إله الصغير أولاد أحمد … أو في الطريق إلى إيمان الشعراء
هذا بيت الخصومة بين الشاعر والنبي: صوت يخرج من لا-مكان يطالب بأن لا يقف أحد في ظله. لا يفتعل الشاعر معركة مع غريب، بل مع صاحب قديم «على الأرض»، والرهان هو «طول الوجود» في «ذاكرة البشر»، إنه صراع خفي ولكن عميق، على نوع «الخلود» الوحيد الذي يتوفر عليه الفانون: إنه «الوجود» أطول مدة ممكنة في ذاكرة الفانين. هل أساء الشاعر الأدب إزاء أي جهة من جهات المقدس؟
ما يجمع بين الشاعر والنبي أو القديس هو الوجود، نعني هذا النمط الصعب من البقاء في ذاكرة البشر. ولذلك يسميها أولاد أحمد باسمها المخصوص: إنها «معركة». لكن أداتها الوحيدة بالنسبة إلى الشاعر هي «الجسد». ولذلك لا يطلب الشاعر أكثر من ظله. وليس لظله من مهنة عُليا أخرى غير «الإنشاد الأبدي». وهذا هو «حقه» الذي لا يعترف به من لا ظِل لهم، لأنهم يقفون دومًا في قامة «آخر» ما. كل من تعود الوقوف بلا ظل هو يطالب الشعراء بالسكوت عن أنفسهم.
قال:
ما يخيف الواقفين في ظل الشاعر كي لا يستعمل جسده المخصوص هو حراسة الفراغ. ومن لا ظل لهم لا يتقنون غير حراسة الفراغ من البشر. وحده الشاعر يسكن فراغه بشكل مناسب. يحتمل حالاته. ولا يتردد في مواصلة الطريق. لا يتقن البعض غير حراسة «القبر العالي» لأنفسهم، وهم يرفعونه أعلى من قاماتهم بأجهد ما يكون. لكن الشاعر يطمئن أي قبر عالٍ قائلًا:
قال:
لا يدخل الشاعر في علاقة مع «الإله» إلا في أقصى لحظات ارتباك العالم حوله: في لحظة يتعرض فيها الطريق البشري بعامة إلى تهديد أخلاقي واسع النطاق. وأقصى تهديد يسجله أولاد أحمد في كل شعره ونثره كليهما هو ادعاء أحدهم أو مؤسسة أو سلطة أو مرجعية ما احتكار مساحة الألوهة وتحويلها إلى مزرعة خاصة للآخرة. وعند الشاعر أن من يزعم احتكار «الإله» هو يحكم على بقية الموجودات من حوله بضرب مقيت من «اليتم» الميتافيزيقي. ليس اليتم مجرد إرث عائلي لهذا الشخص أو ذاك، بل هو هنا يتمٌ شعري يدفع بجملة الكينونة في العالم إلى فراغ فظيع. يُتْمُ الشاعر في العالم هو السردية الأكثر فظاعة لغياب الآلهة. ولذلك لا يلتقي الشاعر بالإله في حضن أية ديانة سعيدة. بل هو يلقاه على حافة العالم، حيث يعمد أحدهم إلى تهديد الموجودات بيُتْمٍ لا محدود، هو يُتم العالم نفسه. إن اليتم هو عند أولاد أحمد استعارة العبث الأخلاقي لذلك الشطر من الإنسانية الذي تم تجريده من مساحة الألوهية التي من حقه. وبالنسبة إلى الشاعر لا يحق لأي جهة احتكار الله. ولا حتى الأديان جميعًا، وكل أنواع المعتقدات الأخرى مجتمعة. إن الله هو ثروة البشر، ولا أحد يحق له أن يعلن ملكيته لها مهما كان ملهمًا. الله هو كل إمكانية الأفق في عيون الفانين. ولهذا السبب بالذات هو المانع الأكبر لليتم الميتافيزيقي والعبث الأخلاقي الذين يهددان العالم.
عبثًا يريد أحبابه أن يُعيدوه إليهم. الشاعر لا ينتمي إلا إلى نفسه. ونفسه أقل ممَّا يتصور المتفرجون. الشاعر له «أهل» ولكن ليس له منتمون. قال:
لا يهم الشاعر من فاز ولا من انهزم. بل فقط من «علقت روحه» في سياج سردي لا ينتمي إليه. البلد يوشك أن يتحول إلى سياج حيث تعلق أرواح الأجيال. ولا يبقى عندئذٍ سوى «الحجاج»، أي ذلك النوع من الغلبة بواسطة ما لا يُقال شعرًا. ربما يبكي الشاعر. لكن بكاء الشعراء ليس نواحًا على أحد. وهو ليس دعوة للحداد إلا عرضًا. قال:
ما يبقى من الشعراء ليس الحكمة ولا الاستعمال العمومي ولا الانتماء. وإنما المزاج. بقي مزاج المتنبي، ومزاج درويش. وخاصة المزاج الحر، أي ذاك الذي يمكن دومًا حقًّا خرافيًّا في أن يتغير، بل وفي أن يكون متعكرًا كأشد ما يكون. الشاعر مزاج وطن، وليس بوقًا لأحد. ولو ظن قطاع من الفضوليين أنه أغنية لهم. قال:
الشاعر هو «ههنا» نفسه، ليس إلا. إنه نمط من المكان الذي يكونه دون غيره. ولذلك هو لا يقف في خانة أي تحقيب أو توزيع لخرائط الروح الجاهزة. ويحرس الشاعر على إعلان ثروته وكنوزه كإلهٍ قديم. أكثر ما يزعج شاعر مثل أولاد أحمد هو سرقة فكرة من قلب غافل. وكل من لا ظل له يقف في ظل الشاعر، يريد أن يسرق منه مكانه. ويحوله إلى لا جدوى أخلاقية للغة. كان يحرص على أن يكون مبدعًا أي متفتحًا بآلامه الخاصة دون سواها. كل ما يمكن أخذه من الآخرين هو «كفنٌ» لغوي. وهو يصرح دومًا بأنه لم يأخذ شيئًا إلا ما لا يمكن أن يؤخذ منه: شعره. كل ما لا يحتمل أن يكون كتابًا له لا يسكنه. وتعريف نفسه بأنه حجر (وفي البال: «ليت الفتى حجر») هو حدود عالمه: لا يمكن للشاعر أن يذهب إلى أبعد من جسده، هو نوع الحجر الوحيد الذي ينحت منه.
جرأة أخطر ما فيها هو أنها كافية لإسقاط كمية الحياء التي تحتاجها الثقافات الرسمية كي لا تصطدم مع سلطة المعنى أو مع مؤسسة الحقيقة التي تُلقي بكلكلها على عقول الكتاب في أي مكان. يتجرأ أولاد أحمد على احتمال الخراب وعلى دعوته باسمه.
لكن ما يزعج الشاعر هو ادعاء من لا ظل لهم أنهم سحبوا إمكانية الخلاص من تحت نفوس الناس، وحولوهم إلى كائنات بلا «كرامات» أي بلا خوارق خاصة ولا أخبار سارة جديدة حول كينونتهم في العالم. الكهنة تعودوا غلق العالم، وتحويله إلى غرفة جلوس مطلقة للفانين من أجل السخرية منهم.
قال:
عدو الإله ليس الشاعر. بل من يزعم أنه أداته الخاصة في سحب العالم من تحت أرجل الآخرين. ورسم لافتة حمقاء على وجودهم. بل وأيضًا على موتهم. فكثيرًا ما يجدف الكهنة الجدد على موت الشعراء: على أن دفنهم في مقابر أهلهم هو تسامح مبالغ فيه مع أرواحهم. ولذلك يرد أولاد أحمد قائلًا:
بعض الفضول الغر يتساءل ما إذا كان الشاعر «مؤمنًا» أو «مسلمًا» حتى يكون «منا». وكأن الانتماء صدقة. وكأن حياة أو موت الشاعر يمكن أن تكون مادة للمزايدة الأخلاقية على البشر. لا يسكن الشاعر في أفق أي مذهب أو ديانة أو ملة؛ بل هو يقف على خريطة ولا يرى فيها غير «موطن» فقط. الموطن هو مكان الانتماء الوحيد الذي لا يمكن التفاوض حوله مع أي كان. حتى «الوطن» يمكن النقاش الأخلاقي حول وجاهته. لكن الموطن شيء آخَر. باب الوطن هو الموطن. نحن ننتمي إلى الموطن، لكن الوطن ينتمي إلينا. الوطن هو ما نصنعه معًا كحدود أخلاقية أو سردية لنمط من العالم أو لشكل من الحياة. أما الموطن فهو حرمة المكان الأولى تحت جلد أي شخص. الموطن والقبر متشابهان: إنهما حارسان للغياب.
وليس أمام الشاعر في كل مرة يهتز فيها العالم داخل أحاسيس جيل ما أو شعب ما إلا «العودة إلى الشعر». ومن أعلى لحظات الكتابة لدى أولاد أحمد هو الإيمان بالشعر بوصفه قدرًا خاصًّا ونهائيًّا لما يسميه «الشاعر الحقيقي». حين يكتب الشاعر يختار قدره، ليس أكثر. ولكن ليس أقل أيضًا. وحين يحرص الشاعر على ألا يدعي غير الشعر فهذا يعني الكثير بالنسبة إليه. إن الشعر هو كل إمكانية العالم التي بحوزته.
قال:
لا يعظ الشاعر إلا عرضًا. وهو ليس حكيمًا إلا رغم أنفه. إلا أن التواضع المزعج هو أكبر أشكال الكبرياء: إنه يريد أن يرفع باب الشعر أعلى من كل أنواع التقول البشري على العالم. وهو بهذا أشد المنافسين والأخ-العدو للأنبياء. يطمح الشاعر إلى رفع السور الذي يغالب السماء في الغياب. ومن حيث ما يعلو على كل أنواع الكلام البشري هو يغيب سماءهم، ويمحو كل أشكال السفر التي يعولون عليها: الشعر هو قول لا لكل مشاريع إلغاء العالم أو نسيان الأرض في قلوب الفانين. ولهذا يلقب أولاد أحمد الشاعر بأنه «الواقف الأبدي»: أمامه «الحيوان» ووراءه «ظل» الإنسان وفي صدره «اللامكان» الذي يسكنه.
قال:
ولأن الشعر لا يملك إلا ما اخترعه من قلقه الخاص بعد أن «تاب» عنه كل الذين نافسوه في اسمه يوما، فهو لا يعول إلا على تمرده. ما دام ثمة قصيدة لم تُكتب على الأرض فإن الشاعر لا يزال ممكنًا. لكن ذلك هو عنوان تمرده الكبير: أنه «لا يتوب» عن نفسه.
الحزن في الشعر مقام وليس موضوعًا عاديًّا. واللقاء مع الآلهة أو مع المقدس هو في الشعر مقام حزين، وليس فسحة أخلاقية. ليس في الشعر أي طمع أخلاقي في فوز أو رضًا ما من طرف أي سلطة مهما كانت طبيعتها. ينظر الشاعر إلى كل سلطة على أنها سياسة عمودية تجاه الكينونة في العالم. ولذلك فإن حزنه قديم تحت كل سطر، وليس عارضًا. هذا الحزن من السلطة بما هي كذلك والذي لا شفاء له هو الذي يجر الشعراء إلى وصمة أو تهمة أو لوثة ما في عيون الواقفين في جهة سيئة من حياة العالم. وربما عاشه الشاعر على أنه فشله الخاص والنموذجي.
إن «منْ» الشاعر توجد دومًا بلا أسباب نزول خاصة. ولأنه ليس له مضمون جاهز لذاته فإن وجوده بلا موضوع. ولذلك خاصة تطارده جملةٌ لا تُحصى من العداوات التي لا يعرف كنهها، من بعضها الدولة. وما أكثر النصوص التي سرد فيها أولاد أحمد خيام الخوف التي تحيط به. خوف قد يحولك إلى ضيف غريب في قلبك.
لكن الشاعر لا يتمتع بهذا التكريس الغريب إلا عند معاقبته كأنه نبي.
قال:
إن أجمل ما في هذا النداء هو الدعاء. مقام الدعاء قليل في الشعر المعاصر. لكن تنشيطه بهذا اللطف حوله إلى أيقونة أسلوبية مفاجئة. وربما تساءل اللجوج: هل للشاعر الحق في مكالمة الله «مثلنا»، نحن الممضين أسفله؟ هل هو إلهه «أيضًا»؟ أم إن الله لا يجيب الدعاء إلا بعد استشارتنا، نحن «المؤمنين» به؟
في هذه القصيدة الغناء ثمة تلطف شعري مثير: إن «إلهي» مثلها مثل بقية كلمات القصيدة هي كلها تقريبًا من معجم ديني وقرآني تحديدًا. لكن استدعاء كل معجم النبي ليس من أجل تحويل الشعر إلى لاهوت خجول، كما يفعل النظامون. يتلطف أولاد أحمد للدخول في علاقة مع الله لا تمر عبر خطة الملة. ولا تعتمد تضرع المتنسكين طمعًا في جنة ما. ثمة كبرياء لطيفة تعبر القصيدة وترتقي بها إلى رقصة ما بعد دينية في حضرة الله باعتباره يحب البشر بلا أي تفاوت أخلاقي بينهم. ما يشكوه الشاعر هو أن «المؤمنين» قد اقترفوا ما «حُرم» عليهم. هو لا يعاديهم بشكل أفقي، بل يرفع شكواه إلى الله بوصفه الجهة الوحيدة التي تعلو على المؤمنين به. يستعمل الشاعر إمكانية الله كما هي في تراثنا الروحي، لكنه يدعوها إلى مهمة من نوع غير لاهوتي. هو لا يكفر بإله الذين أساءوا إليه. بل يؤمن به في مقام أعلى من مقام الأديان. ذاك المقام الذي يتسع لشكوى المظلوم، ولو كان كافرًا. ولأن أولاد أحمد يصر في كامل القصيدة على افتتاح مقاطعها في كل مرة بمناداة واحدة وحاسمة تقوم على النسبة والامتلاك المطلق، مرددًا في كل مرة «إلهي» (١٠ مرات) وبالخط الغليظ، فهو ينبه إلى أن المقام الوحيد للعلاقة مع الإله هي علاقة الامتلاك أو علاقة الخصوصية المؤلمة. إما أن يكون إلهُك بالتخصيص وإما أنه غير موجود. لا يؤمن الشاعر إلا بما يمتلكه في أفقه البشري. ولهذا هو لا يجد أي حرج في أن يشكو من «شر الأهل» لأنهم:
كل ما يسيء إلى البشر يمكن أن يكون ذنبًا. هذا هو الدرس الأكبر للأديان مهما كان شكلها. والشاعر لا يفصل. ذنب أن تبيع «خمرًا رديئًا». أو أن تؤذي «ليل السكارى البريء». بالطبع كل سردية الخمر من التوراة إلى القرآن حاضرة في ذهن الشاعر. لكنه لا يجدف عليها بل يستند إليها: كل ما يبيع سلعة رديئة فهو مذنب. ولو كانت خمرًا. كل من يؤذي ليل البشر فهو مذنب، ولو كانوا سكارى. ليس في كلام الشاعر دعوة إلى الخمر أو السكر أو دفاع أخلاقي عنهما. إنه ينشط قيمًا مقدسة مسكوت عنها من قبيل محبة الله لمن أتقن عمله أو براءة غير العاقل.
طريقة ساخرة في نقد التصور الحانوتي والتجاري للخلاص. ولا يخلو منه أي دين نظامي. شراء التذاكر نحو الآخرة يحول الإيمان إلى تقنية صيد تعتمد على المال والوقت والعذر. لكنه لا علاقة له بالله. ما يريد الشاعر أن ينفض الغبار عنه هو العلاقة الرائعة والبريئة بالله والتي طمستها كل مؤسسات الآخرة. تجار الآخرة هم أعداء الله، إذن، وليس الشعراء.
الإله الديني لا يعني الشاعر لأنه ديني بل لأنه يمنح مساحة الألوهة التي يحتاجها الشعراء كي يعيدوا تنصيب العالم في قلوب الفانين. وقد أثبت أولاد احمد في قصيدة «إلهي» أن الشعر وحده هو الذي يمكنه مواصلة حراسة العلاقة مع ما هو إلهي في ثقافة ما. كل أبطال الكتابة يئسوا أو كادوا من القدرة على استدعاء الإله مرة أخرى من دون أديان أو أجهزة عقاب. بعضهم أخرج الله من أفقه. وبعضهم مات في الطريق إليه أو حوله إلى إله مقاتل. والبعض الآخر جعل منه مزرعة أخلاقية للطائفة أو للحزب أو للدولة. وحده الشاعر يترك الإله حرًّا. وحده الشاعر لا يبتز الآلهة في أن تدخل في علاقة أساسية معنا، نحن الفانين. ولذلك يلح أولاد أحمد على «إله» قصيدته أن ينزل «الجراد» و«القحط» و«الطير الأبابيل» وأن «يخرب قصور الملوك»، كما فعل من قبل.
وما هو مثير هنا هو أن الشاعر الحقيقي، كعادته، هو يستعمل ما هو متردم في لغة أو ثقافة ما، تلك المعاني التي تجمدت تحت ألسنتنا، وصنعت جليدًا ممتدًّا من الاستعارات الميتة التي ترقد تحت كل إمكانيات الكلام. المعجم الديني هو تحت قلم أولاد أحمد عبارة عن طبقة متردمة من المعاني التي ينبغي إعادتها إلى الخدمة. لكن وظيفتها هذه المرة لن تكون دينية. يعمل أولاد أحمد بشكل نضر على تنشيط المعجم الديني بوصفه يمنحنا جملة من التمارين الأسلوبية الغضة، والتي يبتعد عنها شعراء التحديث العنيف. وفي هذا السياق يأتي ذكره لمفردات «عقر الناقة» و«إباحة الدم» و«بيوت الله» و«التعوذ» و«شر» الأهل و«الآخرة» و«المغفرة» و«الجنة» و«الأتقياء» و«النبي» ولكن أيضًا «الأرض» و«السماء»… إلخ. لا يخاطب الشاعر هذه المصطلحات الدينية بل يعيد استدعاء مفرداتها كي تعمل في لسان آخر. ولأنه يريد استدعاء الإله في أفق غير ديني حصرًا، باعتباره أفقًا لم يعُد صالحًا للسكن، فهو يرى الإله التوحيدي وقد صار «إلهًا سجينًا لدى الأنبياء»، أي في كتب الإبراهيميين، أي في كتب شعب أو مجموعة من الشعوب التي عزلت نفسها عن مساحة الألوهية التي تطل على البشر في أي مكان. لا يريد الشاعر سجن الإله في دين أو حزب أو طائفة. لا يريد له السجن ولو كان نبوة. هو يريد أن يناديه ولكن من دون أي آداب جاهزة للنداء. هو يريد أن يدعوه ولكن من دون أي نمط محدد أو نهائي أو مميز من الصلاة أو العبادة. ولأنه يريد هذا الانزياح بالإله خارج أفق الأديان الجاهزة بكل شراسة شعرية فهو لا يتردد في مجادلة السردية التوحيدية من أجل تخفيف وطأتها على الأفق الأخلاقي للجيل الحالي.
قال:
ما ينبه الشاعر إليه في موضوعة الجنة التوحيدية هو الجزء المنسي منها، أي جزء الاشتهاء. وهو ما نجحت كل مصانع الفقه في طمسه في أفئدة الناس، وتعويضه بمحاكم الآخرة. وما يقوله أولاد أحمد من غزل في قصيدة «إلهي» عن محبوبته (عن شفتَيها أو حلمتيها أو اسمها العائلي أو شَعرها العسلي وعلى ما تقول … ولا تفعل) هو كلام عن الجزء المشتهى من الوعد: الوعد بالجنة هو من أقصاه إلى أقصاه وعد بالمؤنث. تأنيث الكينونة هو جزء فظيع من تجربة الجنة. ولذلك يستغرب الشاعر من «الكلام المخيف» الذي يصرفه «التقاة» ضد الشعراء. كل خطابات الخوف هي من طبيعة دينية، ولو قالها ملاحدة. إن الخوف هي الصناعة الثقيلة للكهنة في أي عصر. ومن دون خوف يفقد الموت شهوته الكبرى، ويتحول إلى خبر غير مؤكد. إن الشاعر هنا يذهب في العلاقة بالإله إلى أقصاها: أن يقتبس من «كتابه» (سردية موسى وسحرة فرعون) قائلًا: