بول ريكور: الجنس والمقدَّس

لفظة «جنس» استعملها العرب القدامى كي يترجموا genus من اليونانية القديمة. وميزوا بينها وبين eidos (النوع) وdiaphora (الفصل أو الفرق). إلا أنهم لم يعرفوا استعمالنا الحديث للفظة «جنس» بالمعنى الشبقي؛ ولذا هو استحداث وقع تحت وطأة الحاجة إلى تسمية تخرج منا من النبرة المزعجة لعبارة «النكاح» التقليدية. وتعوضها بلفظة مستساغة، أي «حديثة» وذلك يعني «معلمنة»، لفظة محايدة جدًّا، هي مجرد الإشارة إلى «جنس» الحيوان البشري. وهكذا تم انزياح خجول وشكلي من «الجنس» المنطقي أو الطبيعي إلى «الجنس» الشبقي أو التناسلي.

لذلك نحن نلتقي ببول ريكور في سياق مستحدث ولا يمثل اللغة العربية في بداءتها أو في اصطلاحها الكلاسيكي. سياق نجم عن علمنة نسقية وتاريخية للقيم المسيحية. ويبدو أن كلامنا عن الجنس في أفق المسلمين اليوم هو كلام مشوب بنبرة مسيحية صامتة هي التي توجِّه في واقع الأمر نوع الأسئلة التي نخوض فيها، ليس فقط حول العلاقات الجنسية بل حول دائرة واسعة من القضايا الأخلاقية والدينية من قبيل «الخيانة الزوجية» (لا معنى لهذا المصطلح في المعجم الإسلامي، حيث يوجد حكم الزنا) أو «الضمير» (حيث يوجد معنى التوبة) أو «التسامح» (حيث يوجد معنى الذمة أو العهد) … إلخ.

ومع ذلك فإن لفظة «الجنس» يمكن أن تكون واسطة خير فلسفية بيننا وبين فكر ريكور: خير حصل صدفة بفعل لقاء غير متوقع بين اللغتين العربية واللغات الغربية. وإذا بلفظة «جنس» في العربية تقابل وتستدعي معاني جملة من المصطلحات الغربية التي يجري الحرص دومًا على التفريق الصارم بينها: جنس يعني عندنا genre (الجنس المنطقي كما ضبطه اليونان) وsexe (في معنى النكاح كما سماه العرب)، وهو يعني sexe (أي جنس المولود البيولوجي كما اصطلح عليه العرب القدامى) و sexe (في معنى عبارة «العلاقات الجنسية» كما استحدث ذلك العرب المعاصرون).

الخير الفلسفي الذي حصل صدفة بفعل الترجمة، وهي هنا منزل الكينونة فعلًا، وليس استعارة، فنحن أخذنا نسكن شيئًا فشيئًا لغة عربية جديدة لأنفسنا، تأخذ شكل تمارين علمانية على قول عالم الحياة الحديث بحروف وألفاظ عربية مستدعاة صراحة إلى تغيير ما بنفسها حتى تقول معاني مستحدثة علينا التحلي بها مخافة أن نخرج من ساحة المعنى التي نصبتها الإنسانية الغربية كطريق ملكية نحو القيم الكونية، قيم الإنسان الحديث من فردانية اجتماعية وشخصية قانونية وذاتية مفكرة بنفسها وهوية شخصية وحياة خاصة وحرمة جسدية ومواطنة كونية … إلخ.

في هذا الإطار وجدنا أنفسنا أمام تسمية جديدة لاستعمال الجسد وتدبير اللذة وتأويل معنى السعادة. وخاصة طريقة جديدة في التأريخ لرغباتنا وممنوعاتنا.

ولكن علينا أن نسأل من دون مشاحة: هل نتحدث مع ريكور عن نفس «الجنس» أو «الجنسانية» (sexualité)؟ ومن ثَم هل يمكن أن نفكر مع الغربيين في نفس «الهوية» الجنسية، وبعبارة أدق في نفس «الجنوسة» (في معنى المصطلح النسوي gender)؟ مع العلم وأن هذين اللفظين هما أيضًا مستحدثان بغرض الدخول في لعب لغوية لم يعرفها نظام الخطاب عند العرب سواء عن «الجنس» (إذ لديهم مصطلح النكاح) أو عن «الهوية» (فلديهم مصطلح «النفس»)؟

ينبغي علينا إن أن نلتقي مع مسألة «ريكور والجنس» في لغة عربية هي بصدد إعادة تمرين اللسان الفلسفي على قول أنفسنا بعد واقعة الحداثة التي غيرت نبرة الحديث عن دائرة الاستعمال الحميم للجسد البشري بعامة، تغييرًا يفرض على المتكلم، مهما كان لونه أو قومه أو لسانه أو دينه، نوعًا محددًا من الانضباط الأخلاقي هو في آخر التحليل انضباط الضمير المسيحي، في صيغته المعلمنة، وسواء كان هذا الضمير مرتاحًا (ضمير كانط، الذي يمتد إلى بول ريكور) أو معذبًا (ضمير نيتشه الذي يُلقي بكلكله إلى حد يوديت بتلر).

أما من ناحية مصطلح «الجنسانية» تحت قلم ريكور، بين الحضور والغياب، فإنه علينا الإقرار منذ البداية ندرة كلام ريكور عن «الجنس» و«الجنسانية». ويبدو أن النص الوحيد الذي خصَّصَه رأسًا لهذه المسألة هو تصدير أحد أعداد مجلة «الروح» (Esprit) عدد نوفمبر، سنة ١٩٦٠م، وهو يحمل عنوان «الجنسانية: الأعجوبة، الضلال، اللغز» (Sexualité: La merveille, l’errance, l’énigme). لكن بقية النصوص لا تخلو من إشارات لطيفة وآراء متلطِّفة في معنى استعمال الإنسان لجسده أو لشهوته، وهذا يمتد من ١٩٦٠م إلى آخر نص ٢٠٠٤م «سيرة الاعتراف Parcours de la reconnaissance».
وأصل المقالة أن ريكور ينطلق من تساؤل مثير: لماذا تخصيص البحث عن الجنسانية وليس عن المحبة؟ ووجاهة هذا التساؤل واضحة عنده: هو الذي خصص الخمس عشرة سنة السابقة لضبط «فلسفة في الإرادة» تساعد على التحرر الإيجابي من تجربة الضمير المسيحية، وذلك بتوفير استكشاف فينومينولوجي واسع النطاق لمفهوم «الإنسان» باعتبارها إنسانًا خطاءً homme faillible، على نحو يمكن من فهم طبيعة التواشج بين «التناهي» البشري و«الشعور بالذنب» في ضوء «رمزية الشر» الأخلاقي. فالتعجب من الاهتمام بالجنس لم يكُن إذن، من ريكور، ألقًا أسلوبيًّا فقط.

هنا يميز ريكور بين «المحبة» (الكلمة الجامعة، قطب الصعود، الحافز الروحاني) وبين «الجنسانية» بوصفها كما يقول «موضع كل الصعوبات، وكل التوجسات، والمهالك والطرق المسدودة، والفشل والبهجة» (ص١).

يبدو أن الجنس إذَن هو السبب البعيد، المسكوت عنه، ولكن الحقيقي، وراء كل صعوبات الإنسان الخطاء، وهو لا يراها. لذلك يصرح ريكور:

«لقد فضلنا على تقريض المحبة، أن نبحث في الجنسانية، حتى لا نتحاشى أية صعوبة من المصاعب التي تجعل وجود الإنسان إشكاليًّا باعتباره وجودًا مجنوسًا existence sexuée. إن الفرق بين الجنسين يخترق الإنسانية على نحو آخَر غير فرق النوع وغير الفرق الاجتماعي وكذلك غير الفرق الروحي. فماذا يعني ذلك؟» (نفسه).

أما ما يقترحه ريكور فهو هذا: أن نبدأ بحصر المساءلة فيما يسميه «دهشتنا أمام أعجوبة الجنس ولغز الجنس».

لا ريب أن الدهشة فلسفية هنا. وعلينا أن نرى كل براءة التفكير في الجنس، إن ريكور فضل البحث في الجنسانية على تقريض المحبة؛ لأن الجنس يحتوي على دهشة لا يمكن لأي حب أن يدَّعيها. وما هو «روحي» هنا (أي كل تجربة الشر القائمة على مفهوم الخطيئة) هي لا تكفي كي نزعم التوفر على فهم غير إشكالي للجنس الذي يبدو «مدهشًا» و«عجيبًا» و«ملغزًا».

يعتذر ريكور عن اتباع طريقة تعليمية في طرح المسألة. قد تذهب من التفسير العلمي للجنس إلى المشاكل الإتيقية وإلى أنماط التعبير عنه وتنتهي إلى وصف الممارسة الملموسة له. لكن ريكور يقترح طريقة فينومينولوجية حادة. قال: «سوف أمضي مما هو بالنسبة إليَّ أعجوبة، إلى ما هو بالنسبة إليَّ لغز، عبر الشيء الذي يجعل الجنس ضالًا وغاويًا.»

لكن ريكور لا يبخل على القارئ المعاصر بسياق مناسب للفهم الحديث، نعني العلماني، لذلك هو يسارع بالتوضيح: سوف أنطلق من «البحث عن مقدس جديد في الإتيقا الزوجية المعاصرة.»

هذه ملامح الإشكال إذَن: كيف يمكن التفكير في معنى الجنسانية في نطاق البحث عن مقدس جديد يشد الأخلاق الزوجية المعاصرة؟

طبعًا، لا يزال ريكور محافظًا ومسيحيًّا: هو لا يتصور الجنس خارج مؤسسة الزواج. ومع ذلك، فإن ما يقترحه خطير جدًّا: علينا أن نواصل قناعة القدماء (والدين خاصة) بأن الجنس شيء عجيب وضال وملغز، ولا يمكن فهمه أو السيطرة عليه إلا بإرساء مؤسسة تقديس، تجد تعبيرتها الاجتماعية أو البشرية في آلة الزواج.

وبيت الداء حسب ريكور هو أن الأخلاق الزوجية المعاصرة تُعاني من تهديد هيكلي ألا وهو، قال، «التهديد بضياع المعنى بالنسبة إلى الجنسانية» دون أن ننسى ربطه بالنزعة «الشبقية».

والخيط الإشكالي للفلسفة هو: كيف نقيم ربطًا مناسبًا بين البحث عن مقدس جديد للأخلاق الزوجية من جهة، وبين الفحص عما يشوب تلك الأخلاق من تهديد بضياع معنى الجنسانية وعلاقتها بمشكل الشبقية؟

هذا النوع من الربط هو الذي يقودنا إلى الاصطدام بلغزية المبحثين معًا.

يعبر ريكور عن أطروحته كما يلي: «يبدو لي أن كل مشاكلنا فيما يخص الجنسانية متأتية من انهيار مقدس قديم، يمكن أن نسميه مقدسًا كسمو-حيويًّا cosmo-vital، فشل في أن يمنح معنًى عميقًا للجنسانية الإنسانية. والأخلاق الزوجية لدى المحدثين هي واحدة من الردود الناجحة نسبيًّا على هذا الانهيار.»

المقصود هو: أنه لا يمكن «فهم مغامرات الجنسانية خارج مغامرات المقدس بين البشر».

في كل الحضارات القديم وقع ربط الجنس بطقوس ما، بالحياة والموت، بكل استعمالات الجسد. لكن الجنس القديم كان من نوع المقدس القديم: فظًّا، مباشرًا، ساذجًا. وكان لا بد من أن ينهار. وانهار تحت وطأة ظاهرتين: «التوحيد الأخلاقي» و«الذكاء التقني».

ما قام به التوحيد هو «نزع الأسطرة» عن المقدس الكسمو-حيوي، لفائدة «نزعة رمزية فقيرة بشكل رائع» قائمة على معنى التعالي.

لكن المشكل الخطير جدًّا هو أن المقدس المتعالي sacré transcendant هو «أكثر قدرة على مساندة أخلاق سياسية مركزة على العدل، منه على مساندة غنائية الحياة».

هنا تبدو الجنسانية بوصفها «ظاهرة زائغة أدَّت عملية نزع الأسطرة عن الآلهة الجهنمية والنباتية إلى تفريغها من المقدس الخاص بها. ليس أن المقدس المتعالي، مقدس أبينا الذي في السماوات، مثلًا، هو بلا دلالة بالنسبة إلى الجنسانية، وإنما هو غير قادر على أن يستعيد في نفسه كل روح المارد الدفينة، والطابع الخلَّاق والعنف الثاوي في الإيروس، فهو لا يستطيع أن يساند سوى الانضباط المؤسساتي للزواج، المعتبر هو نفسه جزءًا من النظام الكامل.»

ما أراد ريكور استجلاءه هو التوتر الحاصل بين جسد الشهوة chair وبين اللغة. وبعبارة أدق كيف أن جسد الشهوة هو ضد اللغة: ثمَّة تقابُل بين الطابع المباشر للعلاقة بين جسدين أو بين «لحمَيْن»، وبين وساطات اللغة. يقول ريكور: الجنسانية هي «إيروس وليست لوغوس». إنها شبقٌ وليس خطابًا. ما هو مزعج هو أن إيروس لم يعُد إلهًا. لم يعُد مقدسًا. بل صار في العصور الحديثة «رغبة ضالة». لا يوجد لوغوس بإمكانه إنطاق الجنس. و«لغز الجنسانية» يكمن في كونها لا تُقال، أي لا يمكن ردها إلى اللغة أكانت أداة أو مؤسسة. إيروس يخترق اللغة ولا يقولها. لا توجد وساطة مع الجنس. لا هو إتيقا ولا هو تقنية. بل هو رمز عن أسطورة قديمة تجتاحنا ولا نراها. والعلاقة بين جسدين تتحدى كل سلطة لغوية على البشر.
يقول ريكور: «في النهاية، حين يتعانق كائنان، هما لا يعرفان ماذا يفعلان، لا يعرفان ماذا يريدان، لا يعرفان عماذا يبحثان، لا يعرفان ماذا يجدان. ماذا تعني هذه الرغبة التي تدفع أحدهما نحو الآخر؟» لا يملك الجنس معنًى خاصًّا به، الجنس بلا معنى. لكن الجنس يمتاز بكونه يعيد ربط الكائن البشري بقوى كونية لا يراها أو نسيها. بنوع من المقدس الذي يخترقه ولا يسيطر عليه. الجنس أكثر مما يُقال عنه دومًا. هذا المقدس ربما هو ليس شيئًا آخَر سوى «الحياة». «البهجة الجنسية» تعيد الكائن إلى «نهر الحياة». يقول ريكور: «إن الحياة واحدة بعينها، كونية، كلية لدى الكل، وإن شأن البهجة الجنسية أن تجعلنا نشارك في هذا اللغز، إن الإنسان لا يتشخص … إلا إذا غاص من جديد أيضًا في نهر الحياة، هذه هي حقيقة … الجنسانية.»
لكن المؤلم للإنسان المعاصر هو أن نهر الحياة هذا قد أصبح بالنسبة إلينا، حسب ريكور، مظلمًا وغير شفاف. تحول إلى مساحة مشوشة ومعتمة من طبقات أنفسنا. وهي مساحة لا يمكننا الولوج إليها إلا من خلال عمل تأويلي مرير على الأساطير القديمة للإنسانية. بين الجنس والأساطير ثمة صِلات دفينة انقطعت عنا وصمتت في قاع أنفسنا الحديثة. الجنس مباشر لكن معناه غير معطى في أي جدل حوله. ومن هنا يفترض ريكور أن المقدس المطمور في طبقات علاقتنا بأجسادنا ربما كان هو أحد المنعرجات الصعبة نحو معنى الجنسانية. لكن الطريق إلى ذلك المقدس لم تعُد سالكة. إنها مخفية في أساطير هجرتها الإنسانية منذ مدة طويلة. الجنس هو بالأساس إذَن مشكل تأويلي. لكن المفارقة أنه يتم من دون لغة. الجنس صامت دومًا. ربما هو لم يعُد يكلمنا منذ زمن بعيد. ولذلك يفترض ريكور أنه وحدها الأساطير يمكن أن تعيد إليه قدرته على التواصل معنا. قال: «ثمة حطام من المعنى تكشف عنه الجنسانية من دون لغة، بشكل عضوي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤