الهُوية والكراهية أو هل تحتاج الشعوب إلى الانفعالات الحزينة؟
يقول جان بودريار: «الهُوية اليوم توجد في خانة الرفض؛ فلم يعُد لها أساس موجب.» وليس مثل يوطوبيا سالبة لتأسيس ثقافة الكراهية بين الأشخاص والشعوب. كل ما هو مرفوض يتحوَّل إلى حجر ثقيل على النفس. وكلما اتسعت مساحة الرفض اتسعت ألسنة الكراهية داخل هوية ما. وحسب سارتر يكره الناس حين يريدون أن يكونوا كتلة لا يمكن اختراقها. حين يرفضون التغيُّر؛ أي التحوُّل إلى «غيرٍ» داخلي وغريب من الداخل. وعدم التغيُّر نوع نادر من الحزن الهووي: الحزن بلا مصالحة.
إن الكُره، حسب عبارة سبينوزا، انفعال حزين، أو هو حالة مقاومة لحزن معيَّن يهدِّدنا من الداخل. ثَمَّة كُره يدفعنا إلى الرغبة في تدمير حضور ما وتعويضه بالغياب أو بالفراغ. هو محاولة رسم خطوط جديدة فاصلة في المكان أو في الزمان الخاص بأنفسنا. إنه نوع من سياسة المكان ومن سياسة الذاكرة. وليس من اليسير أن تستغني الإنسانية عن جرعات معيَّنة من الكراهية لاختراع قَدر معيَّن من السعادة بنفسها.
وكان أرسطو قد تساءل يومًا: هل الكُره فضيلة؟ أو هل توجد كراهية فاضلة؟ ليس الكُره فضيلة ولا رذيلة. إنه فقط انفعال هووي حزين، لا غير. وحسب أرسطو الكُره نوع مقلوب من التمنِّي: تمنِّي الشر للغير.
لذلك يختلف الكُره عن مجرَّد النفور أو عدم التسامح، إنه انفعال بارد ومقصود، ويهدف إلى إلغاء وجود عدوٍّ ما، أكان شخصًا أو شعبًا أو ثقافة أو ديانة أو لغة … إلخ. الكُره، حسب عبارة ديكارت، انفصالٌ عن موضوع سيِّئ، وخاصة حين يكون شخصًا؛ فالكُره يجرِّد الآخَر من شخصه البشري أو من وضعه الموجب ويحوِّله إلى شيطان. وهو ليس مجرَّد اعتداء على غريب. الكُره يجرِّد الآخَر من صفاته الموجبة ويرسم عنه شبحًا من السلوب الباردة، وبقطع النظر عن حدة الكُره، وبقطع النظر عن مدى استعدادنا للذهاب فيه إلى حد تدمير وجود بشري ما؛ أي إلى حد كُره الجريمة أو كُره الموت، وحسب سارتر حتى الموت لا يوقف الكراهية، فإن الكراهية وظيفة انفعالية مستقرة لدى أهلها، مثل غيرها من الوظائف التي تخلق عوالم أو تساهم في سقوط عوالم. الكُره انفعال ثقافي يُبنى ويُهدم حسب حاجات المجتمعات. وله مضامين تاريخية محددة.
ذلك يعني أنه ليس هناك كُره معزول. نحن نكره دائمًا داخل مخيال ما، داخل مساحة أخلاقية وحسب آداب وتقنيات غضبية مُعطاة سلفًا. ربما يكون الكره مجرَّد إعادة تشغيل لانفعالات حزينة عاطلة عن العمل. انفعالات تعاني من نفسها، من سآمة ما وفشل ما. ويأتي الكره ليمنحها فرصة ذهبية للاشتغال والحياة. لذلك كل مشاعر الكراهية لدى شعبٍ ما هي انفعالات لا يمكن لأحد أن يسجِّلها باسمه أو ينسبها إلى شخص من الأشخاص. نحن نأتي إلى مشاعر سابقة علينا أو أطول عمرًا منا. ولذلك نحن لا نملكها، فالكره هو نوع من الانفعال الحزين الذي يقع علينا أو على نفسه. وهو لن يكون مؤلمًا أو مسيئًا إلا بقدر ما يفقد أسبابه المعقولة ويتحوَّل إلى ضغينة ذكية صالحة لإنتاج الهواجس الهووية.
قد تبدو مشاعر الكراهية مكافأة لعدد واسع من الناس الذين سجلوا حياتهم الخاصة أو تجارب حياتهم تحت لافتة «الضحايا» النسقيين: بمجرد ما يعترف المرء بنفسه بوصفه ضحية أساسية أو رسمية أمام ذاته أو أمام مجتمعه هو يدخل في علاقة موجبة مع ثقافة الكراهية، كمنظومة من المشاعر السالبة ذات وظيفة أخلاقية علنية ولا تحتاج إلى أي تبرير أمام ضمير الإنسانية أو أي ضمير كوني.
أجل، لا نستطيع أن نُكره شعبًا على كُرهِ أي شيء. الكُره أيضًا له كبرياؤه أو درجة النبل أو الأدب الخاصة به. «الكارهون» لهم نمط اعتزازهم بأنفسهم وآداب الكراهية التي تناسبهم أو يرضونها لأنفسهم، كجزء أساسي من سعادتهم أو نجاحهم الخاص. ومع ذلك قليلًا ما يكون لنا كُره خاص؛ إذ غالبًا ما تحمل مشاعر الكراهية توقيعًا ثقافيًّا أو قوميًّا جاهزًا وسابقًا وقاهرًا. وأغلب أشكال السعادة العامة التي يتمتَّع بها أو يُنشدها شعب ما بوصفها علامة على صحته النفسية، هي مرتبطة بإواليات كراهية شديدة التنظيم وذات أداء وظيفي ناجع.
حين نكره كرهًا عامًّا أو قوميًّا أو دينيًّا أو سياسيًّا أو هوويًّا، نحن لا نشعر بأي مشاعر شخصية، بل نتحرك فقط ضمن دائرة تأويلية مستقلة عنا أو توفِّر لنا طاقات رمزية نعمل على استهلاكها ليس أكثر، وبعبارة أخرى ثمة معقولية خاصة لمشاعر الكراهية العمومية، وهي معقولية تعمل بمعزل عنا، وهي بمثابة شبكة عصبية عامة، تربط فئات الشعب بعضها بالبعض، وتحوِّلها إلى قنوات غضبية مفتوحة ومعبَّدة لمرور سلع الانفعالات الحزينة داخل فضاء مترامي الأطراف لكنه ليس بلا مركز.
تتمثل معقولية الكُره في تفريغ مساحات انفعالية من مشاعر أخرى حزينة لم تعُد تملك جدواها الغضبية السابقة، وبعبارة أخرى تعمل إواليات الكراهية على تعبيد أمكنة ودوائر قابلة للسكن على نحو آخَر. وذلك لأن اختناقًا ما في حركة الانفعالات قد سدَّ منافذ السعادة سارية المفعول، وأخذ يهدِّد منظومة الانفعالات، التي تحرِّك شعبًا ما، بالانفجار. وحين يصبح الكُره نشاطًا عقليًّا ومتسقًا يصبح من السهل على شعب من الشعوب أن يسيطر عليه أو يراجعه أو يعيد توجيهه.
لكن لا يمكن لأحد أن يقود مشاعر الكراهية كما يريد، ثمَّة حركة انفعالية لا يمكن إلغاؤها بل فقط إعادة توجيهها. إن الكُره لا يفكِّر، وخاصة حين يكون كرهًا منظَّمًا أو معدَّلًا بشكل جيد. وحسب جرعات مناسبة. ومَن يستهين بجهاز الكراهية لدى شعب ما فهذا يعني أنه يمتلك جهازًا غضبيًّا أكثر قوة أو نجاعة. وكُره أعداء مُفترَضين يمكن أن يكون نوعًا من التعويض الانفعالي عن آلام ظلَّت بلا حل.
ثمة جروح لا يمكن شفاؤها إلا بالنسيان النشط، وكذلك تبدو الكراهية بمثابة نسيان عنيف لنوع من الآلام التي لا يمكن ردها إلى أي نوع من السعادة، حين يتعوَّد شخص أو شعب على استقاء ذاته أو شعوره بذاته أو مصادر ذاته العميقة من حزمة ثقيلة من الآلام الأساسية التي لا يمكن ردها إلى أي نوع من السعادة، يبدأ كُره خاص واستثنائي في التشكُّل. وتأخذ ثقافة الكراهية في الانتشار كأفق فظيع من الحزن الهووي.
ما يخيف من مشاعر الكُره ليس أن تتحوَّل إلى عادة عمومية، بل أن ترتقي إلى رتبة الرأي أو العقيدة، الكره، كما أشار سارتر ذات مرة عن معاداة السامية، ليس رأيًا. وهو لا يكون كذلك إلا حين ينقلب إلى موقف كلبي من النفس البشرية. وهو لا يكون عقيدة إلا حين يحمل توقيعًا هوويًّا. الكره الكلبي يائس من أي نوع من التعويض. والكره الهووي طامع دومًا في ضرب من التشفي الرسمي الذي يأخذ شكل قناعة أخلاقية يدافع عنها العقلاء بلا حياء. ولذلك كل عدالة هووية هي لا تخلو في سرها من الحاجة إلى تدبير مشاعر الكراهية وإعادة استخدامها بشكل موجب.
كذلك كل عدالة كلبية هي تلجأ إلى أجهزة الكره ولكن من دون التعويل على أي علاج أخلاقي له. بالنسبة إلى الكلبيين الكره بحد ذاته لا يكفي، فما هو مطلوب لا وجود له. عندئذٍ يتحوَّل الكُره إلى نوع من السأم النسقي من الغير أو الاحتقار المنهجي للآخَر. إن الكره لا يناقش. بل يأتي ليخطب. وكما تصور أفلاطون أن ثمة علاقة بين الحكم والموسيقى فإنه ثمة علاقة بين الكراهية والذوق الموسيقي: نحن نكره وفقًا لمقامات معينة. وربما يكون الكره مجرد ترجمة لموسيقى سيئة ترهق شعبًا ما من الداخل. حين لا نسمع جيدًا تنتابنا مشاعر الكراهية: النفور والاشمئزاز والنشاز والقلق والسأم والرفض والاستهجان. ولأن مشاعر الكراهية عبارة عن ضجيج وجودي بلا أذن صافية فإن الكراهية ليس لها مثل أعلى، فليست تجارب الكراهية النسقية غير آلات حب معطلة. إن الانفعال أيضًا يخشى الفراغ، لذلك يكره. فحين يصبح الحب مستحيلًا يكون الكره قد وجد ضالته. كذلك حين يصبح شعبٌ ما متردِّدًا في أعماقه بين الصلاة والغناء، بين الكراهية والكبرياء، يصبح قادرًا على الكره بلا مقابل.
ولكن، تخيلوا عالمًا حيث لا أحد يستطيع أن يكره أحدًا … ويكون محكومًا عليه بأن يحب أناسًا دمروا بلاده أو جزءًا من قلبه، أو سرقوا حلمه أو سخروا من سمائه. يبدو أننا قد أسأنا تقدير حاجة البشر إلى عاطفة الكراهية، والفائدة الكبيرة التي يجنونها من الغضب على ما لا يمكنهم أن يصبروا على إساءته إليهم. كلامنا كثير عن المحبة … لكن المحبة لا معنى لها من دون احتكاك مشط مع حدود الكراهية في أعمق أعماق الروح … ومَن لا يستطيع أن يكره لا يعرف معنى الحب. وكل مجتمع ينظم إواليات مناسبة ودقيقة للكره وطرق محبذة لممارسة شعور الكراهية ضد أعداء يقع انتخابهم للغرض في كل حقبة.
وفي هذه الأيام تحولت الثورات العربية إلى مختبر واسع النطاق لإعادة تعديل مشاعر الكره في نفوس الشعوب والأشخاص … وهذا مترجم في الأوصاف التي تُطلق يوميًّا على المخلوعين والدكاتوريين والمستبدين والسلفيين والعلمانيين والحداثويين والظلاميين … إلخ. تخيلوا غياب مثل هذه الجموع الغفيرة من الأشخاص القابلين للكره، وهذا الكم الهائل والمتنوع من المغضوب عليهم … ماذا ستفعل الشعوب بثوراتها؟ وأي سعادة ستجنيها الجموع من هتافات لا تسيء إلى أحد ولا إلى أي صنم أو بطل يلعب دور العدو أو كبش الفداء؟ ألا تتحوَّل الثورات إلى وقت فراغ مخيف وباهت وغير ذي جدوى؟ طبعًا في انتظار أن تجد هذه الثورات طريقًا مَلَكية نحو الحرية الموجبة.
لكن ذلك يعني في منطق مقلوب أن علينا أن نشكر أعداءنا على صعيدٍ ما وأن نحتفل بوجودهم في حياتنا وأن نثني على الدور الرمزي الذي أدوه لتعديل مشاعرنا الغضبية وتوفير حالة مزاجية مناسبة للسعادة أو للانتصار أو حتى لتقبل الهزيمة. ولماذا نكرههم عندئذٍ إذا كانوا بهذه الفائدة وبهذا الإلحاح؟
يبدو أن مزاج الشعوب اليوم قد أخذ يتطلَّب أكثر فأكثر وجود أعداء جاهزين للاستهلاك بتقشُّف معيَّن وفي حدود آجال ينبغي احترامها. وربما تكون أصعب وأطول المعارك التي سيخوضها المتنافسون على امتلاك ناصية الشرعية في أي مكان هو في مدى تعديل حاجة الشعوب إلى جرعات الكراهية وترشيدها وتحويلها الهادئ والطبي إلى حالات استشفائية وسياسات وقائية من المجهول. منذ مدة اخترع الحاكم الهووي جهازًا لتعديل الكراهية اسمه الحروب القومية. وفي الجوار كانت دول ليبرالية صرفة قد طورت جهازًا من نوع آخَر: الفن الهابط وكرة القدم الجماهيرية. وبعد مدة أتى وقت الثورات باعتبارها جهازًا لتعديل الاحتقان الشعبي خاصة في بلدان لم تكُن تملك وسائل التنفيس المناسب بسبب فشلها الذريع في التنمية والديمقراطية معًا.
ولكن هل تحتاج الشعوب إلى الكراهية؟ طبعًا ما دام هناك سبب هووي للكراهية فإنه لا شيء سيمنع انخراط الجماهير في دورات كراهية منظمة وتدريبية واسعة النطاق. قد يكون الكره جزءًا من كبرياء مخنوقة أو مغتربة. أو هاجسًا هوويًّا لشعب محتل. أو حاجة أخلاقية إلى نوع ما من التقدير للذات. أو كرهًا طبيعيًّا لما هو مُستكرَه، مثلما نكره السوء أو القبح أو الظلم أو الألم أو الموت. ولذلك لا يمكن الاستمرار في بلاهة التبشير بمجتمعات المحبة التي تخلو تمامًا من الكراهية. كل محبة تحمل معها نوعًا ما من الكره، له أسماء شتى: الغيرة والحسد والتنافس، ولكن أيضًا الكرامة والنخوة والأنفة والكبرياء والحرية.
وحسب ديكارت، ليس من دواء للكره مثل الكرم. إن الكرم هو أفضل أنواع النسيان النشِط: النسيان الذي يكون في صحة جيدة. وذلك يعني أن الكراهية هي دائمًا ناجمة عن ذاكرة مريضة أو ترفض الشفاء لأنه يتطلَّب ألمًا يتخطى شجاعتها على الصبر. وهكذا فإن أكبر علاج لثقافة الكراهية هو انتصار الكره على نفسه. وليس محاولة القضاء عليه من خارج مثل عدو قابل للانفصال عن تصوُّرنا العميق لذاتنا. والحال أن الكره هو انفعال هووي بامتياز. ولا مجال لفصل أي هوية عن انفعالاتها. بقيت طريق واحدة: تربية الهويات على الانتصار على مفاعيل الكره من الداخل، باعتبارها جزءًا من مصادر ذاتها، ولكنه جزء يمكن إعادة تأهيله وفقًا لنمط جديد وصحي من الشجاعة أو من الصداقة الشجاعة. وذلك يعني تحويل مشاعر الكراهية إلى آداب للتنافُس النبيل بين الأصدقاء على الإمكانيات الكونية للكبرياء الحر. ذاك الذي لم يعُد في حاجة إلى أي انفعالات حزينة حتى يثبت ذاته.