باولو كويلو وأدب الروح
إن كتابات باولو كويلو، مثل «ألِف» و«الخيميائي» و«الزهير» و«الجبل الخامس» و«مكتوب» … هي بمثابة هدايا ميتافيزيقية إلى شعوب العالم، وكأنها ديون متخلدة في ذمة الروح الأدبية لا بد من قضائها.
«بالله لا، طقسٌ آخر؟! استحضار آخَر لجعل القوى اللامرئية تتجلى في العالم المرئي؟!» (ص١٥). كذا، يعود كويلو بالأدب إلى نبضه الكوني: أنه جملة «طقوس» لجعل «اللامرئي» يتجلى في «المرئي» في أفق شخص أو شعب ما. وبهكذا طموح وشراسة صامتة هو يضع خارطة الرواية التي يريد أن يكتبها: إنها رحلة في أعماق الذات، وبالتالي على نحو يكسر حدود الزمان والمكان التي يرسمها «عالم اليوم»، بحيث يتحول عمرُ الراوي إلى مئات السنين ويعبق جسده الخاص برائحة الأماكن التي لا لقاء بينها. وما دام هناك سفر إلى أعماق الذات فعلينا أن نفتش عن المرأة. ثمة حبٌ ما في حياة كل شخص على الأرض هو وحده الذي يروي قصته إلى النهاية. ولا بد أن يكون حبًّا قد دُنس بشكل أو بآخر، وفي نحو من البراءة الفظيعة. لكن الأديب الكبير أو «العالمي» هو وحده مَن يفلح في إعادة الحب العظيم إلى الخدمة. يعيده إلى أداء دور تأسيسي في أفق حياة ما، ومن ثم تحويلها من جديد إلى قدر. ولقد جمع باولو كويلو بين المرأة والطريق إلى القدر بطريقة رائعة: بطريقة تكسر الوعي بالزمن وتنجح في فتح المكان على أبديته الخاصة. على الراوي (الذي بلغ من العمر تسعًا وخمسين سنة) أن يلتقي بالمرأة التي أحبها منذ خمسمائة عام. وعليه أن يقطع في صحبتها الغامضة وغير المتوقعة سفرًا طويلًا إلى أفريقيا إلى أوروبا إلى آسيا عبر السكك الحديدية العابرة لسيبيريا معينة. على كل حب عظيم أن يعبر سيبيريا ما، حتى يحق له أن يزعم أنه عثر على المرأة التي لطالما أحبها في كل حيواته السابقة دون أن يعلم. إلا أن عليه ألا ينكر أبدًا أنه لا يبحث إلا عن «نفسه»، عن تلك الطريقة الأبدية في الالتحاق بالكون، عن تلك النقطة التي تتجمع فيها كل «طاقة» الكينونة، وتتحول إلى حب عابر للأجساد. ولذلك كان منذ البداية في حاجة إلى «مرشد في التقليد» (ص١٦) الروحي الذي يريد الانخراط فيه. يسميه كويلو «ج».
من يبحث عن امرأة بعد خمسمائة عام لا يبحث عن ملكية ما، أضاعها. بل عن ذلك الشعور الذي يجعل «سنديانة مقدسة تقبع ههنا منذ أكثر من خمسمائة سنة، تتأمل بتجرد مآسي الإنسانية، هما الأوحد أن تُسقط أوراقها شتاءً وتستعيدها ربيعًا» (ص١٦). إن البحث عنها يشبه «صلاة روحية» حيث يكون الله قد سبقنا إلى هناك (ص١٧). وتلعب الشجرة هنا منطلقًا سرديًّا مثيرًا: ففي كل قصص المقدس ثمة شجرة ما، كانت بمثابة نقطة الربط مع الكون. إلا أن الحب البشري يعني بكل إزعاج نحوًا من الشعور المفاجئ بانقطاع الصلة مع الكون. أن الشجرة ينبغي أن تكون منطلقًا نحو شيء ما لا يوجد فيها. قال: «لا أرغب في التحدث إلى الكون اليوم. أريد فقط أن أحصل على الإجابات التي أبغيها من الرجل الذي إلى جانبي» (ص١٨). الشجرة هي المرشد الذي بلغ حدوده. وهي «المنزل» حيث يتوهم الراوي أنه وجد مسكنه في العالم، في «قرية سان مارتان، في جبال البيرينيه الفرنسية»، لكنه سرعان ما سيندم على شرائه، قال: «لأنه امتلكني، مستوجبًا حضوري ما أمكن، لأنه يحتاج إلى من يرعاه، للإبقاء على طاقته نابضة» (نفسه). يبدأ الكون حيث ينتهي المرشد داخلنا. لكن ذلك لا يعني أيضًا إلا اهتزاز «الإيمان» بأنفسنا. قال: «أنا في غمرة من الشك، خصوصًا بإيماني» (ص١٩). لا يتعلق الأمر بالشك في ما يتعلمه المرء من مرشد ما. بل في أن حدود الإنسان هشة خاصة عندما يتعلق الأمر بالإيمان. وحدود الإنسان هي الكون. والشك هو الشعور الذي ينجح في رسم خط يفصل بين المرئي واللامرئي في أفق أنفسنا. قال: «يقيني واحد فقط: ثمة كونٌ روحاني موازٍ يرتطم بالعالم الذي نحياه. عدا هذا، كل أمر آخر يبدو لي بلا منطق» (نفسه).
يبدو الأدب بمثابة استئناف للعلاقة القديمة واللامرئية مع الكون، تلك التي نجحت «الكتب المقدسة والتجليات والمرشدون والكتيبات والطقوس …» (نفسه) في طمسها. وطرافة كويلو أنه يقدم الكتابة وكأنها قدرة سحرية على السفر في الزمن، ولا سيما في الماضي، بحثًا عن «تجسدات» سردية ما: مثلًا «ككاتب فرنسي من القرن التاسع عشر» (ص٢١). لكن هذا التجسد ليس فسحة سعيدة، بل هو تمرين على أنواع من الجحيم الخاص. قال: «الارتحال إلى حيوات ماضية أشبه بحفر حفرة في الأرضية وترك ألسنة النار في الشقة أدناه تحرق الحاضر وتشعله» (نفسه). لكن حرق الحاضر لا يكفي لصنع أدب جيد. علينا أن نجمع بين الشجرة والكون: بين «اللحظة الحاضرة فقط»، حيث إن «الزمن لا يمر» (ما يسميه الهنود بلفظة «كارما»)، وبين الشعور بأنه «قد آنَ الأوان» من أجل «تجريب» شيء ما غير مسبوق يتخطى حدودنا إلى حد الآن: أن «عدم السعادة» هو علامة فارقة على انقلاب عميق في ذواتنا (ص٢٢-٢٣). هنا بالتحديد ينتهي دور المرشد ودور الشجرة. ويبدأ دور «الرحيل». قال المرشد: «لم تعُد هنا. عليك الرحيل لكي ترجع إلى الحاضر» (ص٢٣).
لا يتعلَّق الأمر بأي نوع من الهجرة، لأن الكاتب لا يهاجر بل يسافر. إن الكتابة هي تمرين استثنائي في التهكم على المكان: يبدو المسافر بلا سبب أو بلا وجهة «مجنونا» (ص٢٤)؛ لكن ربط السفر بالجنون ليس أخلاقيًّا في شيء. بل هو مشكل مكاني. المجنون هو الذي فقد العلاقة بالمكان. ما دام أن العاقل هو الذي يحافظ على مكانه. ما يحاوله كويلو هو تفجير الارتباط بين الهوية والمكان. لا بد من قدر ما من الجنون، أي من الرغبة الفظيعة في السفر إلى لا-مكان، حتى يستطيع الراوي اختراع القصة. حين تبدأ القصة ينتهي المكان.
«بعد أسابيع وأنت تتجول وتصغي إلى لغة لا تفهمها، وتتداول عملة لا تفقه قيمتها، وتجوب شوارع لم تجُبها من قبل، تكتشف أن «الأنا» القديمة فيك، إلى جانب كل شيء تعلمته، لا جدوى منها مطلقًا … وتبدأ في الإدراك … أن فيك شخصًا أكثر تشويقًا … وأكثر انفتاحًا على العالم وعلى التجارب الجديدة» (ص٢٥). هنا نقف أمام غريزة الكاتب بامتياز: أن يخترع بداية سردية لذاته لا تمر لزومًا بهويته إلى حد الآن. أكثر الناس لا يعني بحياته سوى استمرارية الأنا القديمة في نفسه. ولذلك يوفر الأدب أفضل اختراع سردي للإنسانية الحديثة (بعد انحسار السرديات الدينية): توفير فرصة ميتافيزيقية للبداية من جديد بالنسبة إلى أي كان. لكن البداية لا تعني السفر. بعض السفر هو تكرار مزعج لنهاية منسية. ما يعلمه الأدب هو قول «كفى!» لهويةٍ ما لم تعُد تعنينا. قال: «كفى! السفر في نظري بات رتابة متواترة» (نفسه). كيف نبدأ من دون أن نسافر نحو أي جهة؟ البداية لا تعني سوى أن الأنا القديمة قد صارت بلا جدوى. ما يرنو إليه كويلو هو تكسير وجه الشبه التقليدي بين السفر والحياة: «الحياة هي القطار، وليس المحطة» (ص٢٥)، قال المرشد الروحي. لا يكمن سر الأدب في التشويق نحو طوبى ما. الأديب ليس طوباويًّا، بل هو ساحر خارج عصره. قال الراوي: «تعلمت السحر عندما أصبح عمري اثنتين وعشرين سنة» (ص١٦). تحتاج الطوباويات إلى عقيدة جيدة عن السفر. أما السحر فهو حرية الماضي. وبهذا المعنى فالرواية لدى كويلو عمل سحري: العزم على تجريب أنا أخرى لم نستعملها بعدُ. قال الراوي: «لا جدوى [من السفر]. إذا كان عليَّ أن أصوِّب خطأً ارتكبته في حياة أخرى، وأنا واعٍ تمامًا لهذا الخطأ، أستطيع تصويبه فيها» (نفسه).
ما يريده كويلو هو إعادة الأدب إلى وظيفة الخلاص: لا يسعى الكاتب إلى اكتشاف قارة سردية جديدة، في سباق محموم مع المستقبل، بل هو يشعر بأن «لعنة» ما تلاحقه من حياة أخرى، وأن عليه أن يتحرَّر منها. الأدب هو تحرير الماضي من نفسه. ولقد وجد كويلو لموضوعة «السفر في الزمن» دورًا روائيًّا طريفًا: إنها سفر في داخل أنفسنا القديمة. ثمة شيء «غير منجز» من حياة سابقة، وعلى الأدب أن يجد طريقة لإنجازه. فقط: ما ينبغي هو العثور على مركز الكون، حيث وضع الله مشيئته. وهنا يبوح كويلو بالأساس الفلسفي الذي أقام عليه تصوره للخلاص برمته:
«الله سيرشدك، لأن كل ما اختبرته وستختبره موجود في «الهنا» و«الآن». العالم يُخلق ويهلك في هذه اللحظة بالذات. أيًّا يكن مَن التقيت، سيعاود الظهور، أيًّا يكن من أضعت، سيعود» (ص٢٦). نعثر هنا على استثمار صامت لفكرة كان نيتشه قد أعطاها عنوان «العود الأبدي للهوهو». إن ما يدور في أنفسنا كان وسيظل يدور في الكون بشكل متكرر إلى الأبد: «لا بد أن ذلك قد حدث من قبل ومقدر له أن يحدث مجددًا» (ص٢٧). إن الرواية لدى كويلو طريقة اختراع العود الأبدي للهوهو في ذواتنا. ولذلك فإن السفر لا يعني مجرد تبديل البلدان بعضها بالعض. إن المكان الواقعي أخرس ولم يعُد له قدرة كافية للعودة بنا إلى أي موطن. لذلك لم يبقَ أمام الأدب سوى السفر الروحي: السفر في أعماق أنفسنا باعتبارنا قصة عميقة لم نقرأها بعد. ربما تساعد الجغرافيا على ذلك. لكن العالم المرئي لم يعد له ما يقول. إن النفس هي البلد الوحيدة ستظل تفاجئنا. ومع ذلك نحن نعيش دومًا على فرضية أننا نعرف أنفسنا كفاية. قال: «بعد تسع وخمسين سنة على العيش مع نفسي، صرت أستطيع أن أتوقع بعضًا من ردود أفعالي» (نفسه).
يبدأ الأدب حيثما تنتهي الحياة اليومية. ليس ثمة عالم أدبي يومي. بل إن الرواية لا تبدأ إلا عندما يشعر الراوي بأن حياته اليومية مريحة أكثر من اللازم. وأنها تحولت إلى عائق أمام تحقيق «سلام» ما مع نفسه (ص٢٨). يبدأ الأدب من نوع غريب من «عدم الرضا» أو من «الخسارة»؛ وطرافة كويلو أنه يسدل صبغة دينية مثيرة على كل شعور بأن شكل حياتنا إلى حد الآن قد صار بلا جدوى. وراء كل «حس مستمر بعدم الرضا» هناك حكمة تتجاوزنا. «يعني ذلك أن الله أوجده لسبب واحد فقط: عليك أن تغير كل شيء وتمضي» (نفسه).