السودان
قطر مترامي الأطراف يزيد على ربع مساحة أوروبا كلها أو نحو مليون ميل مربع، أعني أنه ثلاث مرات ونصف قدر مساحة مصر بصحاريها، ونحو مائة مرة قدر المساحة المنزرعة من أرضنا، ومع ذلك لم يستغل من مساحته الهائلة إلا بضعة آلاف ميل، وهو إلى اليوم برية فطيرة لم يفسدها دخيل، ولا يزال موطن الوحشي من إنسان وحيوان، حتى قيل عن شعوب الشلوك هناك بأنهم «أكثر همج الدنيا وحشية»، والسودان ينقسم طبيعيًّا إلى شطرين: الشمالي ومداه ستمائة ميل أي إلى جنوب الخرطوم بمائة ميل بين عرضي ١١، ١٢ وهو صحراوي مجدب لا أمل في استغلاله فهو امتداد الصحراء الكبرى، والجنوبي ويمتد بعد ذلك ألف ميل إلى الجنوب كلها سهول خصيبة ذات تربة سوداء من أرساب النيل طوال الأجيال الغابرة وهي — إذا استثنينا إقليم السدود — جديرة بإنتاج الحبوب والقطن والبن إذا فلحت، والمطاط والغلات الاستوائية من غاباتها الطبيعية، أهل هذا القسم الجنوبي أعجب متوحشي الدنيا قاطبة، هم والحيوان سواء، يمكن للإنسان دراستهم حتى ولو جهل لغتهم كما يفعل دارس العجماوات؛ فهم أبناء الطبيعة الفطيرة بسطاء ذوو أجسام شامخة وعضلات مفتولة، مدربون على التمرينات العضلية، وأخصهم بالذكر الشلوك والدنكة والنوير، فهم حقًّا المادة الآدمية الغفل الذين لم يتقدموا خطوة واحدة منذ عهد أمين باشا وإسماعيل باشا الكبير، أولئك سكان النصف الجنوب.
أما في السودان الشمالي من نحو ٣٠٠ ميل جنوب الخرطوم إلى حدود مصر، فالجنس السائد هو العربي، وهم أرقى بكثير من أهل الجنوب رسخت فيهم المدنية العربية، ولم ترسخ في الجنوب، ويقولون إنها آخذة في الزوال في تلك الأنحاء الجنوبية، وآخر قبائل العربان جنوبًا البقارة، ولا يكادون يفوقون جيرانهم من الشلوك حضارة، أما قبائل العرب حول النيل الأزرق فهم من أرقى الناس أدبًا وشجاعة، وهم صيادو أخطر الحيوانات بالحراب من متون خيولهم، ويسمونهم قبائل «هام رام» وأمثالهم أهل نهر العطبرة، ثم نزلاء البحر الأحمر وقبائل «فوزي ووزي» أشياع «عثمان دجنا» الذين غالبوا المدافع الحديثة إبان ثورة السودان، وهؤلاء يُعرفون بالقسوة لدرجة هي الوحشية بعينها، والبقارة وفدوا من الشمال الغربي من بلاد البربر، وفي سنة ١٧٧٦ ظهر السلطان هاشم الذي اتخذ الأبيض عاصمة له، وبعد ذلك بعشر سنين غزا بلاده شعوب دارفور «الكنجارا» وسادوا حتى كانت الحملة المصرية سنة ١٨٢١، أما عن تاريخ بحر الغزال فلا نعرف شيئًا باليقين، ويظهر أن قبائل الدنكا غزوه من الشمال، ثم أعقبهم قبائل «أزاندي» من الجنوب منذ مائتي سنة، ثم كانت بعثة محمد علي باشا إلى بحيرة نو سنة ١٨٤٠، ثم أعقب ذلك بعثات من سفن تجارية وصلت إلى مشروع الرق، وإبان ثورة المهدي نشط تجار الرقيق من العرب فكانوا يسوقون إلى السواحل الشرقية ثمانين ألفًا من العبيد في كل عام.
هنا لاقاني بعض إخواننا من الموظفين الأقدمين وأضافوني برهة وقصوا عليَّ طرفًا مما يجري في السودان اليوم ومحاولة الفصل بينه وبين مصر بكافة الوسائل كأبعاد الجند وإقالة الموظفين، وقد بدءوا محو اللغة العربية وإهمالها في المخاطبات الحكومية على أن الحالة المالية كاسدة منذ برح الجيش المصري البلاد، وكل سنة تمر تخلف عجزًا ماليًّا كبيرًا، وهمُّ السلطات منصرف إلى الإنفاق على القطن في الجزيرة، على أنه لا يبشر كثيرًا. مررت في الطريق على سبع قناطر تعبر نهيرات سريعة أهمها نهر «أسوا» الزاخر المضطرب كثير المساقط، وفي أخريات الطريق عادت الجبال وأخذنا نعلو ونهبط وسط ذاك النبت الوفير حتى وصلنا حافة النيل المضطرب كثير الجنادل التي رأينا من بينها جندل فولا، وبعده دخلنا بسياراتنا سابحة تجرها باخرة صغيرة عبر النيل الذي كان إذ ذاك طاميًا بالماء إلى حافته في لون قاتم وتيار جارف ووراء الجانب الآخر دخلنا:
أما جوبا فليس بها إلا بعض محال تجارية أكبرها لطائفة من الإغريق يبيعون فيها كل شيء بين مأكل وملبس ومشرب، ولاحظت أن الهنود قد اختفوا تمامًا رغم أنهم كانوا أصحاب المتاجر في كل شرق أفريقية، ويلي الإغريق من الغرباء السوريون ثم السودانيون، وأقلهم المصريون، على أني هنا بدأت أشعر بأنني في وطني؛ إذ بدأت اللغة العربية تحل محل السواحلية، وكثير من الأهلين على وحشيتهم يتكلمونها. حللت الباخرة التي تدفع أمامها باخرة أصغر منها لركاب الدرجة الثانية بجانبها صندلان كبيران يوثقان فيها ويحملان ركاب الدرجة الثالثة وبعض البضائع وخشب الوقود، وفي الثامنة من صباح الأحد ٤ سبتمبر أقلعنا نشق النيل الطامي العكر، وأخذ يتلوَّى ليات وعرة تحفُّ ضفافه أراضٍ وطيئة يكسوها عشب بري كالحلفاء، وهي أرض خصيبة تعوزها الخبرة والأيدي العاملة، وفي التاسعة مررنا بمكان «غندكرو» إلى اليمين فلم نرَ ما يدل على وجود مدينة قط، بل عدة أكواخ من خلفها بعض التلال، وهنا كانت بقايا محطة السير صمويل بيكر واضحة، وكانت محطة عسكرية هامة للجنود المصرية منذ عهد أمين باشا، أما الجو فكان دفئًا جميلًا.
وما حل الظهر حتى كنا نرسو على منجلا فظهرت بها بعض المباني التي أقامها الجيش المصري من الآجُرِّ الأحمر، وفريق من الأهلين افترشوا الأرض بمبيعاتهم من قصب السكر والفاكهة خصوصًا الموز والجوافة والبوبوز والقشدة التي كنا نشتري الواحدة منها بمليم، وغالب البائعين من قبائل «الباري» أشداء الجسوم طوالها، فكثير منهم يصل سبع أقدام ويزيد، وقد وقفتُ بجانب أحدهم فكنت قزمًا، وأعجب ما فيهم رجالهم الذين يسيرون عرايا، وكأن عدم ستر العورة أمر فطري طبيعي، وبعضهم يضع سوارًا أو اثنين حول الساعد وعند الرسغ وبعض الخواتم والأقراط، وأخصاصهم دقيقة البناء نظيفة لكنهم لا يزالون على الفطرة، وكثيرًا ما يضع الرجل عِقْدًا من خرز أزرق أو أحمر حول خصره العاري، والمدينة كانت مقر المديرية لكنها هُجرت الآن واتُّخذت جوبا مكانها فأصبحت قرية لا شأن لها، وكنا نراهم يهدمون المباني المصرية شأنهم في جميع البلدان التي تبدو متمصرة عن غيرها محاولين أن ينسى الناس بعدَ حينٍ كلَّ ما هو مصري.
بعد ساعتين مررنا بمرسى «سمسم» الصغير الذي تُزوَّد السفينة فيه بالأخشاب، وكانت مكدسة على الضفاف بمقادير كبيرة، وأخذ النيل يتلوى ليات متعاقبة كانت تبدو فيها وظيفة الجرف في الضفة المواجهة للتيار فكان يُرى الطين فيها مشرفًا زُهاء ثلاثة أمتار، أما الجانب المقابل له فتكاد تسده الأوحال والرواسب، وكانت السفينة كلما دارت دورة اندفعت إلى العشب رغمًا عنها فأوغلت فيه بقعقعة مخيفة، ثم تتخذ سبيلها بعدُ في ماء النهر الطامي، ولا أدري ماذا تفعل إبان انخفاض الماء بين نوفمبر وأبريل، وبعد أكثر من ساعة وصلنا:
هنا جرَّني الحديث مع بعض المسافرين من السودانيين والأجانب وبعضهم من القائمين بشئون «التعليم» عن نظامه فعلمت أن هناك من المدارس الابتدائية حوالي العشر في عواصم المديريات الشمالية إذا أتمَّها الطالب انتقل إلى كلية غوردون في الخرطوم، وهي تنقسم إلى فروع عدة، الغرض الأساسي منها تخريج طائفة من الموظفين، وفروع تلك الكلية هي في عرفهم الأقسام العالية يتمها الطالب في أربع سنين، والدراسة هناك سطحية وتقوم على التحفيظ وغالبها باللغة الإنجليزية. وعلمت من الكثير من الطلبة أن التدريس قد انحطَّ مستواه منذ برح الكليةَ جماعةُ المصريين من الأساتذة، وبعضهم كان من المخضرمين الذين حضروا العهدين، أما في جنوب السودان حيث نحن الآن فالتعليم في أيدي المبشِّرين، والبعثات الدينية التبشيرية هنا تشجَّع كل التشجيع، فمثلًا تُخفَّض لهم نفقات الانتقال إلى الربع، وتُقدَّم لهم الاستراحات يشغلونها أنَّى شاءوا، وكان معي منهم في الباخرة ثلاثة وكان بعضهم من الطليان، وكانت الباخرة تقف خِصِّيصَى في مكان صغير ليس من مراسيها لنزول واحد منهم، وتلك خطوة شبيهة بما رأيتُه في أوغندا حيث التعليم كله في أيدي المبشرين وليس للحكومة به علاقة إلا المعاونات المالية.
أما الدعاية للإسلام فتُعاكَس كل المعاكسة، فإذا فكر أحدهم في جمع إعانات لإقامة مسجد صغير مُنع من ذلك، وقد بلغت الحال أن بعض المسلمين لا يَشْجُعون على أداء شعائر دينهم هناك علانية، وليس ذلك تعصبًا دينيًّا، بل هي فكرة متممة لفصل السودان الجنوبي عن الشمالي ليشبه أوغندا، يؤيد ذلك ما قرأته في الكتب الإنجليزية عن السودان، تلك التي تحاول التفرقة بين السودانيين ببراهين واهية، إلى ذلك أن أهالي الشمال والجنوب يُمنَعون من السفر من طرف لآخر إلا بترخيص رسمي مع أنهم سودانيون من أبناء البلاد، وكان يسافر البعض خلسة وكثيرًا ما عوقبوا على ذلك وأعيدوا من حيث أَتَوْا.
ولشد ما كان عجبي لأسلافنا الذين لم يحاولوا تمصير هذه البلاد وتحويل أهلها الهمج البسطاء إلى الدين الإسلامي الذي لو كثر معتنقوه لما أمكن محاولة الفصل بين الشمال والجنوب! وتلك هي الفكرة السائدة في نشر الدعوة في كل شرق أفريقية والسودان الجنوبي، وما حركة نقل الموظفين الذين ينتمون إلى السودان الشمالي في اللغة والدين من الجنوب إلى الشمال أو الاستغناء عنهم هم والمصريون إلا أثرٌ من آثار خطة الفصل بين السودانَيْنِ، ويُشاع أن السودان الجنوبي من نصف الجزيرة سيضم إلى شرق أفريقية ويميل الساسة إلى إطلاق اسم اتحاد شرق أفريقية على هذا الجزء مضافًا إلى أوغندا وكنيا وتنجانيقا، وستكون حكومته شبيهة بحكومة اتحاد جنوب أفريقية.
لبثنا اليوم كله نمخر عباب ذاك العشب اللانهائي، وكل آونة تطلع علينا مجاميع صغيرة من أخصاص أقيمت فوق العشب مطلة على النهر في مسافات متباعدة الواحدة تلو الأخرى، وكان أهلها العرايا يسرعون بالظهور لتحيتنا من بُعد.
وظلت تتلقفنا مطاويه فندخل صميم العشب بسفننا ونحاول التخلص منه بقوة البخار ومجهود الرجال الذين يقفزون في اليم والعشب وهو يغص بالتماسيح والأفراس وطالما اغتالتْ منهم عاثري الحظ، وكان ربان السفينة الزنجي يقذف بنا عمدًا إلى الضفة كي يكسر شرة التيار. وفي الصباح كان الجو غائمًا مطيرًا كما كان بالأمس، وقد لاحظتُ أن العشب أضحى كله من البردي الذي امتد إلى الآفاق حتى خيل إليَّ أن الله قد خص تلك المنطقة فجمع فيها عشب الدنيا كله، إلى ذلك فإن تيار النهر بدا فاترًا؛ ذلك لأنَّا نقارب منطقة السدود الصميمة، وفي التاسعة من صباح اليوم التالي رسونا على:
والدنكا شعب رعاية، قطعانهم هي كل شيء لديهم، لهم زرائبهم التي يقر فيها الرجال صباح مساء يراقبون القطعان وهم يغنون أغاني البقر المقدس وينامون على فرش من روث هذا الحيوان، وأكواخهم شبيهة بأكواخ الشلوك إلا أنها قذرة وغير منظمة، وهم يسيرون عرايا إلا إذا زاروا منطقة أخرى حين يحملون خرقة مهفهفة، والمتزوجات يلبسن جلدين لمعزى واحد من أمام والأخر من خلاف، وهذين يقدمهما لها الزوج عند الزفاف، أما التزين بالخرز والودع فللجميع نساء ورجالًا، وكبر العقود للرجال دليل على جاههم وثروتهم، وشبانهم يكثرون من لبس الخرز فوق رءوسهم بعد حلق شعورها إلا الناصية التي يكور شعرها في أشكال مختلفة، وهم كالشلوك يدهنون الشعر بمخلوط من بول البقر والروث ومسحوق الثرى الأحمر، ويزيدون قذارة عن الشلوك في دهن الجسد كله بهذا المخلوط الذي يصعد من الروائح الكريهة ما تعافه النفوس خصوصًا عقب استعماله مباشرة.
والرقص لديهم أقلُّ جلالًا وأبهة من رقص الشلوك، وعلامة الحداد عندهم أن يلبس الرجال والنساء حزامًا رفيعًا من حبل من مجدول العشب حول الخصر، وأسلحتهم الحراب القصيرة والصوالج والتروس وغالبها من جلود خشنة.
وأعجب عاداتهم ما اختص بالزواج والميلاد والموت، فقبل ميلاد الطفل تُحجَز الحامل وحدها في كوخ ويحوطها من الخارج حبل يدل على وجوب عزلتها، وكل مَن تخطَّى ذاك الحبل السحري يصبح مسئولًا عما يصيب المرأة والطفل من مرض أو أذًى، وثروة الرجل تُقاس بقطعانه وعدد بناته اللاتي بَلَغْنَ الحُلُم، ويغلب أن يكون ذلك في سن الخامسة عشرة؛ لأنهن يُمهَرن عند الزواج بين ثلاثين بقرة وأربعين على حسب جمالها، ولما كانت المرأة عرضة للبيع فهي لا ترث، وهم يخالفون الشلوك في مراسيم الزواج؛ إذ بَعْد أن يدفع الزوج جزءًا من المهر يخول له الاختلاط مع الفتاة ولا يدفع الباقي إلا بعدَ ميلاد أول طفل حين يحل دفع باقي المهر، وللرجل أن يطلق زوجته العقيم، فإذا ثبت صدق قوله ردَّ له أبوها ما دفع، وللفتاة أن تتزوج من غيره، فإن طلقها للسبب عينه وتزوجها ثالث فلا مهر لها، فإن حملت وولدت في هذه المرة كان الأطفال لها لا للأب ولها حق بيعهم، وفي قوانينهم أن الزوج المسنَّ الذي يعجز عن إتيان النساء له حق في أن يزوج ابنه من زوجته فإن لم يفعل طلبت هي الطلاق، والرجل لا يرغب في الطلاق مخافة أن يضيع عليه ما دفع مهرًا من الأبقار.
وعلى ذلك فالبقر لديهم أهم من النساء؛ لأنه معيار التبادل، وهم يقدسونه فيظل الرجال في حراسة الزرابي، وهم يغنون للبقر أو يرقصون أمامه لكيلا تمرض الأبقار أو يقلَّ نسلُها، وينام الرجال مع البقر ليلًا، وتُشكَّل قرونها وهي صغيرة حتى تأخذ رونقًا جذابًا، وهو يستخدم روثها وبولها في زينته، وقد أَلِفَ رائحتها التي أصبحت محبوبة لديه، والغنيُّ يملك من البقر بين خمسمائة وألف، وأخصُّ غذائهم لبن البقر يُمزَج به نوع من الفول يسمونه «كوردالا» والذرة تُؤكل مع لحوم الغزلان والسمك، ولتسهيل ازدراد ذلك الطعام اللزج تُقتَلَع الأسنان الأربعة السفلى منذ الصغر بواسطة إحدى الحراب التي يصيدون بها السمك، ومن أحب الأطعمة لديهم دم الماشية؛ فيربطون الثور ويضربون وريدًا منه بحربة فيسيل الدم إلى إناء، ثم يضمد الجرح بالروث والثَّرَى ويُقيم الرجل الإناء إلى فمه مرتشفًا الدم في لذة غريبة، ثم يُناوِله لجاره، وكثيرًا ما ترى على جباههم خطوطًا من التجريح بارزة في أنظمة مختلفة، وهذه تميز قبائلهم المختلفة.
ورغم وحشيتهم هذه فهم على دراية ببعض الفنون؛ يجيدون الضَّفْر والجَدْل وصُنْع الطبول والخزف والسلال والأسلحة، كذلك الصيدلة والجراحة وطب الأسنان والتدليك وطب الحيوان، فالعقاقير التي يستعملها طبيبهم تُؤخذ من الجذور والأعشاب ولها في الشفاء أثر كبير، ويدفع القوم ثمن الدواء بقرًا، والتدليك علاج عام نافع خصوصًا في المغص المعوي الذي ينتشر بينهم، وكثيرًا ما يستخدمون الحجامة، وعادة اقتلاع الأسنان الأمامية يعللها البعض بأنها تسهل لهم النطق بلغتهم التي تحكي الهمس؛ لأنها فقيرة باللفظ، وقيل ليستطيعوا الأكل إذا أصابهم مرض تصلب الفكَّين الذي يتعرض له كافة المتوحشين، ومما يتعرض له صغارهم من القسوة تجريح جباههم ليحملوا شعار قبيلتهم، إلى ذلك دفعُهم وهم في مقتبل العمر إلى الوحوش والأفاعي كي ينالوا شرف قتْلها فرادى، وهم يتخذون شعارًا من الحيوان، فالأفعى البصَّاقة دليل المطر، فإذا نزل بعد الجدب أقاموا لها حفلة كبيرة عند بيت الساحر الأعظم، فيشعلون النيران في وسط الدائرة التي يحوطها القوم وهم يرقصون، ثم يتقدم زعيم السحر وبيده أفعى فينسحب الجميع ما خلا رجلًا عاريًا يمد ذراعه فيطوي الساحر الأفعى حول هذا الذراع، ولا يخاف الرجل وإلا لحقه عارٌ كبير، وتوثق ثلاث أفاعٍ في الأرض إلى عامود بجانب النار لحراسة المكان حتى تنتهي الحفلة، وعجيب ألَّا يخشى القوم تلك الأفاعي التي تبصق السم دائمًا، فإذا وصل جسم الإنسان آلَمَهُ ألمًا شديدًا وإذا لحق العيون أعماها.
في صميم منطقة السدود
سادَ البردي خشنُ الملمَس شاهقُ العلو في تماسُك بالأرض شديد، ووجوده دليل على زيادة العمق؛ لأنه هو الذي يغالب العمق فيمد جذوره طويلًا حتى تمسك شعابه بأوحال القاع، ولا يؤثر فيه الماء قط ولم يكن مجرى النيل خلاله إلا قناة مختنقة في ليات متعاقبة تكاد تكون طياتها متوازية تمامًا، وما فتئتْ باخرتنا تعاني صدماتها بارتجاج يهز القلوب كلما تلقفتْها لية عن سابقتها، وهنا كنا نمر بمحاطَّ وسط النقائع يغطيها العشب ولم تكن إلا ثلاثة أكواخ أو أربعة يخرج منها جمهرة من العرايا يخوضون الماء وهم يطلون علينا، وهذه متاجر صغيرة يفد إليها الهمج من أقاصي إقليم السدود يبتاعون متاعهم الضئيل، وقد باغتنا سحابٌ من الجراد الذي كان يحطُّ على ذاك العشب ويأكله رغم خشونته، والجراد هناك من أخطر الآفات ولو أن الأهالي يأكلونه بكثرة، وكان يتعقب تلك السحابات أسراب من طير الماء الأبيض ليَلْتَهِمَ منه ما استطاع، وبحر الجبل هنا هادئ الماء رائقه، سطحه أملس لا تعلوه موجة قط، اللهم إلا كلما نفر تمساح كسول أو فرس مروِّع؛ فقد بدا كالزيت لونًا وشكلًا، وأخذت جزائر العشب الطافية تعترضنا بين فترة وأخرى، أو ترتطم بالضفاف في سدود لا نهائية، وفي الحق فالمنطقة بأعشابها وسدودها ومناقعها ليَحَارُ فيها اللبُّ ولا يعرف مداها إلا علام الغيوب، وعجيب أن كان البردي يكسوه كثير من النبات الطفيلي المتسلق عليه، وكم أمسكت مع جمهرة من صحبي في السفينة بأعواده محاولين اقتلاعها فكانت تجتذبنا إليها في متانة لا يصدقها العقل، وهنا كان يكثر في الماء نبات يطفو وهو يشبه «الكرنب» الصغير أو الزهرة الخضراء الكبيرة إذا انتشلتَها كانت أعراشها وجذيراتها ملبدة كثيفة تبلغ أضعاف حجم الزهرة نفسها، وقد لاحظ بعضُ مَن أقاموا حول منطقة السدود طويلًا خصوصًا عند بحيرة نو أن كرنب الماء هذا الذي يسير واحدة فواحدة كأنها الطبق الصغير وفي المكان الهادئ يتجمع ويدور في هدوء وحيث يقل العمق تمسك جذوره بالطين، وبعد ساعة واحدة يصبح حجم الجزيرة الصغيرة التي تألفت من ذاك الكرنب كالمائدة الكبيرة، وفي الصباح كانت الجزيرة في حجم الكوخ الكبير وبعد يوم آخر ضوعف حجمها ست مرات، ولما فُحصَتْ جذوره كانت متماسكة بشدة في أوحال القاع، فإذا كان هذا فعلها في يومين فصوِّر لنفسك ما تم هناك في الأجيال السحيقة الغابرة؛ فلا عجب أن ترى في منطقة السدود جزءًا من النيل طوله ٤٠٠ ميل يركد ماؤه ويتجمع حول كتل «الكرنب» هذه، نبات الماء الآخر كأم الصوف أو حشيش النمر والبردي وبعضها يفوق خمسة أمتار في العلو وضعف ذلك في جذوره.
هكذا تكونت منطقة السدود التي تسد مجرى النيل في وسطه في مساحة قدرت بنحو خمسة وثلاثين ألف ميل مربع؛ أي نحو أربعة أمثال الأراضي المنزرعة من القطر المصري، ولا تلبث أن تنفصل كتل من ذاك العشب المتماسك ولشدة ضغط الواحدة على الأخرى تراها تعلو بعضها البعض، ومثل هاتيك تخشاها السفن؛ فإن لامستْ إحداها فقد يتعذر عليها الخلاص، وإن حصرت السفينة بين كتلتين يضغطانها حتى تتهشم الباخرة تمامًا وقد حدث ذلك مرارًا، وتلك الكتل تلتئم تارة فتسد الآفاق، ولا تلبث أن تنفصل بقوة الضغط عليها فتندفع إلى غيرها وهكذا. هنا يقف ماء النيل ويتخللها فيبدد نصفه على الأقل بالبخر والمسارب الجانبية مما أعاق التقدم الزراعي بين كثير من شعوب تلك الجهات على أن بعض هذا الماء المبدد في المسارب يرد إلى النهر إبان الغيض.
وسحائب البعوض وبخاصة إذا جنَّ الليل لا يمكن مغالبتها، بعوض كبير الحجم كان ينفذ إلى صميم شباكنا من سلك وقماش فلا نشعر إلا والالتهاب الممض قد أخذ من سوقنا وأذرعنا رغم ثقيل الثياب، وخير ما كنا نتقيه به التعجيل بالنوم بعد تطهير الفراش؛ ولذلك لم نعجب إذ كانت المنطقة مهددة بالملاريا والحمَّى السوداء التي يتَّقِيها القوم بتناول الكينين كل يوم، ورغم ذلك قلما ينجو منها أحد. إلى ذلك نوع من ذباب تسي تسي الذي ينشر:
وإذا بلغ الغلام الخامسة عشرة يحلق رأسه وينام على ظهره، ثم يوضع رأسه في حفرة ويتقدم رجل ويجرح جبهته ستة جروح متوازية تبدأ من الأذن اليمنى إلى اليسرى ويغسل الدم بريشة يبللها بالماء البارد، ثم يعزل في كوخ خارج القرية حتى يشفى فيهيم في البراري وحده أيامًا كي يقوى ويألف الشدة، وإذا ما نجح في صيد زرافة بحربته دون أن يساعده أحد عُدَّ رجلًا فيعود إلى قريته ويساهم في بقر القبيلة ويُعطَى حربتين، ثم يتزوج ويقام له كوخ خاص، والعادة أن يعمل ذلك مع الشبان متَّحدِي السن فيخرجون للصيد سويًّا، ثم يعودون إذا ما أنجزوا تلك المراسيم، ويجب على أفراد ذاك الفريق أن يخلصوا لبعضهم ويتعاونوا على العدو وعلى إقامة الأكواخ وعلى الصيد وعلى الحصول على مهر الزواج، والنوير يعتقدون في روح عُلْيَا خَلَقَتِ الدنيا، ولهم فكرة مبهمة في الحياة الأُخرَى، وهم يدفنون موتاهم بعد رش المقبرة بمزيج اللبن والمريسة، ويوضع بجانب الجثة غليون التدخين ليتسلى الفقيد حتى يصل إلى عالم الأرواح، وجثة الزعيم تُطلَى بالزبد وتوضع على قطعة من خشب وتدفن سرًّا خشية أن يجد أعداؤه طريقهم إليها فينتقموا منه، ولعل أعجب مقابر وسط أفريقية جميعًا مقبرة «هرم دنكور» التي يُدفن بها أحد أطباء السحر علوها ١٢ قدمًا وفي قمتها حربة تعلوها بيضة نعامة وبعض ريشها. فمِن أين جاءتهم فكرة الأهرام؟ أكانتْ لهم علاقة بمصر؟ وهم يعتقدون أن مناقع بحر الجبل يقطنها نفر من أفاعي الجن طُول الواحدة أربعون قدمًا، وفي أذنابها قرون مخيفة، والعادة أن يحمل الواحد منهم حربتين واحدة للحرب، والأخرى لصيد السمك، وقطعانهم أهم شيء لديهم، ولا سبيل إلى جباية الضرائب الحكومية إلا على الماشية كأن تَجبِي على كل زريبة تؤوي ثلاثين رأسًا ثورًا في السنة، وزعماؤهم هم المكلفون بذلك، وهم من أشد المتوحشين قسوة وأصعبهم مراسًا، وحتى حملات الحكومة التأديبية التي ترسل إليهم إذا ما اقترفوا جرمًا لا تجدي قط إلا إذا سلبت الحكومة قطعانهم، وأنشط ما يرون عقبَ الفيضان وقت أن كنا هناك ترى الواحد منهم أو الاثنين في زورق من منقور الشجر يتلمس الخيران ليصيد ما تخلف من السمك بعد نزول الماء، وأظهر شجر المنطقة الطلق والهجليج والخروب، ومن الأخير يتخذ نساؤهم الزيت الذي يتدهنون به للتجمل، أما الأول فللصمغ والثاني للخشب، وكلاهما شائك، وللهجليج ثمرة صفراء يأكلها القوم إبان القحط رغم أنها مرة المذاق، ويستمدون الماء من حُفَر يقومون عليها حتى ينز ماؤها وهم يستقون منها رغم قذارتها، ثم يغطونها خشية التبخير.
ولا تزال أمم النيام نيام تتهم بأنها من الأمم الذئابية آكلة لحوم البشر، وكان زعيم قبيلة «مانجبيتو» في أقصى الغرب على حدود الكنغو كلما أعوزه اللحم قصد مع رهط من أخصائه أكواخ بعض زوجاته وعددهن ألفان، وهناك يقتل من الناس مَن لاقاهم زائرين ويأكلهم، وهذا الزعيم مات قريبًا وابنه الحالي «أوكوندو» له ١٧٦ زوجة فقط.
ولعل أجمل ما راقني بالمدينة القسم المصري، ذاك الذي تقوم قصوره تحفُّها حدائق غنَّاء، وتُزوَّد كلها بالمياه المرشحة من مضخات آلية، وتضاء بالكهرباء وتزود بالأثاث الفاخر، في مظهر يدل على السخاء المصري العظيم، والغريب أن أغلب الموظفين من غير المصريين، وتحت تصرف القسم أسطول كبير لا عمل له إلا القيام برحلات إلى مناطق السدود وما جاورها ذهابًا وجيئة لم تفدنا بما يعادل نفقات سنة واحدة طوال السنين التي خلت، ومن رأي غالب المهندسين المصريين الذين تحدثتُ إليهم أنها أبحاث ضائعة لا خير فيها، على أنها إحدى وسائل التفريج عن الكربة المالية التي يعانيها السودان اليوم، ولم يقف سخاؤنا عند هذا الحد، بل إنهم شرعوا يقيمون في الخرطوم دار عمارة للأسطول المصري! زرتها وستكلفنا غاليًا، ولا يكاد يرى أحد ما وراءها من فائدة.
غادرنا الملكال فكانت الشواطئ تزينها أشجار من «نخيل دليب»، فروعه تبدو في مراوح مسننة «كاللاتانيا»، وله ثمر أصفر في حجم البرجيل ذو لباب شبيه بالشمام شكلًا وطعمًا، وهو غذاء هام للأهالي، إلى ذلك جذوعه التي ينقرها الناس في زوارق لا يزيد عرضها على ذراع وقد يبلغ طولها الأمتار، وكثيرًا ما كنا نرى الرجل يمسك بمجذاف قصير ويسير به سراعًا فإن قارب السفينة انزوى بزورقه في العشب، وهناك نوع من الزوارق هو حزمة من غاب اسمه «امباش» تربط مدببة من طرف، وعريضة من الآخر يرميها الرجل في النهر، ويجلس وسطها، ورغم الماء الذي يتخللها فهي لا تغرق لخفتها، وإذا ما انتهى الرجل من صيده صعد البر، وحمل زورقه هذا على كتفه، بعد أن يجففه في الشمس برهة.
لبث النيل طويلًا في اتساع عادي هو دون اتساع نيلنا في مصر فلم يؤيد ما كنا نعلمه من مداه الشاسع، على أن العشب كان يحفُّ به، وكنا كلما قاربناه وصادمتْه السفينة قفز منه تمساح أو اثنان، ويظهر أن ذاك العشب داخل ضمن اتساع النهر، يؤيد ذلك أنه كان يخلو من الشجر إلا عند الأفق، وتلك المتسعات لا شك سيغمرها ماء النهر عقب إتمام خزان جبل الأولياء ويصل الماء إلى جوار الأراضي الخصيبة النائية ويمكن من ريها على حسابنا بسهولة، وقد أخذ النهر يتشعب بين جزائر متعددة عند إحداها رأينا كودوك مقر ملك الشلوك.
وأخص ما يسترعي النظر شعور الرجال التي يرسلونها تنمو، ثم يُشكِّلونها أشكالًا غريبة بعد أن تبطن بروث البقر. أما النساء فيَحلقْنَ مقدَّم الجمجمة ويتركْنَ شعرًا قصيرًا جدًّا في مؤخرها فتبدو المرأة كأنها صلعاء. ويتعهد شعر الرجال «حلاق» عمله محترم لديهم يتوارثه عن أجداده، وهو في شهرته ومقامه يلي الرُّماة والمقاتِلة، يأتي الرجل ويجلس أمام كوخ الحلاقة في الشمس المحرقة، ويبدأ الرجل غسل الشعر ونفشه ببول البقر، ثم يترك مدة في الشمس تناهز نصف ساعة، وأنت ترى القمل والحشرات تجري على رقبة الرجل، وأيدي الحلاق والرائحة الكريهة منبعثة منها تعبق الجو. وخلال ذلك يعد الحلاق المادة التي سيشكل بها الشعر، فيأتي بإناء من فخار ويخلط به بعض الطين والروث والبول والصمغ ويعجنه، ثم يبطن به الشعر في مهارة فائقة، ثم يجفِّفه في الشمس، ويأخذ في قطع زوائد الشعر بمُدية حادة، ويدهن جسد الرجل ببول البقر الذي يستخدمونه جميعًا رجالًا ونساء. بعد ذلك يرش فوق الشعر مسحوقًا من حرق روث البقر ممزوجًا بالثرى ليأخذ الشعر لونه المطلوب. والعادة أن يتعهد الحلاق شعر رجلين معًا لكي يعرف كلٌّ نظامَ شعره إذا ما رأى شعر أخيه، ولا تُستخدَم المرآة عندهم. وأجْر هذا العمل شاة أو معزى، ويغلب أن يتعهد الشبان شعرهم هكذا قبل الزواج والحرب وقبل الرقصة الدينية. ولكيلا يفسد نظام الشعر إذا أحس إيلام الهوام التي تتزايد في رأسه كل يوم يضع الحلاق أثناء العملية إبرًا من الخشب فتخلف خروقًا منها يمكن للرجل أن يحك رأسه بعصًا مثلها. وأصعب ما يعانيه الشخص من شعره ليلًا إذ ينام على قطعة من خشب يرفعها حاملان وهو لا ينجو من هذا العذاب ولا من عذاب القمل إلا إذا مات أحد أفراد العائلة، فعندئذٍ يجب حلق الرأس وتركها حتى ينمو الشعر ويستأنف تعهده من جديد.
ومما يعانيه شبانهم الاختبار الذي يَجُوزونه كي يَحُوزوا لقب المقاتِلة في سن الخامسة عشرة فتصحب كل واحد منهم خليلته ويذهب الجميع إلى ضفة النهر، وتمسك كل خليلة برأس صاحبها وتميلها نحو النهر وتأخذ في تشجيعه على أن يحتمل ما سيحل به من ألم. وسرعان ما يجيء طبيب ويشق جبهة الغلام بمدية حادة فلا يجرؤ واحد أن يتأوَّه وإلا كان خزيًا كبيرًا، وبعد ذلك تغسل الفتاة الدم في النهر وتنتهي الحفلة. وكل صِبْيَة هذا الجيل يُلقَّبون باسم حيوان معين يتخذ شعارهم كالأسد أو الأفعى وما إليها، وكثيرًا ما تقطع المدية شريانًا فيموت الصبي من كثرة ما يفقده من الدم، والذي يعيش منهم يصبح مساهمًا في بقر القبيلة، ويخول له الحق في الاشتراك في الرقص العام، وينظر إليه الجميع نظرهم إلى الرجال، وقبيل اجتياز هذا الاختيار يعتبرون أطفالًا مفتقرين إلى حماية الرجال وينامون في أكواخ الخدم.
والشلوك أهل مياه وأنهار، لا عمل لهم سوى الرعي وصيد الحيوان والسمك فهم يسيرون في المياه بسرعة حتى ولو غاصوا فيها إلى أكتافهم. ولا يذبحون ماشيتهم قط بل يستمدون منها اللبن. وبعد ذلك تستخدم بدل النقود في المبادلة، وهي لديهم مقدسة، ويبتاعون من النوبيين شمالهم الفول السوداني وهو غذاء رئيسي عندهم، وقلما يزرعون شيئًا، اللهم إلا بعض الذرة والطُّبَّاق فهُم كُسالَى، وكل عائلة تحل كوخين أو ثلاثة يحوطها سور وفي جانب داخلي إصطبل، والبيوت نظيفة تحوي ثلاثة أكواخ واحد للزوج وزوجه، والثاني للطبخ، والثالث للخدم والأولاد، وأحبُّ مشروباتهم المريسة وزوارقهم جذور منقورة من نخيل دليب، أو أعواد توثق في شكل مجوف يحمله الرجل إذا شاء، والشلوك إذا صادوا فرس الماء حفظوا لحمه لوقت الحفلات، وإذا صاد أحدهم فرسًا بدون مساعدة غيره لبس سوارًا من عاج حول ذراعه، وكثيرًا ما يهاجمهم وحش كالأسد والفهد فيرديه الواحد منهم بحربته وعندئذٍ يأخذ جلده ليحفظه ويلبسه في الحفلات ليدل على بسالته.
والشلوك يعيشون في قرًى مكتظة عكس أمم الباري والنوير الذين لا تزيد مجموعتهم على عائلة واحدة، فالشلوك لهم نظام عائلي وثيق وقانون موحد؛ لذلك قلَّما تقتتل شِيَعُهم، وكثيرًا ما يستعملون السم الذي يلطخون به سهامهم في قتل الغير، ومَلِكُهم لا يذوق طعامًا ولا شرابًا إلا بعد أن يتناول منه أحد تابعيه قبله، أما زينتهم فعقود من خرز ملون تلبس صفوفًا بعضها فوق بعض، وقد تغطي الرقبة كلها وقسمًا من الصدر، وهي دليل الغنى والجاه، ويلبسها الرجال أيضًا، واللون الأزرق عندهم بشير الحظ السعيد؛ لذلك يلبسه الأطفال، وكلما كثر الخرز دل على جاه الأبوين، وبعض الشبان يلبسون سوارًا في الساعد والعقب، وهذا يدل على أنهم قتلوا من الحيوان أسدًا أو فهدًا أو فيلًا، والطبخ والزراعة وعمل الخزف والمريسة وحمل المياه من عمل النساء، أما الرجال فلا يصح لهم أن يقوموا بهذه الأعمال المهينة إلا إذا طَعَنوا في السن، ولعمل المريسة يوضع بعض الذرة في سلة مع مزيج من مسحوق روث البقر والثرى وكلها توضع في ماء راكد لمدة أسبوع حتى تتخمر، ثم تنقل إلى جرة من فخار وتُغلى في الماء، ويؤخذ السائل العلوي ويُبرد، ثم يُشرب، وكلما نضبت أُضيف الماء إليها، وأُعيد غليُها، وهكذا، وهذا الخمر قويٌّ مُسْكِر.
ويخال بعض الناس خطأ أن اللحم أهم غذاء لديهم على أنهم لا يأكلون إلا لحوم السمك وأفراس الماء، أما لحوم البقر فلا تؤكل إلا في الحفلات. ومن أطعمتهم المحبوبة خليط من مسحوق الفول السوداني والذرة والسمك النيِّئ يُطهى في جرة من فخار، وكذلك لحم فرس الماء يمزج بالفول السوداني وعشب اسمه صفصاف. وتكثر حفلات الرقص بعد شرب المريسة في الليالي القمرية، خصوصًا ليلة البدر، وكلهم يرقصون والحِرَاب في أيديهم، وقد لعبت الخمر بلُبِّهم، ويقرع القوم طبولهم المزعجة وسط القرية التي تتجمع بيوتها في شكل دائرة تتوسطها ردهة فسيحة، والطبول تُقرع من وسطها في باكورة الصباح إعلانًا للناس بأن حفلة الرقص ستُقام الليلة، وكلما اختلفت قرعات الطبول اختلفت حركات الرقص ودلت على الغرض منه أهو للمطر أم الحرب أم الدِّين أم الفتيات أم الموت، ورقصة الفتيات تبدأ بعد بزوغ القمر مباشرة والغرض منها تعارف الفتيان بالفتيات؛ إذ ترى الفتيان قبل الغروب مرحين انتظارًا لملاقاة فتياتهم ويصرفون زهاء الساعة في تعهد شعورهم ولبس جلود القطط والأنمار والتحلي بصنوف لا تُحصى من الخرز والودع وما إليها، وقُبيل الغروب تَفِد الجماهير شبانًا وشيبًا وتصفُّ جِرار المريسة بحجومها الكبيرة وسط الدائرة، وإلى جانبها أطباق من الذرة واللحم نصف المطبوخ، فإذا بزغ النور بدا المسنون من النساء والرجال في دائرة ومن داخلها جماهير الشباب من الجنسين، ويظلون مرحين يتحادثون حتى يُقبِل الزعيم ومن خلفه أتباعه يحملون الطبول وأدوات الموسيقى فينصت الجمع ويتداخل الفتيان والفتيات في صفين، ثم تُعزف الموسيقى والطبول، وبين آن وآخر يرتل الكلُّ أغنية.
وما تكاد تنتهي حتى يعلو قرع الطبل وتموج صفوفهم وبيدهم الحراب التي تتلألأ في ضوء القمر، ثم يسرع أحدهم إلى الوسط مخترقًا صفوف الشابات والشبان وهناك يتمايل ويهاجم كأنه يصارع وحشًا، ثم يعاد الغناء ثانية، وبعد ساعة على تلك الحال يشرب الكل المريسة، ويبدو صفٌّ آخر من الراقصين بعد انسحاب الأول الذي يظلُّ عاكفًا على جرار المريسة يرتشف منها ما يشاء، وأخيرًا يختلط الكل في الرقص تاركين الحراب، ويتقدم كل شاب في صف الشبان إلى فتاة في صف الفتيات وتُرفع السواعد بمحاذاة الأكتاف ويقفز كل زوج قفزات منظمة لكن دون أن يلمس الفتى خليلته، والفتيات يُظهِرْنَ دلالَهن ويُحاوِلْنَ أسْرَ الرجال واستمالَتَهم بما يفوق ما تأتيه المرأة الغربية (فهي مثلًا تُبرِز ثديَيْها بينَ آنٍ وآخر، ثم ترفع عنهما قطعة القماش المهفهفة، ثم تعيدها، وكثيرًا ما تفعل ذلك أمام القاضي في المحاكم فتؤثر فيه)، وما يكاد الليل ينتصف حتى تكون المريسة قد أخذت بلبهم فيختلط الحابل بالنابل، وبمجرد انسحاب الزعماء والمتقدمين في السن يأتي الشبان والشابات بما لا يتصوره العقل، بل وبما يستنكره الخلق الفاضل القويم.
الزواج: ولا تتزوج الفتاة قبل الخامسة عشرة، وبفضل رقصة الفتيات يمكنها أن تتعرف بالكثير من الفتيان، والزوجة يمكن شراؤها بالقطعان. وللرجل شراء ما استطاع من الزوجات؛ لأن ذلك دليل الجاه والغنى، وقبل أن تتم صفقة الشراء هذه يجب أن توافق هي على هذا الزوج، وفي العادة تكون قد رغبت فيه إبان حفلات الرقص، وهي تحب أن يكون غنيًّا بقطعانه ومزارعه، والعجيب أن الفتاة تؤثر الزوج الذي يستطيع بمالِهِ أن يشتري زوجات كثيرات غيرها. وقبل إتمام الزواج تُقدَّم الهدايا (الشبكة) كعشر من المعزى وثلاث من الحراب وعشرين خطافًا للصيد (سنارة) وما إليها، وخلال تلك الفترة يبدأ التعارف بينهما — نظام شبيه بنظام الغرب — ففي حفلة الرقص يقود الأخ أخته إلى حلقة الرقص والخجل يبدو على وجهها، وهناك يسألها زعيم القبيلة أن تعترف بجميع علاقات الحب مع فتيان آخرين من قبلُ، وهي تخشى ألَّا تقول الصدق؛ لأن الأخبار كلها تصل الزعيم أولًا بأول. وبعد تلك المداولات بين الزعماء والعروس تقرع الطبول فينصت الجميع، وهنا تكرر الفتاة ذكر أسماء الفتيان الذين أحبوها من قبل، فيُحضَر كل واحد منهم إلى وسط الدائرة ويُحكَم عليه بغرامة من الماشية والأغنام، ومتى جمعت تلك القطعان قدمت كلها مهرًا للزوج، أما الفتاة فلا عقاب عليها متى صدقت في الاعتراف ومتى أقر الزعماء ذلك، ولا عارَ على الفريقين من ذلك؛ فالاعتراف من جانب الفتاة والغرامة من جانب الفتى عقاب كافٍ وتَرْضِيَةٌ حسنة. والظاهر أن هذا التصرف لا يرمي إلى منع الفساد الخلقي بقدْر ما يرمي إلى تزويد الزوجين بالمال والمتفرِّجين بالطعام والشراب والرقص.
وعند ميلاد غلام تُقدَّم الهدايا للأب من قطعان يربو عددها بالتوالد حتى إذا ما أضحى الطفل رجلًا قدمت له بعد أن يجوز «حفلة الرجال»، وإذا مات أحدهم دفنت الجثة أمام الكوخ الذي كان يقطنه ويلف الجسم في أفخر ما كان لديه من ثياب إن وجدت، وإلى جانبها الأسلحة وأدوات الطبخ، وكل ما يلزم للحياة الأخرى ما عدا أدوات الزينة. والجسم يمدد في القبر على ظهره وتوضع تحت الرأس وسادة من خشب للرجال ومن قش للنساء والأطفال، وإذا مات الزعيم دفن داخل باب كوخه وأغلق سنة كاملة بعدَها يُهدَم، وعند دفن الميت تقام حفلة «رقص الموتى» فيجتمع الأهل وقد لطَّخوا جسومهم برماد من حرق روث البقر ويولول الجميع وفق قرعات الطبول البطيئة، ويمثل الراقصون ما يدل على شجاعة المتوفَّى وفضله ويقدِّم الناسُ لأهله الطعام والشراب وتستهلك مقادير عظيمة من المريسة، وقبل شروق اليوم التالي يُنسى الحزن بتاتًا.
وفي رقصة الحرب يمثلون موقعة يؤخذ فيها النساء والأطفال والماشية أسرى، وهذه الرقصة تقام في أي وقت من النهار بمجرد سماع القوم لقرع الطبول نداءً لها فيتزين كلٌّ بما لديه من أدوات البسالة من ريش وجلود وحراب وما إليها، ويتقدم المقاتلون ذهابًا وجيئة ويضربون الأرض برجولهم وحرابهم التي كثيرًا ما تنثني أو تنكسر، ثم يهاجمون الأكواخ التي فيها أسراهم ويسوقونهم فيها بشراسة زائدة وسط تهليل يصمُّ الآذان مسرعين نحو الزعيم والدماء تسيل من الجروح التي تخدش بها وجوههم وجسومهم، ثم يتقدم الطبيب بعدُ فيضمدها بعصير بعض الأعشاب.
وإذا قام نزاع بين قبيلتين أدى إلى قتال عنيف ولا تتنازل إحداهما عن الأخذ بالثأر إلا إذا تساوى عدد الضحايا من الفريقين، ولا يمكن لأية قوة مقاومتهم؛ لأنهم يلجئون إلى صيد الناس بسهامهم المسمومة.
تاريخهم: ويرجح بعض الكاشفين أنهم وفدوا من منطقة البحيرات ولم يحلوا مكانهم هذا إلا منذ أربعة قرون، وفي سنة ١٥٠٤ غزوا سنار لكن غزاهم البقارة سنة ١٨٦١، وفي ١٨٧٤ ثاروا على الحكومة المصرية في السودان، وفي ١٨٩٠ خلال ثورة المهدي ثاروا ضد تجار الرقيق من العرب والدراويش لكنهم هُزموا وسيق عدد كبير منهم إلى أم درمان، ولهذا السبب تجدهم يبغضون العرب، ويظهر أنهم يمتُّون بصلة إلى الدنكا وبعض قبائل البحيرات مثل «كافروندو» لتقارب لغاتهم وبعض عاداتهم.
ولما خُلق الإنسان كان أحمرَ اللون؛ لأنه شُكِّل من طين النهر، ثم ذهب إلى التربة السوداء وخلق الجنس الأسود، ولما انتهى من خلقه فَرَكَ يدَيْه فسقط الطين منها فتاتا هو القمل الذي التصق بشعر الإنسان وضايقه؛ ولذلك اخترعَ الله الموسَى للتخلص منه، وفريق منهم يرى أن الله أمَرَ زوجتَه فولدتْ تَوْءَمين أسود وأبيض، وكانتْ تُحبُّ الأسود وتبغض الأبيض وأمر الله بتربيتهما، وحدث مرة أن مدَّ الأبُ رجله وأمر أن يلعقها الولدان فخضع الأبيض؛ لأنه عبدٌ وأبَى الأسود، فأحبَّ الله لذلك الأبيض وحاباه، وقال لزوجه: إن ابني هو هذا وسأملِّكه على الأسود يبيع فيه ويشتري، وسأمدُّه بالأسلحة التي تسوِّده على كل شيء.
وإذا تخلف المطر أقاموا رقصته لمدة ثلاث ليالٍ أو أربع حول معبد نيكوانج عند الغروب، وهذه هي الرقصة الوحيدة التي يلبسون لها الأردية، والعادة أن ينتظر الزعيم «كوجور» بعد الجفاف متحينًا فرصة يرجح نزول المطر فيها، ثم يقرع الطبول للرقص ويصلون وهم وقوف وجوههم إلى السماء في غير حراك ساعات طويلة وكلهم إيمان بأن المطر سينزل سراعًا، وفي داخل المعابد ترى مذبحًا للضحايا من الغنم يقام من الخشب وترى فوقه بعض الطعام والمريسة يقدمها كل مَن أراد التقرب من الوسيط نيكوانج.
وأخص ما يفصل فيه القسس بين الناس حوادث القتل والسرقة، وفي الأولى يجب على أهل القاتل أن يقتلوه أو يقدموا الفدية التي يطلبها أهل المقتول، وفي السرقات يُستدعى أهل المكان ويخبرهم القسيس بأنه إذا لم يرجع الشيء المسروق قبل أن تشرق الشمس سبع مرات سيُنزِل به عقابًا أليمًا، وكثيرًا ما يجدون المسروقات في بيت الروح في ظلام الليل، ولا يجوز للملوك ولا للقسس أن يزينوا بالذهب والحلي رغم توافرها لديهم، والقسيس يزور البيوت ويبصق فيها ليباركها وتقدم له المريسة، وفي وادي الملوك عندنا نقوش تؤيد صلة هؤلاء بأجدادنا من قدماء المصريين.
ومن أعجب عاداتهم حماية اللاجئ المستجير بهم فهم يضيفونه ويكرمون وفادته مهما طال مكثه بينهم، وإذا قُتل في نزاع شَجَر بينهم يطالبون بدمه حتى ولو كان اللاجئ قاتلًا.
ومساكنهم أكواخ من الطين في شكل مخروطي كالجرس، وبيت العائلة مؤلف من ثلاثة واحد للرئيس وآخر للزوجة والأولاد وثالث احتياطي، أما الطبخ ففي كوخ الزوجة، وطعامهم الذرة والفول السوداني واللبن واللحم، من بينها الخنزير والكلب والقرد والحيوان المفترس، والكلى والكبد تؤكل نيئة طازجة، ومن أشهى طعامهم الذباب والجراد تؤكل حية مع العسل وكذلك بعض الأفاعي، وليس لهم ملابس قط اللهم إلا المتزوجات.
وللرقص: حفلات تقام حول بيت الملك فوق جبل «جلود» حيث يجتمع بين مائتين وثلاثمائة يُحلَّون بالريش والخرز والأساور من العاج ويدهنون أجسادهم باللون الأبيض ليمثلوا حيوانات خاصة كأن يبقَّع الجسد ليحكي الفهد، ويمسكون بعصا الرقص الملونة، ثم تدق الطبول والموسيقى المُمِلَّة الساذجة فيهجم صفٌّ من الشبان ويرمي كلٌّ حربته أبعدَ ما يُمكنه ويفوز بالإعجاب أقدرُهم في ذلك، ثم يَقْدَمُ صِغَار الفتيات عرايا إلا في مجموعة عقود تستر العورة ويرقصن وفق أنغام الموسيقى والكلُّ يُهلِّلون عاليًا، ثم يتلو هذا سكونٌ يشربون خلاله المريسة، وأخيرًا يختلط الشبان والفتيات في الرقص، ويحاول كلٌّ اجتذاب خليلته ويستريحون حتى يُشرِق القمر فتصعد فتاة على ربوة وتغنِّي للقمر، ومِن عجيب ما يُرى جمع من الفتيان يضربون أجسادهم بالسياط حتى تدمى لكي يُظهِروا شجاعتهم امام الغانيات.
وإذا خرج رجالهم للصيد يعجنون الذرة مع الزبد في أصابع يلفُّ كلٌّ حول خصلة من شعر الرأس، وكلها تبدو ذؤابات غليظة بيضاء مدلاة إلى الحاجبين في شكل غريب؛ وذلك لافتقارهم إلى الملابس والجيوب، ولكيلا تشغل أيديهم ساعة الصيد، ومن أحب حفلاتهم المصارعة التي يتبارى فيها شبان القبائل المختلفة في مهرجان كبير وفي حضرة الملك عادة.
هذا؛ وكثيرًا ما كان يختلط عليَّ اسم النوبيين الذين مررت بهم في ثلاث جهات: عقب ألبرت نيانزا شمال أوغندا، وهؤلاء أخفُّ سوادًا ويَدِين غالبهم بالإسلام وعلمتُ أنهم من سلالة جنود أمين باشا. وفريق غرب النيل الأبيض وهم هؤلاء ذوو البشرة السوداء والديانة الوثنية، والفريق الثالث في بلاد النوبة شمال الخرطوم وهم «كالبرابرة» عندنا سُمْر البشرة ومسلمون جميعًا.
ولقد استرعى نظري في أيدي الناس هنا الغلايين الطويلة التي يدخنون فيها مادة اسمها «البانجو أو الكمنجه» هي مخدرة للغاية وتشبه «الحشيش» والنبات ينمو كالبرسيم، ثم يزهر ويثمر حبًّا يقطف أعلاه ويجفف، ثم يباع للتدخين، ورغم أنه محرَّم فإن القوم رجالًا ونساءً وأطفالًا يدمنونه، ويقال: إنه يزرع بمقادير هائلة في الجهات النائية عن رقابة البوليس. ونظام الحكم في الريف ينحصر في الناظر وهو رئيس القبيلة ومن تحته العُمَد، ومن تحت هؤلاء المشايخ، وكلهم تُعيِّنهم الحكومة، وقد ربطتْ لهم مرتبات، وهم يشكلون محاكم لها سلطة محدودة تدون في «دفتر السلطة» الذي يتسلمه الرئيس، وقد كانت العادة قبل أن تربط لهم المرتبات أن يتناولوا نصف الغرامات التي كانوا يحكمون بها على الأهالي؛ لذلك كان القضاة يحكمون بأقصى العقوبة لأتفه الأسباب، لكن ذاك الظلم خفَّ اليوم، ولهم أن يحكموا إلى خمس سنوات بالسجن، وتكاد تعم هذه الطريقة البلاد كلها حتى التي كانت من قبل مراكز هامة إبان العهد المصري، وهناك مفتش إنجليزي يمر ويشرف على الجميع، ولقد كان الناس يبغضون المآمير المصريين قديمًا؛ لأنهم كانوا قُسَاةً في تنفيذ الأوامر يَجْبُون الأموال قبلَ حلول ميعادها كي يَحوزوا خطابات الشكر من المديرين.
ولعل أجمل شوارعها شارع البحر (شارع كتشنر) وعليه حديقة الحيوان الصغيرة التي زرتُها فبَدَتْ مجموعتها بائسة صغيرة. ثم قصر الحاكم العام، وهو أفخر قصور المدينة، بُني على النظام القوطي يعلوه العَلَمان المصري والإنجليزي، وفي جزء منه بقايا قصر غوردون، والمكان الذي قتله فيه الدراويش، ثم قصر سلاطين باشا، وفي آخِر الشارع كلية غوردون التي أقامها كتشنر تذكارًا لغوردون بمال اكتُتبتْ فيه جهات الإمبراطورية البريطانية كلها، وهي أقسام؛ أهمُّها: قسم الطِّبِّ وله بناء خاص يُجاوِر محطة سكة الحديد وقسم المعلمين وقسم الحساب، وكلها ترمي إلى تخريج طائفة من الموظفين فحسب، والمواد تدرس فيها باللغة الإنجليزية، وغالب المدرسين من الإنجليز، وكان للمصريين فيها نصيب لكنهم استبدلوا بهم طائفة من السودانيين، وكان بالكلية قسم حربي لتخريج الضباط لكنه أُغلق عقب ثورة سنة ١٩٢٤ عقابًا للبلاد وإماتة للروح العسكرية فيهم، والضباط يُرقَّوْن من الجنود، وبِنَاءُ الكلية فاخر للغاية مقسم إلى أجنحة من خلفها حديقة منسقة على نظام حديقة «الجامعة الأمريكية بالقاهرة» وأجمل ما راقني منظر الطلبة وهم يلبسون الجلابيب البيضاء والعمائم المنتفخة المهفهفة والأحذية الحمراء (المراكيب) كلٌّ يتأبَّط كتبه، وخلف الكلية بناء خاص لمنازل الطلبة، وغالبهم يتخذون المدرسة سكنًا «داخلية»، ومن المباني الفاخرة في شارع البحر «جراند أوتيل» يحكي «شبرد» عندنا، ثم غالب مباني الحكومة والشارع تزينه أشجار اللبخ على جانبيه وتتعانق في أعلاها فتحكي أقواس النصر، وله رصيف على النيل مستقيم، وهو خير مستراض ساعة الأصيل، يليه في الأهمية شارع «غوردون» الذي يليه موازيًا له، وتقوم عليه غالب قصور الإنجليز يتوسطه تمثال غوردون يلبس الطربوش ويمتطي جملًا. وبالمدينة ترام حديث يصلها بالخرطوم بحري وبأم درمان، وهو لشركة إنجليزية وأجوره غالية، وبين الخرطومين قنطرة على النيل لمرور الناس والترام وسكة الحديد، «والخرطوم بحري» قرية أشبه «بعين شمس» غالب بيوتها صغيرة وطيئة تُبنَى باللَّبِن أو الطين، وهي متفرقة بينها متسعات من الأرض الرملية.
وعلى النيل تقوم مساكن الجيش المصري الذي كان يرابط فيها وغالبها اليوم خاوٍ، وقد شعر الناس ولا يزالون بالكساد الشديد ووقوف دولاب أعمالهم منذ خروج الجيش المصري الذي كان يُفرِّج عنهم بما ينفقه، وكم تحدَّث إليَّ العامة بأنهم منذ خروجه وهم في بؤس شديد، وهنا قصُّوا عليَّ نبأ انسحابه حين ذهب «الكمندان» بعد أن أمر الجنود بالاستعداد لضرب الخرطوم كلها في تمام الساعة الثانية عشرة ظهرًا إن هو تأخر محجوزًا عند الحاكم إلى ما بعد ذلك، ولما ذهب إلى الحاكم خاطبه قائلًا بأنه لا ينسحب إلا بأمر كتابي من جلالة ملك مصر، فرد عليه بجفاء وغلظة وهدده أن يمنع عنه المؤن والغذاء، فقال له: إن لحق بنا أي شيء من ذلك هدمنا الخرطوم كلها وموعدي مع الجند الظهر، فعاد الحاكم وهدَّأه! وظلَّ الجيش حتى جاء مندوب جلالة الملك يحمل خطاب الانسحاب في طيارة، هنا تألم الأهلون والجنود السودانيون وكانوا يرمقون إخوانهم المنسحبين بنظرات استهتار ولوم شديد.
انتهى بنا الترام إلى موضع في خرطوم بحري، عنده يبدأ ترام صغير يسير بالبخار إلى طرفها الشمالي عند محلة يسمونها «سلامة الباشا» منها ركبنا الباخرة عبر النيل إلى أم درمان: التي أسسها محمد المهدي سنة ١٨٨٣، ثم ظلت تمتد عهد خليفته عبد الله التعايشي الذي لبث أربعة عشر عامًا وهو من عرب البقارة، وكان القوم يسمون قلب المدينة «البقعة» يقوم بها مسجد كبير بمئذنتين، وإلى جوار النيل مسجد المهدي ومبانيه وهي أهم ما يزوره السائح هناك، دخلنا ردهة شاسعة كأنها ميدان عابدين كان يصلي فيها المهدي الأوقات الخمسة إمامًا بالناس كل يوم، ومَن تخلف عوقب بالجلد وبالسجن إلى ستة شهور، هنا دخل الثائرون ورفعوا رأس غوردون باشا على أسنة حرابهم وسط تهليلهم، وفي ركن من الميدان بيت الخليفة وهو من طابقين ولا بأس بتنسيقه، أقيم بالآجر الذي جُلب من كنيسة «صوبا» التي هدموها — وصوبا كانت عاصمة حكومة النوبة التي حكمت مصر يومًا ما — وبعض أحجار البيت من أنقاض بيت غوردون وسقوفه من جدائل الخوص تحتها الخشب، وفيه اليوم متحف من مخلفاته: دروع وأردية وسروج وأسلحة من بينها الحراب والمدافع، ثم مطابع الحجر التي كان يطبع عليها منشوراته، وقد رأينا الكثير من تلك المنشورات كُتبت بخطه في نصائح دينية ولغة جميلة، ثم خاتمه المربع، وسريره من خشب منسق مرتفع يجدل وسطه بسيور من جلد، وبعض نقوده، وهناك بعض آلاته لسك النقود وبعض الصحاف الكبيرة كان يقدم فيها الطعام للفقراء يوميًّا، ومن المعروضات سيف الخليفة وعربة غوردون وعربة الخليفة التي جلبها من الحبشة على متون العبيد مخترقين بها الصحاري، ولم يكن يُبِيح لأحد دخول أبوابه إلا لأخيه يعقوب، وأمام البيت مقبرة المهدي دفن فيها، وكانت تتوسطها قبة عالية هدمها الإنجليز بعد فتح أم درمان، وبددوا محتوياتها حتى إن الملكة فكتوريا أرسلت تحتج على كتشنر؛ لأنها لا تود إهانة العقائد هكذا فكان اعتذاره أنه قصد بذلك صرف الناس عن تلك الخرافات ولم يقصد إهانة الدين، والمقبرة اليوم مغلقة لا يباح دخولها لكن رغم ذلك يفد الجماهير ليتبركوا بجدرانها ويقدموا لها القرابين.
قصدت شجرة غوردون إلى جنوب الخرطوم في مكان اعتاد غوردون أن يركب إليه كل أصيل ويجلس تحت شجرة لا تزال هناك مطلة على النيل الأبيض، وقد زرتها لأرى ما تقوم به مصلحة الري المصري هناك من المنشآت، فقد اتخذت المنطقة مستعمرة للري أقامت بها البيوت الفخمة، وهي تتخذ شاطئ النيل مرسًى لأسطولها، والعمل قائم هناك لتصبح المنطقة مقر عمارة وميناء للأسطول المصري، وقد أدهشني ما بدا لي من إسراف شديد وتبديد في الأموال في شيء خبَّرني كثيرٌ من مهندسينا ألَّا طائل تحته. وزاد عجبي لما رأيت غالب الموظفين والقائمين بالعمل من غير المصريين، ولما أردنا الدخول لم يُسمح لنا رغم من كانوا معي من المهندسين المصريين، وقالوا: لا بدَّ من ترخيص من الرياسة الإنجليزية، وكانت على الباب لوحة كتب عليها: جناب المستر فلان هو دون غيره المتصرف المطلق في تعيين الموظفين والعمال وفصلهم، والناس هناك مندهشون لهذه المنشآت التي تنفق فيها الأموال تحت ستار الإصلاح، ولما سألت كم باخرةً تحتاج للإصلاح سنويًّا حتى تقام تلك العمائر التي بدت وكأنها مدينة صناعية صاخبة؟ كان الجواب الضحك والسخرية؛ لأن قِطَع الأسطول كله محدودة العدد!
برحت الخرطوم في صباح منتصف سبتمبر فسار بنا القطار يشق أراضيَ مبسوطة يكسوها العشب المنثور والشجيرات الشائكة إلا في بُقَع قريبة من النهر كانت تقوم فيها أعواد الذرة «العويجة»، وغالب تلك الأراضي الجيدة القريبة من الخرطوم تملكها عائلة المهدي والمرغني وهما من الطوائف المرضيِّ عنهم! معهم بعض الأجانب ولهم آلات لرفع الماء «وابورات» على أن الأغلبية أراضٍ مهملة. وكلما تقدمنا شمالًا بدت الربى الجرانيتية متفرقة في مخاريط حولها أراضٍ شبه صحراوية، ثم أخذت تتصل تلك الربى وتتقارب فأضحت نجادًا، ثم ظهر خانق شبلوكا في سلسلتين من الجرانيت متجاورتين جدًّا بينهما ماء النيل وفي نهايته تبدو الجنادل مترامية. بعد ذلك عادت السهول واختفت الربى وأضحى المنظر صحراويًّا كثير الرمل والحصا، ثم دخلنا شندي ومن ورائها بدا النيل تقوم عليه بيوت من اللَّبِن والطين، وهنا فاجَأَنا مطرٌ غزير لطَّف الجو وخشي القوم نزول السيول التي تتهدد تلك المنطقة في مواسم المطر، وقد تبلغ من الشدة أن تجتاح طريق القطار، وإذا وصل بعضها النيل اندفع فيه وأوقف تياره وشق له طريقًا إلى الضفة الأخرى، ومصلحة سكة الحديد تعرف مواضع الخطر وتتقيه بأن تمد أسلاكًا يدفعها الماء فتدق الأجراس في المحاط وتأمر بإيقاف القُطُر حتى يُعايِن المكانَ «عمالُ الدريسة»، وها قد وقفنا ساعة في المحطة التي تلي شندي. ومنطقة شندي وما حولها أشهر مناطق السودان بالمَسْلِي لجودة مراعيها بكافة أنواعها.
ظل المنظر حولنا سهولًا تكسوها الأشواك شبه الصحراوية، وقد تتخللها رُبَى الجرانيت، ولبث النيل ملازمًا لنا وهو غامر الفيض يُسامِتُ ماؤه الضفافَ وقد يَعدُوها إلى المنخفضات المجانبة له، فتبدو في قنوات متلوية حولها أرض خصيبة، وقبل دخولنا مدينة عطبرة (أتبره) جزنا بلدة الدامر، ثم بدت عطبرة حيث اخترق القطار قنطرة على نهر عطبرة، وكان في أعلى فيضه عظيم الاتساع كأنه نيل مصر الفسيح في تيار جارف وماء كدر أحمر حقق في ظننا ما نعلمه عنه في كثرة أمداد النيل بالطمي بنسبة تفوق أمداد النيل الأزرق نفسه، على أنه بعد قليل يغيض ماؤه حتى يصبح شبه أخوار بها مسارب ضئيلة، وقد خبَّرني القوم أنهم يخترقونه إذ ذاك سيرًا على الأقدام دون أن يُصيبهم بلل.
دخلنا المدينة التي تقع على العطبرة والنيل وهي كبيرة كأنها أسيوط في أضوائها الكهربائية ومبانيها المنسقة وأرصفتها الممدودة، وهي نقطة تلاقي سكة حديد بور سودان وحركتها التجارية صاخبة، ومن أغرب ما تصدره محصول «الدوم» أو «المقل» الذي رأينا من شجره الكثير، وهنا يُنقل إلى مصنع لتكسر الطبقة الخارجية، ثم يخرط اللب «المقل» ويصدَّر عن طريق بور سودان إلى أوروبا واليابان لعمل الأزِرَّة للسراويل على أنه قلَّ اليوم عن ذي قبل، وأضحتْ كسلا أشهر البلاد به. مررنا بعدها بمدينة بربر واسمها أكبر منها؛ لأنها بدت قرية بيوتها من اللبن والطين وهي وطيئة لا تعدو طابقًا واحدًا.
هنا جرَّني الحديث مع طائفة من عِلْيَة القوم الذين أكدوا أن إخلاص أهل السودان جميعًا لمصر عميق متأصل، على أنهم ندَّدوا بالمصريين الذين كانوا في السودان؛ إذ لم يُحاوِلوا إدماج البلاد في مصر، فكان ضباط الجيش مثلًا إذا أرادوا الزواج هناك صاهروا الزنوج المنحطِّين ولم يُحاوِلوا مصاهرة العرب، وكان القُضاة الشرعيون يترفعون عن أهل البلاد، ثم قال بعضهم: انظر إلى وزارة الأوقاف المصرية مثلًا كيف أهملت التعليم الديني ولم تعاون على فتح المدارس الإسلامية وإقامة المساجد مقابل ما تفعله هيئات التبشير اليوم هناك، والحق أن مَن حلَّ السودان من المصريين لم يُخلِّفوا شيئًا من ذلك ولم يخدموا مصر، فكم قرأتُ أسفارًا نفيسة ومجلدات ضخمة كتَبَها الإنجليز ممن كانوا موظفين بالسودان خدموا فيها الناحية الإنجليزية وأغفلوا المصرية! لا بل وبعضهم كان يتوِّج كتابه باسم «السودان البريطاني» ويتهكَّم على المصريين ممن كانوا موظفين معه، ويرميهم بالخمول والترفُّه وعدم الرغبة في الإقامة هناك، مُظهِرين أمانيَهم أن يُنقَلوا إلى جنة القاهرة والتخلص من جحيم أجواء السودان، وما إلى ذلك من الحطِّ من شأننا، وكان من السهل على المصريين أن يمهدوا السبل لإخوانهم ممن سيحلون بعدهم ويهوِّنوا عليهم أمر الارتحال إلى السودان الذي لم أرَ في جوِّه كبيرَ فرْق عن جوِّ مصر رغم ما كنتُ أسمع من مبالغات إخواننا في حرِّه اللافح، لكنه الجهل أو الإهمال الذي أساء إلينا إلى هذا الحدِّ.
وقد رَوى لي بعضُهم حادثةً ظريفة هي أن الخديوي سعيد باشا لما زار السودان أمر بإعفاء البلاد من الضرائب ذاك العام، وبالإفراج عن المسجونين تخليدًا لزيارته، ولما جاء عباس حلمي وزارها سنة ١٩٠٣ أعطيت الأوامر لكبار الموظفين أن يحتاطوا به دائمًا احترامًا له وحفاوة به في الظاهر، والواقع أنهم كانوا يرمون إلى إبعاد الناس عن الاتصال به، فأقبل رجل اسمه «محمد مكين» وتقدم ليصافح الخديوي فمُنع بحجة أن الخديوي تَعِب، فصاحَ الرجل قائلًا بأنه غنِيٌّ مُوسِر لا يريد من وراء ذلك عطاء فسمعه الخديوي وكان يتفقد المكان الذي قُتِل فيه القائد إسماعيل باشا في موقعة شندي فناداه وصافحه، فقال الرجل: إن جدَّك سعيدًا قد خلَّف في البلاد مكرمة كبيرة فما مكرمتك؟ قال: زمن سعيد غير زماننا. يعني أن السودان كله كان ملكًا لمصر وحدها إذ ذاك، فقال الرجل: «في نصفك سَولَكْ شويَّة.» وهو عُتْبٌ معناه إنْ لم يكنْ وابلٌ فطلٌّ، أو أنت في حقك متهاون، فجرى هذا القول مَجرَى المثل على ألسن الناس جميعًا إلى يومنا هذا، ويقولونه في مقام طلب التصرف في الجزء المملوك.
ومما قصَّ بعضهم وهو متألِّم نبأُ انسحاب الجيش المصري أخيرًا رغم تضامنه مع السوداني الذي فَنِيَ أغلبه دفاعًا عن حق مصر وحفظًا لعهد التضامن بينه وبين الجنود المصرية.
دخلنا «أبو حمد» وهي بلدة صغيرة ريفية، وبعدها أوغلنا في صحراء رملها ناعم كاد يَطمُرنا بهبوبه، وكانت تبدو نواتئ الجرانيت مبعثرة ويسمونها أحيانًا صحراء العتمور أو عتمور أبو حمد، والمسافة بين أبو حمد وحلفا ليس بها بلدان مأهولة كبيرة بل محاطُّ لوقوف القطار كي يُزوَّد بالماء، وهي عشر نمر أهمها المحطة «رقم ٦»، وسبب شهرتها أن منها طريقًا يؤدي إلى أم نباره حيث توجد مناجم للذهب، وقيل إن المأمون أرسل جيشه إلى هناك واستغلها وقد قاوم الجيشَ أهلُ البلاد من عَرَب البشاريين والبجا، ويَروُون أن المأمون أزعج إبلهم بالدق على الصفائح، وكان هذا سبب انتصاره عليهم، ومنها طريق إلى دنقلة غربًا. والبشاريون مبعثرون شرقًا بين أبو حمد وأسوان، أما النوبيون فكانوا في الأصل سكان النيل نفسه لا الصحراء ابتداء من أسوان جنوبًا، ولما دخل العرب اعتنقوا الإسلام واختلطوا بهم خصوصًا أهل دنقلة، ولذلك يحاول كل نوبي أن يُسمِّي نفسه «دنقلاوي» ويغضب إذا قلتَ له بأنه نوبي، اللهم إلا أولئك الذين يجاورون أسوان، وهؤلاء يحتقرهم باقي الأهالي المنتسبين إلى العرب ويرمونهم بالخِسَّة بدليل احترافهم الأعمال الوضيعة فيما لا يَزِيد على عمل الخَدَم. أما الفريق من النوبيين الذي رفض الإسلام فهاجر جنوبًا واعتصم بجبال النوبة حول تالودي، وكلهم لا يزالون وثنيين، وقد جئنا فيما سبق على طرف من سيرتهم.
لبثنا نسير في بادية النوبة «العتمور» تسع ساعات، ثم بدت جبال الخرسان التي يجانبها النيل الضيق حوله نطاق ضيق من المزارع يزينها النخيل، وهي بدء حلفا التي وصلناها فانتقلنا توًّا إلى الباخرة بعد أن مررنا بالجمرك حيث سَأَلَنا الحراس عن الممنوعات أمثال: الأسلحة والعاج وريش النعام وشعر الزراف. أما الباخرة فمريحة جميلة هي أفخر من جميع البواخر السابقة، ووادي حلفا جُبْنَاها في أقلَّ من ساعة فهي كالمراكز الصغيرة عندنا، طرقها ضيقة يُظلُّها شجر اللبخ، وأظهرها طريق البحر «النيل». قمنا نشق النيل تحفُّه الجبال الرملية تحتها المزارع والنخيل، ولبثت تلك طويلًا والنيل يختنق تارة وينبسط أخرى، وأخذت الخضرة تشح في الضفة اليسرى حتى كادت تنمحي تمامًا وسادت الصحراء والشجيرات الشائكة، وبعد ساعتين مررنا بمحطتين لبوليس الحدود؛ إحداهما إلى اليمين والأخرى إلى اليسار، وإلى جانب اليمنى بيت رجل يمتلك بعض الأراضي يتوسطها مسكنه الصغير، وقد صادَفَ أنَّ خطَّ الحدود بين السودان ومصر مرَّ بالبيت فشَطَرَه، ولما أرادت الحكومة تعويضه ليتركه أبى وأصرَّ على الاحتفاظ به فتُرك له وهو اليوم يدفع عن جزئه الجنوبي الضرائب لحكومة السودان وعن الجزء الشمالي للحكومة المصرية.
تعددت الربى المجدبة، ثم اتصلت في سلسلة جبلية إلى اليسار وتجلت في وسطها تماثيل «أبو سمبل» الرائعة وهي جاثمة تشرف على النهر، ثم أخذت تبدو المنابت تارة إلى اليمين وطورًا إلى اليسار وسط تلك الصحراء المجدبة، وكان أظهرها النخيل والذرة، وفي كثير من البقاع كان الشاطئان مقفرين في صخور منحدرة إلى سطح الماء في درجات سريعة. بتنا ليلتنا نرسو على مقربة من الدر، وفي باكورة الصباح أقلعنا، وأخذت القرى تزيد عددًا في بيوت متجاورة رغم ضيق النطاق المنزرع، وكلها من الطين النظيف تطلى بغشاء من الجير الأبيض، ويزينها جميعها المسجد ذو المئذنة القصيرة، وكثير من البيوت يقوم على مدرجات الصخر بعضها فوق بعض، وظهر في الصخور الحدُّ الذي يصل إليه مستوى الماء عندما يمتلئ الخزان؛ إذ يبدو الصخر أسفله في لون أردوازي يعلوه الصخر الجرانيتي الأحمر، وأخذ ذلك الحد يزيد علوًّا كلما قاربنا «الشلال»، وفي كثير من الجوانب كانت تظهر المعابد المصرية، وفي الخامسة مساءً رسونا وراء مدينة الشلال لندخلها صباحًا، وذلك قصدًا من السفينة في دفع رسوم الميناء.