فاتحة

الصمت أحد مخاطر الكلام

«ما لا يُقال ينبغي إسكاته.» (!) هكذا ختم المنطقي النمساوي، فتغنشتاين، الفيلسوف الوحيد الذي يزاحم هيدغر على إكبار المعاصرين، أحد كتبه. كان يعني أن ما لا يمكن قوله بشكل منطقي، أي بشكل تتماهى فيه أفكارنا مع لوحات الأشياء في العالم، هو أمر يخرج من فلك العبارة ويدخل مساحة الإشارة. وما يُشار إليه فحسب لا يُقال. نعني يخرج عن بنية الحقيقة كما يرضى عنها العلماء. ولكن هل السكوت هو الشكل الوحيد من الصمت في أفق البشر؟ بعض الأشياء نسكت عنها لأنها تؤلمنا أو تؤلم من نحب. أو نعاقب على التصريح بها للجمهور. وفتح باب التأويل للجمهور كان جريمة فقهية لدى أسلافنا. لكن ما نسكت عنها يوجد أو لا يزال يوجد بفضل اللغة وفي نطاقها. إن المسكوت عنه، وهو آلة كلامية خطيرة جدًّا في نظام الخطاب داخل دولة الملة إلى نهاية القرون الوسطى، كان جزءًا لا يتجزَّأ من مساحة المنطوق به، ولا معنى له إلا بالنسبة إليه.

تغير المجتمعات مساحة المسكوت عنه بقدر ما تغير من نفسها. وكلما كانت هوية مجتمع أو شعب ما مهتزة أو مضطربة أو قلقة أو ملعونة أو مكبوتة أو محاصرة … تكون مساحة السكوت واسعة ومقننة وتحت المراقبة. نحن لا نسكت إلا بالقدر الذي يفرضه نظام الكلام في مجتمعنا، ولذلك ينبهنا هيدغر إلى أن السكوت لا يعني أن يكون المرء أخرس: الأخرس، حسب هيدغر، لا يملك أية إمكانية كي يثبت أنه يمكنه أن يسكت، كذلك فإن مَن لا يقول شيئًا لا يستطيع أن يسكت. إن القدرة على السكوت هي حسب هيدغر جزء من ماهيتنا لأننا نوجد بما نقول.

ربما ما دمرته الحياة الحديثة هو قدرة الناس على الصمت. وعوضتها بمجرد مهارات مؤقتة على السكوت. ولا نجازف إن قلنا إن عديد المجادلات اليوم، وخاصة المرئية منها، هي أشكال رديئة من السكوت عما ينبغي قوله. يتم تنظيم فن السكوت عن أجزاء حميمة من أنفسنا أو من علاقتنا بالغير أو عن مساحات خطيرة من آلة السلطة التي نخضع لها، وغالبًا ما يتم ذلك دون علم منا أو عن طواعية كجزء من ميثاق الحياة الحديثة، وهو تنظيم جيد غالبًا. نعني له قدر من النجاعة ينجح مجتمع ما في إرسائها كشرط عميق لاستقرار هويته.

نحن نميل عادة إلى حصر السلطة في الممنوع والمقدس والمحرم. نعني في الدولة والدين والجنس. لكن المسكوت عنه لا ينحصر في دوائر القانوني أو الشرعي أو الأخلاقي. ثمَّة مساحات من الصمت تم ابتلاعها في تقنيات السكوت التي يفرضها شكل الحياة التي نعتنقه. ما اخترعته الحداثة هو «أقلمة» الدولة: تحويلها إلى إقليم مغلق على نفسه. ومن ثَم فإن أي كلام في السياسة هو جزء من خارطة المسكوت عنه حتى تحتفظ تلك الدولة بمستندات كافية عن منطق وجودها وأسرار سلطتها؛ وما اخترعته الحداثة أيضًا هو «علمنة» المقدسات وتحويلها إلى دوائر للإيمان المنظم أو المراقب أو المستعمل بشكل عمومي. ومن ثَم فإن أي كلام في الدين هو جزء من خطة السكوت المناسبة حتى تحتفظ المؤسسة الدينية برطانة مميزة لخطابها ومنهاجها الدعوي؛ وأخيرًا فإن الحداثة قد اخترعت «خلقنة» الجنس وتحويله إلى نظام أخلاقي للرغبة الحميمة في دخيلة مجتمع ما. ومن ثَم فإن أي كلام في الجنس هو جزء من سياسة المسكوت عنه حتى تبقى مؤسسة الزواج قادرة على الاستمرار في تأدية وظيفتها التناسلية التي هي مختلفة تمامًا عن الاستعمال الشبقي للأجساد.

قال باولو كويلو: «إن الهدف الأكبر في الحياة هو أن نحب. والباقي هو محض سكوت». هل يعني ذلك أن كل ما يقع خارج دائرة الحب لا يستحق اسم الكلام؟ أو لا معنى لأن نتكلَّم عنه؟ ولكن كيف نفهم التقابل بين الحب والسكوت؟ قد يعني ذلك أن محبة أنفسنا أو غيرها أو العالم من حولنا أو في داخلنا هي الشكل الوحيد من اللغة. ذلك الذي يحقق الهدف الأكبر من الحياة. ما نسكت عنه إذَن هو فقط ما لا يمكن أن يكون موضوعًا للحب. ما لا يُحب ينبغي إسكاته. أو هكذا كان ليقول فتغنشتاين. ولكن كيف يمكننا أن نبلغ إلى ذلك النوع من الحب؟

يبدو لنا أن الحب الذي يكون قادرًا على تحقيق الهدف الأكبر من الحياة هو ما سماها هيدغر القدرة على السكوت، وهو لا يعني شيئًا آخَر سوى الصمت. الصمت هو الاستغناء عن المسكوت عنه في اللقاء بمَن أو بما نحب. الشعور بأننا نحب أنفسنا أو نحب غيرنا دونما حاجة إلى أي نوع من الجدال حول ذلك. أن نحب وطننا مثلًا دونما حاجة إلى إثبات ذلك أمام أي محكمة مهما كانت مبجلة. بل أن نشعر أن مجرَّد الجدال في ذلك هو تورُّط في سياسة السكوت التي ضبطها المجتمع وأسس عليها ركائز سلطته. السكوت قرار منهجي أو أخلاقي إزاء المسكوت عنه. وهو نوع من الحماية لإمكانية الكلام من الخطر المحدق بها. الخطر المحدق بالكلام ليس السكوت، بل الوقوع تحت سلطة المسكوت عنه. وسلطة المسكوت عنه سلطة ناطقة بشكل فظيع. قال باسكال: «إن السكوت هو أكبر أنواع الاضطهاد ولهذا السبب فإن القديسين لم يسكتوا قطُّ.»

وبهذا المعنى فإن السكوت مختلف تمامًا عن الصمت. الصمت ليس قرارًا. إنه مقام موسيقي لوجودنا غير المرئي، والذي لا تقوى أية حداثة على طمسه، بما في ذلك حداثة السكوت: كما تعبر عن نفسها في الممنوع والمقدس والمحرم.

كل احترام لحدود الممنوع (القانوني) والمقدس (الديني) والمحرم (الأخلاقي) هو انخراط طوعي في سياسة المسكوت عنه. وهو شرط إجرائي للحياة اليومية. ولا يمكن لأي مجتمع أن يستغني عن خدمات المسكوت عنه. وليس ثمَّة مؤسسة تمتلك نجاعة المسكوت عنه في تنظيم مساحة العمومي ومراقبتها.

لكن ما يجمع بين النفوس البشرية ليس فقط ما هو عمومي، أي ما هو ذاكرة رسمية، منظمة بخطاب قانوني أو ديني أو أخلاقي، بل ما يجمع بينها كما بخيط لا مرئي هو حسب نيتشه النسيان أو القدرة على النسيان. إن النسيان هو شكل الصمت الوحيد الذي يجعل الحياة قابلة لأن تُحب.

ما يحتاجه الوعي البشري حتى يظلَّ حيًّا من الداخل هو حسب نيتشه «قليل من الصمت» وهو السند الأكبر لما يسميه «النسيان النشِط»: لا نصمت، أي لا نُشفى من وقع المسكوت عنه، إلا بقدر ما ننسى. وحسب تعبير نيتشه «ليس يمكن أن يكون ثمة سعادة ولا صفاء ولا رجاء ولا فخار ولا حاضر من دون نسيان … [لكن] هذا الحيوان النسَّاء ضرورة، الذي يمثل النسيان عنده قوة، وشكلًا من الصحة المنيعة، ما لبث أن استنبت لنفسه ملكة مضادة، ذاكرةً، بعونها يتم، في حالات معيَّنة، تعليق النسيان، نعني في الحالات التي يجب فيها أن تُوعَد الوعود».

وحده الصمت يساعدنا على النسيان النشِط، أي على النسيان الذي ينتج الحب. فبعض المجتمعات تحوَّلَت إلى آلات عملاقة للضغينة، أي لحراسة الذاكرة بدون أي قدرة على الصمت. وهي تراقب عن كثب وبمبضع فظيع كل أجهزة المسكوت عنه وتعمل على صيانتها بهوس إبليسي. لكن الحياة لا تتوقف عند مَن لا يؤمن بها أو ينتحر. الحياة هي إمكانية المحبة المتاحة للبشر في أفق مجتمع ما. لكن الحب مهدد دومًا بذاكرة لا تثق به. وهكذا فإنه ليس ثمة من أساس عميق للمسكوت عنه في ثقافة ما مثل صناعة الذاكرة باعتبارها الجهاز الأخلاقي الوحيد لتحقيق الوعود. ربما، لا يظهر المبدعون إلا بسبب ثقوب ما في ذاكرة المسكوت عنه من حولهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤