أنصاف الثائرين
في الليل لما خَلا إلا منه، ولم يكن الشاكي، وليس حتى ذلك الرضا المؤقَّت عن النفس بعد عملٍ باهر. تائه! الهدفُ مهم، حتى المشاكل حين تقع تُصبح هدفًا. المهم ماذا بعدُ؟ بكلمةٍ انتهى الإشكال، دقائقُ معدودة حدث فيها كلُّ شيء، حين يجيء الليل وأنت لا تعرف لمن، وإلى أين تذهب. حين يجيء الليل ويَسحب الكائنات. كلٌّ إلى عُشِّه ومستقره ومقامه، ووحدَك تبقى، وحدك، وحولك لا يوجد سِوى الظلام واللاهدف. حينذاك يعود الليل شيئًا آخر؛ عمًى أصاب الشمس، أو غولًا ابتلَع الدنيا والناس، ولا تتحول أرض النهار كالعادة إلى ليلٍ، وقد تغيَّر منها اللون فقط، تصبح الأرض المستوِيَة بحرًا، ليس مجرَّد تشبيه؛ تتحول حقًّا إلى بحر، الريح أمواجه، والظلام آفاقه، والإضاءات البعيدة أو القريبة مَراسيه ومَناراتُه.
وفي الليل لما خلا إلا من الشاكي، صوت عباس يدندن، يطرد الوَحْشة، لكن الدندنة تؤكدها، يعلو الصوت، يغني، يطلب الونَس، فيتحدث إلى الليل المسكون بالظلام الراسخ العميق. في الليل لما خلا، الجمال الوحيد في صوت عباس، أنه يجعلك تتذكر عبد الوهاب وهو يغنيها، وبحُنجُرته الحلوة يستأنس كون الظلام، ويضيء على مدى الصوت الرخيِّ أنيق الشموع.
في الليل والعرَبة تجأر، تصعد، تميل، تتلوَّى، صندوقها المغلق الكبير يتأرجح؛ فهي تسلك الطريق الوَعْر، الخاليَ من أكشاك المرور وعساكر المرور؛ فقد سحبوا الرخصة منه من زمنٍ لضعف بصره، وفي الليل يزداد ضعفًا! ويزداد تأرجُح اللُّوري فوق جسور المصافي غيرِ الممهَّدة، وغير المعَدة لمرور العربات، أيِّ عربات.
في الليل والعائلة الغريبة منكمِشة بجواره، الزوجة وضَعها الرجلُ لصْقَ الباب؛ غيرةً عليها أن تكون محشورة في الوسط بينه وبين السائق، والأولاد في الدوَّاسة وفوق رُكَب الأب والأم وفي كل مكان. في الليل وقد مضى النهار المزدحِم، ذلك النهار، قصته الكاملة لو كُتبت لاستغرقَت كتبًا، بل لا أحد بإمكانه أن يُحيط بها كلها.
عباس السائق جذبَته الأغنية وغرق في دوامتها؛ الليل صاحبه القديم، والليل عمره، بل أصبح قدَرَه، ولم يعُد سِواه ملجأً يحميه من النهار، نهار الناس العاديين والقانون العادي، نهار البوليس والتفتيش والرُّخَص، النهار الذي يَضبِط فيه كل شيء، ولا يَفرُّ منه أحد، ولم يعُد له سوى الليل؛ ذلك الليل، الذي خلا إلا منه ومن محتويات «لوريه» من بشرٍ وأشياءَ وخيالات، يستجير به مُعيدًا حتى لا يتخلى عنه؛ إذ حتى لم يعد يرى أمامه أيَّ مرفأ.
قطع عباسٌ اندِماجه وسأل: مريوط؟ مريوط؟
حجاج الراكب وصاحب الكومة الأُسرة فرح؛ فالسائق في العادة ذلك الذي اعتاد الصمت، وقصر حواره دومًا مع الموتور، إذا أجاب مضطرًّا خرجَت الإجابة من أنفه؛ تكبُّرًا يقولون، تكبرَ السائقين الذين يعرفون أنهم فوق الناس؛ لأنهم يعرفون ما لا يعرفه الناسُ؛ تحت إمرتهم سرُّ الصنعة، والآلة اللغز، سلسلة في يدهم، الآلة لغز في عالمٍ يَحيا بآلاتٍ من الحمير والكارُّو والجاموس والنهيق. الآلة، أصبع الحضارة البعيدة، تخترق الفيافيَ وتظهر هنا، معجِزة ومرعِبة، وسيدها عباس، أو أي عباس، وحتى لو كان نظره شيش بيش ليجعل تكبره على الآخرين أقل شموخًا، ولكنه حتمًا يملك ذلك الشموخ.
مريوط! لماذا مريوط؟ وهل يُعقَل — وفي هذه الساعة — أن يَطرق حجاج «أفندي» باب أنيس أفندي، ولغرضٍ كهذا الغرض؟! مريوط مريوط مريوط، وهذا البغل ذو الكرش المحشوِّ جشعًا ونتانة! مريوط يا ابن بائعة الفجل، الذي أصبحتَ صاحب أرض، وبفضلي أنا تحولتَ من «بقجة» القماش، تحملها لتبيعها بالمتر والنصف متر في الأسواق، إلى صاحب دفتر شيكات ضخم بقَلمِك المذهَّب، تستطيع أن تضع أي رقم وتوقع، ولتوقيعك قيمةٌ وسُمعة، أعظمُ من سمعة محافظ البنك الأهلي، وورقةُ دفتر شيكاتك أضمنُ من الورقة أم مادنة، والمميَّزة بالصورة المسحورة لأبي الهول. مريوط مريوط! يا حسن بن وهيبة بائعة الفجل، يا من سمَّوك يوم ولادتك حسن الكبش؛ لِفَرط شبَهِك به، ثم لما تاجرتَ وأصبحتَ صاحب عربة خضار سمَّوك المعلم، وتلاشى الكبشُ من اسمك، وذاكرةُ الناس للأسماء وللألقاب ضعيفة، خاصةً إذا كان أصحابها يكبَرون، والناس تَصغر. وحسن بك أصبحتَ، مائة فدان تملكها رغم أنف قانون الإصلاح الزراعي، وقوانينه الصارمة لمنع التحايل، ومائة أخرى تستأجرها رغم أنف قوانين الإيجار الحاسمة؛ مائتا فدان! الجناين مائة، والخضار مائة، والسراية اسمها الشاليه، والسور الذي يحيط بالمائتي فدان أسلاكه شائكة، وفي الليل مكهرَبة، وماكينة النور تكفي لإضاءة مدينة، وحظك نار! بمائة جنيه لهَفْتها والأرض فدانها بألف، وصاحبها الخواجة يبكي؛ فالعمر أضاعه، يصنع من الجنينة جنة، قنواتها بالأسفلت، ونقل الفاكهة والخضار يتم بقطارٍ صغير، ذي عربات قلَّابة وأوناش، وخيم للرش وموتورات، وببلاش أصبحت «بك»، ولو كان ممكنًا لتخطَّيتَ — بأرض الخضار ومزرعة الدواجن والبهائم وخلايا النحل، وحتى بتقطير زهر الياسَمين وحده — رتبة الباشا!
فلتكن مريوط.
الخواجة كان أحسن، ألف مرة أحسن! خواجة على غير الدِّين والملة، لا يكذب ولا يغش، ولم يذهب ليحج، ومعه حقيبةٌ ضخمة فارغة، وعاد بمِلء عربة لوري بضائعَ للتجار والاستهلاك.
الخواجة كان أحسن، وكان في أيامه وطنيًّا صميمًا ووفديًّا قُحًّا، وعباس السائق هذا نفسه كان حين يريد أن يسترضيَه، يضغط على «سيرينة» العربة النقل، لتعزف ذلك الهتاف المموسق يحيا … النحاس … باشا …
خواجة وأحسن، وذمته أنضف، ولكنه ذهب لأنه كان يمتُّ إلى جنسٍ كبير، حِرفتُه السرقة المنظَّمة المقنَّنة، والإرهاب بالقتل العسكريِّ المباح، والاحتلال طريقته في السَّطوِ المسلح، خواجة واحد نظيف في عصابةٍ قوامها عشَرات الملايين من السفلة، وراح.
والجنينة في الحقيبة لا كانت جنينة الخواجة، ولا جنينة حسن بك «الكبش» سابقًا حين لهفها لهفًا، الجنينة جنينة حجاج. جاءها وبها أربع شجرات «كازورينة» عجاف، جاءها وهي بور، حتى الحشائش لا تَقْوى على النمو فيها. وبيده — بيده وحده — أحياها، بحذائه ينغرز في الوحل، بالليالي يسهرها حتى الفجر، لا يَزيد الرِّي جرعةَ ماء أو يَنقص، ولا يَزيد السماء ملليجرام أو يتغير، بالبهائم ربَّاها عامًا وراء عام، تُحيل بقاياها وعلفها إلى طبقةِ أرض نيتروجينية جديدة، تختلط بالقديمة، وبالطَّمْي، آلاف الأطنان من الطمْي والرمل، من شيءٍ كان كالرأس الأصلع الخالي تمامًا حتى من الزغب، شعرةً شعرة راح يزرع، وحوضًا حوضًا راح يزحف بالخُضرة والخصب، حتى — بعد عشر سنوات — أصبحت تلك المعجزةَ التي تتحدث بأخبارها ألْسِنةُ المارِّين ركوبًا في أوتوبيس، أو سيرًا على أقدام بجوار الحمير المثقَلة.
أصبحت جنةً يستضيف الخواجة «شيميز» أصدقاءه ومعارفه، وكلَّ من يكاد يعرفه أو يلقاه؛ ليُريه «إيزابيللا فارم»، كمن اكتشف المعجزة، كمن حقق أكثرَ المستحيلات استحالة، في شرحه وحماسه، ووجناته المحمرَّة يندمج، وتنطلق دفعات الكلام من فمه صادقة أو كالصدق، كأنه هو الذي قام بالعمل وحده، هو الذي غرَس، هو الذي قام على «المشاية» وسهر، هو حتى ذلك الذي أقام هذه «الفراندة» الأصيلة، التي لا مثيل لها ولا لروعتها. في وسط «إيزابيللا فارم» تمامًا تقوم شجرة كازورينا هائلة الضخامة، هي مع الكازورينات الثلاث، كل ما وجده في الأرض حين اشتراها، يندمج تمامًا حتى ينسى اسمًا أو تاريخًا أو حادثة، فيتلفت لحجاج أفندي السائرِ متواضعًا خلف الجميع، الصامتِ تمامًا دونًا عن الجميع، الذي اعتاد على اغتِصاب الخواجة لمجهوده ودوره، حتى لم يعد يزعجه الأمر، فليتكلم ما يحلو له الكلام، وليصمت حجاج تمامًا؛ فثَمَّة ألف شيء يتحدث نيابةً عنه؛ كل شجرة، كل عِرْق من شجرة، كل ثمَرة مانجو، كل عُنقود عنب، كل زهرة ياسَمين، كل نخلة، كل «قرص» عسل نحل، كلها دومًا يراها ويَسمعها بغيرِ عين الجميع، وأذنٍ غيرِ أذن الجميع؛ إذ بأذنه وعينيه وحدها يسمعها، تَبُثه الشكرَ والحمد، تُغرقه في اعترافها بالجميل إلى درجة أن لو أشار لها بالكف عن النموِّ لكَفَّت! أن تكف عن إنتاج الثمار لكفَّت. الخواجة له الأرض وله النقود، وله الشاليه المذهل، وله ذُهول الضيوف، وآهات انبهارهم ودهشتهم. ولكنه هو الذي يملك ما هو أعظمُ من ذلك كلِّه؛ يملك أجمل وأروع حديقة حياة، أرغمَه هذا الفحل الأصلع على أن يُنشِئها، فأنشأها.
وكمن يشير إلى برج إيفل؛ يشير الخواجة إلى شجرة الكازورينة، لتكون المفاجأة؛ اندفَع يُسرع راكضًا ناحيتها، والركب والركض يتبعه، هناك، وكأنما يكتشف في التوِّ معهم، يتطلَّع ويتطلعون، وفي أعلى مكان في شجرة الكازورينة العالية، حيث أُقيمت، من نفس الأفرع غير المهذبة «فراندة» مستديرة مريحة، ذات سور تحيط بالشجرة كلِّها، ومن نفس الأفرع، وعلى نفس حالتها صُنع للفراندة مَقاعدُ ومَناضد، وكالطفل الذي فقَد اتزانه؛ يبدأ الخواجة شيميز يتسلق السُّلَّم المصنوعَ أيضًا من الكازورينة، وليبدو وكأنه مجرد فرع شُذبت نهاياته قليلًا، للسُّلم والدرابزين، وخرطوم المياه الرقيق، وأسلاك النور التي طُلِيَت بنفس لون الشجرة، والمصعد ذو البكرات الذي يتحرك حاملًا الطعام أو العجَزةَ الذين لا يستطيعون الصعود، أو أجهزة الموسيقى أو ما شاءوا من صناديق الشراب. ولأن الأسئلة حينذاك تنهال بكثرةٍ وبالفرنسية في الغالب، ولأن حجاج أفندي له إلمامٌ بها و«شيميز» يعلم هذا، ويعلم أيضًا أنه قد ظل أنانيًّا إلى درجة لم تَعُد تُحتمَل؛ يتحرك الضمير، معترِفًا أولًا بأن برج «الكازورينة»، هو فكرة أراد حجاج أن يُفاجئه بها، حين استضاف وزيرَ الزراعة يومًا، ثم تتوالى اعترافاتُه، وحتى ما لم يَعترف به بينه وبين نفسه، يبدأ مِن تلقاء نفسه يشير إلى صاحب فكرته وخالقِها. وتبدأ السيدات تضع النظَّارات، تفحص هذا الصامت العبقري، وتتأمل أنه هو الرجل المقصود، يصبح ارتباكه أعظمَ من أن يُحتمل، ولا بد أن يعذر، إن لم يَبدُ وجيهًا أو مقبولًا، فالأمر لا يهم! يختفي حجاج، وتَختفي الخواجات والطبقة. وفي أسبوعٍ واحد يبدأ «شيميز» الفَرنسي يُفكر في البيع، ثم البيع، ثم تهريب الثمَن، والأسبوع التالي يجيء عليه وهو في مرسيليا، وقد عاد إلى «الوطن الأم»، بينما كان في الحقيقة — وفي نفس هذا الوقت — يبكي وقد أحسَّ لأول مرة أنه فقد الوطن الأم حقًّا، وقد ينجح «شيميز»، وتكون له حديقةٌ وضيعة ومزرعة، ولكنه أبدًا لن يجد في ذلك الوطن الجديد برجَ الكازورين، ولا حجاجًا.
•••
كما كان يعامل «شيميز» ظل يعامل حسن بك، لم يكن هناك ما يدعو لاستمساك حسن الكبش بالسيد حجاج هذا؛ إنه من عائلةٍ قوامها ألفُ رجل، كلهم فقراء، وأولى من حجاج بالعمل والماهية، ولكن أن يقلد الخواجة شيميز، الذي اشترى منه المزرعة، بإبقاء حجاج «مديرًا» للحديقة والمزرعة، بنفس راتبه، ومسكنه في الركن الجنوبي للحديقة، أبدًا ليس هو السببَ الذي دفَعه للاستمساك به؛ فالبند الذي ورَد في العقد خاصًّا بهذا الموضوع كان في ذاته نكتة، بند لا يَعني شيئًا ولا يُشترط للفكاك منه جزاء، كل ما في الأمر أنه يدفع للعجب؛ أن يتمسَّك المالكُ السابق بموظفٍ عنده بهذه الطريقة، مسألةٌ لا بد فيها سر؛ سر حاول شيميز أن يشرحه له أكثرَ من مرةٍ، بقوله: إن حدائقَ كهذه ليست مجردَ عقار أو سِلعة؛ إنها حيوان ومجتمَعات كالبشر، ورعايتها تستلزم — كرعاية أي أسرة — الحبَّ والرعاية والتفانيَ والحنان. وحجاج هو ذلك الراعي والأب، وأيضًا، ورغم التكرار والتكرار فحسن بك ظلَّ يؤكد لنفسه أن في الأمر سرًّا، وأن الأيام كفيلةٌ بإظهاره! الشيء الآخر أنه بدأ يشرح لحجاج طريقتَه، وأنه ليس خواجه، وليس «كروديا»، وأنه بدأها مِن عرَبة اليد، ويفهمها وهي طايرة، ويعرف في الجناين وأمورها أكثرَ من صاحب دكتوراه، وهكذا عليه — إذا أراد أن يستمر «يأكل عيشه» — أن يُطيع؛ كذا يعني كذا! مفهوم؟!
يرمقه حجاج بعيونٍ لا ترمش، ولا تُريد أن يَخفى عليها خافية، نظرة تَطول، وتَئوب إلى رأسٍ ينخفض يفكر. مِن الآن عليه أن يُدرك أن كل شيء قد تغير، ليس صاحبَ العمل فقط، ولكن عليه هو أيضًا أن يتغير، بل ربما على الأرض نفسِها والشجر والزرع أن يتغير.
لقد كان شيميز يُشعره أن الأرض وإن كانت له، إلا أن كل ما هو أخضر فيها هو من صنعه ومسئوليته، وهكذا وعمره الآن تسعة وثلاثون عامًا، اعتصَر نفسه وشبابه، وأحالها فاكهةً خضراء وثمرًا، وبينما أعاد للحديقة صِباها وشبابها، فقَدَ هو كل صِباه، وأصبح من يراه يظنه في الخمسين.
من الآن، عليه — كما فعل شيميز — أن يَبيع هو الخضرة، كما باع الآخرُ الأرض، وأن يشتريَ صحته وحياته، كما اشترى الآخرُ عنقه، وما دام حسن بك الكبش يُريد أن يكون الصاحبَ والآمر والناهي، والرأيُ رأيه، والتصرف تصرفه، فليكن الأمر كما يريد، وليبدأ ومنذ الآن دورَه الجديد، وما دام «المدير» قد ذهب مع الخواجة الذي ذهب، فليكن دورُه مع الصاحب الجديد الآمر، دور المأمور المنفِّذ؛ كذا يعني كذا، حاضر.
حاضر وهي حاضر. الري يعرف أن موعده خطأ، وطريقته خطأ، ولكن تأتيه الكلمة: اروِ، حاضر. يروي.
وبدأت المسائلُ ترتبك، ويستشير حسن بك الدنيا كلَّها، ويُعيد ما كان يفعله بأراضيه الأخرى، ناسيًا أنَّ لكل أرضٍ مَعدِنَها، وشخصيةُ العنب الذي ينمو هنا، غيرُ شخصية بني جنسه ونوعه، الذي ينمو هناك. ناسيًا أن القواعد العامة شيء، والقواعد الخاصة التي تَسُنُّها الخبرة الطويلة شيءٌ آخر. وكثيرٌ جدًّا من الأشياء تبدأ ترتبك.
وكان حريًّا بحسن بك «الكبش سابقًا»، أن يَعزوَ الارتباك، ليس لما يُصدِره من أوامرَ، إنما يعزوه كالعادة لتنفيذ الحجاج السيئ، ويجعل من هذا سببًا وجيهًا لفصله والتخلص منه.
وهو بالضبط ما كان يتوقَّعه حجاج، وظل يتوقعه.
ولكنه الشيء الذي لم يحدث.
والذي ظل حجاج يضرب أخماسًا في أسداس، متسائلًا عن سبب عدم حدوثه، وأنَّى لحجاج أن يعرف أن العلة في القلة.
وأنها شربة ماء كانت، ولكنها هي نفس الشربة، التي لولاها ما كان قد أصبح هكذا تائهَ الليل، في طريقه إلى «أنيس أفندي»، عبر قنوات وطرق غير ممهَّدة إلى مريوط، والليل قد خلا، وسجى، ولا ندم، وكذلك لا فخر، وما حدث حدث، ولا بد أن يحدث، بل حتى هناك في هذه الوقفة، ما يستحق الفخر، رغم أن فيها وسبقها ما يستحق كلَّ خجل.
الثورة محدودة، وحين ثار، كعادته حين كان يثور أيام الخواجة، ويتلقى الخواجة الجانبَ الموضوعي من ثورته، ولا تهمُّه الطريقة، بل أحيانًا كان يستحسنها، كانت الثورة تأتي بنتيجةٍ وفي الحال.
هذه المرة ثار؛ فقد أمره حسن بك بتقليم العنب، والتقليم الآن معناه أن يقتله قتلًا، ولكنه الأمر! وقد تعوَّد أن يرضخ. هذه المرة صمم تمامًا أن يقول: لا، ولكنه لسان حسن بك خرج ولم يعد، خرَج طويلًا سافلًا، يَلعن آباءه وأجداده! احتجَّ نصف احتجاج؛ فبنصف عقله الآخر كان يحسبها، فإذا استمر في الأمر فالفصل مصيره، والفصل يعني أن يبحث ليس فقط عن عملٍ آخر، وإنما — وهذا هو الأدهى والأمَرُّ — عن سكن آخر، فالسكن لِمَن صناعتهم الزراعة تبَع العمل، ويعني أن يلف البلد كلها طولًا وعرضًا، يبحث عن زملائه من نُظَّار الجناين ومآميرها ومديريها، وعن وظيفة ولو وظيفة خولي؛ بشرط أن يجد المأوى في بيت، ولو في حجرة! وهنا سكَت نصفُه الموافق، وأوقف نصفَه الثائر وقلَّم العنب، ومات العنب!
ومن بركان سفلي بَشع، خرج غضب حسن بك: يا حمار. هكذا عيني عينك قالها!
– لماذا قلَّمتَ العنب؟
– ولكن هذه أوامرك.
– ومن قال لك أن تُطيع أوامري؟
– سعادتك الذي قلت: كذا يعني كذا.
– ولماذا لم تعارض إلى النهاية؟ لقد كنت أنا أفكر في التراجع إذا وصلتَ أنت المعارضة، ولكنك وافقت.
لماذا يعرف الخطأ ولا يقول لا، ويظل يقولها حتى لو قامت القيامة؟!
والنتيجة: أنت مرفوت! ابحث لك عن عمل.
– ولكن أولادي، أنا لا بيت لي، لا بد أن أذهب أبحث عن بيتٍ وعمل، وأنتقل إليهما.
– من الغد عفشك بره، وأنت مرفوت! وإذا بقيت لحظه سأسلخ جلدك، وخذ.
ورمى إليه بعشرين جنيهًا قيمة «المكافأة».
ولم يكن هناك مَناص، فأرخصُ وسيلة هي عربة النقل، التي يملكها عباس الأعمش، والتي لا يقودها إلا في الليل خوفًا من ضبطه بلا رخصة، وقد سقط في امتحان النظر ثلاث مرات، وإلى الطرق الفرعية المنحنِيَة والمنحدرة، والصاعدة والهابطة، ينشال اللوري وينحط، ويميل، ويكاد ينهال في الترعة والمصرف، والعائلة مكومة في الكابينة، وعباس، يراه بعينيه — كلما نقل عصا الفيتيس — يلمس ركبة امرأته، وحتى ابنته ذات الأربعةَ عشر عامًا؛ متعلِّلًا بعصيان العصا، والليل قد خلا إلا من جئير الموتور المنهك، وجعجعة الدبرياج، ولمسات الأعمش.
وأنيس أفندي يخرج من منزله في مريوط، مذعورًا في منتصف الليل، يعتذر فهو لا يعرف عملًا، لا يعرف مكانًا للإقامة؛ زوجته مريضة، وابنه يعاني الحمى، وهو مُدثَّر ببطانية، وأنا آسف يا حجاج، آسف؛ الظروف قوية، والعمل صعب، والمزارع والجناين قلَّت، ولماذا لم تبلَعْها يا أخي؟
وحجاج يقول لنفسه: ولماذا — ما دام هذا هو المصير — كنت لا أخلع الحذاء، وأنهال به على الرأس الأصلع للكبش حتى أُدمِيَه، وعلى الأقل أخرج بكرامتي، ولكنه المصير الذي ينتظر أنصاف الغاضبين.
والليل قد خلا مرةً أخرى، إلا مِن لوري ذي سائق أعمش، وعائلته تبحث عن عملِ مأوًى، أو عن مأوَى عمل، والموتور يزأر، وعباس يغني في الليل لما خلا إلا من الشاكي، والنَّوح على الدَّوح … وينسى بقيةَ الأغنية ليمدَّ يده إلى عصا الفيتيس، وإلى ما أصبح يصل إليه فوق الركبة، ثم يتذكر عباسٌ الأغنية، ويجأر بصوته: للصابر الشاكي، والليل يمتد ويستشري، ومن بحرٍ إلى محيط يصبح، والعربة بِركابها تغرق فيه وتغرق، ولا حتى من نجمة قطب عند الفجر تشهد.
لماذا لم يقتله؟
لماذا لم يُكِبَّ راكعًا — وأمره إلى الله — ويقبِّلْ حذاءه؟!