ما هو «التعايش»؟ إجابة الفلاسفة
يقول شوبنهاور: «لا يمكن أن يكون المرء نفسه حقًّا إلا متى كان وحيدًا؛
ومن ثَم فمَن لا يحب الوحدة لا يحب الحرية، لأن المرء لا يكون حرًّا إلا
حين يكون وحيدًا.» هذا الربط المزعج بين الحرية والوحدة هو الافتراض
الأخلاقي العنيد الذي حاول الفلاسفة منذ نيتشه وإلى اليوم أن يتغلَّبوا عليه
بشتى الطرق من التفكير. إن القصد هو تبرير الحرية مع الغير باعتبارها جزءًا
لا يتجزَّأ من هويتنا الأصيلة. وحدها حرية مشتركة يحق لها أن تدَّعي فضيلة
التعايش. ولكن كيف ذلك؟
بدأت هذه المغامرة بشكل خجول مع نيتشه. وذلك في الفقرة ٩ من استهلال
كتاب
هكذا تكلم زرادشت.
١ هناك، هو قد علَّم المعاصرين أن العقل الحر لا ينبغي أن يُخفي
حاجته إلى «رفاق». والرفاق ليسوا «أتباعًا». وحدهم الأتباع يحتاجون إلى
«راعٍ»؛ لأن جملة الأتباع ليست شيئًا آخَر سوى «القطيع». ولذلك يوضِّح زرادشت
بشدة: «إنني بحاجة إلى رفاق، وإلى أحياء … رفاق يتبعونني لأنهم يريدون
أن يتبعوا أنفسهم، وإلى هناك حيث أريد.» إن المفارقة في أي رفقة هي هذه:
تدمير القطيع باختراع رفقة حرة. قال: «رفاق إبداع يريد المبدع، يخطُّون
قيمًا جديدة على ألواح جديدة.»
يمكن إضاءة هذا النوع الصعب من تعايش المبدعين بواسطة الاستشكال الرشيق
الذي طوَّره هيدغر في الفقرتين ٢٦-٢٧ من كتاب:
الكينونة والزمان٢ وهو استشكال يريد أن يكون وريثًا عميقًا للصعوبة
التي ورثها نيتشه عن شوبنهاور وحاول أن يحلها على طريقة الشعراء: إنها
صعوبة الحرية من دون وحدة، ومن ثَم صعوبة التعايش مع آخَر بلا وحدة ومن ثَم
بلا حرية. ينطلق هيدغر من تعريف قريب من شوبنهاور: «إن الدازين هو الكائن
الذي هو نفسي في كل مرة، الذي كينونته هي لي في كل مرة.» ولكن بدلًا من
الاحتفاء الكلبي بأنانة مستغلقة على نفسها، مثل شوبنهاور، أو يكتفي باصطفاء
رفقة مبدعة تنوب عن أي «قطيع» آخر، مثل نيتشه، يطمح هيدغر إلى أمر أكثر
خطورة: لماذا لا يكون الدازين الذي لي في كل مرَّة هو «العلة في أن
الدازين
ليس هو ذاته بادئ الأمر وغالب
الأمر؟» لماذا لا تكون «أنانتنا» هي العائق أمام اكتشاف «أنفسنا» على
حقيقتها؟ ذلك بأن ثمَّة معطى لا يمكننا أن ننكره: «ليس ثمة لأول وهلة
أنا معزول معطى بلا آخَرين.» إن الآخرين هم «
يكونون
هناك بعدُ
معنا في كل مرة.»
ومن ثَم فإن مهمة الفلسفة الأكيدة هي أن نجعل هذا «الدازين-معًا» مكشوفًا
لنا حتى نتبيَّن إلى أي ضرب من التعايش هو مدعو في أفق الكينونة. إن
التعايش هنا هو أفق السؤال عن «مَن نكون؟» بعامة من حيث نحن كائنات تتميز
بالسؤال عن معنى كينونتها في العالم. كي ندخل في باحة التعايش علينا أن
ننتقل من السؤال «ماذا» (الخاص بالأشياء) إلى السؤال «من» (الخاص بالكائن
الذي من جنسنا). هذا الخروج هو شروط ظهور نمط مخصوص من الكينونة هو الذي
يميِّز البشر، وهو ما يسميه هيدغر باسم «الوجود». الأشياء من حولنا «تكون»
لكنها لا «توجد». ولذلك ليس ثمة مشكلة «تعايش» بين الأشياء. وحدهم البشر
قادرون على «التعايش» أي على «الوجود».
نحن نلتقي بالآخرين في الكيان اليومي لأنفسنا. ولذلك كل «دازين» هو
بالضرورة وسلفًا «دازين-معًا» صحبة الآخرين. لا يمكن لأحد أن يعيش من دون
حياة يومية. والحياة اليومية غير ممكنة التصوُّر من دون آخَرين. ثمة إذَن
صحبةٌ سابقة على اكتشافنا لأنفسنا الخاصة، ألَا وهي صحبة «الآخرين»؛ وهم
آخَرون لأنهم جزء من إجابتنا عن السؤال «مَن نحن؟» أنفسنا: هم شركاء في تحديد
مَن نكون، وليسوا ضيوفًا ثقلاء على حدود عالمنا أو هويتنا. أما نمط وجود
الآخرين فهو ما يسمِّيه هيدغر «اللقاء» داخل العالم: هم هنا أولًا في «عالم
العمل»، حيث هم «يلاقوننا مع الأداة» التي نستعملها. كل أداة تشير سلفًا إلى
آخر كان هنا من أجلنا. لذلك هم ليسوا «أشياء» (قائمة في الطبيعة) ولا هم
«أدوات» (تحت اليد)، بل هم «آخرون». وهذا ما يميزهم. إنهم «مثلنا»، أي
«هناك»(في العالم) ومعنا (يشاركوننا اللقاء بأنفسنا). ومن ثَم ينبهنا
هيدغر إلى أن «الآخرين» لا نعني بهم «كل البقية الباقية خارج نفسي»:
التعايش لا يتم خارج حدود أنفسنا بل داخلها. بل الآخَرون هم بالحقيقة
«الذين لا يميز المرء نفسه عنهم.» كل
من يطمع في فصل نفسه فصلًا مطلقًا عن الغير، كل مَن يطمع في التحلي بماهية أو
هوية تفصله عن بقية الإنسانية، هو غير قادر على أي تعايش. وذلك أن ما
نتقاسمه ليس أي شيء اتفق: بل هو العالم. وبتعبير هيدغر: الآخرون ليسوا فقط
يكونون «أيضًا» بل هم يوجدون «معنا». وهكذا فإنه ليس ثمة فاصل أنطلوجي بين
«العناية بأنفسنا»، وهو معنى الكينونة في العالم، وبين «رعاية» الدازين
الآخر بوصفه جزءًا من ماهية عالمي.
ولكن على الرغم من الطرافة الشيقة التي بلور فيها هيدغر نمط
«الكينونة-معًا» باعتباره هو معنى «العالم» الذي يجعل التعايش مُمكِنًا، فإنه
لم يجد طريقًا مناسبًا لبلورة معنى «أخلاقي» للتعايش بين أنواع الدازين. ومن
ثَم هو اضطر إلى رسم فاصل مزعج بين «الكينونة اليومية لأنفسنا» وبين
«الآخرين» باعتبارهم ضربًا من «الهُمْ» العمومي الذي لا يقبل بحريتنا، بل
يعمل على التكلُّم باسمنا وعلى إلغائنا في كل مرة. لم يرَ هيدغر فيما هو
«عمومي» غير «دكتاتورية الهُمْ» على كياننا الخاص والذي يفشل غالبًا في
البلوغ إلى أصالته العميقة من دون معركة مع «الهُمْ».
إلا أن هذا التخريج لمعنى «الآخرين» باعتبارهم يهددوننا دومًا
بالتحول إلى «هُمْ» قاهر هو قد فتح الطريق أمام استشكالات فلسفية جد
طريفة لمعنى التعايش تمتد من حنَّا أرندت وليفناس إلى ريكور ودريدا ونغري
وأغمبن وجوديت بتلر وغيرهم.
وإن أول نصر فلسفي خطير حقَّقته حنَّا أرندت (تلميذة هيدغر) في هذا
الصدد هو إعادة تعريف مفهوم «العمومي»، وذلك ما قامت به في الفصل الثاني من
كتابها الشيق
الوضع البشري.٣ وتميز أرندت بين معنيين لما هو عمومي: (أ) ما
يمكن أن يُرى وأن يُسمع من قِبل أي كان؛ وحيث يكون «حضور الآخرين» ضمانة
على «واقعية العالم» وعلى «أنفسنا». (ب) هو يعني «العالم نفسه، من حيث هو
مشترك لجميعنا ومميز عن مكاننا الذي نحوزه بشكل خصوصي داخله». في الحالة
الأولى، يعاني العمومي من كونه لا يمكنه أن يبلغ إلى حياتنا الخاصة. وتأخذ
أرندت مثال «الألم»: إن آلامنا شخصية بلا رجعة. ثمة «ذاتية جذرية» لا
يمكن لما هو عمومي أن يبلغ إليها. وحيثما يقف العمومي يقف «الآخرون»: إنهم
كائنات عمومية بإطلاق. ومن ثَم لا يوجد ألم عمومي؛ أيْ ألم مع الآخرين إلا
على مستوى الحياة الخاصة، أي بشكل غير عمومي. أما في الحالة الثانية فإن
أرندت تبلغ إلى التعريف الفلسفي الخطير الذي يهمنا في هذا البحث، ألا وهو
تعريف التعايش
to live
together. تقول: «أن نعيش معًا في العالم
إنما يعني بشكل جوهري أن عالمًا من الأشياء يوجد بين أولئك الذين
يتخذونه عالمهم بشكل مشترك، مثلما تقع مائدة بين أولئك الذين يوجدون
حولها؛ إن العالم، مثل أي بينية
in-between، هو يربط ويفصل
بين الناس في نفس الوقت.»
هذا القول، على وضوحه الأدبي، هو يثير مصاعب جمة: إنَّ أرندت لا تميز
بين «العمومي» و«المشترك»،
٤ ومن ثَم فإن «الميدان العمومي» عندها هو «العالم المشترك»؛
وذلك أنها تفهم العمومي في معنى «المدني» عند القدماء؛ والحال أن الوضع
«الحديث» هو «اجتماعي» صرف، ومن ثَم هو قد أفرغ الحياة العملية من أي فعل
«سياسي». المحدثون لا يفعلون؛ بل عليهم أن ينصرفوا إلى حياتهم «الخاصة» أي
الحياة الممنوعة من الشأن العمومي
res publica. والسؤال هو:
كيف نعيد للناس قدرتهم القديمة (اليونانية – الرومانية، حسب توصيف أرندت) على
«الفعل السياسي». إن الشرط هو «التعايش» أي القدرة على «العيش سوية» في
«عالم عمومي» مأخوذًا في معنى أنه «عالم مشترك».
من هنا انطلقت مجموعة واسعة من التساؤلات عن معضلة التعايش مع الغير. ويمكن اعتبار
ليفناس
هو من وضع في كتابه
الكلية واللامتناهي٥ حجر البداية لإشكال فلسفي لا يزال حيًّا: إنه علينا البحث عن ذاتية
تخلصت من وهم معرفة الآخَر انطلاقًا من الذات. وبما أن مفهوم الذات مؤسس في فلسفة الغربيين
على
العلاقة بين الهوهو والغير والتي لا منفذ منها إلا إرادة الهوية أو التطابق، وهذا منذ
أفلاطون
إلى هيغل، وأبعد، فإن مهمة الفلسفة حسب ليفناس هي أن تبني مسئولية من نوع جديد تمامًا
إزاء
الغير: مسئولية تعترف بديًّا بأن الآخر يوجد «خارج» أفقنا، وأنه يتمتَّع بنوع غير مفكر
فيه من
«التعالي» أو «الماورائية» بالنسبة إلى عقولنا القائمة على فكرة «الأنا». وبدلًا من إقامة
التعايش على الطمع المنهجي في تأسيس كلية
totalité هووية تستوعب
الآخر في اللحظة التي تلغي فيها «آخريته» عنا، وهو ما فعلته التقاليد الغربية بشكل صارم،
يجدر
بنا الإقرار بأن «وجه الآخر» ينتمي إلى مستوى من الكينونة لا يمكن لأي فكر أن يستوعبه
أو أن
يختزله في مقولاته.
٦ إن اللقاء بالآخر هو ضرب من اللقاء مع «اللامتناهي» الذي يوجد في نفسي دون أن
أمتلكه أو أن أعرفه، ولا يسعني إلا أن «أتشوق» إليه. ثمة أمر أخلاقي يسبق وجودنا، وهو
حضور
الآخَر. وبهذا الصدد ينبه ليفناس إلى أن هيدغر رغم كونه يطرح التعايش
coexistence بوصفه «علاقة مع الغير، لا يمكن ردها إلى المعرفة
الموضوعية» للآخر بوصفه «شيئًا»، فهو يظل سجين «العلاقة مع الكينونة بعامة» أي أسير «الأنطولوجيا»،
٧ وهو لا يزال يطمع في بناء «معرفة» هووية عن «الآخَر». والحال أن «ذات المعرفة» ليست
هي النمط الوحيد من ذاتيتنا؛ ثمة نوع آخَر من الذاتية يجدر بنا أن نبحث فيه. هاهنا يمكن
للتعايش
أن يأخذ أشكالًا غير مسبوقة فلسفيًّا: من قبيل «وجهية» الوجه البشري، التي تسبق معرفتنا
له
كموضوع، حيث نفهم أن «حضور الآخَر هو تعبير» محض؛ الوجه البشري لا «يظهر» بل «يعبِّر»،
وهكذا
يجد «التعايش» مقامه المناسب: هو «أن
نتلقى الغير فيما أبعد
من قدرة الأنا»
٨ من منطلق أن حضور الآخَر لا يدمِّر حريتي بل «يستثمرها».
٩ إن التعايش في جوهره هو نوع عميق من «الأخوة» بين البشر: أي هو محض علاقة مع «وجه
الغير» ليس بوصفه شيئًا ينضاف إلينا من خارج، بل باعتباره علاقة «تشكلنا» من الداخل.
١٠ إن معنى التعايش غير ممكن من دون الإقرار بنوع ما من «أولية الآخر» علينا.
لكن وجه الصعوبة الفلسفية هنا، وهو ما تعرض له بالمناقشة تفكيكيون
كبار من حجم دريدا
١١ وجوديت بتلر
١٢ أن «اللقاء» مع الغير، كما قدمه ليفناس، هو نمط من الحضور
الذي يستعصي على الفلسفة: لا يمكن بناء «مفهوم» نظري عن هذا اللقاء: إنه
لقاء «بلا رجعة»، بلا مفهوم، بلا أفق، بلا هوية، غير متوقع.
١٣ ولكن ما هو هذا النوع من اللقاء الذي يعلق العلاقة مع المجتمع
والتاريخ ويضعنا «وجهًا لوجه مع الغير»؟ يقول دريدا: «هذا التواجد أو
الكيان معًا
être-ensemble من حيث هو
انفصال، هو يسبق أو يتخطى المجتمع والمجموعة والجماعة. إنه هو ما يسميه
ليفناس باسم
الدين. الدين هو الذي يفتح
الإتيقا … ليس دينًا
ما، بل اﻟدين،
دينية الدين.»
١٤ ولكن كيف نتعايش مع آخَر لا يمكننا أن نعرفه؟ آخر يمتنع علينا
سلفًا؟ ماذا تفعل الفلسفة حين تقر بأن المفهوم لا يمكن أن ينفذ إلى «وجود
الغير» بإطلاق؟ ثم ماذا يمكن لمصطلح الغير أن يعني من دون الاستعانة
بالتحديد اليوناني للغير أو بالتحديد اليهودي – المسيحي للآخر؟
١٥
لا بد للفلسفة أن تغير من نفسها كثيرًا حتى يمكنها أن تحتمل أولية
الغير على الأنا، كما طالب بها ليفناس. ذلك ما حاولت جوديت بتلر أن تتصدى
له من طريق «آخر»: أجل، إن «الذات» يهمها الشرط الذي وضعه ليفناس في
كتابه
على نحو مغاير للكينونة والقاضي
بأن الكلام على الذات يقتضي أولًا أن تؤرخ لنفسها كيف تشكلت. لكن تاريخ
الذات ربما يختلف عن تاريخ الغير. ومن هنا فإن التعايش بينهما ينبغي أن
يتم على صعيد آخر غير «الاضطهاد» أو «التهمة».
١٦ تعترض بتلر على افتراض ليفناس بأن اللقاء مع الغير هو يتم
دومًا في شكل «صدمة» و«اضطهاد» لأنه يتم في مجال قبل-أنطولوجي لا يمكنه أن
يعثر على «شكل سردي» مناسب لوصفه. بالطبع، إن بتلر تعترف بأن ليفناس قد
غير طريقتنا في طرح مسألة المسئولية تجاه الآخر: إن المسئولية قد صارت
«مطلبًا يقع على عاتق مَن يتعرض للاضطهاد».
١٧ وهنا بالتحديد ترفع تعطي بتلر لجدالها مع تصور ليفناس عن
المسئولية هالته العليا: إن لفيناس قد زعم أن الاضطهاد هو جوهر اليهودية
ومنه أن إسرائيل هي شعب المضطهدين الوحيد ومن ثَم بالضرورة هي لا يمكن أن
تضطهد أحدًا.
١٨ والسؤال هو: أي معنى فلسفي للتعايش متى تم تأسيس ماهيته على
الاضطهاد؟