غارسيا ماركيز أو كيف نودِّع الذين في الداخل؟
«فريدة هي دومًا، نهاية العالم» (!) هكذا كان يقول دريدا عند تأبين أحد أصدقائه الموتى. ربما هي فريدة لأنهم تجرَّأوا على الموت قبله. أو كان يشعر بأنه يؤبنهم دون أن يكون واحدًا منهم. أو لأنه لم يحبهم كما كانوا يودون. ربما. والموت هو «ربما» الوحيدة التي تستعصي دائمًا على كل حسابات الأحياء. ومهما أتى متأخرًا فإن موت كاتب عظيم هو دائمًا موت مبكر وجاء قبل أوانه الميتافيزيقي بوقت كبير. وعلى الرغم من أنه عاش بما فيه الكفاية (وُلد في ٦ مارس ١٩٢٧م ومات في ١٧ أبريل ٢٠١٤م) كي يودعنا، فإن موت غابريل غارسيا ماركيز (أو بلغة قومه «غابرييل غارثيا ماركيث»)، الكاتب الكولومبي الشهير، قد أعاد إلى معنى المفاجأة طعمها ورونقها. كلما مات روائي أو شاعر أو فنان عظيم، نحن نشعر بأن أحد الذين برروا وجودنا في العالم إلى حد الآن، بكثرة ما اخترعوه من أرواح جديدة لنا ومن كثرة ما أثثوه من أمكنة قابلة للسكن الاستثنائي، قد خرج من السباق، وترك لعبة الحياة وحيدة على نحو غير مسبوق.
وحين ينسحب الكاتب تصبح للعناوين التي خلفها وراءه رائحة أخرى، نغمة تشبه العزف في مقبرة من الريحان، لا يسكنها أحد. يتحول الكاتب فجأة إلى جدول من العناوين التي تكلمنا ولكن في غياب المؤلف. ربما هو المرور المحتوم ولكن المريح من الكاتب إلى المؤلف. في حياتك أنت كاتب. ولك مسئولية ما، سلطة ما، على ما تكتب. أما بعد انسحاب الشخص، فإنك تتحول إلى مؤلف، أي إلى توقيع لا يضيف شيئًا إلى العنوان، سوى هالة الغياب المناسب حتى يصبح القارئ القادم ممكنًا، كمالكٍ جديد لما لم يعُد ملكًا لأحد.
إذَن مات غارسيا ماركيز وصار من حقه أن يأخذ مكانه في أفق الروح المعاصرة، ليس بوصفه بطلًا لهذه الثقافة أو تلك، بل باعتباره «مؤلفًا»، أي نموذجًا كونيًّا للانتماء العميق إلى ضمير الإنسانية، وقد صارت قصة. وعلينا منذ الآن أن نقرأ عناوين رواياته الكبيرة، من «الأوراق الذابلة» (١٩٥٥م) إلى «مائة عام من العزلة» (١٩٦٧م) إلى «خريف البطريرك» (١٩٧٥م) إلى «وقائع موت معلن» (١٩٨١م) إلى «الحب في زمن الكوليرا» (١٩٨٥م) إلى «الجنرال في متاهته» (١٩٨٩م) إلى «عن الحب وشياطين أخرى» (١٩٩٤م) إلى «ذكرى عاهراتي الحزينات» (٢٠٠٤م)، بوصفها مقاطع من غياب رائع، لم يعُد يخاطبنا إلا في شكل خرائط سردية لأرواح نهمة ومرحة على الدوام، سوف نستطيع منذ الآن أن نستمد منه مساحات جديدة لأنفسنا، لأنفس متكثرة ومنعتقة أكثر فأكثر، نعني أنفسًا حكائية من الطراز الرفيع. ربما ما كان ينقصنا دومًا هو تمارين مناسبة وناجعة في حكي أنفسا بطريقة أو بطرائق أخرى.
ذلك الطفل الذي بدأ حياته في مدرسة يسوعية في شمال كولومبيا، ذاع صيته بكتابة رواية تُرجمت إلى ٢٣ لغة من بينها العربية، هي «مائة عام من العزلة». تبدو الأزمنة الحديثة في رسوم ماركيز الروائية بلادًا قفراء وموحشة، لا يسكنها إلا المنبتون، الذين لم يعد يمكنهم العودة بقلوبهم إلى أي مكان. هذا التأريخ السردي المشط للانفعالات الحديثة والقادر على رصد تفاصيل كل ألم معاصر وقصها علينا كأنها قطعة من أجسادنا دون أن نعلم، قد بوَّأ ماركيز مكانة الكاتب العالمي، ونال في ديسمبر ١٩٨٢م جائزة نوبل للآداب.
وعلى الرغم من أن عناوين كثيرة من قصصه ورواياته تتكلم في «الموت» فإن الروائي لا يموت حقًّا فيما يكتب، نعني لا يدافع عن موتنا بأي وجه، بل هو أبعد ما يكون عن حارس الموتى أو رسول المقابر. إن كل ما كتبه ماركيز إنما يدور على الأغلب حول محور «العزلة» ولكن بواسطة تنويعات مثيرة دائمًا أكثر فأكثر على ثيمة «الحب». ولو اكتفى ماركيز بكتابة «مائة عام من العزلة» أو كتابة «الحب في زمن الكوليرا» لما اضطر إلى إضافة أي نص آخر كي يكون ماركيز كما صار معروفًا بكل ما كتبه عدا هذين الكتابين.
ولكن على خلاف ما يبدو دومًا على وجه الطبيب، فهو في تجارته اليومية مع الموت، ولكن مع قدرة فائقة على الحب، وعلى الجنون، هو سوف يكون دومًا «مستاء من سفاهة نفسه» (ص١٧)، ولا يفوت ماركيز فرصة الذهاب بهذا الشعور الاستثنائي الحانق إلى النهاية، قابلًا: «إنه قديس ملحد. لكن هذا من شئون الرب» (نفسه).
وعديدة هي المواضع التي يتقن فيها ماركيز إقامة جوار مرح بين مطارح الحب المجنون ومسارح الموت المرعب، وكل ذلك تحت حماية روحية ذات أناقة مريعة. إن وصف جثة لا يقل أناقة عنده عن وصف عملية جنسية. وكما يدقق في تفاصيل قبلة، يدقق في ساعة الدفن. وعلى مدى رواية تؤرخ لزمن الكوليرا، تعبق الصفحات بأهازيج الحب الممنوع والمؤجل والمنسي والمنتحر. ويبدو الروائي مثل طبيب يشعر في كل مرة أن «احتمال آلام الآخرين أسهل عليه من احتمال آلامه» (ص٢٠). ربما لأنه لا يُستدعى إلا «لمعالجة حالات ميئوس منها، لكنه كان يرى في ذلك أيضًا نوعا من التخصص» (ص٢٢). الحياة مرض ميئوس منه. لكن الروائي يرى في مواصلة سرد وقائع الحياة كمواصلة احتمال مستحيلٍ ما، سوف نتعود عليه في النهاية، ويتحول عندنا إلى نوع من «التخصص». التخصص في سم الحياة. وتولد الرغبة في الرواية عندما تشعر أن «كل دواء إذا ما رأيناه بمقياس دقيق هو سم» (نفسه).
تساعد الرواية على توفير جو ملائم لاحتمال موتنا الخاص، وكأنه حدث خارجي عنا. قال ماركيز: «إنه موقع إنساني جبري: «كل امرئ هو سيد موته، والشيء الوحيد الذي بالإمكان عمله عندما تحين الساعة هو مساعدته على الموت دون خوف أو ألم»» (نفسه). الموت هو ذاك الحدث الذي يضع حدًّا للعبة ما. والشطرنج هو المثال المحبذ عند ماركيز. حين يشعر البطل أنه: «لم يعد هناك خصوم كثيرون يشبعون رغبته في اللعب» (ص٢٣). وحين يغيب مثل هذا التحدي يصبح أي سؤال عن «من أنا؟» بلا طائل. ويشعر فجأةً بأنه «ليس بالرفيق الصالح لأحد» (نفسه).
في مثل هذا الجو المفهم بذهول الموت ولكن أيضًا بجموح المحبين، تجري قصص الحب ولقاءات الموتى في وتيرة عجيبة. يتم التعارف في مشفى، تحت أعين موتى لا يرون. ويقع التبادل المثير بين «حداد كثيف» و«كآبة وقورة» (ص٢٦) ويصبح الحب ممكنًا كالموت تمامًا. وهناك دومًا «حب محرم» هو الذي يدفع بالشخوص إلى «انفجارات السعادة الفورية» (ص٢٧) ولكن بلا مستقبل أو بلا ذاكرة. لكن الإطار هو دائمًا إطار شرعي أو مبرر والروائي هو من يتقن فن التسلل إلى حيث يبيض الشيطان: في التفاصيل التي لا يسكنها أحد.
هناك، يتحول العفو عن الموتى أو عن الذين لا يمكن أن نحاسبهم إلى فن عزيز في الكرم. قال: «وإنما ساعدته أيضًا على تجاوز الاحتضار بنفس الحب الذي ساعدته به على اكتشاف السعادة» (ص٢٨). حين نؤرخ لأنفسنا بحواسنا الخمس، تصبح الآلام مجالًا للتحقق من فضول ما: أن الحب لم يكن مزحة في مقبرة.
هناك مكان ما في جسد الحياة يحاول الروائي أن يحاصره وأن يؤرخ له من الداخل حتى يغلبه. إن الوحدة أو العزلة، «حيث تصدأ الأزهار ويفسد الملح» (ص٣٠). ودائمًا في هذا المزاج، كان ماركيز يلتقي بأبطاله، ويدخل عليهم خلوتهم الروحية، ويدفع بهم إلى التهلكة، في مرح كبير. هذا النحو من «الانحطاط المشرف» (ص٣١) هو من طباع الزمن الاستعماري (ص٢٤، ٣١)، وليس صدفة. زمن العزلة بامتياز هو الزمن الكولونيالي، حيث تم تحويل أجساد شطر من الإنسانية إلى حظيرة واسعة النطاق، حيث تُعاد تربية الجنس البشري ضد إرادته. لا تزال أوروبا نموذجًا (ص٣٣) لكن الألم الذي يجتاح الناس ليس أوروبيًّا. ويقنعك ماركيز بأن أحداث روايته تدور في جزء من الخارطة هو «مزبلة» (ص٣٤) راكدة، حيث تعطل التاريخ.
وفي هذا الجو يدخل الناس في علاقة استثنائية ليس فقط مع الجنس الآخر، بل مع الحيوان أيضًا. وحيث يصبح النموذج السردي هو «جعل الببغاء تتحدث الفرنسية كأكاديمي» (ص٣٥). أو حيث يتخلخل الجندر بشكل لطيف، ويتداخل الدور بين الجنسين: «كانت تغنِّي بصوت امرأة إذا كانت الأغنية لها، وبصوت رجل إذا كان المغني هو» (نفسه).
ولكن هذه الحيلة السردية ليس من غرض روائي لها سوى أن تفتح النافذة على ما يستطيعه البشر من فضاعات حين يصبح الحيوان جزء من ماهيتهم اليومية. قال: «إن الذين يفرطون في حب الحيوانات هم القادرون على اقتراف أبشع القساوات مع البشر» (ص٣٦). ويبدو أن الحيوان الوحيد الذي ينجح دومًا في اقتناء مكان في بيت هؤلاء هو الببغاء أو السلحفاة. الببغاء لأنها تقبل بأن تتخلى عن صوتها كي يقول ما لا تفهم وما لا تقصد. قال: «لأن الببغاء رفضت أن تقول حتى هذا إن هذا المنقار منقاري» (نفسه). والسلحفاة لأنها الحيوان الذي يتقن فن المرور بلا توقيع واضح ثم العودة بلا سبب واضح. إنه يستعمل قدرته الفظيعة على البطء بشكل مناسب: عبور ذاكرة لا تنتظر أحدًا. «عادت للظهور في المطبخ بعد ثلاث أو أربع سنوات ظنوا خلالها أنها قد ضاعت إلى الأبد» (نفسه). و«الحيوان الوحيد الذي نجا لأن أحدًا لم يتذكره، كان ذكر السلحفاة» (ص٣٨).
يبدو الحيوان لدى ماركيز بمثابة الفاصل السردي بين البشر والكلام. ولا تبدو الحاجة إلى الببغاء مثلًا إلا لأنها «تحسن إطلاق شتائم البحارة فحسب» (ص٣٩). يحملنا الحيوان إلى مناطق نائمة من الإنسان فينا. وخاصة حين يكون ببغاء: أي حيوانًا إنسانيًّا في جسم طائر. وفجأة يبدو الفاصل بين الصوت والجسد ليس فقط ممكنًا بل يحتوي على وعد غريب بالحرية. قال: «كانت تنطق عبارات من أزمان أخرى لا يمكن أن تكون قد تعلمتها في البيت، مما يحمل على التفكير بأنها أكبر سنًّا مما تبدو عليه» (ص٤٠). من المثير أننا لا نؤرخ لأعمار الحيوانات بالقدر المطلوب من الأهمية. دائمًا ما يبدو الحيوان بلا عمر. لكننا نفترض أن الحيوان هو ليس فقط بلا عمر بل هو يوفر مقياسًا مأمونًا لتحديد ذاكرة الكلام الذي يردده. ولكن هل ينسى الحيوان؟
يقف الإنسان خارج ذاكرة الحيوان ولذلك هو ربما لهذا السبب يستطيع أن يسيطر عليه. ومع ذلك يحوم اعتقاد شعبي بأن «الببغاوات الحبيسة في أقفاص تنسى ما تعلمته» (نفسه). يبدو البشر بمثابة «قفص» للحيوان. إنه يقف على حدوده من أجل استعماله. إنه يحوله إلى ضرب من المكان. وطرافة استثمار استعارة الببغاء لدى ماركيز تكمن في كونه الحيوان الوحيد الذي يواصل الإنسان بطرق أخرى. وفي الرواية «الحب في زمن الكوليرا» هي «تلقي دروس الدكتور أووربينو» (نفسه). بل يمكن للبغاء أن تطلق هتافات سياسية، بعضها «قد يكلف أربعة سكارى منتشين حياتهم» (ص٤١).
وإن شخصيات ماركيز تكاد تشبه الحيوانات التي يستدعيها لبلورة الحبكة السردية حول سير الأحداث التي لا وجود لها. نعني تلك الأحداث التي لا تقدم مسار الرواية وإنما تنزلق بها نحو اللاوجهة اليومية للشخصيات. مثل استدعاء المطافئ لإنزال ببغاء من أعلى شجرة عالية (ص٤١). إن الوقوف السردي عند «مصير ببغاء» (ص٤٢) هو نوع من السخرية الصامتة من الشخصيات أو مما يقع لها. وحين نعرف أن بطلة الحب هي «جدة وقورة» نكتشف عندئذٍ أن الفرق بين الببغاء والجدة العاشقة هو فرق سردي فحسب. من خلال الجدة يقدم ماركيز لحظة استثنائية من استعمال الجسد الخاص: لحظة الشيخوخة باعتبار لحظة تحرر الجسد من ثقل المجتمع وعودته معافى إلى نفسه. في تلك اللحظة حيث «صارت الأجساد المتحررة، المتنفسة حسب مشيئتها، تعرض كما هي، حتى في الثانية والسبعين من العمر» (نفسه). كان حب البطلة لزوجها لياقة اجتماعية وليس حبًّا. كان الفرق بين الحب والخدمة غائمًا. كانت تلبسه أثيابه مثلًا «بدافع الحب في أول الأمر، ولكنها أصبحت مضطرة لعمل ذلك منذ خمس سنوات لأنه لم يعُد قادرًا على ارتداء ملابسه بنفسه» (ص٤٣). يوحي ماركيز بأن الحب يتوقف في حقبة ما من العمر. لكن الإنسان يضطر إلى مواصلة العطف البشري دونما حاجة إلى تبرير عاطفي. ويبدو الزواج بمثابة مؤسسة عطف، قد تعول على الحب في فترة ما لكنها لا تتوقف عليها. وحده نوع من العبودية يمكن أن يجعل زواجًا ناجحًا ممكنًا. يبدو الحب بمثابة سياسة كبرياء لا تستمر دائمًا وذلك لأنها مرتبطة بحد ما من العمر: حين يستطيع الجسد المقابل أن يعوض البداية المفقودة بأكثر ما يمكن من النهايات السعيدة. كانت في البداية تحب رجلًا آخر. لكن الزواج المناسب نجح في إقناعها بأن هذا الآخر لا يصلح كي يوفر النهاية المناسبة لحياتها. وهكذا نجحت في حب زوجها باعتباره الرجل الذي نجح في توفير النهاية المناسبة للبداية المفقودة. هذا الاتفاق الصامت لا يحتاج إلى نقاش كبير. بل إلى نوع من الهدنة. يبدو الزواج من دون بداية عميقة حالة من الهدنة على الوجود. حيث تُعاش الحياة الزوجية وكأنها هدنة ميتافيزيقية حول السعادة. قال: «لم يكن بمقدور أي منهما القول إن كانت تلك العبودية المتبادلة ترتكز على الحب أم على الراحة، لكنهما لم يتساءلا عن ذلك أبدًا وأيديهما على القلب، إذ فضَّل كلاهما تجاهل الجواب» (نفسه). لا ينتصر الزواج على الحب إلا بإزالة الحاجة إلى أسئلة البداية.
لذلك من روعة السرد لدى ماركيز أنه يبدأ أحداثه من نهايتها. إن المرأة لا تسأل عن مصير الحب الأول إلا في شيخوختها. حين يصبح ذلك الحب مزحة وجودية حول جسدها، هو يتحول إلى قدر. وهي تختبر حدود هذا الحب حين تفتح عينيها على طبيعة المحبة الزوجية التي ربطتها بشخص «آخر» طوال حياتها. حين يتصدع الرجل، ينهار عالم الزوجة الطويل الأمد، وتبدأ أحاسيس المرأة داخل جسدها الصامت في التحرك. ثمة حظر أخلاقي أو قانوني أو نفسي أخذ في الارتفاع. وفجأة صار السؤال عن تلك البداية المفقودة يطل برأسه كجرح قديم. ومع ذلك فإن ماركيز يحرص على إنقاذ الزواج كإطار أخلاقي يبقى مفيدًا إلى النهاية. «لقد بدأت تكتشف شيئًا فشيئًا تعثر خطى زوجها، واضطراب مزاجه، وتصدع ذاكرته، وعادته الأخيرة بالبكاء وهو نائم، لكنها لم ترَ في ذلك علامات صدأ نهائي بين، بل عودة سعيدة إلى الطفولة، ولذا لم تعامله على أنه شيخ صعب وإنما كطفل هرم» (نفسه). تأتي الشيخوخة على مهل كذوبان جبل من الجليد النائم. وكأنه عودة إلى طفولة ما ظلت مؤجلة. نعني إلى تلك الفترة حيث كان البكاء ممكنًا. ويبدو أن المرأة هي حارسة البكاء في حياة أي رجل. هي وحدها يحق لها أن تبكي في يقظتها. أما الرجل فإن عليه أن يؤجل ذلك إلى «النوم» الأخير: نوم الشيوخ العاجزين عن البكاء في يقظتهم المزعجة. وإن ماركيز يقيم تقابلًا رشيقًا بين «الشيخ» و«الطفل الهرم» في جندر الرجل: يخلط العمر إلى حقب متناضدة بعضها فوق البعض. ولا يمكن أن ينجح في ترتيب ذلك إلا المرأة، تلك التي تنجح دومًا في الوقوف على حافة ذاكرة الرجل ومساعدتها على السيطرة على تصدعها. بهذا ينجح الزواج إلى آخر لحظة. لكن ذلك لا يعني أن تلك المرأة قد حققت سعادتها.
قال ماركيز: «إذا كانا قد تعلما شيئًا معًا فهو أن الحكمة تأتينا في الوقت الذي لا تعود به ذات نفع» (نفسه). حكمة العطف بلا حب. ويحرص ماركيز على تقديم الشيخوخة وكأنها المحك الوجودي الأكثر رهافة لاختبار حس الحياة تحت جلد البشر. ينتهي كل زواج دام كل العمر إلى نوع غريب ومزعج من النجاح. ويفرض فجأة نوعا من «الحكمة» المضجرة: «أن تصريف كوارث الزواج العظيمة أسهل من تصريف المناكفات اليومية الصغيرة» (نفسه). يبدو اليومي بمثابة ضيف ثقيل. وهو يفرض نوعا من العزلة السعيدة. كل زواج هو عزلة سعيدة. إلا أن الحكمة التي تقوم عليها لن تنكشف إلا في وقت متأخر. وهي أن الزواج أسهل من اليومي.
ومن أروع لمسات ماركيز هو نبشه في الأركان الصامتة من اليومي ودفعها إلى الكلام. ومن الحالات التي ذكرها طريقة انبجاس اليومي. كان زوج البطلة يفرض عليها «استيقاظات احتفالية باكرة» مختلفة تمامًا عن طريقة الزوجة في انتظار الصباح. زوج «يستيقظ ببراءة طفل وليد: كل يوم جديد هو يوم يكسبه في الحياة» (ص٤٤). وفي المقابل هي كانت تتوجس الصباح من أن يكون حاملًا معه «نذير الشؤم» (نفسه). يقدم ماركيز حالة اليومي وكأنها مصنفة بشكل جندري. إن اليومي مذكر ومؤنث على طريقته. تستفيق المرأة على خوف ما من الآتي. ويستيقظ الرجل على براءة الحياة. ويصور ماركيز هذا الفرق الجندري من خلال لعبة النور والصوت: يستيقظ الزوج ولا يشعل النور إلا أنه يصدر ما يكفي من الأصوات كي تستفيق الزوجة. يبدو إشعال النور موقفًا ذكوريًّا ورسميًّا ومتسلطًا. لكن صدور الأصوات هو موقف طبيعي: إن الصوت جزء أنثوي من ماهية المكان.
لا يكتب ماركيز من أجل أن يقص علينا قصة مشوقة أو مؤثرة، بل من أجل تمرين داخلي على الوضعيات القصوى لجسد بشري. تلك الوضعيات التي يتعرى فيها البشري ويفتح عينيه بكل فزع على كل مساحات الحيوانية التي يعبق بها من دون أن يدري، نعني بقطع النظر عن أي حمية أخلاقية جاهزة عن «نفسه». وفجأة يشعر أن كل تعريفاته لنفسه السابقة أو الرسمية هي تمر بعيدة عن مركز ذاته أو هي قاصرة بشكل مخجل. قال: «لقد سألوه يومًا، في لعبة من ألعاب الصالون، كيف يعرف نفسه، فقال: «إنني رجل يرتدي ملابسه في العتمة»» (ص٤٤).
ثمة رغبة ملحة في تدجين تعريف الإنسان لنفسه. وفجأة يصبح النوم مثلًا طريقة لإعطاء شكل لتأثيث المكان الخاص. «لم تكن هناك من هي أكثر منها أناقة في النوم، إذ كانت تنام في وضعية راقصة» (نفسه). النوم هو حالة تعطل الكينونة في العالم وتحولها إلى قاعة انتظار داخلية. لكن ماركيز يقدم النوم وكأنه مقام مناسب تمامًا لإعادة تقديم شخص ما. ربما كان يوجد في العالم كيفما ينام. النوم كقياس تشكيلي لوصف شخص ما. لكن النوم لا يملك هذا القدر من الخطورة إلا لأنه يفسح المجال بفقدانه إلى نوع آخر من العلاقة مع الآخر الذي يشاركنا مساحة النوم. الأرق فرصة ميتافيزيقية للحب. من يستطيع أن يستفيق الأول هو سيمارس سلطة على الآخر. لكن الأرق في قلب الليل والتقلب على الفراش هو فرصة سانحة لفرض «النهار» كغنيمة حرب. قال: «وعندئذٍ تتقلب في الفراش، وتشعل النور دون أن تأخذها أية رحمة بنفسها، سعيدة بانتصارها الأول لهذا النهار. لقد كانت في العمق لعبة لكليهما، لعبة خرافية وشريرة، لكنها منعشة في الوقت نفسه: إنها سعادات الحب المدجنة الخطيرة» (ص٤٥).
يقدم ماركيز الحب «الزواجي»، الذي يعاني من البداية المفقودة، لأنها تقع في سلسلة حياة أخرى، لم تقع، وكأنها تقنية تغلب على الأرق. وذلك بتدشين النهار في أي وقت دونما رحمة بالطرف المقابل. الزواج هو حب مدجن. والخطورة تكمن في أنه يمكن أن ينهار لأي سبب مهما كان تافهًا: «كانت الثلاثين سنة الأولى من الحياة المشتركة على وشك الانهيار لأن الصابون لم يكن موجودًا في الحمام في أحد الأيام» (نفسه). ويلح ماركيز على بيان كيف أن الزواج هو أيضًا مؤسسة أحقاد من الطراز الرفيع. تتحول الحياة اليومية إلى «صراع زوجي» مهمته هي «رعاية الأحقاد» (ص٤٦). ولكن متى تنهمر كل هذه الحقائق أمام وجوهنا: «عند منعطف الشيخوخة» (ص٤٧).
وإنه من الطريف جدًّا تركيز ماركيز على ثيمة الشيخوخة باعتبارها السياق الميتافيزيقي الاستثنائي تمامًا في حياة أي شخص: سياق الوقوف فجأة على «يقين مدمر» (ص٤٦) بأن «نصف قرن من الحياة المشتركة» ليس حبًّا وإنما حالة حرب سرية يمكن أن تندلع في أي وقت بسبب شجار بسيط بمقدوره أن يدفع الزوجين إلى الرغبة في «البدء في حياة أخرى» (ص٤٧)، تشبه أن تكون عودة إلى طفولتنا (ص٤٩). من الغريب أن تبرز الطفولة بعد الزواج: حين يبلغ المرء شيخوخته كطور غير مرحب به من العمر لا يجد الرجل غير الطفل الذي تنازل عنه منذ أمد بعيد كي يساعده. ولأن الأمر يتعلق بالطفل يبالغ ماركيز في إعادة الشخص البشري إلى تجربة المرحاض بوصفها منطقة حدودية مع العجز بسبب الشيخوخة. ونعني بذلك مشكلة التبول. كيف يتبول الرجل؟ هذا السؤال الأنثوي يقدمه ماركيز وكأنه انزعاج لا شعوري في قلب المرأة من شخص يتبول واقفًا. صحيح أن التبول يمكن أن يؤدي دورًا آخر: أن يكون علامة على حميمية غير معتادة من قبل مع عالم الرجل. قال: «كان هو أول رجل سمعته فيرمينا داثا يتبول» (ص٤٨). لكن تهمة التبول واقفًا وما ينجر عن ذلك من «جريمة» الروائح الكريهة كانت تدفع الزوجة إلى تأنيب ميتافيزيقي متواصل على وسخ الرجل. وهذه التهمة لم تسقط إلا «عند مشارف الشيخوخة» حيث «أدى تثاقل جسد الدكتور أوربينو إلى إلهامه الحل النهائي: صار يبول وهو جالس، كما تفعل هي، مما حافظ على مقعد المرحاض نظيفًا» (نفسه).
تبدو الشيخوخة بمثابة منقذ أخلاقي من وضع كان بلا علاج لأمد طويل. لكن الشيخوخة هي التي أعادت الرجل إلى وضعية المرأة، وحولته إلى «بائل» نظيف. وحده الشيخ الذي يتبول جالسًا يمكن المرأة من أن تتساوى معه على مستوى طوبيقي. لقد تخلى أخيرًا عن حقه في التبول واقفًا، نعني عن حقه في الاختلاف الجنسي عنها. صحيح أنها استعملت النظافة كحجة بيولوجية على استعمال مناسب للجسد البشري. لكن الغرض العميق كان مختلفًا: إنه محو الفرق الجنسي الذي يجعل الرجل مختلفًا. وكأن ماركيز يقدم الزواج من دون قصة حب أولى أو تأسيسية باعتباره هو الإطار المناسب تمامًا لاختبار حدود بشريتنا على تحمل الحياة المشتركة. وربما كان الحب حجابا يصبغ الوضعية البشرية بهالة من التبرير الميتافيزيقي المسبق لكل أنواع الفشل في العيش مع الجنس الآخر.
لكن الشيخوخة لا تمحو الفرق الجنسي فقط. بل هي تؤهلنا للنظر في وجه الموت باعتباره جزءًا من ماهيتنا اليومية. فليس ما يمحو الفرق بين الجنسين مثل إمكانية الموت. وفجأة تصبح فروق الحياة مزحة من الماضي.
في تحليل فكرة الموت يبلغ ماركيز حالة ميتافيزيقية فائقة لا يمكن لأي فلسفة أن تزاحم النص الروائي في اصطيادها. كان الموت هنا على الدوام في كل ردهات العمر. كان ماثلًا لكنه كان بلا وجه، أو كان متلفتًا إلى جهة أخرى. وفكرة ماركيز هي أنه وحده الشيخ الذي بلغ حدًّا من الانزعاج من حدود جسده يمكنه أن ينظر في وجه الموت. اختار ماركيز أن يكون البطل طبيبًا حتى يمكنه أن يتجاور مع الجثة. كل شخص هو جثة مع تأجيل التنفيذ. قال: «عندما رفع الشرشف عن جثة جيرميا دي سانت-آمور، انكشف للدكتور أوربينو أمر كان يرفض التفكير فيه حتى ذلك الحين في إبحاراته الجلية كطبيب وكمؤمن. فبعد سنوات طويلة من التعايش مع الموت … كانت تلك هي المرة الأولى التي تجرأ فيها على النظر إلى وجه الموت، وكان الموت ينظر إليه أيضًا» (ص٤٩-٥٠).
يقف الموت بين الطب والإيمان. كان التعايش مع الموت في سابق حياته تجاورًا أداتيًّا وخارجيًّا. إلا أن الشيخوخة أقنعته هذه المرة بالفرق بين الخوف من الموت وبين حقيقة الموت: كان خائفًا دومًا، لكن الشيخوخة لا تشعر بالخوف من الموت بل بحقيقته. وهذا معنى الكابوس الذي أفاق منه ذات ليلة: «أن الموت ليس احتمالًا ماثلًا فقط، كما أحسَّه دومًا، وإنما هو واقع قائم» (ص٥٠).
ينبه ماركيز إلى أن موت أي كان هو رسالة إلهية نحونا، حتى نكتشف موتنا. كل من مات هو قد مات بدلًا عنا على نحو ما حتى نفهم شيئًا ما. وهكذا كانت الجثة التي أمام الطبيب الشيخ: رسالة مقدسة. كل جثة هي وثيقة مقدسة على موتنا. ولهذا كان ينظر الطبيب إلى الميت أمامه باعتباره «قديسًا يجهل فضل ذاته» (نفسه). ربما كان موت أحدهم هو أهم حدث في حياته. لكنه يهديه لنا، نحن الذين لم نمت بعد، وذلك دون أن يعيشه. وهنا نعثر على تعريف فائق للشيخوخة: إنها لحظة القدرة على التحديق في وجه الموتى ليس باعتبارهم موتى فقط بل باعتبارهم قد أخذوا ينظرون إلينا لأول مرة. وحده الشيخ يستطيع أن يرى الموت ينظر إليه. لكن هذه الحالة ليست حالة خوف. فالخوف كان هنا دومًا. مثل الموت. لكن الجديد هو تفرغ الشيخ إلى موته الذي بدأ في النظر إليه لأول مرة. ويلح ماركيز على استثنائية الشيخوخة ليس بكونها مائتة لا محالة، بل من جهة كونها وحدها تتمتع بقدرة رائعة على النظر إلى الموت في وجهه. والنظر في وجه الموت لا يعني هنا مجرد الخوف منه أو من النهاية المحتومة، بل الشعور بنوع من نقطة اللاعودة. قال: «أحس بأن شيئًا نهائيًّا لا رجعة فيه قد طرأ على حياته» (نفسه). الموت هو ما يجعل الحياة بلا رجعة. لكن الشيخوخة هي لحظة الشعور بأن شكل حياتنا قد صار بلا عودة.
ومن الطريف أن نلاحظ أن ماركيز لم يقدم جثة عادية للنبش في فكرة الموت. بل جثة رجل هارب من الإعدام أو من المؤبد، بلغ به الأمر في فراره المستحيل إلى «أكل اللحم البشري» (نفسه). ورجل عاش من دون هويته الأصلية، بل تحت أقنعة هووية عديدة. ولم يُكتشف أمره إلا عند موته. الموت يعيد الشخص البشري إلى هويته. ويسقط عنه كل أقنعة الآخر الملائمة.
ومن المثير أن ماركيز يمر من النظر في وجه الموت لأول مرة إلى تقنيات الاحتفال (ص٥١-٥٢)، وكأن الأمر يتعلق بحالة إنسانية واحدة لا تتجزأ. كان يغمس الحب في الموت وكأنه صلصة ميتافيزيقية حيث يغرق البشر في وحل الآلهة بلا سبب واضح سوى قوة السرد. يخبئ الحب في أحداث الموت ثم يخرجه كأنه بشارة جيدة على غد لن يحدث أبدًا. مات أحدهم منتحرًا، وبمساعدة حبيبته. قال: «وقد رأت في مساعدتها له على تنفيذ قراره بالموت دليلًا مؤثرًا على الحب» (ص٥١). وعلى الرغم من أن الرجل قد مات إلا أنك تجد من يلومه على أنه أخفى هويته عنه: الموت ليس عذرًا لخداع أحد (نفسه).
كان ثمة هاجس واحد تحت سرديات الحب والموت هو «الانتصار الجديد على الشيخوخة» (ص٥٧). «جديد» هو كل تمرين يجعل الشيخ ينسى حدوده. ويقدم ماركيز الزوج/الشيخ وكأنه عالق بين عالمين بخيط رفيع: إنه يجيب دائمًا. «من الضفة الأخرى للغيبوبة» (نفسه). وحتى الرجل الذي انتحر من «خوف الشيخوخة» فإن موته لم يكُن لائقًا، قال: «من المؤسف أننا ما زلنا نلتقي بمنتحر دافعه للانتحار ليس الحب» (ص٥٨). ويحرص ماركيز على الوحي بمثل هذا الشعور: كل موت لا يكلله الحب هو موت غير لائق. ثمة «قديس ملحد» (نفسه) في هكذا شعور. وهو نمط فائق من الانتماء إلى الحقيقة جعلت الأسقف الرسمي في المنطقة مذعورًا. قال: «لقد ذعر الأسقف لأن كاثوليكيا ومطلعًا تجرأ على التفكير بقدسية منتحر» (نفسه).
يشعر الشيخ بأنه عبارة عن نسخة نادرة من جيل لم يعد موجودًا. وإذا بأحدهم يبادر بالتنبيه إلى ضرورة بناء «أرشيف» للجيل الذي يوشك أن يندثر. ما أراد ماركيز أن يختبره هو أن أي شيخ هو كائن لم يعُد قادرًا على «الشعور بالسعادة خارج صوره» (نفسه). ليست الشيخوخة مؤسسة وحدة فقط، بل هي اكتشاف مريع للندرة. قال: «راح يكتشف أن جميع الناس، بما فيهم أولئك الأكبر منه سنًّا، كانوا أصغر منه، وأنه الوحيد على قيد الحياة من بين أبناء صور جيله النائي» (ص٦١).
لا يتعلق أرشيف الصور بأي نوع من المجد. والالتصاق بصور الجيل الذي ينتمي إليه ليس رغبة في تخليد أي شيء. بل إن الشيخ يحتاج إلى ذاكرة حتى يطرد شبح النسيان من حياته. ما يحتاج الشيخ هو «ذاكرة من الورق» (نفسه) تعوضه عن ذاكرة الجسد. لكن الورق قد يتغلب على النسيان، لكنه لا يمكنه أبدًا أن يتغلب على «نسيان النسيان»: «إذ وصل إلى أقصى درجات النسيان بنسيانه ما تعنيه ملاحظات التذكير التي كان يدسها في جيوبه» (نفسه).
تبدو الشيخوخة بمثابة تجربة نسيان عميقة. تتدرج ببطء مرعب من اليومي (البحث عن النظارة، إدارة مفتاح الباب …) إلى «القدرات العقلية» وذلك بالتحديد عندما يشعر الشيخ بأنه «يضيع معنى العدالة» (نفسه). ومن الطريف جدًّا أن ماركيز يضع العدالة فوق جميع أخطار الشيخوخة، أخطر من الضياع في الحياة اليومية. تبدو العدالة بمثابة آخر خيط أخلاقي يربط البشري بإنسانيته. وحين يضيع الفرق بين ما هو عادل وما هو غير عادل يضيع آخر رمق من العقل. وحده النسيان يمكن أن يمحو فاصل العدالة ويفتح البشر على «غرق محتم»: إنه الغرق في اللامعقول. كأن الشيخوخة هي في آخر المطاف شيخوخة العقل، وليس أي «عضو» آخر.
قال: «كان … يعرف أن معظم الأمراض القاتلة لها رائحة خاصة، لكنَّ أيًّا منها ليس محدد الرائحة كما هو داء الشيخوخة» (نفسه). هذا الكلام يصدر عن طبيب تشريح. كان قادرًا على استنطاق الجثث حتى تعترف بسنها الحقيقي مهما كان صاحبها بارعًا في إخفائه. وماركيز يدفع بالوضعية القصوى للشيخوخة إلى حد إثارة السؤال المريب حول قيمة الحياة: أليس من المستحسن تفادي الشيخوخة بطريقة ما؟
يسخر ماركيز من أي جواب جدي عن هذا التساؤل، دافعًا ببطله إلى الإقرار بأن الشيخوخة تنطوي على كل حال على «عزاء وحيد» ألا وهو «السلام الجنسي» (ص٦٢). لكن سخريته تبلغ مداها الخاص حين يحرص على تقديم الموت باعتباره حادثًا، وليس قدرًا. لقد جعل بطله الذي كان في الحادية والثمانين يدخل في عراك عنيد مع ببغاء تشتمه بكونه «عديم الحياء» (الحياة بهذه السن كنوع من عدم الحياة!) حيث يصعد سلمًا للإمساك بها ثم يسقط ويموت. قال: «لأن السلم انزلق تحت قدمَيه وبقي هو معلقًا برهة في الهواء، فأدرك حينئذٍ أنه مات دون قربان رباني، ودون أن يتاح له الوقت ليندم على شيء أو ليودع أيًّا كان» (ص٦٤). كل موت هو انزلاق من سلم ما. ويبدو العالم وكأنه مكان شاهق يسقط منه الناس دونما قدرة على منع ذلك. أمام هذا المشهد الهول يبدو كل قربان مزحة لا تُحتمل. كما أن أي ندم أو وداع سيكون فضولًا لا جدوى منه. ومع ذلك يحرص ماركيز على تحديد ما هو استثنائي هنا: إنها «دموع الألم التي لا تتكرر لموته من دونها» (نفسه). ما لا يتكرر هو الحي الذي يبكي، وليس الميت.
ثم يدفع ماركيز بالمفارقة إلى أقصاها: إن مَن مات هكذا هو الطبيب الذي «درأ مسبقًا، بأساليب مستحدثة وصارمة، أخطار جائحة الكوليرا الأخيرة التي تعرض لها الإقليم» (ص٦٥). وهو من وراء ذلك يريد أن يضع الإصبع على هشاشة الموت نفسه: يمكن لمن قهر آلاف الموتات بسبب داء الكوليرا أن يموت بالسقوط من السلم وهو يجادل ببغاء بذيئة تتهمه بعدم الحياء.
لكن موت أحدهم ليس آخر فصل من حياته. بل تبدأ عندئذٍ كل مراسم إخراجه من العالم. وخاصة كل محاولات استخدام موته بشكل مفيد. هنا تبدو الأرملة بوصفها مدعوة إلى أن تؤدي الدور الأخير في سردية الموت الخاص: أن تدافع عن الجثة. قال: «فقد اتخذت موقفًا متصلبًا بالإصرار على عدم السماح باستخدام الجثة في سبيل أية قضية. كما اتخذت موقفًا مماثلًا من برقية رئيس الجمهورية» (ص٦٩). ولا سيما ضد أن تستولي الدولة على موت أحدهم وتحويله إلى عرس وطني. ومن عادة الدولة أن تفعل. بذلك ربما كانت الدولة عبارة عن خطة مسبقة للاستيلاء على موت الآخرين وتحويله إلى طعام هووي للمواطنين. تعترض المرأة ضد الدولة: هذا موقف نمطي في تاريخ السلطة. ونعني في تاريخ الموت. قال: «حافظت فرمينا داثا بإصرار على فكرتها الريفية القائلة بأن الموتى لا ينتمون إلى أحد سوى عائلاتهم» (نفسه). تعترض المرأة على استيلاء الدولة على الموت الخاص، لسبب واضح تمامًا: الدولة لا تبكي على أحد. ولذلك تبقى العائلة هي المؤسسة المدنية الوحيدة التي تبكي أو توفر حقًّا مناسبًا في البكاء على الميت. ومن هذه الزاوية الغريبة، لا تعني العائلة غير مؤسسة «إفساح المجال لكل من يشاء لأن يبكيه كما يرغب» (نفسه). تستطيع العائلة أن تضع «البيت تحت نظام الموت» (نفسه) دون أن يكون ذلك استثمارًا عدميًّا أو سياسيًّا لصالح أية قضية أو جهة.
ويلمح ماركيز إلى أن الدولة لا يحق لها أن تنظر في وجه الميت: وحدها المرأة تتقن الحداد. الحداد هو مواصلة العلاقة الحميمة مع الميت «وقد تصلبت على وجهه حالة الرعب الأخيرة التي أحسها» (ص٧٠). يذهب الموتى وتبقى وجوههم في عيون الذين ودعوهم. وفي الحقيقة ما يبقى من الموتى هو نظراتهم الأخيرة: حين ينظرون ولا يرون. لكن الفرق بين نظر الموتى ونظر الأحياء يظل لغزًا لمن رأى. قال: «كانت ردة فعلها الأولى مشبعة بالأمل، لأن عينيه كانتا مفتوحتين وبهما بريق ضوء مشع لم تره في حدقتَيه من قبل» (نفسه). يواصل الميت النظر إلينا مثل الأحياء. لكنه لم يعُد يرانا منذ مدة. كل مساحة الحداد تقع في مساحة النظر بلا رؤية. حيث يلوح بشكل خاطف ومؤلم شعور بإمكانية «الحياة ثانية منذ البداية» (نفسه). لكن الموت هو هذا: أن ذلك لم يعُد ممكنًا، وعندئذٍ يتحول عناد الموت إلى غضب مقدس. «لقد تحلل ألمها إلى غضب أعمى ضد العالم، بل وضد نفسها بالذات» (نفسه). ربما كان الحداد غضبًا مستحيلًا. الغضب ضد العالم: ضد حكمته المرعبة بالزوال. وضد النفس: لأنها متواطئة بمعنى ما مع الموت، ما دامت لم تمت إلى حد الآن. كأن عدم الموت صفقة مخجلة تدعو إلى الشعور بالحداد. ومع ذلك فإن ماركيز يدفع بالحداد نحو غضب الأحياء ويفصله شيئًا فشيئًا عن رعب الموتى. إن أكبر درس لمواجهة الموت تخرج به المرأة هو «منحها الشجاعة لمواجهة العزلة منفردة» (نفسه).
لكن ماركيز سرعان ما يفاجئ القارئ بأن الشجاعة على عزلة ما بعد الموت بالنسبة إلى امرأة لن تكون ممكنة من دون حب «آخر»، ربما كان هو تلك البداية المفقودة التي عانى منها زواجها. فجأةً يعود حبيب الشباب إلى الظهور وكأنه جزء أخلاقي من المشهد: ففي اللحظة التي ودعت فيه الأرملة تابوت زوجها هي قد نزعت خاتمها وألبسته إياه (ص٧١)، كان ذلك يعني إعطاء الحداد كل هالته القصوى، بحيث إنه بعد ذلك سوف يصبح موقفًا لا يخلو من هزل الموتى. لكن الحداد الكامل غير ممكن من دون وداع ما: لذلك قالت له: «سنلتقي قريبًا جدًّا» (نفسه).
كل كلمات الوداع هي كلمات حداد خجولة. لكن ماركيز أخذ يلاعب خيوط السرد بالخلط بين الوداع والوعد: وحده من نودعه يستحق منا كل الوعود التي بحوزتنا. ومغزى هذا الخلط هو دفع النفس البشرية إلى نقل الوداع من الموتى إلى الأحياء. وفجأة يصبح الحداد إثباتيًّا تمامًا: إنه طريقة الفانين في حفظ إمكانية الحياة وذلك بالتحديد في لحظة الموت نفسها. يقف الحداد خطًّا رقيقًا بين الوداع والوعد. وفي اللحظة التي كانت فيها الأرملة تودع زوجها واعدة إياه بلقاء قريب جدًّا، كان حبيبها القديم والممنوع من الظهور في أفق زواجها وحياتها الطويلة الأمد، قد اندس في الأحداث: في عملية الموت، وفي ترتيب مساحة العزاء في بيت حبيبته الأرملة بزوج آخر. هو «الذي نظم العمل في المطابخ الغاصة حتى لا تنقص القهوة. وحصل على كراسٍ إضافية عندما لم تعُد كراسي الجيران كافية، وأمر بوضع الأكاليل الزائدة في الفناء عندما لم يعد في البيت متسع لإكليل آخر … لقد فعل كل تلك الأمور بصمت كامل وفعالية فائقة» (نفسه). ماذا يفعل الحبيب القديم والمتنكر يوم جنازة غريمه؟ وفي بيت أرملته؟
إنه فقط يحافظ على إمكانية الحياة. قدمه ماركيز بوصفه همزة الوصل الخفية والصامتة بين الوداع والوعد. ما تحتاجه المرأة هو رجل يكون همزة الوصل بين الموت والحياة. وطرافة ماركيز هو كونه ينسج مفصل الانتقال من الحداد كنوع من الوعد باللقاء في عالم آخر إلى «الحياة ثانية» بواسطة «الشجاعة على مواجهة العزلة» على انفراد. وهنا يبرز الحب بوصفه ذلك الشعور الذي لا يحتاج إلى أي إطار رسمي للقاء. عليه أن يكون «مساعدة لا تقدر بثمن في ساعة الشؤم التي يمر بها البيت» (نفسه). ومن المثير أن ماركيز يحرص على أن يكون الحب وضعية قصوى أو بداية مفقودة. من يحب هو إما شاب لا يمثل عرضًا مناسبًا للسعادة. وإما شيخ صار يمكنه أن يتمتَّع بحبه مع شيخة أرملة. في الحالتين يبدو الحب أقل حظًّا من الموت: إن الموت أتى في أوانه. لكن الحب قد أخطأ دومًا لحظته المناسبة. «كان هناك أمران يثيران الشكوك في عازب متمادٍ في عزوبيته: لقد أنفق مالًا كثيرًا، وحيلة واسعة وتصميمًا شديدًا كيلا تظهر آثار السنوات الست والسبعين التي أتمها في شهر آذار الأخير، وكان مقتنعًا في عزلة روحه بأنه قد أحب بصمت أكثر بكثير من أي كان في هذا العالم» (ص٧٢).
يبدو الحب في غير أوانه كنمط من العزوبية المستحيلة أو اللاراهنة: التقنية الأخيرة للحد من شيخوخة مزعجة بكونها قادرة على الحب أو احتفظت بكمية غير محتملة أو غير متوقعة من الحياة. ولذلك يختار هذا النوع من الحب أن يتحول إلى فن للعزلة أو للصمت، أي إلى نوع من الغياب المحتمل. ويتمادى ماركيز في الحفر في الجهة المستحيلة من القصة: أن الشيخ العاشق لم يجد أفضل من يوم الجنازة وبخاصة لحظة توديع الأرملة للمعزين كي يعيد إليها قسمه القديم خالصًا وحادًّا كما هو قائلًا لها «بصوت مرتعش ووقور: فرمينا … لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي وحبي الدائم» (ص٧٤). كان قسمًا مريبًا لأنه قسم شاعر.
لكن طرافة ماركيز هي كونه يبرمج الانفعال المصاحب لهذا اللقاء ما بعد الجنائزي بين المحبين وكأنه حالة إلحاد مقدسة: العاشق القديم يبرز بعد خمسين سنة وفي لباس الحداد على زوج حبيبته كي يذكرها بأن قسمه بالحب لا يزال ساري المفعول. تتصادم ذاكرتان: إحداهما لم تنسَ أبدًا، والأخرى أقامت حياتها على التطهر بالنسيان. إذْ حين رأته في ثياب الحداد «أحست بالسعادة، لأنها كانت قد محته من حياتها منذ سنوات طويلة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تراه فيها بوعي طهره النسيان» (نفسه). علينا أن نحدد شكل هذا النسيان: كان الزواج جهاز نسيان ضروريًّا ورسميًّا للكف عن حب ذلك الشاعر البعيد الذي لم يكن يصلح للزواج. ولذلك حين مات الزوج شعرت فيرمينا بأن جهاز النسيان قد انهار. ولذلك هي لم تتردد في طرد الشيخ العاشق وإن كان ذلك دون غضب ظاهر لأنه «انتهك حرمة البيت فيما جثة زوجها ما زالت ساخنة في القبر» (نفسه). لكن هذا السبب لم يكن إلا تعلة أخلاقية للتخلص من الخطر الجديد: أن تجد نفسها وحيدة ومعزولة في مواجهة الحب. «بكت لموت زوجها، لعزلتها وغضبها» (ص٧٤-٧٥). هي لم تبكِ على فقدان زوجها. بل على أنها لم تعُد تمتلك جهاز نسيان مناسبًا كي تتخلص من خطر الحب. وبلغ بها ذلك إلى حد تمني الموت: «رجت الله … أن يبعث لها الموت في هذه الليلة بالذات وهي نائمة، وعلى هذا الأمل نامت» (نفسه). لكن ماركيز يدفع هنا بالحالة السردية إلى المفارقة في طيات أو أنفاس متناضدة ومتزاحمة على احتمال المستحيل المفاجئ: (١) «نامت دون أن تدري أنها نائمة، لكنها كانت تدري أنها حية في نومها.» (٢) «حينئذٍ فقط أدركت بأنها قد نامت طويلًا دون أن تموت.» (٣) «وفيما هي تنام منتحبة كانت تفكر بفلورنتينو أريثا أكثر من تفكيرها بزوجها الميت.» (ص٧٥).
لم يكن النوم غير الفاصل الميتافيزيقي بين الموت والحب: عليها أن تمر أو أن تعبر إلى الضفة الأخرى من نفسها. ولا يبدو أن الموت يمكن أن يمر دون أن ندخل في نوم ما، نوم من العيار الثقيل، حيث تولد النفوس خفيفة كالنهار الآخر، ذلك الذي يأتي ولا ذاكرة له أو بأقل قدر من الذاكرة. وعندئذٍ ينتصب الحب بوصفه نوعًا من استحالة الموت، بعد الموت. وقع موت ما، ورغم ذلك نحن لم نمُت بعدُ. إذن لا شيء بإمكانه أن يحمينا من أن نحب مرة أخرى نفس الحب الذي تم تطهير القلب منه بواسطة كل أجهزة النسيان المتاحة. أخطر أنواع الحب تحت قلم ماركيز هو الحب العائد في غير أوانه. تلك البداية المفقودة التي ظن أبطاله أنهم نجحوا في التطهر منها بواسطة النسيان. النوم هنا نوع جديد من النسيان أو هو أول تمرين على نسيان النسيان. يمكنها أن تنام دون أن تدري أنها نائمة في معنى أن النوم نفسه لم يكن قادرًا على أن ينام. كان مقام الموت واسعًا وفذًّا. وكانت تشعر أنها توجد خارج نفسها المعتادة، وبالتالي كان يمكنها أن تنام خارج نومها. لا يحتاج النسيان إلى توقيع. كذلك النوم كحالة فرار داخل الشعور بالموت. كان هذا النوم خارج النفس بمثابة دليل أخير على أنها لم تمت. لكن عدم موتها سوف يفتح بابًا عسيرًا ومرعبًا ظل مغلقًا طوال خمسين سنة: باب الحب. ولذلك في خضم نحيبها على الميت وهي نائمة، خارج نفسها، دون أن تدري أنها نائمة، كانت لا تزال حية. ولذلك هي «كانت تفكر بفلورنتينو أريثا أكثر من تفكيرها بزوجها الميت». كان ذلك آخر انتصار للحب الذي ظل مهزومًا منذ البداية: هزمه النسيان لكنه تطهر منه بالموت.