبقى من الطفل في ذواتنا …»،
وذلك لا يعني عند أولاد أحمد سوى «أن نقول إننا نكتب لأنفسنا، لا لأن الآخر
جحيم بل لأنه يغفو داخلنا مثل جنين».
١٤ كان أولاد أحمد يحتفظ على نحو مفاجئ بإمكانية الطفل كامتياز
للشعراء. وحده الطفل يحق له أن يسخر من ألقاب «الشاعر» الرسمي لثقافة ما.
وعلى الرغم من أنه كان يكتب وينشر باستمرار إلا أنه كان يشعر أنه يقف
على الحافة الأخرى من الوطن، حافة الممنوعين من الوطن. الطفل عنده لقب
المتمردين على اللغة، وخاصة على النحو. ولذلك هو يسخر من لقب الشاعر
قائلًا: «إن اسم الفاعل من شعر كان من وسائس النحاة ومن حاجة المستهلكين
إلى تسمية البضاعة».
١٥ وبعبارة حادة: مَن يدَّعي أنه يجوز له أن يضع ألقاب الشاعر هو
يدعي حقًّا آخر أكثر خطورة: إنه «يقترح وظيفة على الشعر».
١٦ الشاعر ليس موظفًا لأحد. إنه موظف نفسه. وهو له مهمة نادرة
لخصها أولاد أحمد بهذه الطريقة: «ما الشعر في النهاية؟ لنقل … إنه تخمين
لغوي. هدفه … إعانة السلطة على السقوط».
١٧ لا يعني بالسلطة الدولة بحصر المعنى: بل أي عملية تنصيب
عمومي للأسماء في حيز ثقافة ما. وما يدافع عنه الشاعر ليس هذه الدولة أو
تلك؛ ولا حتى هذا الوطن أو ذاك؛ بل عن حرمة الشاعر بما هو نمط أخلاقي من
نوع خاص على الجميع احترامه بما هو كذلك.
ينبه أولاد أحمد باستمرار إلى حقوق الشعراء، ليس حقوق الإنسان فيهم
فقط، بل حقوق الشعر. إن معركة الشاعر هي مع نمط كينونته في العالم كشاعر.
وكل ما عدا ذلك معارك جانبية. قال: «من هذه الحقوق: حملُ الدولة والشعب
على احترام كيان الشاعر، وإعلاء وظيفة الشعر، والكف — نهائيًّا — عن إذلال
الذات المبدعة».
١٨ لكن الدولة الحديثة، الدولة الأمنية جدًّا، والهووية جدًّا،
هي في ارتياب مرير من دور الشاعر. ولذلك هي تعامله دومًا بوصفه «ظلًّا» لكائن
غير مرئي ينبغي الاحتراس منه. وقد عانى أولاد أحمد من دور الكائن غير
المرئي طويلًا. لذلك هو يريد بشكل شرس دومًا إعادة الشاعر إلى جسده، أي إلى
«الدفاع الشرعي عن الحيز المكاني لوجوده الفيزيائي، الذي يعمي الكثيرون على
احتلاله والحلول فيه».
١٩ ويتساءل: «من يقف في ظل الشاعر؟!»
٢٠ يعني: من هو «جسد» هذا الشاعر الذي ننكر وجوده؟ وخاصة: «من
يسكن جسد من؟»
٢١
ما عانى منه الشاعر أولاد أحمد، وهو يتماهى بشكل فظيع مع الشخص الشعري
الذي يمثله، هو نية هدم كيان الشاعر وتحويله إلى «بيت للشعر» يمكن
محاصرته بالتاريخ الذي تريده المؤسسة. ما أخذته الدولة من الشاعر تمن به
عليه. ولذلك يقاوم أولاد أحمد محاولة استيلاء الدولة عليه بواسطة الشعر
قائلًا، تحت غطاء ميتافيزيقي من هيدغر/هولدرلين: «الشعر ليس حرفة … إنه فعل كينونة».
٢٢
ولقد كانت جنازته آخر قصيدة من شعره. جنازة حيث تقتلع قصائده حيزًا
واسعًا للغناء تحت وفوق نعشه، وهو مسجى كقطعة من الأبدية الصغيرة في كفن.
دخل المقبرة حيث تنتظره كل أنواع البشر: لم يتخلف عن جنازته إلا من كان
ميتًا في مكان آخر. ومثلما حصل مع شهداء تونس من قبل، كان حضور النساء داخل
المقبرة للمشاركة في تنصيب غيابه الرائع هناك في الأفق، امتيازه الأخلاقي
الخاص على بقية الموتى بلا خلود. صوت الزغاريد يرسم تلافيف الروح في كل ركن
من تلك المساحة حيث يلتقي الدنيوي والمقدس ويتبادلان الأدوار. لم يأتِ كل
ذلك الحشد من أجل دفن جسده القليل والمنهك برائحة الموت الطازجة، فالموت
يشتهي أكل لحم الشعراء منذ القديم، بل من أجل توديع الوداع الذي اخترعه لهم
وأصر عليه. ليس في كل يوم يحدث لشعب أن يودع شاعرًا أحسَّ كلُّ مَن سمع
بموته من التونسيين بأنه جزء موجع وقريب من موته. قال، عندما
قال: «… متنا، هنا … وهنا، سينبتُ من مفاصلنا الزهرْ».