التحرش … أو صيد الضِّباب
درج الكلام هذه الأيام عن «التحرش»، بلفظة لا تخلو هي نفسها من تحرش باللغة، من فرط هجنتها الطريفة، ووقعها الأرعن الذي لا تخطئه الأذن الفصيحة. وللتو يثور تساؤل مزعج: هل انحسر مد الثورة عند العرب فلم يبقَ منها غير «تحريش» الحيوان؟ يقول لسان العرب: الحرش والتحريش الإغراء بين القوم وكذلك بين الكلاب، في معنى تهييج بعضها على بعض. ومنه الحديث: «إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم.» التحريش في معنى حملهم على الفتن والحروب. حين ييئس كائن ما من إقناعنا بعبادته، يتحول إلى «محرش». كل عبادة يائسة تتحوَّل إلى تحرش. ولكن ما هو التحرش أو ماذا يكون التحرش عندئذٍ؟ في حدود ما يقوله لسان العرب، نحن نقف على حقيقة جارحة بعض الشيء: لم تعرف العرب معنى «التحرش» كما نتداوله اليوم (!). فهل كان مجتمعهم خاليًا تمامًا من أي اعتداء على حرمة جسد الأنثى أو جسد الآخر بعامة؟ أم كان ذلك الاعتداء يدخل في معجم فقهي أو أخلاقي آخَر لم نعُد نتكلمه؟
لا ريب أن معنى التحرش ينطوي في الحالتين على معنى الخديعة والخبث، إذ يُقال: ليس أخبَث من ضب. لكن العربية لا تخلو رغم كل شيء من إشارة إلى المعنى الذي يهمنا، نعني دلالة التحرش بالأنثى، إلا أنها دلالة خالية تمامًا من أي عنف أو اعتداء. جاء في لسان العرب: «الحرْش ضرب من البَضْع.» وعلينا أن نسأل بنفس القدر: ما العلاقة التي ارتآها العرب بين الجنس وصيد الضباب؟ لا بد أننا نذكر هنا — في نوع من التناص اللعين — قصيدة المتنبي التي تسبَّبَت في قتله، والتي مطلعها: «ما أنصف القوم ضبه». فعلًا، يتعلق الأمر بمشكل عميق هو إنصاف الأنثى عند تعرضها إلى التحرش، أي معاملة تضعها موضع الضب الذي يُراد صيده. ولكن ما الذي يُراد صيده من الأنثى؟ كرامتها؟ حُرمة جسدها؟ عفتها؟ أنوثتها؟ ألم يستطع المذكر العربي أن يجد حلًّا للتحدي الأنثوي في تاريخ هويته الجندرية؟ لا يبدو أن السبب الرئيس للتحرش هو الجنس، بل سياسة الجنسانية واضطراب الجنوسة في مخيلة الذكر/الرجل العربي المسلم الحالي.
ثمة علاقة بين الضب والأنثى، هو جسد الحيوان الذي يُراد صيده. صيد الجسد البشري لا يبدو أنه يختلف عن صيد أي لحم حيواني آخَر. إلا تجوزًا أخلاقيًّا. والمشكل بالتحديد هو أن هذا النوع من التجوز قد صار فجأة استثنائيًّا إلى حد الفجيعة. مَن يتحرش بالأنثى هو يجرِّد المرأة من حصانتها الأخلاقية ويحوِّلها إلى طريدة. ولذلك لا ينحصر الأمر في مطلب غريزي أي جنسي، بل في مشكل جندري عميق. فمَن يتحرَّش بالأنثى لا يعترف بها بوصفها «مرأة». هذا الفرق بين «الأنثى» و«المرأة» هو نواة الإشكال في تاريخ النساء لدينا؛ إذ يميل صنف ذكوري من الرجال إلى إلغاء «المرأة» بواسطة ردها إلى «الأنثى»، إلى مجرد الأنثى، نعني إلى اللحم البشري القابل للصيد بكل الحواس المتاحة. وذلك أن التحرش يجري على وجوه عدة، فهناك التحرش البصري واللمسي والذوقي أو العضي أو الشمي والسمعي … وذلك قبل البلوغ إلى أي اعتداء جنسي بالمعنى المحصور. وهنا يكمن الفرق الدقيق بين التحرش والاغتصاب. ربما يحتاج الاغتصاب إلى شروط أمنية خاصة: مكان معزول، شخص أعزل، استفراد، كبت أو رغبة جنسية جامحة … إلخ، لكن التحرش لا يحتاج إلى أيٍّ من ذلك. بل نكاد نجازف بأن التحرش لا علاقة له بالجنس. إنه على الأرجح ضرب سيئ من نزاع الاعتراف مع المرأة، وبالذات مع المرأة «الحديثة»، نعني المرأة العمومية، الحرة، العاملة، المقتدرة، المتعلمة، المستقلة بنفسها، المالكة لجسدها … إلخ. تلك المرأة التي لا يمكن أو لم يعُد يمكن تدجين ذاتها أو قطعت شوطًا كبيرًا وحاسمًا في إعادة تنظيم هويتها الجندرية. وحتى نتكلم معجم الضباب الذي فرضته علينا لغة الضاد، إن الذكر الغاضب من المرأة الحديثة لا يقصد فرض المتعة الجنسية عليها بل إهانتها، نعني تجريدها العنيف والفج من تصوُّرها الجديد لنفسها كذاتٍ جندرية «من نوع جديد». وهنا نأتي إلى ضرورة مناقشة التوقيت: لماذا استفحال حالات التحرش في هذا الوقت بالذات في مصر مثلًا؟ يبدو أن صلة خفية من نوع ما توجد بين التحرُّش والثورة. طبعًا، الثورة تنطوي على معنى التهييج والفتنة والخداع. ونعني بذلك الثورة، هي أيضًا تُشبه صيد الضباب، ما دامت تقوم هي بدورها على صيد الدكتاتورات (جمع دكتاتور)، هذا النوع من الحيوانات السياسية المفترسة التي تتوج عادة تاريخ الدولة-الأمة. لكن ما يربط الثورة بالتحرُّش هو أمر آخَر، أكثر أصالة. إن الثورة من شأنها أن تخلق مساحة احتجاج جذرية ومعممة، رأس الأمر فيها أنها تجرِّد كل أنماط الاحترام من صلاحيتها، وتُلقي بالمجتمع في مغامرات أخلاقية ووجودية مفتوحة. فمن أروع ما تُحدثه ثورةٌ ما هو تعليق كل أحكامنا الأخلاقية حول أنفسنا إلى حد الآن وتفتح المجال أمام لوحات قيم جديدة لأنفسنا. شأن الثورة أن ترفع الحصانة الميتافيزيقية عن أي ممنوع أو حرام أو محظور أو مقدَّس. لكن بيت الداء يكمن في أن رفع الحصانة الأخلاقية عن لوحة القيم السائدة التي تأسَّست عليها هوية أنفسنا إلى حد الآن هو يدفع بالمجتمع في حالة استثنائية غير مسبوقة، وتؤدِّي إلى نوع من الانقلاب العسكري على مستوى نظرتنا الأخلاقية إلى بعضنا البعض، وهو زلزال لا يفلت منه أي قطاع من قطاعات أنفسنا، وما يهمنا هنا هو قطاع الجندر: نظام الذكورة والأنوثة، وبالتالي منوال التعامل بين الرجال والنساء إبان الحالة الاستثنائية للثورة، من جهة ما هي معيشة كانقلاب أخلاقي عميق، وليس كمجرَّد صراع سياسي على جهاز السيادة.
وعلينا أن نتساءل: ماذا بقي من المسمى «الربيع العربي»؟ هل انحسرت الثورة في ذاتها إلى مجرَّد تحرش بالنساء؟ كنوع من العقاب الرمزي على مشاركتهن الحثيثة فيها؟ حتى نبقى في معجم «التحرش»، علينا أن نجيب بهذه الطريقة: يبدو أنه لم يبقَ من نباتات «الربيع» غير «الحرشاء» (!). جاء في لسان العرب: «الحرشاء … تنبت في الديار لازقة بالأرض وليست بشيء، ولو لحِس الإنسان منها ورقة لزِقت بلسانه.» والحرشاء أيضًا «أفعى … خشنة الجلدة». و«الخريش دابة لها مخالب كمخالب الأسد وقرن واحد في وسط هامتها … يسميها الناس الكركدن.»
حصاد مخيِّب لآمال كثيرة، وخاصة تلك التي حسبت أن الثورة هي أنبل فكرة عن استعمال الجسد في العصور الحديثة: هي الحرية بواسطة مستطاع الجسد. والحال أن التحرش — ولا سيما بالأنثى، إلا أنها ليس ما يمنع أن تكون قد حدثت حالات تحرش بالذكر — هو أخس استعمال ثوري لحالة الحرية. فلا يجب أن ننكر أن التحرش قد تم غالبًا في ساحات التحرير. وهو صيد للبشر في حالات التجمهر الكثيف حيث تلتقي الأجسام الحرة، ولكنها تختلط مكرهة بأجساد العبيد. الجسم الحر هو نمط استعمال قوة الحياة بدون أي حكم مسبق حول كرامة أي جسم آخَر. أما الجسد فهو استهلاك اللحم البشري بوصفه طريدة أخلاقية تحت تصرف العاجزين عن الحرية. فشل ما في ماهية الثورة هو الذي سبَّب حالات التحرش باعتبارها نكوصًا أخلاقيًّا عن حالة الحرية الاستثنائية للجموع المتمردة على حدود الدولة.
لذلك ليس التحرش بالمرأة غير حالة فقط من حالات التحرش بالإنسان الاستثنائي الذي ينزع إلى الشوارع للتعبير عن حريته أو للمشاركة في صنع حالة حرية غير مسبوقة تتمرن على الذهاب فيما أبعَد من كل تصوُّراتنا السابقة حول أنفسنا. ولذلك لا يكفي أن نُحاكم المتحرشين أو أن نعاقبهم، بل علينا بخاصة أن نحترس من أن يتحوَّل التحرش إلى دولة والمتحرشون هم أنفسهم إلى ضِباب قد يعسر صيدها.